قال لهم أحد العساكر: “شغل الجيش لو بنتهي كان جابو ليهو مقاول!”
تاريخ النشر: 3rd, August 2024 GMT
الجيش عموما والجيش السوداني بالذات ومنذ الاستقلال في حالة حرب مستمرة تقريبا ما عدا فترات سلام قصيرة.
بالنسبة للجيش الحرب عبارة عن عمل، عبارة عن مهنة؛ هذه هي مهنتهم الحياة؛ الحرب هي أكثر شيء طبيعي يقوم به الجيش مثلما أن الطب هو أكثر شيء طبيعي يمارسه الطبيب وكذلك الهندسة بالنسبة للمهندس. ولذلك فالجيش باله طويل في هذه الحرب لأنه يقوم بعمله الطبيعي.
أحد الإخوة من قدامى المجاهدين حكى لنا أنهم كانوا في مهمة لتحرير منطقة أيام حرب الجنوب وكانوا يتوقعون تحريرها في فترة قصيرة ولكن الجيش تأخر كالعادة، وعندما استغربوا ذلك قال لهم أحد العساكر: “شغل الجيش لو بنتهي كان جابو ليهو مقاول!”. العسكري لا يستعجل إنهاء الحرب لأنه ليس لديه ما يريد اللحاق به بعد الحرب. هذه هي عقلية الجيش: ما دمنا صامدين نحرز تقدما ونحقق خسائر في العدو، لا يوجد ما يقلق.
هذه ميزة لصالح الجيش في الحرب ضد المليشيا وداعميها. فالجيش مستعد ومهيأ للقتال مهما تطاولت الحرب، يقوم بعمله الروتيني: حرب، هجوم، دفاع، انسحاب،تقدم، انفتاح ،ارتكاز، تدريب تأهيل، تسليح، ترقيات، أذونات، إجازات، “ضمنة كشاتين”، عمل خاص، تقدم، تراجع، ارتكاز، “ضمنة كشاتين” وهكذا.
ولكن لأن العساكر عساكر وليسوا ساسة فإنهم يفكرون ضمن حدود المعركة العسكرية ومقياسهم للأمور من الناحية العسكرية يتعامل بنوع من التبلد تجاه المواطن ومعاناته. هذه هي المشكلة في الحرب الحالية. المليشيا فشلت في هدفها الأساسي وهو تحطيم الجيش، صمد الجيش وتماسك وانهارت المليشيا، ولكن تحولت حرب المليشيا إلى المواطن. أصبحت تتجنب مواجهة المواقع الحصينة للجيش وتهاجم النقاط الأضعف ثم تستبيح المدن والقرى، وهذا يشكل ضغطا سياسيا على الجيش.
النفس الطويل بطبيعة مؤسسة الجيش هو ميزة لصالحنا في هذه الحرب. ولكن مثلما يقوم الجيش بدوره، يجب أن تكون هناك حكومة تقوم بدورها، والدولة لا ينبغي أن تعمل بنفس إيقاع الجيش ولا بنفس رؤيته وتقديراته، ولا ينبغي أن تتأثر بمحودياته؛ في النهاية الجيش مؤسسة من ضمن مؤسسات الدولة وهو ليس الدولة ولا رأس الجيش هو رأس الدولة بالضرورة.
مؤخرا بدأ يطرأ تحول(ببطء كالعادة) في موقف البرهان في الاتجاه الصحيح بإنهاء حالة المماهاة بين الجيش والدولة وذلك بكلامه عن أن التفاوض لوقف الحرب يجب أن يشمل كل الأطراف التي تحارب وأن الجيش لا يحارب لوحده؛ إستجابة بطيئة أخذت وقتا طويلا لكي تحدث ولكنها حدثت على أي حال، ويجب دفعها للأمام بمواصلة الغضط على قيادة الجيش لتوسيع المشاركة ليس فقط في القتال إلى جانب الجيش والمشاركة في التفاوض وإنما في حكم البلد وإدارة الدولة بكل مؤسساتها. فهذه الحرب هي حرب الشعب السوداني والدولة بمؤسساتها هي أداة الحرب الأساسية وليس الجيش وحدة.
باختصار، المؤسسسة العسكرية بتاريخها وطبيعتها ونفسها الطويل هي عامل حاسم في الحرب، وبدونها ليس هناك دولة أساسا ومع ذلك لا يجب اختزال كل الدولة في هذه المؤسسة. فالجيش شرط ضروري لوجود وقيام دولة ولكنه غير كاف.
فإحتكار قيادة الجيش للسلطة والحكم يجب أن ينتهي وذلك لمصلحة الشعب وليس لفئة أو مجموعة. هذا أمر ضروري للانتصار في الحرب. وقيادة الجيش إذا رأت أنها الأجدر بقيادة الدولة على الأقل في ظرف الحرب الحالي فيجب أن يتسع أفقها لاستيعاب الشعب كله، فقيادة دولة أمر مختلف عن قيادة جيش في معركة. والأفضل أن يترك العسكر أمر الحكم بالكامل لساسة وطنيين متخصصين ويتفرغ الجيش لما يجيده وهو الحرب بصبر وبنفس أطول من قدرة داعمي المليشيا على الاستمرار في مسعاهم الذي فشل مبكرا.
