"لأنه كان كالراعي الصالح، قاد شعبه بعيون جديدة، بنور سماوي وعطايا كارزماتية، منظمًّا الليتورجيا، كاتبًا تاريخ شعبه المضطهد، واضعًا حماسته في خدمة وحدة المسيحيين والرهبانيات، وخّلًا للمظلومين والفقراء"، سمح قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، بعد حصوله على رأي مجمع دعاوى القديسين، بإطلاق لقب طوباوي على خادم الله المكرم البطريرك اسطفان الدويهي، على أن يحتفل به كل عام في 3 أيار يوم ولادته في السماء.


فكلام قداسة البابا عن الطوباوي البطريرك، الذي ينضم إلى مصاف طوباويي لبنان وقديسيه، ليست مجرد "صف حكي"، بل جاء نتيجة تأمل معمّق في سيرة الطوباوي الجديد، الذي عاش بين عامي 1630 و1704، في ظل الحكم العثماني للبنان، "فكان الراعي الصالح"، الذي "يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف وأَمَّا الأَجير، وهو لَيسَ بِراعٍ ولَيستِ الخِرافُ له فإِذا رأَى الذِّئبَ آتياً تَركَ الخِرافَ وهَرَب فيَخطَفُ الذِّئبُ الخِرافَ ويُبَدِّدُها. وذلِكَ لأَنَّهُ أَجيرٌ لا يُبالي بِالخِراف. أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي وأَبذِلُ نَفْسي في سَبيلِ الخِراف (يوحنا: 10- 11).
فالبطريرك الطوباوي كان ذاك الراعي بما فيه من صفات صالحة تمكّنه من الدفاع عن شعبه المعرّض لشتى أنواع الاضطهادات "فيقوده بعيون جديدة، وبنور سماوي وعطايا كارزماتية". فـ"القيادة" ليست ارتجالية، وهي غير مستمدة من سلطة تسلسلية في المسار التاريخي، بل هي بالمفهوم الإنجيلي والكنسي مسؤولية تفرض على من يتولاها موجبات ملزمة من حيث السلوكية الأخلاقية. فـ "القائد" يجب أن يكون شجاعًا وحكيمًا ومتواضعًا. يقدم حيث يجب الاقدام. ويحجم حيث تستوجب الحكمة ذلك. لا يتهور في اتخاذ القرارات، ولكنه ليس متردّدًا. يستمع إلى الآخرين ويأخذ بمشورتهم. يختلي مع نفسه ومع ربه ليستمد "النور السماوي"، الذي ينير له طريق الحق، فلا يقود شعبه إلى التهلكة، بل يحافظ عليه من خلال "العطايا الكارزماتية" المستمدة من قوة الايمان والممتلئة من مواهب الروح القدس وفيض نعمه.
هذه الصفات القيادية المعطوفة على رعايته الصالحة مكّنت البطريرك الطوباوي من اجتياز مرحلة صعبة من حياة أبنائه الموارنة، الذين تعرّضوا لأقسى أنواع الاضطهادات بسبب تعلقهم بحرية قدّسوها حتى الاستشهاد، فكان من بينهم شهداء كثر، وعلى رأسهم البطريك جبرائيل حجولا.
وعلى رغم الظروف الصعبة، التي كان يمرّ بها الموارنة في حينه لم يهمل البطريرك الطوباوي الليتورجيا في الطقس الماروني فعمل على تنظيمها تحقيقًا للتوازن بين التقاليد الدينية والتحديات الحديثة، وتأسيسه لمؤسسات ومراكز بحثية تسهم في تعزيز الثقافة والتعليم، فأطلق ورشة نهضوية منذ اليوم الأول لتسّلمه مقاليد البطريركية، وبدأ بتنظيم شؤون طائفته وتحديثها متأثراً بتنظيمات المجمع التريدنتيني الرابع في أوروبا. لكنه حافظ على توازن سليم بين الانفتاح على كنيسة روما، حيث حصّل علومه اللاهوتية، وبين الإبقاء على خصوصيات الكنيسة المارونية الأنطاكية السريانية التي تعيش جنباً إلى جنب مع سائر الكنائس الشرقية، وسط مجتمع أوسع غير مسيحي.
   
