صحيفة الاتحاد:
2025-10-19@01:33:19 GMT

القراءة.. الطريق إلى الإبداع والابتكار

تاريخ النشر: 2nd, August 2024 GMT

لكبيرة التونسي (أبوظبي)
القراءة تحفز على الخيال والإبداع، تزيد الأفق اتساعاً، تسهم في تحسين مهارات التفكير النقدي والتحليلي، ترفع قدرات الأفراد الفكرية، وتساعد على ابتكارات جديدة، وتمكّن القارئ من فهم الواقع والمعلومات وتحليلهما بشكل أعمق، وتزيد مفرداته وتحسن مهارات التواصل لديه، مما يساهم في تعزيز ذكائه اللغوي وقدرته على التعبير بشكل أفضل.


وأكد نخبة من القراء والكتاب والرسامين والشعراء أن القراءة أسهمت في تكوين وعيهم المعرفي وتنمية الابتكار لديهم وتطوير مهاراتهم الفكرية، وتكوين شخصيتهم كما نمَّت قدرتهم على التنبؤ وإبداء الرأي السليم، موضحين أن القراءة تلعب دوراً حاسماً في تحسين الذكاء وتطوير الإبداع واتساع المعرفة لديهم، فمن خلالها يكتشفون عوالم جديدة ويكتسبون معلومات متنوعة في مجالات عدة، مما يسهم في اكتشاف العالم من حولهم.

نور العقل
قالت وفاء الشامسي، معلمة لغة عربية لطالبات الثانوية العامة، وصاحبة صفحة على «انستجرام» تشجع عبرها على القراءة: إنّ القراءة مفتاح للإبداع والابتكار، فالكتب الجيّدة تفتّش عن قرّاء يتعمقوّن في عوالمها، ويتنقّلون بين أفكارها الثرية، بحثاً عن الأمل والضوء الذي ينير العقول، وأضافت «القراءة تنمّي الخيال والإبداع، وأنا أشجّع الجميع على القراءة لأنّني مدركة أنّ وراء كلّ كتاب فكرة ووراء كلّ فكرة خطوات إلى الأمام، فالكتب هي التي ترشد إلى النور الذي يصنع الأمم والحضارات، وبوابة لإدراك ما حولك، لتكون إنساناً أكثر وعياً، فلم تعد القراءة من كماليات الحياة فهي من لوازمها، ولا يحقّ لإنسان أن يربّي أولاده دون أن يحيطهم بالكتب، ففي اعتقادي أنّ أعظم هدية من الممكن أن يحظى بها الإنسان هي الشغف بالقراءة، فالكتب شمعة نحملها معنا أينما ذهبنا لتنير دروبنا».

تحديات
بدورها، ترى مروة كوكاش، صاحبة دار نشر، أن هناك تحديات تواجه تعزيز القراءة لدى هذا الجيل، ومنها غزو وسائل التواصل الاجتماعي، مما دفعها إلى تعزيز القراءة لدى الأجيال عبر العديد من الوسائط، ومنها مجموعات عبارة عن بطاقات، وألعاب تحفيزية ومسابقات، بحيث أن كل علبة تتضمن 50 سؤالاً وجواباً، وكل سؤال يتضمن احتمالات ومعلومة عن الجواب، منها أيضاً مجموعة «العبقري الصغير» المنوعة وتتضمن مجالات عدة من فنون ورياضة وعلوم ورياضيات، مؤكدة أنها تستهدف جميع الفئات العمرية من 4 إلى 18 سنة.
وأضافت: «بهذه الوسائط نواجه التحديات التي تعرقل القراءة، كما نشجع على الإبداع والابتكار عبر ألعاب الذكاء، بحيث يقرأ الطفل بشكل بسيط ومفيد، وفي نفس الوقت نمده بالمعرفة، كما أنها تحفز اللعب والمشاركة مع الأهل، وهي وسيلة تعليمية تضاف للكتب، وهذه الوسائط قد تشجع وتحفز على الإبداع.