حليم عباس
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
عادل الباز يكتب: حرب الكرامة .. “أكل الحساء باستخدام السكين” (1)
1 فليسمح لي القارئ أن أصعد إلى منبر التحليل العسكري، والسبب في ذلك أنني رأيت كل من هبّ ودبّ قد صعد ذلك المنبر في الفضاء مباشرة. والسبب الثاني الذي يؤهلني لصعود ذلك المنبر هو أن لدي مجموعة أصدقاء من الخبراء والأساتذة العسكريين، فتعلمت منهم بعضًا من أسرار المهنة، إضافة إلى بعض القراءات عن حروب المدن التي استهوتني تكتيكاتها وما حدث فيها من تطورات باستخدام التكنولوجيا الحديثة في معاركها.
2
القارئ لمجريات حرب الكرامة منذ اندلاعها يدرك أن الذين وضعوا استراتيجية هذه الحرب كانوا على وعي تام بمتطلبات المعركة منذ يومها الأول وحتى الآن، ورسموا خططهم واستراتيجياتهم بناءً على فهم عميق لطبيعة الحرب التي يديرونها. وهي حرب غير معهودة، ولم يكن لهم بها سابق معرفة عملية ، فطبيعة الحروب التي كان يخوضها الجيش السوداني تختلف كليًا عن الحرب التي اندلعت داخل الخرطوم في 15 أبريل 2023، سواء كان ذلك في الجنوب ودارفور أو حتى تلك الحروب التي خاضها الجيش خارج البلاد منذ أن كان “قوة دفاع السودان” (إريتريا، ليبيا ، المكسيك).
3
حرب المدن التي يخوضها الجيش الآن لم يسبق له أن خاضها في تاريخه. فكيف تسنّى لهؤلاء القادة العظام، بناءً على معارف نظرية عن حروب المدن درسوها في الكليات الحربية، أن يضعوا خطة لخوض معركة في مسرح عمليات بمساحة 1886000 كيلومترًا مربعًا؟! وهي خطة استراتيجية تثبت فعاليتها وجدواها وتحقق تقدمًا في كل مسارح العمليات الآن.
4
اذا تتبعت سير تنفيذ هذه الاستراتيجية التي اتبعها الجيش، ورغم مفاجأة الحرب نفسها للجيش وحجم الإمكانات التي كانت متوفرة للمتمردين والدعم الذي حصلوا عليه خارجيًا وداخليًا، إضافة إلى التآمر الإقليمي والدولي لدعم المتمردين، لا تملك إلا أن تندهش وتعجب بما تمتع به القادة العظام في جيشنا من فهم عميق لاستراتيجيات حروب المدن وترجموا فهم ذلك إلى خطط ورؤية لادرة الحرب كلها .لا بد أنهم درسوا بعمق المعارك في الموصل (العراق)، وحلب (سوريا)، ومقديشو (الصومال)، وغزة حاليًا، وغيرها، واستفادوا من دروسها الملهمة.
يقول جول ناغل في كتابه “Learning to Eat Soup with a Knife” ( تعلم أكل الحساء باستخدام السكين) إن النجاح في الحروب غير التقليدية لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل على التكيف مع الواقع الجديد وتعلم كيفية استخدام الموارد بطرق إبداعية. وهذا ما فعله قادة جيشنا، إذ تكيفوا بسرعة مع الواقع الجديد في أعقاب غدر المليشيا، واستخدموا الموارد بطريقة إبداعية بعد أن خرجت 80% من الموارد من دورة الاقتصاد.
5
بدا لي، وأنا أحاول قراءة خطوط الاستراتيجية التي اتبعها الجيش حتى الآن، أنها استندت إلى سبعة مرتكزات قامت عليها استراتيجية الحرب وظلت ثابتة طيلة 21 شهرًا هي عمر الحرب حتى الآن، ما عدا تغييرات طفيفة اقتضتها ظروف الحرب وتحولاتها ومفاجآتها.
6
المرتكز الأول، كما بدا لي، أن مخططي وقادة الجيش حددوا القواعد العسكرية والمناطق التي ينبغي الدفاع عنها داخل الخرطوم وعدم السماح بسقوطها في أيدي العدو مهما كان الثمن، وتم ذلك بأولويات مختلفة. مثلًا، لاحظت أن الجيش قرر الحفاظ على المناطق العسكرية وهى سبع مناطق في العاصمة أو ما يسميها العسكريون المناطق الحيوية داخل تلك المناطق تقع أهم معسكرات الجيش
( القيادة، المهندسين، كرري، الإشارة، … الخ) وتلك المواقع دافع الجيش عنها بشراسة فلم يتركها تسقط في أيدي العدو رغم أن العدو ظل يهاجمها بكل إمكانياته، وتعرضت لمئات الهجمات، لكنه فشل في تحقيق أي نجاح وعجز عن الاستيلاء عليها.
المدرعات كانت أكثر تلك المواقع صمودا وبذا ساهمت بشكل كبير في تقليل قوة العدو واعاق صمودها حركة العدو نحو القيادة العامة ، بل تحولت إلى لأرض قتل ، فقُتل مئات المتمردين على بوابتها وفي ساحاتها وبذا ساهمت المدرعات بشكل كبير في تقليل قوة العدو، وبصمودها أعاقت تقدم المليشيا تجاه القيادة العامة وساعدت في ثباتها. وكان صمودها مهما للاستراتيجية العامة.
7
الإخفاق الوحيد الذي حدث في تلك الاستراتيجية داخل الخرطوم هو سقوط منطقة جبل أولياء العسكرية وأهم قواعدها “قاعدة النجومي”، وهي قاعدة مهمة واستراتيجية. والسبب لا يزال مجهولًا، وهناك أحاديث تدور حول خيانة قد حدثت في تسليم تلك القاعدة دون قتال، ولكني لم يستوثق من تلك الاتهامات.
نواصل
عادل الباز
إنضم لقناة النيلين على واتساب