قائد الثورة: محور المقاومة سيرد حتماً على جرائم العدو وتصعيده الخطير
تاريخ النشر: 2nd, August 2024 GMT
جريمة اغتيال القائد هنية انتهاك سافر لكل الأعراف والحرمات المتغيرات ستأتي بما يسوء العدو والشامتين ويخزيهم جميعاً إجرام العدو الإسرائيلي يقابله تنامٍ لجبهات الجهاد وتطور في الأداء تصعيد العدو مرتبط بزيارة المجرم نتنياهو لواشنطن ومتزامن مع تحركات أمريكية في المنطقة
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْــــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَــنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: 23]، صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم.
بالأمس كانت ذكرى استشهاد الإمام الشهيد زيد بن علي بن الحسين، سبط رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، وابن عليٍّ أمير المؤمنين “ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ”، وتزامنت هذه الذكرى في هذا العام مع العدوان الهمجي الإجرامي الوحشي الإسرائيلي، على الشعب الفلسطيني المسلم المظلوم الصابر، وتزامنت الذكرى أيضاً مع أبرز مستجدات هذا الأسبوع، وهي: جريمة العدو الإسرائيلي بالاستهداف لشهيد الأمة، شهيد الأقصى وفلسطين، المجاهد الكبير، والقائد الإسلامي الفذ، الأخ العزيز الشهيد/ إسماعيل هنية “رحمه الله”، وكذلك باستهداف الأخ المجاهد، القيادي الكبير في حزب الله السيد/ فؤاد علي شكر “رحمه الله”، الذي هو أيضاً من فرسان الأمة الإسلامية، وله رصيدٌ عظيمٌ من الجهاد على مدى عقودٍ من الزمن في مواجهة العدو الإسرائيلي.
وللشهيد إسماعيل هنية “رحمه الله”، هنيئاً له الشهادة، الخاتمة المباركة، والفوز العظيم، بعد رصيدٍ عظيمٍ من الجهاد والعمل في سبيل الله تعالى، والإسهام الكبير المتميز في خدمة القضية العادلة المقدسة، في السعي لإنقاذ الشعب الفلسطيني المسلم، وتحرير فلسطين والمقدسات، وعلى رأسها المسجد الأقصى الشريف.
وفي هذا المقام، نتوجه من جديد بأحرِّ التعازي وخالص المواساة إلى أسرته الكريمة، التي قدَّمت الكثير من الشهداء، وإلى حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكافة الفصائل الفلسطينية والشعب الفلسطيني المسلم العزيز.
ونتوجه كذلك بأحرِّ التعازي وخالص المواساة إلى أسرة وأقارب الشهيد القيادي العزيز، السيد/ فؤاد شكر “رحمه الله”، وإلى حزب الله، وأمينه العام “حفظه الله”، والشعب اللبناني.
كما نتوجه أيضاً بالعزاء إلى أسر الشهداء الأعزاء في العراق، الذين قضوا نحبهم في سبيل الله تعالى، إثر عدوانٍ أمريكيٍ عليهم أثناء أدائهم لمهامهم الجهادية، فعزاؤنا لأهاليهم، وللمقاومة الإسلامية في العراق.
مهما كان حجم التضحيات في سبيل الله تعالى، ومهما كان مستوى الإجرام من قِبَل العدو الإسرائيلي، ومعه الأمريكي شريكه في كل جرائمه، فإنه لن يوهن أبداً من عزم المجاهدين، ولن يكسر من روحهم المعنوية، ولا من إرادتهم الحديدية، بل نتيجته على مستوى الشعوب المجاهدة المضحية: المزيد من الصبر، والمزيد من الاستعداد للتضحية في سبيل الله، والتصميم على مواصلة الجهاد في سبيل الله تعالى، والواقع يشهد بذلك في كل محطات الجهاد والتضحية.
ففي تاريخ حركة حماس، عندما ارتكب العدو الإسرائيلي جريمة الاستهداف الظالم للشيخ المجاهد الشهيد/ أحمد ياسين “رحمه الله”، ومن بعد ذلك الاستهداف للشهيد العزيز أسد فلسطين/ عبد العزيز الرنتيسي “رحمه الله”، وغيرهما من القادة، لم ينل العدو الإسرائيلي ما أراده، لا في إضعاف المجاهدين، ولا في كسر إرادتهم، ولا في ضرب الروح المعنوية للشعب الفلسطيني، ولا في إطفاء جذوة الجهاد في سبيل الله تعالى؛ بينما كان لاستشهاد أولئك القادة الأثر الكبير في الدفع والتحفيز لغيرهم بمواصلة المشوار، وتنامت مسيرة الجهاد أكثر وأكثر، وحققت الإنجازات تلو الإنجازات.
وكذلك هو تاريخ حزب الله، بعد استشهاد القادة، من ضمن ذلك استشهاد السيد/ عباس “رحمه الله”، والشيخ/ راغب حرب “رحمه الله”، والحاج/ عماد مغنية “رحمه الله”، وكذلك قادة آخرون فيما بعد، لم يؤثِّر ذلك في حزب الله تأثيراً سلبياً، لا أصابه بوهنٍ، ولا ضعفٍ، ولا استكانة؛ إنما كان التصميم أكثر، وتحققت الإنجازات أكثر وأكثر.
أما العدو الإسرائيلي فهو بالمزيد من جرائمه يُقَرِّب نفسه من الزوال يوماً بعد يوم، والزوال المحتوم بوعد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونرى ما يقابل إجرامه من تنامٍ لجبهات الجهاد في سبيل الله تعالى، ومن تطورٍ أيضاً في الأداء والمواقف.
كانت جريمة العدو الإسرائيلي، التي هي باستهداف شهيد الأمة وشهيد فلسطين والأقصى، الشهيد الكبير والقائد الإسلامي الكبير/ إسماعيل هنية “رحمه الله”، أتت في إطار تصعيدٍ واضح، أتت بعد عودة نتنياهو من أمريكا، وكانت أيضاً استهدافاً للشهيد العزيز وهو ضيفٌ في الجمهورية الإسلامية في إيران، ضمن وفود أتت من أكثر من ثمانين دولة، في حضور مراسم أداء الرئيس الإيراني لليمين الدستوري، واستلامه لمهامه الرئاسية، كانت انتهاكاً سافراً وواضحاً لكل الأعراف والحرمات، وجريمةً وقحةً، بغطرسةٍ واستهانة، مع ذلك يفتضح الأوروبيون وبعض الدول العربية معهم بموقفهم، الذي لم يصل حتى إلى مستوى التنديد بتلك الجريمة، بعد أن نددت بها كثيرٌ من الدول في مختلف أنحاء العالم.