 كتب متخصصة
وأشار محمد الحلبي، مهندس معماري يروِّج لكتب أجنبية مستوردة في الهندسة المعمارية والفن والموضة والتصوير، إلى أنه يحرص على توفير كتب متخصصة وعميقة وجلبها للوطن العربي كتغذية بصرية ومعلومات جديدة عن هذه المجالات، موضحاً أن الفرد عندما يقرأ في الكتاب المتخصص لمدة طويلة تترسخ لديه معلومات وميول بهذا الحقل العلمي، ومنها يأخذ أفكاراً وتغذية بصرية وتدفعه للبحث أكثر، ولأن هناك صعوبة في توفير الكتب الاختصاصية، نوفر معلومات عن الطاقة المتجددة والعمارة المستدامة، وهذه المعلومات ترفد القارئ بمعلومات دقيقة، ورغم إمكانية الحصول على هذه المعلومات عبر شبكة الإنترنت، إلا أن الكتاب يوفر معلومات أعمق، ويمكّن المبدع من تطوير مداركه واستخلاص الأفكار المتجددة.

أخبار ذات صلة تحدي القراءة العربي يتوج عمر أحمد الشموري بطلاً لدورته الثامنة في لبنان «الطاقة والبنية التحتية» تطلق الدورة الثانية لجائزة البحث والابتكار

الطريق إلى الإبداع
لا شك أن الكتاب هو الصديق الوفي ورفيق الوحدة الذي لا يبخل بالمعلومات، هكذا أشارت الشاعرة ميرة القاسم، التي تنظم القصيد وتمارس الرسم، إلى أنها كانت تقرأ كثيراً وفي يوم ما وجدت نفسها في عزلة بسبب جائحة «كورونا»، فوظفت العزلة في ابتكار أشكال وأنواع من اللوحات والأعمال الفنية، وقالت: «القراءة سبقت عندي الشعر والكتابة والألوان، وخلال العزلة كنت أبحث عن متنفس، فاكتشفت أن القراءة والكتابة تختزنان لدي موهبة وقدرة على الرسم، فبدأت بالرسم مع أولادي وزوجي لأستكشف عوالم جديدة بداخلي، رسمت على فواصل الكتب وبدأت لوحاتي تتسع وتتنوع، حيث دخلت عدة دورات لاكتشاف عالم الفن التشكيلي، وبدأت في رسم «وجوه في الذاكرة»، وأغلب لوحاتي تركز على العيون الناطقة، وكل لوحة رسمتها أوحت لي بكتابة قصة قصيرة أو رواية، فالقراءة هي مخزون يمكن توظيفه في الإبداع بمجال الكتابة والرسم والابتكار. 

لغة مشتركة
الكلمة لغة مشتركة بين الشعوب وجسر تواصل مع مختلف الأجناس والأطياف، هكذا قال الكوري «كيم تي جيو»، الذي يطلق على نفسه اسم «هارون»، موضحاً: «عندما جئت إلى الإمارات كنت أفكر في حضور بعض المعارض، وأعود من حيث أتيت، ولكني اكتشفت ثقافة وعادات وتقاليد جديدة عليّ، فبدأت أقرأ وأثقف نفسي وفكرت في البقاء والكتابة عن هذا البلد المضياف، وبذلك فإن القراءة، إلى جانب تجربتي بوطن التسامح، دفعتاني للإبداع والتفكير في الكتابة لأساهم ولو بقدر بسيط في تغيير نظرة الغرب عن العرب.

