النائب الدكتور يوسف عامر يكتب: فاعفوا واصفحوا
تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT
العفوُ والصفحُ وصفانِ جميلانِ، وردا فى كتابِ الله تعالى متلازمينِ فى غيرِ موضع، منها قولُه تعالى: «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِى اللَّهُ بِأَمْرهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ» [البقرة: 109]، ومنها قولُه سبحانه: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [النور: 22]، وقولُه عز وجل: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [التغابن: 14].
ويُلحظُ فى هذه المواضعِ تقدُّم العفو على الصفح، وذلك لأن الصفح عفو وزيادة، فالعفو هو ترك عقوبة المذنب، وهذا يحتاج قدراً كبيراً من التسامح يملأ النفس بحيث تتجاوزُ عن عقوبة مَن آذاها.
أما الصفح فهو مِن صَفْحِ الوجهِ أى جانبِهِ وعرضِه، وهذا -كما قال السادةُ العلماء-: مجازٌ عن عدم مواجهة المذنب بذكرِ ذنبه؛ أى: عدم لومِه عليه وتذكيره به، فهو أبلغ من العفو.
ولهذا تقدَّمَ العفوُ على الصفح تعويداً للنفس على التدرجِ فى الرقى، فهى تعفو عن عقوبة المذنب فى حقِّها أولاً، ثم هى ترتقى فتصفح عنه ولا تُذكره بذنبه، ولا تلومه عليه، فذِكْرُ الجفاءِ وقتَ الصفاءِ جفاءٌ.
ويستطيعُ الإنسان أنْ يحمل نفسه على العفو والصفح بأن يتذكر ما كان من مواقفَ طيبةٍ سابقة لهذا المعتدى، وكما يقولُ الإمامُ الشافعى رضى الله عنه: الحُرُّ مَن يَرْعَى وِدَادَ لَحظَة، ويَنتِمى لمن أفاده لَفْظَة. إنه رضى الله عنه جعل مراعاة الناسِ لِمَا كان بينهم من وُدٍّ استمرَّ لحظاتٍ قليلةً هو حقيقةُ الحرية التى تعنى كرَمَ النفس وخلوصَها من سيئِ الطباع، فضده إذن -وهو عدم مراعاةِ سابقِ الود والصفاء- دليل على أن النفس مُستعبَدَة لسيئ طباعها، فهى ليست كريمة.
ولأن الصفح شديد على النفوس قال الله تعالى: «فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ» وعبارة (حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْره) تشير إلى أن الله تعالى سوف يشفى غليل النفوس التى ظُلمَت، فهى طمأنة لخواطر المأمورين بالعفو والصفح. والله سبحانه وتعالى قدير على كل شىء وهو سبحانه مع قدرته يعفو ويصفح.
والآية الثانية «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» نزلت فى سيدنا أبى بكر الصديق رضى الله عنه حين حلف أَلا يُنفق على مِسطَح ابنِ خالتِه لترديده كلام المنافقين فى السيدة عائشة رضى الله عنها، وكان مسكيناً، ولما قرأها سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم على أبى بكر قال: بلى أُحبُّ أن يغفرَ اللهُ لى. ورَدَّ إلى مسطح نَفقتَه.
والآية الثالثة «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُواً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، أى قد يجد الإنسان عداوة من أقرب الناس إليه، كالأزواج والأولاد، وهو مأمور بالحذر، والله تعالى ندبَ له أن يعفو عنهم فلا يقابل العدواةَ بمثلها، وأن يصفحَ فلا يوبخهم، وأن يغفر بأن يستر عيوبهم تلك، فإن فعل هذا {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والعفو والصفح إحسان يحب الله تعالى صاحبه «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» [المائدة: 13]، وقد أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم ليس بمجرد الصفح، وإنما أمره بالصفح الجميل مع أولئك المكذبين له! «وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» [الحجر: 85].
* رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بـ«الشيوخ» ورئيس قناة «الناس»
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: العفو الصفح المحبة المغفرة رضى الله عنه الله تعالى ه تعالى ص ف ح وا ه علیه
إقرأ أيضاً:
مولانا احمد ابراهيم الطاهر يكتب: الجمهورية السودانية الثانية
الرسالة التي حملت رؤية المؤتمر الوطني المستقبلية للسودان جديرة أن تثير نقاشا واسعا في أوساط النخبة السودانية المثقفة . وقد آن لقادة الفكر في بلادنا أن يبدأوا السباق المعرفي ، وليفتحوا الأبواب لشعب السودان ليسهم في رسم استراتيجية البناء والنهضة العظيمة للأمة السودانية .
ونهاية الحرب الضروس قد باتت وشيكة بما قدمته القوات المسلحة ومعاونيها من شباب السودان بتكويناته وانتماءاته المختلفة من تضحية وفداء وثبات وصبر وعزيمة ، لجديرة بأن
تسجل في كتاب التاريخ فخرا وعزا ومجدا أثيلا للسودان ، وتترك في قلوب أعدائه رعبا ورهبة
لا يمحوها مرور الأيام والليالي . فالتحية والدعاء بعد حمد لله لكل من اشترك في معركة الكرامة بالقتال المباشر وبالإعداد وبالانفاق المادي وبالرأي السديد وبالدعاء الصادق لتحقيق النصر الخالد والمجد التليد . والرحمة والقبول من الله لشهدئنا من المقاتلين في صف القوات المسلحة الذين وهبوا حياتهم لربهم ولبلادهم العزيزة . والدعاء لكل مكلوم وكل مهموم ومظلوم وجريح ومصاب ولكل أم وأب لشهيد أو مقاتل جسور .
إن من ملامح ما بعد النصر أنها كما أنهت المؤامرة الاقليمية والدولية الكبري علي البلاد ، فإنها قد انتهت بها حقبة جيل السبعينات والثمانينات ومعظم مواليد الاربعينات والخمسينات من أبناء السودان الذين عمروا بلادهم وأداروها في تلك الحقبة . فمن عبر منهم إلي الدار الآخرة فهو رجاء الله تعالي ومغفرته ورضوانه . ومن بقي منهم فهو في فترة المراجعة والإنابة والاستعداد للرحيل ، مع بذل ما اكتسبه من تجارب الحياة العامة والخاصة للجيل الناهض بأعباء الحياة القادمة . فبتقدم العمر وبتغير الأحوال وباختلاف أهداف المرحلة وتحدياتها لم يعد هناك من يطمع من أبناء ذلك الجيل في منصب أو في قيادة أو مكسب دنيوي إلا ما ندر ، وقد عبروا عن مواقفهم هذه في مناسبات عدة . فليهنأ الذين أصابهم الوجل من عودة مشاهير سابقين إلي تولي الحكم مجددا فلا العمر ولا الرغبة ولا الأحوال تسعفهم في ذلك . ولتستعد الأجيال الناهضة لتولي مسئولية إدارة الحياة في الدولة والمجتمع بمواهبهم في العلم والمعرفة ، وليدخلوا بابتلاء الله لهم في معترك الحياة بالعزم والحزم والزهد والاستقامة ، وبحب الله وحب الوطن وحب الناس وكراهية الفساد والخيانة والجريمة .