جريمة العدوان على الضاحية الجنوبية لبيروت، واستهداف القيادي الكبير في حزب الله السيد/ فؤاد شكر، كانت كذلك عدواناً واضحاً وتصعيداً خطيراً، مع استمرار الجرائم في غزة، والمجازر الجماعية التي بلغت هذا الأسبوع ما يقارب الخمسة والعشرين مجزرة، والجرائم الوحشية الفظيعة بحق الأسرى الفلسطينيين، التي يندى لها جبين الإنسانية.
كل هذا المستوى من التصعيد، والاستمرار في الإجرام، من الواضح أنه مرتبطٌ بزيارة المجرم نتنياهو للولايات المتحدة الأمريكية، حيث عاد منها لتنفيذ تلك الجرائم، وتزامن مع ذلك تحركات أمريكية في الخليج، وفي البحر الأبيض المتوسط، فالأمريكي هو شريكٌ واضحٌ، وهو- في نفس الوقت- مخادع، يتحدث عن ضرورة منع توسع الحرب، ثم يُقدِّم الدعم، ويشارك مع العدو الإسرائيلي لتوسيعها، ويُصَعِّد بجرائم كبيرة، ثم يقول إنه لا يريد توسيع الحرب ولا التصعيد، ويتيح المجال للعدو الإسرائيلي، ويطلق له المجال ليفعل ما يشاء ويريد، ثم يقول أنه لا يريد التصعيد، وأنه يريد ضبط النفس، ويُحذِّر، ويتوعد، ويهدد تحت هذا السياق، فيكون دور الأمريكي مع التصعيد الإسرائيلي هو التحذير من أي رد، والدور الأوروبي هو التخدير، والسعي لاحتواء المواقف، أو أن تكون تحت سقف ومستوى ضعيف جداً، بشكلٍ رمزيٍ لا يمثل ردعاً في مقابل جرائم العدو الإسرائيلي.
المواقف من تلك الجرائم فيما يتعلق بالمحور (محور القدس والجهاد والمقاومة)، فالموقف واضح، لابدَّ من الرد عسكرياً على تلك الجرائم التي هي خطيرة ووقحة، وتصعيد كبير من جانب العدو الإسرائيلي، هناك مواقف واضحة ومعلنة بالنسبة للجمهورية الإسلامية، وكذلك هو الحال بالنسبة لبقية المحور، ويجري العمل من أجل ذلك، كذلك على المستوى الشعبي، هناك تحرُّك واسع، لاسيما في دول المحور.
على مستوى الموقف السياسي، كان هناك إدانات واسعة من معظم الدول العربية، ومن دول إسلامية متعددة، لكن بالنسبة للجامعة العربية إلى حد الآن لم نسمع ولم نعرف بأي موقفٍ يتضمن إدانةً صريحة لتلك الجرائم البشعة، كان هناك أيضاً مواقف تدين العدوان والجرائم الإسرائيلية من بعض الدول الأخرى، كـ: روسيا، والصين.
خرجت أيضاً على المستوى الشعبي تظاهرات شعبية واسعة في المغرب العربي، وفي الأردن، وخرجت تظاهرات في لبنان، وكان هناك مسيرة حاشدة في تركيا، ووقفات كبيرة في موريتانيا.
الملفت هو الموقف السلبي والسيء والمخزي لبعض الأنظمة العربية، التي سبق وأن أصدرت بيانات عاجلة، تدين فيها بشدة الخدش الذي تعرضت له أذن [ترامب]، فيما يقال أنها محاولة اغتيال، وعبَّرت في بياناتها تلك بعناية عن تضامنها وتعاطفها معه، فيما لم يصدر منها إدانة للجريمة بحق أبناء هذه الأمة، وقادة من قادتها الأخيار: الشهيد إسماعيل هنية، والشهيد فؤاد شُكر؛ بل ظهر إعلامها متشفياً ومحتفياً، ومقدماً لما حدث بأنه نصرٌ للإسرائيلي، وعمل ذبابها الإلكتروني في هذا الاتجاه والله المستعان!
تجاه هذه الجرائم، وتجاه العربدة الإسرائيلية، والإجرام اليهودي الصهيوني المستمر، الذي يستهدف الشعب الفلسطيني، بالدرجة الأولى في قطاع غزة، واستهدف الشعب الفلسطيني في الضفة وفي سائر أنحاء فلسطين على مدى كل هذه العقود من الزمن، ويُصَعِّد في محطات ومراحل كثيرة، ويرتكب أبشع وأفظع الجرائم، وكذلك يستهدف الأمة الإسلامية عموماً، ويستهدف المحيط العربي والإسلامي لفلسطين، الخيار الصحيح المشروع القرآني الإسلامي هو: الجهاد في سبيل الله تعالى، هو وحده الخيار الصحيح، الحكيم، والمشروع بحق لمواجهة العدو الإسرائيلي اليهودي المجرم.
العدو الإسرائيلي هو كيانٌ إجراميٌ من يومه الأول، تأسس على الإجرام، والظلم، والقتل، والدموية، والاغتصاب، والتاريخ يشهد بذلك، منذ بداية حركة العصابات الصهيونية على أرض فلسطين، وهي ترتكب أبشع الجرائم، واستمر العدو الإسرائيلي كذلك لم يتغير أبداً، ولن يتغير، وقام وتأسس على الإجرام، والعدوان، والقتل ظلماً وعدواناً وبغياً، وارتكاب أبشع وأفظع وأشنع وأسوأ الجرائم، هو كيانٌ إجراميٌ في معتقداته، في ثقافته، في نظرته، هو يعتبر العرب والمسلمين عموماً، بل وكل البشر الآخرين بأنهم ليسوا من البشر، ويستبيحهم، يستبيح الدم، يستبيح العرض، يستبيح الممتلكات والأوطان، يستبيح كل شيء، وجرائمه الفظيعة، والبشعة، والوحشية، في قطاع غزة على مدى عشرة أشهر، بمرأى ومسمعٍ من العالم، تشهد على ذلك، تشهد على حقيقته الإجرامية، ونزعته الإجرامية، جرائم فظيعة للغاية يشاهدها الناس، كل من يتابع ويشاهد.