خارج الصندوق
عن أهمية القراءة ودورها في الإبداع، قال الكاتب محسن سليمان: «القراءة تفتح جميع المجالات الفكرية من اجتماعية وأسرية وتاريخية، وتنمي الذائقة الروحية وترتحل بك إلى عوالم مختلفة، حسبما قال أحد الفلاسفة: «من يقرأ يطوف بلاداً بعيدةً، ومن لا يقرأ يبق حبيس منطقته»، لذلك القراءة تفتح آفاق الإدراك وتعرفك على ثقافة وعادات شعوب وتفتح اللغات الشعرية، وكلما تعمق الفرد في القراءة أصبح مخزونه الثقافي واللغوي والمعرفي غنياً، ما يعينه على مجابهة التحديات واستكشاف قدرته على التعامل مع الناس، ومن ثم ينعكس عليه وينسحب على الابتكار والقدرة على التخيل، وفي مجال التخصص يجب أن يغذي ويستزيد ويقرأ في مجال تخصصه لينمي معارفه»، موضحاً: «القراءة تجعل المرء أكثر فهماً وعمقاً وتصقل القدرات الإبداعية، والقدرة على ابتكار الحلول المتجدّدة لمشاكله، والتفكير خارج الصندوق، وتمكنه من اختيار ما يناسبه من قرارات قد تكون مصيرية في محيط أسرته ومجتمعه.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: القراءة الكتابة الإبداعية الكتابة الأدبية الابتكار

إقرأ أيضاً:

نظْم الغزوات للبدوي.. وثنائية الإبداع الأدبي والوصف الملحمي

عَرف نظْم "الغزوات" للعلامة أحمد البدوي بن محمد بن أبي أحمد المجلسي (1208/1158هـ- 1794/1745م) طريقه إلى المقرر المحظري الشنقيطي، متبوئا كرسي اعتماد على مستوى الدرس السِّيري، بوصفه المتن الأحضر في بابه، والنظم الأحظى إذا عدّت أمات المتون الشنقيطية في مجال السيرة النبوية.

ولما كانت المنهجية رأس العلمية، والإحالة عمودها، والموضوعية ذروة سنامها، قفا البدوي نهج عبيد ربه في "تسهيل منثور ابن آجروم"، مقدّما نظمه "أُرجوزة على عيون الأثر، جل اعتماد نقلها في السير"، وفي ذلك إحالة علمية -مباشرة- إلى المرجع الرئيس (كتاب "عيون الأثر.. في فنون المغازي والشمائل والسير"، لفتح الدين محمد ابن سيد الناس الأندلسي).

إشراق الديباجة

وقد وضع الناظم لأُرجوزته خريطة تناول منهجية تأوي إلى ركنَي: التسلسل الزماني الثابت، والبسط التفصيلي حسب الأهمية.

ولم يكن بمستنكر أن يتفوق السيري على النحوي في إشراق السبك، إذ اتحد عامل التمكن اللغوي الذاتي مع عنصر حضور التشويق، الذي هو فرع عن جاذبية السرد، وثلثا بعنصر شرف الموضوع، الذي عليه مدار "سمو الرتبة" – وفق تعبير الناظم أحمد البدوي!.

ومع تضافر العوامل الثلاثة -وفروعها- وجد الناظم مقام الأدبية ذا سعة، فكانت له مندوحة تحليق وسَبْح، يضيق عنها هامش "علمية" المادة النّحوية، فأنشأ يتفنن في "الرسم بالكلمات"، حتى أخرج للمتلقي المتذوق لوحات فنية لم يقف أخْذها -وتأثيرها- عند حد نقل الأحداث، بل تجاوزه إلى إبداعية "حسن التعليق"!.

دقة الوصف وبراعة التشويق

ومتى أرسل القارئ طرفه رائدا لنفسه تراءت له شواهد "التعليقات" الذاتية، مضافا إليها بعض "الكواليس" السياقية و"اللقطات" الثانوية، ومن هذا الصنف الأخير مشهد مراقبة الشخصين (المجهولين) التقاء الجمعين (المسلمين والمشركين) من أجل استراق ما يقع تحت أيديهما من سَقَط غنائم الجمع المدبر:

إعلان

"وراقب الجمعَين شخصان لكي

ينتهبا من مدبِر الجمعين شي"

ولم يأت ذِكر هذه اللقطة المنعزلة منبتا عن سياقها الاستطرادي، فقد وردت في معرض الحديث عن "حضور" الملائكة يوم بدر، لتنقل -في سرعة ضافية- جانبا من هول ذلك الحضور، من خلال صورة تلك المراقبة التي جاءت نهايتها مشحونة بالرعب والصدمة، وقد تفنن الناظم في تصوير هول المشهد ونقل أبعاد الصورة الرهيبة في دقة وتركيز، محافظا على عنصر التوقيع السريع -الذي تقتضيه طبيعة الاستطراد السياقي- مبينا تفاوت وقع الصدمة رغم بغتة المفاجأة وفورية أخذها المزلزل:

"فرأيا الملَك وهْو منطلق

فانقدّ واحد والاخَر صعِق"!