فكل ما كتب عن الكنيسة المارونية يعود الفضل فيه للبطريرك الدويهي الذي شكّل مرجعًا أساسيًا في كل ما وصل إلينا من معلومات من مخطوطات ووثائق وضعها البطريرك الطوباوي أو أشرف على تنضيدها وأرشفتها.
كتب البطريرك الدويهي تاريخ شعبه المضطهد فكان عالِمًا تاريخيًا، وساهم في إعادة اكتشاف الهوية المارونية، فركز في أبحاثه على التراث الماروني، بحيث حدّد بدقة الأسباب والأهداف التي دفعته إلى الكتابة: "أما نحن فقد حملتنا الغيرة لنشرح عن ملتنا المارونية، لا لأجل الثناء والافتخار، ولا لنلتمس محامدها، ولنصف للقارئين شرف السلفاء والخلفاء من رؤسائها، بل لننقذها من الثلب الباطل الذي أوجبه أصحاب التواريخ من زعمهم الباطل. لج علينا ناس كثيرون، غرب وقرب من أصحاب العلم والصداقة حتى نمدهم بصحة الإعلام عن أصل جماعتنا الموارنة، وعن اتحادهم مع الكنيسة الجامعة، بسبب أننا طفنا جميع الكنائس والأديرة، وغربلنا الكتب التي وقفنا عليها، وجمعنا رسائل الباباوات وأصحاب الولايات المبعوثة إلى البطاركة وفحصنا كافة رتب البيعة، وشرحنا على تواريخ بلدان الشام منذ بدء الهجرة إلى وقتنا هذا، مما نظرناه في كتب النصارى والمسلمين لنحظى بصحة الأخبار".
ليس صدفة أن يسمح قداسة البابا فرنسيس بإعطاء الاذن لإعلان البطريرك الدويهي طوباويًا لبنانيًا يرتقي على مذابح الكنيسة جمعاء شفيعًا لدى الله، يضاف إلى كوكبة من القديسين والطوباويين والمكرمين، الذين كانوا قدوة في الحياة الكهنوتية والرهبانية.
يتزامن تطويب البطريرك الدويهي، بعد سنوات طويلة من الانتظار مع معاناة تلف لبنان بزنار من المآسي والأزمات، وقد لا يكون آخرها تعرّضه لهزات أمنية تزعزع الاستقرار والسلام في جنوبه المغلوب على أمره، وتمتد إلى ضاحيته الجنوبية، وقد لا تتوقف عند حدود معينة، خصوصا أن لغة العنف هي السائدة والمسيطرة.
ولكن يبقى توقيت التطويب في هذه الظروف الصعبة بارقة أمل في النفق المظلم وكوة مفتوحة على السماء بعدما باءت المحاولات الأرضية بالفشل، "وإن بدت السماء بعيدة إن الذي فوق السماء قريب" (الامام الشافعي). المصدر: خاص "لبنان 24"

المصدر: لبنان ٢٤

إقرأ أيضاً:

محمد عرب صالح.. "يوقد من شجرة جدته"

 

يدّعي أحدنا التفرد، واللغة تصدّق ذلك، أو تكذبه.
وبعدها تنسج مصادفات الطريق خيوطها، وتحاصر الشتات.

(١)
كنت مهمومًا بتجربة "بوابة الموهوبين بمركز أطفيح"، حين أخبرني صديق قبل نحو ٧ سنوات عن شاعر من قرية عرب بني صالح - ذات الهوى الرائق، والذائقة البديعة.
وهي قرية ذات طبيعة صحراوية، يميل أهلها إلى الصلابة، والأصالة معًا، ولها خصوصية تميزها عن مختلف قرى مدينة أطفيح/ إحدى مدن جنوب الجيزة، بما لدى معظم أبنائها من ميل فطري للتفوق الأكاديمي. 
تفاءلت، واتصلت، فالبلاد التي تنجب شاعرًا، بوسعها أن ترفع هامة، وتنصب قامة.
وهاتفيًا، جاءني صوت دافيء، جملت الصحاري أهدابه، وأطلقت بلاغته، وطلبت أن يلبي دعوة للقاء أطفالنا الموهوبين، ويبسط جناح شاعريته.

(٢)
والشاعر، هو ابن الدهشة، وعدو اليقين.
وتساءل الحائز لتوه - وقتذاك- على جائزة الشارقة في الإبداع العربي عن ديوان "وقالت جدتي الصحراء"- عن حاضنة تتذوق الشعر في المدينة الجامدة، وقلت: نعم، موجودة، وستتسع إذا أنت ناديت في الناس.
والتقينا أول مرة، واختصر الزمن مسافة، وسنوات، وصرنا في بضع دقائق متوحدين يسيران على قدر مشترك.