القرآن الكريم شهد على هذه الحقيقة قبل كل ذلك، وما يجري على مدى التاريخ هو مصاديق وشواهد للحقائق القرآنية، التي ذكرها الله في آيات كثيرة في القرآن الكريم، وهو يتحدث عن حقدهم، وعن عداوتهم، وعن إجرامهم، وعن وحشيتهم، وهم الذين ورثوا من أسلافهم، الذين كانوا في الخط المنحرف المحارب لأنبياء الله، من قتلة الأنبياء، من قُساة القلوب، من المحرفين لكتب الله ورسالاته، ثم من المحاربين لرسول الله وخاتم أنبيائه محمد بن عبد الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، كانوا في نهجهم، في إجرامهم، في ضلالهم، في عدوانيتهم، كما حكى الله عنهم في القرآن الكريم: {يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 62]، هم عدوانيون، يحملون العداء وأشد العداء للمسلمين، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة: 82].
كم في القرآن الكريم من حديث عنهم، أنهم أعداء لهذه الأمة، وأنهم أعداء حاقدون، سيئون، مجرمون، ليس لديهم أي قيم، يستبيحون الأمة، هم من حكى الله عنهم أنهم قالوا: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}[آل عمران: 75]، وما فعلوه وما يفعلونه على مدى هذه العشرة الأشهر، في عدوانهم وتصعيدهم فيه الكفاية، فيه الكفاية لأن يراهم الإنسان بوجههم البشع، الإجرامي، المتوحش، البعيد كل البعد عن أيِّ مشاعر إنسانية، أو قيم إنسانية، والمتجاوز لكل الاعتبارات، والحرمات، والأعراف، والشرائع… وكل شيء، ليس عندهم أي اعتبار لأي شيء، يُقدِمون على أيِّ جريمة دون أي اعتبار: لا أخلاقي، ولا إنساني، ولا ديني، ولا قيمي، ولا قانوني… ولا أي شيء، ينتهكون كل الحرمات بكل جرأة ووقاحة، وعدوانية وتوحش.
الغرب الكافر أيضاً أباح لهم، الدول الأوروبية معظمها، والغرب الكافر أباح للعدو الإسرائيلي أن يفعل ما أراد بالعرب والمسلمين عموماً، أباح العرب والمسلمين للعدو الإسرائيلي، أباح الدم وأهدره، وأباح الأوطان والممتلكات، وأباح الأعراض؛ ولذلك ليس هناك أي ممانعة من قِبَل الدول الأوروبية في معظمها، من قِبَل الغرب الكافر ليس هناك أي ممانعة، ولا اعتراض تجاه ما يفعله العدو الإسرائيلي بالعرب أو بالمسلمين عموماً، ليقتل، ليغتصب، ليرتكب أبشع الجرائم، ليحتل الأوطان، ليصادر الممتلكات، أو يدمِّر، ليفعل ما يشاء ويريد، وهو مطلق اليد والتصرف من جانبهم، ولكن بعد كل ما يفعله، يبادرون لمنع ردة الفعل، لمنع الدفاع المشروع عن النفس، والعرض، والممتلكات، والأوطان، والحقوق، يبادرون من هناك على المستوى الدبلوماسي، على المستوى السياسي، على المستوى الإعلامي، على مستوى الضغوط بأشكال وأنواع مختلفة، لاحتواء أي ردة فعل، وهذا واضح، الإسرائيلي يذهب لارتكاب أي جريمة مهما كانت، ولأي مستوى من التصعيد يريد، بعد أن يكمل، تبادر الدول الأوروبية لاحتواء ردة الفعل؛ لحماية العدو الإسرائيلي، المهم عندهم دائماً هو ألَّا تأتي ردة فعل تجاه ما يفعله، مهما كان حجم التصعيد من جانبه، ومهما كان مستوى الإجرام من جانبه، لا يهم عندهم، المهم ألَّا تأتي ردة فعل على تلك الجريمة، أو على ذلك التصعيد، أو مقابل ذلك العدوان والإجرام، وهذا واضح، ما بعد ارتكاب العدو الإسرائيلي لهذه الجرائم الكبيرة، باستهداف شهيد الأمة، القائد الإسلامي الكبير إسماعيل هنية “رحمه الله”، وكذلك القائد الكبير، المجاهد العزيز فؤاد شكر “رحمه الله”، واستشهاد من استشهد معهم، يأتي الأوروبيون، وتأتي المساعي من هنا وهناك، وبمساعي حثيثة وكبيرة، في محاولة احتواء ردة الفعل، في محاولة الضغط السياسي والدبلوماسي على الجمهورية الإسلامية؛ لكي يكون ردها كما يقولون: [رداً رمزياً]، أو ليضعوا له حدود هم من عند أنفسهم، بالقدر الذي يرغب به الإسرائيلي.
وهذا ما يجب أن تكون الأمة على وعيٍ تجاهه: لا يمكن أبداً أن تعوِّل هذه الأمة، لا في محور القدس والجهاد والمقاومة، ولا في بقية أبناء الأمة، أن يعوِّلوا على الغرب، أو أن يعوِّلوا على المؤسسات الدولية، التي دائماً مهمتها أن تدعو إلى ضبط النفس- كما يقولون- بعد أن يفعل العدو الإسرائيلي ما يفعل، أو يساوون بين الضحية والجلاد، والمظلوم والظالم، والمعتدي والمعتدى عليه، في بعض الحالات إذا اتَّجهوا إلى موقفٍ معين، يساوون ما بين هذا وذاك، لا ينبغي أن يعوَّل عليهم أبداً، إذ لا يمكن أن يكون هناك أي نتيجة، ولا أي ثمرة، ولا أي ردع، ولا أي إيقاف للجرائم، حتى لو كان موقف الأمة تجاه جريمةٍ معينة بمستوى ضعيف، أو مستوى محدود، أو مستوى رمزي، هذا يشجِّع العدو الإسرائيلي على المزيد والمزيد من ارتكاب الجرائم.
الحل للأمة هو الجهاد في سبيل الله، هو الخيار المشروع الوحيد الذي يجدي ويفيد، هو الذي قدَّمه الله لهذه الأمة في القرآن الكريم، والذين آمنوا بهذا الخيار، من خلال إيمانهم بالله، بهديه، بكتابه، بتعليماته القيِّمة، بأهمية الالتزام بأوامره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هم المفلحون، هم الناجحون، هم المنتصرون، هم الذين تتوقف على جهودهم وتضحياتهم يتوقف مستقبل هذه الأمة، هو مرهونٌ بذلك، وعندما يكون هناك تضحيات في سبيل الله، وفي هذا السياق، فستكون مثمرة، والعاقبة التي وعد الله بها هي للمتقين، الصابرين، المضحين.
ورسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” هو القدوة، وهو الأسوة لكل المسلمين، الأسوة والقدوة للموقف الحق، والخيار الصحيح، والاتِّجاه الذي يفيد الأمة، ويدفع عنها المخاطر، ويرقى بها إلى مستوى التحديات؛ ولهذا خاطبه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، قائلاً له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[التوبة: 73]، لأن جبهة الكفر والنفاق هي جبهة شر، وعدوان، وظلم، وطغيان، وإجرام؛ فالخيار الصحيح في مواجهتها، هو: الجهاد في سبيل الله.
يقول الله له في القرآن الكريم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا}[النساء: 84]، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يتدخل بتأييده، بنصره، بدفع كيد الأعداء وبأسهم، لكن مع الموقف، مع التحرك، مع الجهاد، مع الاستجابة العملية.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}[الأنفال: 65]، فالمقام مقام تحرُّك، تحرُّك للجم أعداء الله، لدفع شرهم، وإجرامهم، وطغيانهم، وعدوانهم، وفسادهم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}[الأنفال: 65]، إن يكن منكم مائة صابرة {يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}[الأنفال: 65]، بالصبر، بالتضحية، بالجهاد، بالموقف العملي؛ يأتي النصر من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والرعاية الإلهية.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}[التوبة: 88]، لكن في مقابل الخيارات الأخرى:
خيارات المنافقين، المتواطئين مع الأعداء.
وخيارات المتخاذلين، المثبطين، الجامدين.
كان هناك الخيار الصحيح، الخيار المشروع، الخيار الذي اختاره الله، وأمر به، ووجَّه إليه، وهو: الجهاد في سبيل الله، كان هذا الخيار هو الذي تحرَّك به مَنْ؟ رسول الله وخاتم أنبيائه “صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التوبة: 88]، فالرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بالمال والنفس، وهم الذين تتحقق لهم، وتحققت لهم تلك النتائج الكبرى والعظيمة، التي وعدهم الله بها، بعد التضحية، بعد الصبر، بعد العطاء، بعد المثابرة، لفترة زمنية، ولسنوات، ولمواقف طويلة، ومتعددة، وكبيرة، وفي جبهات متعددة، {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التوبة: 88].
ثم يبيّن الله لنا أنَّ الأسوة والقدوة هو رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، فيقول لنا في (سورة الأحزاب)، في سياق العرض لأحداث الأحزاب، لغزوة الخندق، وما حصل فيها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]، وفعلاً التجربة والواقع يشهد بأنَّ الجهاد هو الذي يرتقي بالأمة في بنائها، وبناء قدراتها، لترتقي لتكون في مستوى مواجهة التحديات، وهو الذي يصونها من سيطرة أعدائها، ويصونها أيضاً من استغلال أعدائها لها، استغلال أعدائها لها لخدمتهم، واستنزافها، واستنزاف قدراتها في سبيلهم.
ولذلك نرى أنَّ الذين لهم خيارات أخرى في الخضوع للأعداء، يتَّجهون لبذل الأموال بالمليارات، بالمليارات، فيما يخدم الأعداء، يثيرون الفتن، يقدِّمون تضحيات كبيرة جداً، هي استنزاف لهم، واستنزاف للأمة، ولخدمة الأعداء، وقد يكون ما يقدِّمونه في هذا السبيل بأكثر بكثير مما قدَّمه من خيارهم الجهاد في سبيل الله في الموقف الحق، والقضية العادلة، والميدان الواضح، الذي هو صراعٌ واضح ما بين الإسلام والكفر، ما بين جبهة الحق وجبهة الباطل، بحسب القدرات والإمكانات.
والتضحيات في سبيل الله هي تضحيات مثمرة، لها نتائج؛ لأنه لابدَّ من أن يكون هناك تضحيات، يحصل ذلك، لكن مع التضحيات يكون هناك نتائج برعايةٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، يرعاها في عباده؛ لأنها تضحيات في سبيله، وهو لا يضيع أجر المؤمنين، وأجر المحسنين، وأجر الصابرين، والواقع يشهد بذلك، على مدى التاريخ، وقد مرَّت بنا في هذا الشهر ذكرى عاشوراء، واستشهاد الإمام الحسين “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وكذلك ذكرى شهادة حفيده: الإمام زيدٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، ونرى كيف امتد النهج الجهادي القرآني في مواجهة الطغيان جيلاً بعد جيل، برعايةٍ من الله، وتأييدٍ من الله، ونصرٍ من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
مستقبل الأمة مرهونٌ بذلك، الصراع مع العدو الإسرائيلي هو صراعٌ حتمي؛ لأنه كيانٌ عدوانيٌ مجرم، يستهدف الأمة، لن يكفَّ يده بالشر والسوء عن الأمة، الصراع معه حتمي، وفي نفس الوقت زواله محتومٌ أيضاً، وفي وعد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الذي لا يتخلَّف، ولا يتغيَّر، ولا يتبدَّل، وكذلك خسارة الذين يوالونه، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أكَّد ووعد بخسارتهم، وأن يصبحوا خاسرين، وأن يصبحوا أيضاً نادمين.
ونحن في هذه المرحلة في مرحلة مهمة، ومن الشرف الكبير، والفضل العظيم، والأجر العظيم، أن يتوفَّق الإنسان للتحرك في سبيل الله تعالى في هذه المرحلة، التي هي مرحلة استثنائية، ومرحلة مصيرية لمستقبل الأمة، ووزر التخاذل أيضاً فيها كبير؛ لأنه يعبِّر عن ارتداد عن مبادئ الإسلام، وعن قيمه، كما في الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[المائدة: 54]، الإنسان في هذه المرحلة التاريخية المهمة:
إمَّا أن يتَّجه ضمن هذه المواصفات القرآنية، التي وصف الله بها أولئك القوم؛ ليتوفَّق، وليأخذ بأسباب التوفيق من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ليكون من أولئك القوم.
وإلَّا فالبديل عن ذلك، هي: حالة ارتداد عن مبادئ الدين، عن قيمه، عن أوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وعن توجيهاته.