وهي "نقطة نهاية" حالت بين المراقبين وبين ما يشتهيان.. وإذا كان المنقدّ (الذي مات من فوره) قد فات وانقطع عن الدنيا، فإن المصعوق -إذا أفاق- لن يعاوده حماس الانتهاب الذي راوده عند اتخاذ قرار المراقبة الانتهازية!. ويبدو أن ذاكرته وإدراكه قد سلما من المحو والانطفاء، إذ تذكر بعض المراجع التاريخية أنه أخبر ابن عباس -بعد دهر من وقوع الحادثة- بتفاصيل عملية المراقبة وما تحتها من خيوط تخطيط، وما أسفرت عنه من نتائج غير متوقعة!.

وبالعودة إلى التعليقات الذاتية، أَقتطع بيتا -من نظم "الغزوات" جمع فيه الناظم بين الإخبار السردي وبين حسن التعليق في قوله -متحدِّثا عن الصحابي أبي العاص ابن الربيع، صهر النبيﷺ لما وقعت قافلته في يد المسلمين، وجاء ـوهو إذ ذاك ما يزال مشركاـ فاحتمى بزينب بنت رسول اللهﷺ، وكانت زوجته، قبل أن يفرّق بينهما الإسلام، فأجارته:

"فرُدّ مالُه عليه أجمع

تلك الصهارة بها يُستشفع"!

ويا له مِن شطر رائق ضافٍ، ينبض دلالة ويقطر رسالية!!

نقل المعنى بالإيحاء الصوتي

ورغم احتفاء الناظم بالمفردات العتيقة، التي قد يستغلق فهمها على المتلقي، لبعدها من الاستهلاكية وتوعّرها في المعجمية.. رغم ذلك لم يغب توظيف الجرس والإيقاع عن اختيار الألفاظ "القاموسية"، كما في كلمة "أطَنّ" (أي: قطع) من قوله ـ في غزوة بدر الكبرى:

"وإذ معاذ بن عمرو بن الجموحْ

أطنّ ساق ابن هشام الطموح

فطرح ابنُه الهزبرُ عكرمهْ

عاتقَه فجرّه في الملحمهْ"

فإن ثمة تناسب إيقاع بين جرس الكلمة "أطنّ" وبين الصوت الناتج عن ضرب الساق بالسيف حتى تنقطع. وإذا استحضرنا دلالة مفردتي "الطنين" و"الطنطنة"، ثم ربطنا بينها وبين معنى عبارة "أطنَّ الجرسَ" (أي: نَقَره فصوَّت)، بدت لنا لفظة "أطنّ" ـ في البيت ـ أشبه بما يسميه اللغويون "حكاية الصوت"، وقد يسلمنا الاستحضار إلى مبحث العلاقة بين الإيقاع الصوتي والمعنى اللغوي.

وفي اجتماع الطاء والنون المشددة في "أطنّ" تقريب صوتي لمعنى الفعل، في المستوى الدلالي، إذ يحمل اللفظ شعورا بصوت الاصطدام والاحتكاك، يناسب وقوع الشيء القاسي على الجسم الصلب مع إحداث صوت يشعر بفداحة وقع القطع وشدة ألمه. وقد حضر هذا المعنى في ذهني ـ وأنا صبي ـ عندما سمعت بيت أحمد البدوي للمرّة الأولى!