إن النظر في أسبقيات العمل في الدولة تفرض علي المرء البدء بما هو أولي . ولا أحسب أن قضية ما تسبق قضية الأمن القومي في البلاد . فبفقدان الأمن فقد أهل السودان كل شيء ، النفس والأرض والمال والعرض والطمأنينة والتعليم والصحة واجتماع الأسرة وغيرها . لقد كان عقلاء المجتمع يطلقون المحاذير للشعب السوداني عن مخطط العدو الخارجي لاستهداف الوطن والمواطنين ، ويبينون لهم ملامح التخطيط المجرم لاحتلال البلاد ، وقد نشرت ملامحه في وسائل الإعلام الغربية باقتراب احتلال دول في المنطقة من بينهم السودان ، ولكن غفلة العامة كانت كبيرة ، وتصديقهم لوقوع الكارثة كان ضعيفا ، وحسبوها مناورات من ساسة يريدون بها التكسب ، فلم يستبينوا النصح حتي وقعت الواقعة ورأوا بأعينهم ما لم يخطر ببالهم من فظائع الحرب وقسوة المجرمين ووحشية البشر وهمجية ليست من طبائع الحيوان ، وأصبح مخطط العدو يجوس خلال ديار المواطنين العزل في القري النائية والمدن الوادعة . ولولا لطف الله وحسن تدبيره ورعايته لفقدنا أرض السودان بما تحمله من مواهب الله الثرة وعواريه المستودعة ومنائحه الدارة وخيراته الوفيرة ومساجده العامرة وخلاويه التالية لكتابه ، ولأصبح أهله مشرودين في دول لا تعرف معاني الإخاء والنصرة وحب الناس واستقبال الملهوف .
فمن أجل هذا الدرس القاسي تكون العظة للحاكم والمحكوم علي السواء بأن قضية الأمن القومي هي القضية ذات السبق في الترتيب ، بلا تراخ ولا تفريط ، ولا استهانة ولا استكانة ولا مجاملة لقريب أو بعيد أو لصديق أو عدو . فإن كان في خزينة البلاد وفي خزائن أفراد مال كثير أو قليل فهو أولا لتأمين البلاد ، والبدء بالقوات المسلحة وقوات الأمن وقوات الشرطة . إن مضاعفة الاحتياطي البشري لهذه القوات في ظل التهديد الماثل والذي لم تزدة الأيام إلا تأكيدا ، ينبغي أن يضاعف بعشرة أضعافه . والقوات النظامية تدرك كيف تفعل ذلك دون عنت ومشقة . ومضاعفة الاحتياطي البشري تظل تأمينا للبلاد من أي تمرد داخلي وأي غزو خارجي ، كما أنها سند ميسور لمواجهة الكوارث الطاريئة ، وهي أيضا مورد للمعلومات ورصد لكل نشاط تخريبي في الاقتصاد ومكافحة التهريب وتجارة المخدرات والوجود الأجنبي غير المقنن ، وفي الحيلولة دون انفجار النزاعات القبلية وفي اختراق الحدود وغيرها .
إن مضاعفة قوات الاحتياط بشريا لابد أن تصحبه مضاعفة القدرات القتالية والتأهيل الأمني والتدريب المتقدم والإعداد النوعي الذي يستجيب للتطوير الفني باضطراد كلما تطورت الأنظمة التقنية ليواكب تطورها تجاوزا للتخلف وحرصا علي التفوق المستمر الذي يفضي إلي يأس شياطين الإنس والجن من الطمع في بلادنا .
بالطبع هنا لا نتحدث عن تطوير القدرات العسكرية الدفاعية والفنية ، حيث أن قادة هذه الأجهزة أكثر دراية منا ، ولا نتحدث عن إعادة هيكلتها كما كان يفعل جهلة الحرية والتغيير وعملاء السفارة الغربية وخونة الزمرة المستعبدة وأرباب اليسار المستخدم ، ونحن نعلم أن ما لدي هذه الأجهزة ما يعينها في تطوير استراتيجيتها كلما لزم الأمر . ومع ذلك نلمح ولا نفصل في إعادة النظر في الخارطة الجغرافية الدفاعية بما يعين علي قيام مدائن حضرية جديدة مزودة بوسائل دفاعية مقتدرة وقدرات انتاجية مقتدرة ووسائل اتصال عالية الجودة وصناعات تحويلية ومصدات دفاعية محكمة وخارطة دائرية متصلة لا تعين العدو علي اختراق البلاد كما فعل الآن ، وتستوعب في داخلها نخبة كبيرة من الخريجين لتقوية حصون البلاد الجديدة ، ولميلاد جيل عالم مستنفر معبأ ومقاتل ومنتج ومهتد وهاد لأمته المحفوظة بعناية الله تعالي .