من المفترض أن يكون الحضور الشعبي واسعاً في مستوى هذه التطورات المهمة، والخطيرة، والكبيرة، في مختلف الأنشطة، ومنها: المسيرات والمظاهرات، وكذلك التعبئة، وأنشطتها من تدريبٍ وغير ذلك، وأن يكون هناك المزيد من الاهتمام والتفاعل؛ حتى يرى الأعداء أنَّ جرائمهم إنما تزيد أحرار الأمة وأبناء الأمة انطلاقةً، وتفاعلاً، وثباتاً، وصموداً، وجديَّةً، وحتى يرى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” منَّا الصدق والصبر، وهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” خير الناصرين، بالثبات، بالعمل، بالتضحية، بالاستمرار على الموقف، يأتي من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” النصر، ويأتي العون، ويأتي التأييد الإلهي.
من المهم الحضور الواسع في مظاهرات الجمعة، والتحرك في الأنشطة المساندة للأسرى الفلسطينيين أيضاً في يوم السبت، تلبيةً لدعوة الشهيد القائد الكبير، والأخ العزيز: إسماعيل هنية “رحمه الله”، في يوم الجمعة يفترض أن يكون الحضور الشعبي واسعاً جداً، والتفاعل الشعبي واسعاً جداً، وأن يكون واضحاً في تأييده للخطوات العملية القادمة، وللرد الكبير من قِبَلِ المحور، وأن يكون واضحاً أيضاً في موقفه المساند للشعب الفلسطيني، والمواسي للشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، وكذلك أيضاً في الموقف من العدو الإسرائيلي.
فيما يتعلَّق بالأنشطة التي تحدد- إن شاء الله- ليوم السبت، كل هذا أيضاً في إطار تلبية دعوة الشهيد العزيز إسماعيل هنية “رحمه الله”، من الوفاء له، ومن الوفاء للشهداء، ومن إرث الشهداء، هو مواصلة المشوار بعزم وجد، مع الثقة بنصر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الوعد من الله بالنصر هو وعدٌ صادقٌ لا يتخلف، ولا يتغير، ولا يتبدل، ومهما كانت شماتة الشامتين، فالمتغيرات ستأتي بما يسوؤهم، ويسوء العدو الإسرائيلي، ويخزيهم جميعاً بإذن الله تعالى.
أدعو شعبنا العزيز إلى الخروج المليوني الواسع يوم غد الجمعة- إن شاء الله- في العاصمة صنعاء، وسائر المحافظات والمديريات.
نَسْألُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاء الأُمَّةِ فِي فِلَسطِين، وَلُبْنَان، وَالعِرَاق، وَاليَمَن، وَأنْ يَرْفَعَ مَقَامَهُم، وَأَنْ يُعَجِّلَ بِالنَّصرِ وَالفَرَجِ لِلشَّعبِ الفِلَسْطِينِي المَظْلُوم، وأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصرِهِ، وَيَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَيَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَيُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
في محاضرته الرمضانية الحادية عشرة قائد الثورة : الإنسان في تكوينه يشعر بحاجته الدائمة إلى الله سبحانه وتعالى
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
استكملنا العرض القرآني لمقامٍ من أهم المقامات، التي وردت في القرآن الكريم، لنبي الله وخليله ورسوله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، في الدعوة لقومه إلى عبادة الله، والتوحيد لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وفي السعي إلى نسف الشرك، وكان هناك الكثير من الدروس والعبر، التي راعينا فيها- أيضاً- الاختصار؛ لنصل إلى الاستفادة- أيضاً- من المقامات الأخرى.
في ذلك المقام المهم والمفيد، نلحظ أن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» حقق نتائج مهمة:
• في مقدمتها: كسر الحاجز الكبير، الذي كان ما بينه وبين أن يبدأ معهم مشوار الدعوة إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والإبلاغ لرسالة الله، والدعوة إلى التوحيد لله.
• ولفت أنظارهم إلى مبدأ التوحيد.
• وكذلك سعى لنسف الشرك من أذهانهم كمعتقد، من خلال ترسيخ مبدأ الكمال المطلق لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنه المبدأ الأساس في الاستحقاق للألوهية.
• وقام بعملية استعراض تَأَمُّلي، في قصة التَّأمُّل للكوكب، وللقمر، وللشمس، ووصل بهم إلى أن بهتوا؛ لأنهم لا يمتلكون الحُجَّة لرد ما عرضه عليهم من البراهين النَيِّرة، والحجج الواضحة، التي آتاه الله إياها.
لكنَّ تَشَبُّثَهم الشديد، واعتيادهم على حالة الشرك، يحتاج إلى المزيد من المقامات، والتَّرقِّي في الاستدلال، وفي قوة الموقف.
يعرض لنا القرآن الكريم في (سورة الشعراء) مقاماً آخر، يتميز بالصراحة أكثر من المقام السابق، وهذا في سياق التَّرقِّي، وفي توسيع نطاق الاستدلال ومضامينه، وفي قوة الموقف أكثر؛ لِمَا لذلك من أهمية في زجرهم عمَّا هم عليه من الشرك، وكذلك باستخدام أسلوب المساءلة، التي تستنطق الحقيقة، وتلجئهم إلى الاعتراف بها، يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في (سورة الشعراء):
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:69-104].
هذا هو التعقيب للقصة، كما فيما قبلها وبعدها من القصص في (سورة الشعراء): {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
في هذا المقام نجد أشياء كثيرة، عظيمة، ومهمة، ومفيدة، في الاستدلال والسعي لهدايتهم. في جوهر هذا الاستدلال في هذه القصة يُركِّز على افتقار الإنسان إلى الله تعالى، وارتباطه به في كل أساسيات وجوده وحياته.
الإنسان في خلقه، ووجوده، وحياته، وهدايته، وغذائه، ورزقه، وأجله، مفتقرٌ في ذلك كله إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ومحتاجٌ إليه، ولا مصدر له في ذلك إلَّا الله، وفي جلب النفع، وفي دفع الضر، وفي النعم كلها، إضافةً إلى مستقبل الإنسان الأبدي والكبير والمهم في الآخرة، فلماذا يتَّجه بالعبادة إلى غير الله تعالى، ويتولاه بديلاً عن التولي لله تعالى، والله هو الذي يملك من الإنسان، ويملك للإنسان، ما لا يملكه إلَّا هو، وأنعم على الإنسان بما لم ينعم به عليه غيره؟!