ولأن البدوي كان ابن بيئته المحظرية العالمة، يمتاح من معينها اللغوي وينهل من رصيدها المعرفي، فقد تأثر سبك نظمه بثقافة عصره ومجتمعه، على مستوى المعجم، غير أنه تخفف من "القاموسية"، ولم يسرف في الإغراب، بل لقد أبدع في مراعاة الإيقاع، وفي "التوقيت" أيضا، ومن ذلك قوله في غزوة الحديبية، عند تناوله حادثة احتباس القصواء (ناقة النبيﷺ):

"وما انثنى بالجيش

حتى اقعنسست

عن مكة ناقته إذ حُبست"

فناسب اختيار الفعل "اقعنسس" حالة الفجاءة والاحتباس، ليقتحم ذهن المتلقي فجأة، ويهز انتباهه بغتة، ثم ليكون استعمال الفعل الصرفي مستوقِفا كاستيقاف حدث احتباس الناقة المباركة (ومعنى "اقعنسس": تقاعَس، وتأخّر)!.

جرعة معجمية

وغير هذين الفعلين وردت في الأرجوزة أفعال غير شائعة، مثل: "خردل" (خردل اللحم: قطعه وفرقه، وخردل الشخصَ: صرعه وأوقعه)، وذلك في قول الناظم ـ في غزوة الخندق:

إعلان

"عمرو بن عبد ودّ إذ قام له

حيدرة بسيفه خردله"

وفي استخدام فعل "خردل" ـبالتحديدـ معنى بليغ، لما يوحي به من التمزيق بالسيف والقضاء المبرم على العدوِّ المقتحم، وقد كان ابن عبد ودّ فارسا غير سهل، لكنّ عليا وسيفَه حطّما غروره وأوقفاه عند حدّه، بعدما تمكن من اقتحام الخندق بفرسه!. كما ورد فعل "استنتل" (أي: تقدّم)، في قول الناظم:

"وابن غزية سواد استنتلا، عن صفّه…"

و"ابذعَرّ" (أي: تفرق)، في قوله ـ في مقدمة النظم:

"فكيف بالعقد لِما كان انتثر

عن كثرة وفي المهارق ابذعر؟!"

و"فال" (أي: أخطأ واختل)، في قوله:

(..وانثنى يغرّد:

موعدكم بدر وفال الموعد).

و"خامَ" (أي: جبُن وتراجع)، في قوله:

"فراح نحو أحُد وابتكرا

وعنه خامَ ابنُ أُبيّ وامترى"

و"كعّ" (أي: ضعُف وجبُن) في قوله:

"ثم لميعاد ابن حرب بدرُ

وكعّ عنها نجلُ حرب صخر".

ولم يقتصر المستوى "المعجمي" على الأفعال، بل شمل الأسماء، كما في كلمتي "السفسير" و"القُلّب"، اللتين وصف بهما التاجرين الثريين أمية بن خلف، وأبا العاص ابن الربيع، ومعنى "السفسير" التاجر النافذ أو السمسار الحاذق، و"القلّب" الخبير بتقليب الأمور واستخراج صواب الرأي، (والكلمتان ـفي السياق الذي أوردهما فيه الناظمـ تدوران حول معنى النفوذ التجاري)، وكذلك وردت كلمة "الشاصي" (التي هي اسم فاعل من "شاص"، أي: تحرك واضطرب)، و"العُمّه" (جمع "عَمِهٍ": المتحير، المتردد، الضالّ)، و"العِزاه" (جمع عَزِهٍ، بمعنى: اللئيم)، أعز الله القارئِين!.

على أن وعورة الألفاظ المعجمية جاءت محدودة، ولا جرم أنها فرع عن موسوعية الناظم اللغوية، المقتبسة من عطاء فضائه المحظري الشنقيطي العام، والمستمدة من إرث محيطه المجتمعي الخاص، وقد كان من ثمرات تلك الموسوعية وذلك التمكن عناق السرد السيري والربط الأدبي، الذي لم يخل من بعض الومضات السياقية الخفيفة، التي أزجاها الناظم بين يدي موجبها، فجاءت سلسة، غير مقحمة ولا متكلفة (ومن ذلك: أسباب نزول بعض الآيات، الأحكام الشرعية، الفوائد الاعتراضية، التدخّل التعليقي..)!