(٣)
القصيدة تؤم جمهورها، فإذا صلحت صلحوا.
حكى الشاب ( الحائز مؤخرًا جائزة الدولة التشجيعية) تجربته مع الشعر، وبصوته الشجي، الخفيض، أزاح عراقيلًا، وذلل عقبات أمام الناشئة، وهو يسترجع بداياته مع الموهبة الإبداعية المدهشة.
فالذي لم ينسلخ عن قريته في المسمى قال: إن ربة الشعر جذبته في عامه الأخير بكلية دار العلوم، وعندئذ لم يتوقع بعد أن تثمر قصيدته، وتتنامى حد التتويج بجائزة كبرى.
لكنه آمن بغراس جدته الصحراء، وأقام حيث تورق شجرتها الملهمة.

(٣)
يمهل الشعر من يدعون وصله، ثم ينقّح أنسابه.
اتصلت لقاءاتنا، حتى حان موعد افتتاح الموسم الثالث لمسابقة الموهوبين بأطفيح، ولم يكن يصدق محمد عرب صالح أن جمهورًا عريضًا من مختلف الأعمار، والثقافات سيكون في انتظاره.
وفي خاطره أن أمسية كهذه، في مدينة بأقصى جنوب الجيزة، لا يمكن أن يتجاوز عدد الحضور فيها ١٠ أفراد.
خليت بينه وبين جمهوره، بعد تقديم يليق بموهبة شعرية استثنائية، وأفصح عن ذاته بقصيدة عن أبويه، واهتزت القاعة من فرط الاحتفاء، كما اهتز فؤاده.

(٤)
لا دائرة حمراء حول تذوق المدينة، لقد كسرت القاعدة، ومالت على موسيقى قصائده. 
شق الشاب الطَموح الذي لا تهدأ روحه الثائرة طريقه نحو التجديد، متكئًا على خيال خصيب ينهل من طبيعة البراح الريفية، ولغة تجري على أوراقه كجداول عذبة.
وأطل من خلف شاشة الشارقة/الإماراتية كصوت مصري واعد بمسابقة أمير الشعراء، يرتق أحلام محبيه، ويوقد جمر القوة الناعمة المصرية، ويطلق صورته الشعرية في فضاء عربي،  فتستحيل بشهادة النقاد إلى مصابيح تزين سماء الحرف.
ويبرق نجم القرية، كلما ناداه مقدم أمسية، فلا يكاد متلق أن يحسم إجابة ( من يخلَّد من؟).

(٥)
أن تصادق شاعرًا يعني أن تطل من أعلى نقطة كونية على الأرض.
فالذي لا يستطيع صلابة في مواجهة عاطفته، هو ذاته من يكبلها، ويسوقها عارية إلى العامة.
وما أشهى أن تقارب هشاشة صاحبك، وتسكبان معًا ماء القصائد العذب على جمر الواقع .

(٦)
بهذه الرحلة التي أسفرت عن " ٣ دواوين" ورغم اجتياز نقطة واحدة، أو نقطتين، من مسار لا محدود، يمكنني أن أقول: إن محمد عرب صالح أقر قاعدتين خالدتين،  أولاهما" الصحراء لاتزال سيدة البلاغة"، والأخرى " الحر يبدي نسبًا لأمه بكل فخر".
هذا جانب من سيرة شاعر التقيته على طريق الموهبة، حيث لا تظمأ روح في حضوره، ولا يمكن لقلب أن يبرأ من خفقة الطرب عند سماعه، وتنساب موسيقاه وناسة لمن يفتحون نوافذ الكون.
وحبنا للزمالك زيادة.

مقالات مشابهة

  • البطريرك يوحنّا العاشر يستقبل الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
  • بطريرك الأقباط الكاثوليك يستقبل الزائر الفرنسيسكاني العام لإقليم العائلة المقدسة
  • البطريرك يوحنا العاشر استقبل وفد مجلس كنائس الشرق الأوسط: نشدد على دوره في مد جسور الحوار
  • محمد عرب صالح.. "يوقد من شجرة جدته"
  • اجتماع الأمانة العامة للمجمع المقدس برئاسة البطريرك أونلاين
  • البطريرك يونان التقى المجلس العام الماروني.. إليكم ما تم بحثه
  • البطريرك مار إغناطيوس يزور روفائيل بدروس الحادي والعشرين لتهنئته بعيد الميلاد المجيد
  • شركة الرمز العقارية راعيًا رسميًا للشباب
  • «ضرورة قصوى».. بطريرك القدس للاتين يُشيد باتفاق وقف النار في غزة
  • هذا هو الجزائري الذي أشرف بالكامل على تنظيم حفل ترامب