وهذه مسألة مهمة؛ لأن الدافع الكبير في مسألة العبادة، والتَّوجُّه بالعبادة، هي: هذه الحالة من الافتقار، والشعور بالعجز والحاجة، والارتباط من خلال احتياجات الإنسان ومتطلبات حياته بناءً على ذلك؛ فهو يتَّجه بالعبادة بناءً على ذلك.
نبدأ بالحديث على ضوء هذه القصة المهمة والمفيدة.
تبدأ القصة في هذا المقام بقوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ}[الشعراء:69]، نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، الذي يلتقي الجميع على تعظيمه، وعلى رمزيته، بما في ذلك المشركون من العرب، وفي مقدمتهم: قريش، الذين هم من نسل نبي الله إسماعيل بن إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، فتلاوة نبأه عليهم (هذا الخبر المهم والمفيد) له أهميته، يعني:
• من حيث رمزية وتعظيم إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» لديهم، إلى درجة أنهم يدَّعون الانتماء إلى نهجه.
• ومن حيث الإيضاح لحقيقة ما كان عليه نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ».
• ومن حيث ما تضمنه هذا الخبر في تفاصيله، من براهين عظيمة، مقنعة، وحجج دامغة، ودلائل واضحة على بطلان الشرك.
ولـذلك يأتي الأمر للنبي «صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ» وهو في أداء مهمته، في إبلاغ الرسالة الإلهية، وإنقاذ الناس من الشرك، ودعوتهم إلى الإيمان بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وبوحدانيته، وبالعبادة له، يأتي الأمر له: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ}؛ لِمَا لهذا من أهمية وتأثير، وإقامةٍ للحُجَّة عليهم.
نجد في هذه الآيات المباركة، أن نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» استخدم أسلوب الاستنطاق للحقيقة، والمساءلة، التي تلجئهم إلى الاعتراف بها، فاتَّجه إليهم، ويتَّضح أنه اتَّجه إليهم في حال اجتماعٍ لهم، إمَّا أن يكون ذلك في المعبد الذي فيه أصنامهم ويجتمعون فيه، أو في مقام هم مجتمعون فيه؛ فلـذلك كان يخاطبهم، ويتحاور معهم، ويبيِّن لهم، ويسائلهم في جوٍ جماعي.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، ابتدأ معهم بهذا السؤال: (مَا تَعْبُدُونَ؟).
العبـــادة: هي المفهوم الذي يحكم حياة الإنسان ومصيره، وهو المفهوم الذي يحدد طبيعة ونوع علاقتنا مع الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، والعبادة هي في الأساس: الخضوع المعبِّر عن العبودية، وهذا الخضوع المُعَبِّر عن العبودية يأتي له أشكال، يعني: هو ينطلق من حالة نفسية لدى الإنسان، في حالة الخوف، والرجاء، والخضوع، والتذلل، والشعور بالحاجة والافتقار، من واقع الاعتراف بالعبودية، من واقع الشعور بأنه عبد، وهذا الشعور لدى الإنسان بأنه عبد هو شعورٌ فطريٌ راسخ، لا يمكن أن يزول من الإنسان.
الإنسان في تكوينه- كما شرحنا في الدروس الماضية- وفي فطرته، وفي واقعه وواقع حياته، يشعر بحاجته إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وبأنه عبدٌ، استمدَّ وجوده في هذه الحياة، ويستمدُّ كل النعم عليه في هذه الحياة، ومتطلبات حياته الأساسية، من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فالعبادة هي هذا الشعور، هذا الخضوع المُعبِّر عن العبودية، والذي يترجمه الإنسان في أشكال عملية، يُعبِّر بها عن هذا الخضوع، ويتَّوجه بما هو عبادة، بما يُعبِّر به عن كونه عبداً.
فالإنسان هو- في الأساس وفي واقع الحال- هو عبدٌ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، مهما فعل، لا يخرجه ذلك عن كونه عبداً لله، يعني: ليس باستطاعتك أن تنتزع ملكية الله لك وتتخلص منها، لا يمكنك ذلك، مهما يكن فأنت- في واقع الحال- عبدٌ لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، هو المالك لك، هو الذي خلقك، هو الذي ربَّاك، هو المنعم عليك، وهو المالك لك، والمالك لكل ما في السماوات والأرض، وهو ربُّ العالمين، فهو ربُّك «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
لكن الإنسان عندما يتَّجه بالعبادة لغير الله هو في حالة ضلال، ضلال رهيب، وفي حالة تَنَكُرٍ تامٍ لأكبر الحقائق، وللحقِّ العظيم، وتعدٍ تجاه حدٍ مهم في الحقِّ الذي هو حقٌّ لله تعالى؛ لأن العبادة هي حقٌّ لله تعالى، فعندما ينحرف الإنسان بالعبادة لغير الله هو يتعدى على هذا الحق؛ فلـذلك هو يظلم نفسه، وهو يتنكر للحق، وهو يسيء إلى نفسه، لكنه لا يشطب بذلك الحقيقة، التي هي حقيقة راسخة لا يمكن شطبها.
العبادة ترتبط بحالة الخوف، بحالة الرجاء، بحالة المحبة، بحالة التعظيم، في أرقى وأعلى مستوياتها، يعني: الإنسان في أخوف ما ينبغي أن يكون عليه من الخوف، أرجى ما ينبغي أن يكون عليه من الرجاء، حالة الطاعة المطلقة التي هي فوق كل طاعة، المحبة في أعلى مستوى من المحبة، في هذا كله يجب أن يكون متوجهاً بذلك في إطار العبادة- في من يعبده- إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الإله الحق، فإذا اتَّجه بهذه الحالات: في أعلى مستوى من الخوف، أعلى مستوى من الرجاء، أعلى مستوى من المحبة، الطاعة المطلقة التي هي فوق كل طاعة، إلى غير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ فهو يتَّجه لتعبيد نفسه لغير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ثم تأتي الحالة العملية بالنسبة للإنسان في مواقفه، في اتِّجاهه في مسيرة حياته، بناءً على ذلك.
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، كما قلنا: لأن العنوان الأهم هو هذا العنوان: العبادة، هو الذي يحكم حياة الإنسان، مصيره، يحدد نوع علاقته بالله، طبيعة علاقته بالله، ينبغي أن تكون هكذا: أن نتوجَّه بالعبادة إليه «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» وحده؛ لأننا عبيده.