ومقابل اتساع هامش الاستطراد، وتشعب مسارب الإسهاب في نظم "عمود النسب" (للبدوي أيضا)، يضيق هامش الاستطراد وينكمش حيز الإطناب في نظم "الغزوات"، تبعا لفارق الخطة المنهجية القائمة -في نظم "الغزوات"- على التسلسل الزمني الذي يراعي "كرونولوجيا" الأحداث، ولا يخرج عن السرد إلا إلى الاستطراد السياقي الخاطف -غالبا- أو التعليق الذاتي السريع، دونما انسياح أو تفريع..

حظوة الاعتماد وجاذبية التوصيل

ولعل حظوة نظم البدوي المحلية وقبوله المحظري مستمدان من حسن نية الناظم، وسلامة طويته، وتعلقه بتوفيق ربه، كما يفهم من قوله ـ في مقدمة النظم:

"والله أسأل سداد النظر

وعصمة الخاطر من ذا الخطر

وأن يكون لي ولا عليا

وعند كل أحد مرضيا

وأن يكون للثواب قانصا

لوجهه عز وجل خالصا"

مع ما يتراءى بين سطور النظم من صدق العاطفة وصفاء المحبة.

ثم لعله -بعد ذلك- فرع عن مهارة الناظم اللفظية والأسلوبية، التي تحررت من ربقة التقعيد الجاف، وتخلصت من قبضة العلمية الباردة، فراحت تواكب حركة الزمن وتترسم خط سير الأحداث، غير مسقطة من تبويبها تسجيل "اللحظات النفسية" المعترضة، ورصد الأجواء الماورائية المصاحبة، من خلال لوحات وجدانية تتلألأ في المتن، وتتخلل تضاعيفه، من دون أن توقف انسياب السرد، أو تقطع أنفاس نسيمه الندي، وتلك مِن آيات الجمالية في نظم "الغزوات"، حيث يظاهر الناظم -رحمه الله- بين سرد الأحداث التاريخية ونقل "اللحظات الوجدانية"، فتمتزج "الوقائع الحدثية" بالخلجات النفسية في اتساق وانسيابية، حتى كأن المتلقي "يعيش" ما يقرؤه، أو كأنه به رأي عين.. ومن ذلك هذه "اللقطات النفسية" الشائقة المؤثرة:

1- "وابن غزية سواد استنتلا

عن صفه فرام أن يعتدلا

نبيُّنا فمسه في كشحه

وقال إذ آلَم مسّ قدحه:

أوجعتني نخْسا فأعطني القوَد

وجدّ في أن كان باشر الجسد"

(في قصة سواد بن غزية، يوم بدر).

2ـ "وإذ رآهُ المصطفى تضجّرا

من جرّ عتبةَ أبيه اعتذرا

بأنه كان يرى أن أباه

يحجزه عن ميتة السوء حِجاه"

(في قصة تأثر أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، بمشهد جر جثة والده، مع جثث المشركين التي ألقاها المسلمون في القليب بعد انتهاء معركة بدر).

3ـ ومن "المواقف النفسية" التي تنقل جوانب من "بشرية" الصحابة، ما أورده الناظم في السياق ذاته، متحدثا عن لحظة تأثر خرج فيها أبو حذيفة نفسُه عن صوابه حين اعترض على نهي النبي ﷺ عن قتل عمه العباس (مع آخرين منهم من أخرجته قريش مكرَها، ومنهم من كانت له مواقف مشرفة في الدفاع عن المسلمين)، فوثّق البدوي "لحظة التأثر النفسي" في البيتين التاليين:

إعلان

"وإذْ نهى عن قتل عمه هفا

أبو عبيدة وقال سخَفا

وكفّرت هفوتَه الشهادهْ

يوم اليمامة لها أرادهْ"

(أشار بذلك إلى قول أبي حذيفة، في لحظة تأثر وعجز بشري: "أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس؟! والله لئن لقيته لألحمنه السيف"، وإلى قوله بعد ذلك: "ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عني الشهادة")!