لماذا يسألهم؟ هو يعرف أنهم يعبدون الأصنام، لا إشكال عنده في ذلك، لكنه يتوجَّه إليهم بهذا السؤال؛ لأن الجواب- بنفسه- إذا أجابوا بالجواب المطابق للسؤال، فجوابهم- بنفسه- يتضمن الاعتراف بالحقيقة المهمة، وهي: أنهم يتوجَّهون بالعبادة إلى من ليس جديراً بها، ولا يستحقها، وليست له، فحالة الشرك حالة باطلة.
{مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، السؤال- بنفسه- يتضمن معنى الاستنكار والتحقير، لما يعبدونه من دون الله.
إجابتهم، سيتضح لنا من خلالها أنهم حاولوا التَّهّرُّب من الجواب المطابق للسؤال، وهي: أن يفصحوا عن مَاهِيَّة تلك الأصنام، أن يقولوا مثلاً: يعبدون أصناماً، إن كانت من الحجر، يقولون: [من الحجارة، منحوتة، نحتناها، أو اشتريناها]؛ أو من النحاس، أن يتحدثوا عن مَاهِيَّتِها، ومما هي مصنوعةٌ منه؛ لكنهم تَهَرَّبوا من الإجابة عن السؤال بمقتضاه، واتَّجهوا إلى الحديث عن عبادتهم لتلك الأصنام: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، يؤكِّدون ما هم عليه من التعظيم لها.
وفي جوابهم يواجهون ما تضمنه معنى سؤاله من معنى التحقير، وكذلك ما تضمنه من الاستنكار، فهم يعبِّرون عن اعتزازهم وتعظيمهم لها، واعتزازهم بعبادتها: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، (الظُلُول): البقاء في النهار لديها، في أوقات مُعَيَّنة من النهار، (عَاكِفِينَ): العكوف عليها هو الملازمة، والإقبال عليها بالتعظيم، والطقوس العبادية التي كانت معتادةً لديهم، يعني: كان لديهم مثل ما لدينا- مثلاً- في الإسلام في عبادتنا لله: (صلاة، دعاء…)، لديهم طقوس أخرى يُعبِّرون بها عن ذلك، ويتضرَّعون إليها، يُقدِّمون لها القرابين… إلى غير ذلك.
مسألة العبادة بطقوس مُعَيَّنة، يعني: إقبال على أذكار مُعَيَّنة، إقبال على دعاء، على تَضَرُّع، هي جانبٌ مهم من مجالات العبادة، وهي جزءٌ أساسيٌ مما هو معتادٌ وما هو قائمٌ أصلاً في مسألة العبادة.
الإنسان لديه الاحتياج الروحي كحاجة فطرية فيه، يعني: يحتاج إلى أن يتوجَّه بخضوعه، بخشوعه، بدعائه، بِتَضرُّعِه، بطلبه، إلى من يعتقد أنه جديرٌ بذلك، في الأساس هي فطرة توجِّهنا إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، لكنَّ الإنسان هو ينحرف عن فطرته، ينحرف عن فطرته.
هذه الحاجة الروحية، في شرع الله، وفي نهج الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ما يُوجِّهها في الاتِّجاه الصحيح إلى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهي مصدر مهم جدًّا للشعور بالسكينة، والشعور بالاطمئنان؛ لأنها- كما قلنا- حاجة فطرية. الإنسان في مقام العبادة هو يتضرع إلى الله، ويقبل على الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ويتوجَّه إليه بالذكر، بالمناجاة… بأشكال العبادة، كحالة الصلاة لله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وبذلك هو يُحِسّ بالطمأنينة، يُحِسّ أنه قريبٌ من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وأنه يحظى أيضاً من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» برعايته، أن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» عليمٌ بحاله ذلك، وأن ذلك يُقَرِّبه إلى رعاية الله أكثر، ويحظى من خلاله بالقرب من الله أكثر.
هذه الحالة الفطرية ذات أهمية كبيرة في حياة الإنسان؛ ولـذلك من نعمة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أن فتح لعباده فيها آفاقاً واسعة، يأتي دور الصلاة بشكلٍ أساسيٍ في هذا الجانب، دور الدعاء بشكلٍ أساسيٍ في ذلك، والإنسان إذا ابتعد عن هذا الجانب؛ يشعر بقسوة القلب، يشعر بحالة الجفاف الروحي، الجفاف الروحي له سلبيات كبيرة تنعكس على نفسية الإنسان، في سلوكه، في قلقه، في اضطرابه، في توتره الشديد الدائم… في أشكال كثيرة، تُبعد الإنسان حتى عن مشاعره الإنسانية.
ولـذلك فهذا يلفت نظرنا إلى أهمية هذه المسألة، وإنما هم كانوا ينحرفون في اتِّجاه خاطئ، واتِّجاه باطل، عندما يتوجَّهون بتلك الطقوس الباطلة إلى أصنامهم.
الأصنــام، من الواضح أنَّها لا تملك لهم ما يطلبونه منها ويعبدونها لأجله، في عبادتهم لها، في تضرعهم، في دعائهم، يعني: لا تملك لهم لا نفعاً، ولا دفع ضر… ولا أي شيء مما يطلبونه، هي لا تملك حتى الحياة في نفسها، أو القدرة على سماعهم؛ لأنها تماثيل حجرية، أو نحاسية… أو بحسب المادة التي صنعوها منها، هي جمادات لا أكثر.
تَوَجَّه ليسألهم سؤالاً آخر، وهو سؤال مُحرجٌ لهم بشكلٍ كبير: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّون}[الشعراء:72-73]، وهذا سؤال كبير ومحرج بالنسبة لهم، وهم لم يستطيعوا أن يدَّعوا لها أياً من ذلك، يعني: لم يستطيعوا أن يدَّعوا لها أنها تسمعهم، أثناء دعائهم وهم يدعونها، ويتضرَّعون إليها، ويتقرَّبون إليها، ولا أنها تنفعهم، ولا أنها تدفع عنهم الضُرّ، أو تُلحِقهم بالضرر إن لم يتَّجهوا إليها بتلك العبادة الباطلة.
فلـذلك هم لم يجدوا لهم أي حُجَّة ولا برهان، ولجأوا في جوابهم إلى الاستناد إلى مسألة أخرى، إلى اعتبار آخر، ودافع آخر لعبادتهم لها، وهو: العادات والتقاليد الموروثة، والاستناد إلى ما كان عليه آباؤهم في ذلك: {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74]، فهم حاولوا أن يستندوا إلى ذلك، وأن يُقَدِّسوا ما كان عليه آباؤهم في ذلك.
الاستناد إلى ما كان عليه الآباء والأجداد بمفرده ليس بِحُجَّة، ولا ببرهان، يعني: لا يمكن أن يَدُلّ بنفسه فقط على أن ذلك حق، بمجرد أن كان عليه الآباء والأجداد، إذاً فهو حق، لا يمكن لأحد أن يثبت ذلك؛ لأنه هكذا المسألة: إذا كان الاعتبار هذا لوحده، فهو لا يدل على الحق أبداً، المسألة: أن ما كان عليه الآباء والأجداد، إن كان هو في الأساس حق، فلا بأس أن يُتَّبع؛ وإن لم يكن هو بنفسه حق، فمجرد أنهم كانوا عليه لا يحوِّله إلى حق، ولا يجعل منه حقاً وهو في أساسه باطل؛ ولـذلك نجد الفارق:
• بين الاعتزاز بما كان عليه الآباء والأجداد، والاعتزاز بالانتماء إليه إن كان حقاً فعلاً.
• وبين الحالة المختلفة: الاعتزاز والتَّشبُّث به إن كان باطلاً.
فالمسألة ليست مطلقة، يعني: لا ينبغي الاعتزاز مطلقاً، والاستناد إلى ذلك حتى لو لم يكن حقاً، ولا يعني ذلك أنه حينما يكون حقاً ألَّا يكون هناك اعتزاز بالانتماء إليه، واستمرارية، وتأكيد على الثبات في ذلك النهج، فالمسألة تعود في أصلها- كما قلنا- إلى ما عليه ذلك: إن كان حقاً، فهو الأساس؛ إن كان باطلاً، فلا ينبغي، وهذه مسألة مهمة؛ لأننا نجد الفارق مثلاً:
• فيما ذكره الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» في القرآن الكريم عن نبيه يوسف «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، حينما قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38]، له أن يعتزّ بهذا الانتماء، وبهذا الاتِّباع، وأن يؤكِّد استمراره على ذلك النهج؛ لأنه نهج حق، عليه أنبياء الله وأولياؤه.
• ونجد- مثلاً- في القرآن الكريم حينما يخاطب الله قريشاً، يقول لهم: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}[الحج:78]، هذا هو النهج الذي كان عليه أبوكم، لماذا لا تَتَّبِعونه؟ لأن أبوهم هو نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ» الذي كان على الحق، رسول من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، رمزٌ للهداية، رمزٌ للهداية، وليس رمزاً للضلال.
ولذلك نجد أهمية الوعي بهذه المسألة، بمعنى: حينما يكون الآباء والأجداد على نهج الحق، ورموزهم التي اتَّجهوا معها في طريق الحق من الهداة، الذين يهدون بهدى الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فمن حقنا أن نعتزَّ بانتمائنا إلى نهجهم، وأن نؤكِّد ثباتنا على ذلك النهج، واستمرارنا عليه.
مثلاً: في واقعنا، عندما نقول في اليمن: رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم» قال: ((الْإِيْمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَّةٌ))، الآباء والأجداد لهم تاريخٌ عظيم في انتمائهم الإيماني، في اتِّجاههم في طريق الإيمان، لهم أصالة في انتمائهم الإيماني، على مدى الأجيال، وصولاً إلى عصر رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم»، وإلى الأنصار، وهناك في هذا الامتداد التاريخي رموزٌ عظماء، اتَّجهوا بشعبنا العزيز في طريق الهداية ونهج الهداية، فهذا الاعتزاز، هذا الانتماء، في مَحَلِّه؛ لأن أصل المسيرة والطريق التي ساروا فيها هي طريق الإيمان؛ إنما نسعى إلى تنقية ما يكون قد أُدْخِل على هذا المسار التاريخي والامتداد، مما يُخالف أصالته، مما يخالف نقاءه، أي شوائب تكون أُدْخِلت من هنا أو هناك لأي فرق الضلال نسعى إلى تنقيتها، هذا الانتماء انتماء أصيل وعظيم، لا إشكال فيه.
لأن البعض- مثلاً- في الهجمة والغزو التكفيري الذي استهدف بلدنا، ويحاول أن يسيء إلى كل هذا الامتداد الأصيل على النهج الإيماني لشعبنا العزيز، إلى عهد رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم»، والإيمان به، ويحاول أن يصوِّر للشعب اليمني أن ما كان عليه الآباء والأجداد هو ضلال، يأتي بعض مطاوعة التكفيريين ليستدلوا بمثل هذه الآيات، عمَّا كان عليه الآباء والأجداد، لكنه استدلال في غير مَحَلِّه، كما وضَّحنا بهذا التفصيل.
الواقع الصحيح لمن يتَّجهون على أساس هدى الله، ومنهج الله الحق، وامتدادهم عبر الأجيال هو امتداد إيماني أصيل، هو: أن يعتزُّوا بهذا الامتداد الإيماني الأصيل، كما قال نبي الله يوسف «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو في مقام محمود، يعني: لم يكن القرآن منتقداً عليه لماذا قال هكذا: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}[يوسف:38].
بينما الحالة التي هي حالة خاطئة هي: الاعتزاز إلى نهج من ليسوا على الحق، من ماضيهم مظلمٌ وباطلٌ وضلال، هذا هو الذي- فعلاً- لا ينبغي الاعتزاز به، ولا التَّشبُّث به، ولا التَّمسُّك به، ولا السير عليه.
ولهذا نجد أيضاً في القرآن الكريم- مثلاً- في هذه المسألة: حينما كان البعض من المشركين يحاولون أن يتشبَّثوا بما هم عليه من شرك برموزهم من المضلين، ومن آبائهم، يقول القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170]، يعني: هذه هي المشكلة: أن آباؤهم لم يكونوا (يَعْقِلُونَ شَيْئًا)، (وَلَا يَهْتَدُونَ): ولم يكونوا على هدىً، لو كانوا على هدىً كان لا بأس باتِّباعهم.
هذا يعطينا درساً أيضاً في الموروث الفكري والثقافي للأُمَّة، والمعيار لما هو صحيحٌ في ذلك، لكن- حتى لا نطيل- نكتفي بهذا المقدار.
وَنَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