التصوير الملحمي و"الآكشن" النظمي

وكما أبدع البدوي في "التصوير النفسي" نراه ينقل في تصوير ملحمي سريع حركة المد والجزر يوم أحد، عندما تحدث عن جريان رياح الأحداث بما تشتهي سفن المسلمين، وانعطافها المفاجئ لصالح المشركين، ناقلا تدفق الحركة وتسارع "الآكشن"، بقوله:

"واستأْصلوا أهل اللِّوا فانهزموا

وشمّرت عن سُوقهن الحُرُم

مولولات إثرهم ورغبا

في المغنم الرماة حين استُلبا

وخالف الرماة أمر المصطفى

بالصبر والثبات خلف الحُنفا

فتركوا ظهورهم لخالد

فكرّ راجعا بكل حارِد

وحالت الريحُ ودارت الرحى

وذاق من خالفه ما اجترحا"!

بل أبعد من ذلك، نجد أحمد البدوي يتناول "شريط أحداث" مشحونا بالحركة والمفاجأة، ليضغطه في بيت واحد، هو ـ في الحقيقةـ "لقطة ملحمية" و"مشهد تصويري" حيّ، عنوان إثارته السرعة والصدمة، وآية إبداعه الإيجاز والاكتناز، وذلك في معرض حديثه عن أحداث غزوة حنين:

"وبينما الجيش إليهم ينحدر

بغلسٍ، شدوا عليه وهو غِرّ"!!

فهذا البيت لا يكاد يمر على سمع المتلقي حتى تقتحم ذهنه -وتنطبع في عقله الباطن- صورة من فئة "الآكشن القتالي"، كأنما التقطت بعدسة كاميرا ثلاثية الأبعاد، لتجسد مشهدي الانحدار المفاجئ، والالتحام السريع!

بصمة توقيعية

وبعد، فقد تربع "نظم غزوات النبيﷺ" للعلامة الحافظ أحمد البدوي ابن أبي أحمد على عرش الدرس المحظري الموريتاني، على مستوى كرسي السيرة النبوية، ووضع له القبول في بلاد شنقيط، وعلى امتداد إشعاعها العلمي.

ولله درّ الناظم البدوي، ما أنبض عبقريته وهو يفصل ثوب اللفظ على مقاس المعنى النفسي في مثل قوله -يصف عطاء النبيّﷺ- ذات مقسم:

"أعطى عطايا أَخجلَت دلْح الدّيَمْ

إذ ملأت رحب الفَضا من النَّعم".

فقد أفرغ كأس البلاغة في هذا البيت الفريد -عدّا ونبضا- ليبقى سؤال النقد الفني المطروح: هل توقّف "زمن السرد" – عند لحظة الوصف هذه – أم التقط أنفاسه دون أن تنقطع حركته؟! وذلك لارتباط البيت بجواره النظمي، وتلك سنة مطّرِدة في أرجوزة "الغزوات": أنْ تتوهّج حرارة النظم تبعا لاتجاه السياق العاطفي المصرِّف، إذ لا مكان -هنا- للحياد المنهجي والتجرّد العلمي، ولا سلطان لإكراه الضبط التقعيدي.. وإنما هو الأخذ من مشاهير الكتب -امتياحا واطّلاعا- والاحتفاظ بحق البصمة الذاتية المتفردة -توقيعا وتدبيجا- وما كل ناقلٍ مضيف، ولا كل ناظم منثورٍ صاحبُ بصمة إبداعية!.

مقالات مشابهة

  • إليكِ رسائلي المؤجلة
  • سيرةُ عاشقة
  • مصادرة الفكر
  • باستثمارات 1.3 مليار يورو.. البحث العلمي والابتكار يقودان تطوير قطاع مستحضرات التجميل
  • ماذا تبلغ رئيس الجمهورية من الأميركيين؟ معلومات جديدة
  • افتتاح منافذ جديدة لبيع إصدارات هيئة الكتاب بمكتبة مصر العامة بالأقصر
  • الخطيب: ميزانية الأهلي وصلت إلى 8.5 مليار جنيه بفضل الاستثمار والابتكار المالي
  • نظْم الغزوات للبدوي.. وثنائية الإبداع الأدبي والوصف الملحمي
  • معلومات جديدة حول مشتبه به في قتل حارق القرآن
  • نداء القاهرة بشأن العمل والنهوض بالإنصاف والابتكار في إقليم شرق المتوسط