معتصم اقرع:???? اليسار اللا-تاريخي والدولة السودانية
تاريخ النشر: 2nd, August 2024 GMT
اليسار اللا-تاريخي والدولة السودانية:
معتصم الأقرع
???? بعد إندلاع الحرب السودانية أرتفع نقاش عن الدولة والجيش. وظهر تيار يقول بضرورة التخلص منهما فرادي أو معا بتهمة فسادهما المطلق. بل وشمت البعض من ترنح الدولة وجيشها أمام ضربات الغزاة ولم يقلق منامهم أن ترنح منظوميتها أتي في حزمة إستعمارية من الأغتصاب والتهجير والسىلب و الإذلال و الإفقار لملايين السودانيين.
???? وإذا دار الحوار واثبت محاور أن إنهيار الدولة أو الجيش (علي عيوبهما غير المختلف عليها) فان الواقع الذي سيبرز سيكون أسوأ، هرب الداعون إلي هدم الدولة والجيش إلي القول ب (هو الجيش ذاتو وينو؟ والدولة وينها ؟ الجيش إنهار والدولة إنهارت). وهكذا يدغمس القضية ويهرب إلي سؤال آخر.
????السؤال الأول يتعلق بهل الجيش والدولة مؤسسات ضرورية أم زائدة عن الحاجة لنلقي بهما في صندوق القمامة. ولا يمكن الهروب من هذا السؤال إلي قضية أخري تحت غبار (هو الجيش ذاتو وينو؟ والدولة وينها ؟ الجيش إنهار والدولة إنهارت) لان هذا سؤالا أخرا.
???? فلو إتفقنا علي الجيش والدولة كضرورة وجودية نكون معها كسودان أو لا نكون يمكن أن ننتقل لنقاش أسباب ضعفهما وعيوبهما وكيفية تجاوز هذه العيوب وزيادة فعاليتهما وإنسانيتهما.
???? أما إذا كان الموقف بان الجيش والدولة عقبات يجب حرقها والتخلص منها أو الوقوف موقف الحياد وهما يترنحان أمام غزو خارجي همجي والشماتة فيهما وفي من اعتقد بأهميتهما فان النقاش حول إصلاحهما يصبح بلا داع ولا معني.
???? لذا يجب فرز سؤال ضرورة الجيش/الدولة من سؤال ضعفهما وعيوبهما. علما بان كل تكوينات الشعب السوداني تعاني من عيوب لا تقل فداحة عن عيوب الجيش والدولة – من الفرد، إلي الأسرة، إلي القرية، إلي المدينة، إلي شركة القطاع الخاص، إلى منظمات المجتمع المدني، إلي هراء الأسافير وسايكوباثيات الوتسب وهلم جرا.
???? ولكن الداعين إلي هدم الدولة والجيش أو تركهما للسقوط علي سنابك الغزاة نراهم أحيانا لو دخلوا في جحر نظري يهربون إلي قضية اخرى وسؤالا أخرا، مرتبطا ولكنه منفصل وهو سفسطة (هو الجيش ذاتو وينو؟ والدولة وينها ؟ الجيش إنهار والدولة إنهارت).
???? الداعون إلي هدم الدولة، التي لا يقوم لها عماد بلا جيش في عالم اليوم، بالذات في جغرافية السودان الإقليمية، عادة ما ينطلقون من وعي لا-تاريخي عن نقد اليسار الكوني للدولة وضرورة تجاوزها.
???? في أدبيات اليسار الغربي، وغيره، تاتي الدعوة لتجاوز الدولة بعد أن تنجز كل مهامها التاريخية في فضاءات السياسة والحقوق والاقتصاد والتنمية. ويتم تجاوزها بهضم كل إنجازها الأيجابي الرائع وتطويره وإسقاط عيوبها التاريخية. وهذا هو التجاوز الجدلي التاريخي إلي الامام الذي لا علاقة له بالتجاوز الجزافي إلي الوراء.
????وهنا تبرز قضية الفهم التاريخي للمجتمعات. فكل الظواهر تاريخية كما بين ماركس وقبله هيغل وغيرهما من الفلاسفة. وهذا يعني أن الدولة ظاهرة تاريخية لم تكن موجودة دائما ولكنها ولدت في فترة تاريخية معينة ولعبت دورا كبيرآ ومعقدا في دفع حياة البشر إلي الامام وكانت طفرة إيجابية مقارنة مع ما سبقها. كما أحدثت نفس هذه الدولة الكثير من الألام. الجدلية تدرك أن الجانب المشرق والاخر المظلم يوجدان في نفس الظاهرة. والذهول عن الوجه المشرق بنفس حماقة الذهول عن الجانب المظلم. والعقل الفلسفي يدرك كلا الجانبيين ويدرك تغير أوزانهما النسبية مع حركة التاريخ.
???? وايضا هناك جانبا جدليا أخرا غائبا عن عقول دعاة هدم الدولة، يتعلق بالقول بان الدولة أداة في يد الطبقة الحاكمة لقهر الآخرين وإستغلالهم. وهذا صحيح ولكنه ليس كل الرواية. لان أي إنسان يعرف عن الجدل يدرك أن نفس هذه الدولة كانت أولا ضرورة تاريخية دفعت المجتمع إلي الامام. ومع إنها أداة قمع طبقي إلا أنها في نفس الوقت تحمي الضعفاء من عسىف الأقوياء فلا يستطيع قوي إغتصاب فتاة ولا ضرب فقير. فحكم القانون، رغم علاته وجذوره الطبقية إلا أنه أيضا يحمي الضعفاء.
???? وتحمي الدولة الفقير بتوفير التعليم وحد أدني من الصحة وبقوانين الحد الأدني للأجور وحقوق العمل، وإجازة الأمومة ومنع الرق وتوفير المعاش التقاعدي وتشييد البني التحتية التي تسمح بظهور قطاع خاص يوفر فرص العمل وكسب العيش للضعفاء وتضع الدولة القوانين التي تحمي الراسمالي المستثمر حتي يؤسس الشركات التي توفر فرص العمل للشباب والكبار. وفي غياب الحماية القانونية لن ياتي مستثمر من داخل وخارج. وهكذا.
???? وغياب بعض من إنجازات الدولة في السودان لا يعني هدمها أو اللامبالاة أمام غزاة يهدمونها وإنما يعني تقويتها لتكمل مهامها التاريخية وبعد ذلك يمكننا النقاش حول كيفية تجاوزها إلي تقنيات تنظيم إجتماعي أرقي بدلا عن هدمها المتعجل الذي يعيدنا إلي بربريات ما قبل الدولة ويفتح الطريق لذهاب أراضي السودان بثرواتها إلي صالح قوي أجنبية تسعدها حماقات السودان النظرية والسياسية كما تسعدها عمالات الكمبردور.
????المراقب المنطلق من الواقع – وليس من قناعات مسبقة واجبة التركيب حتي حيث لا تناسب – لا يصعب عليه أن يعترف بان الدولة السودانية قبل الحرب بلغت أسوأ حالاتها أيام حكم البشير. هذا صحيح. ولكن الصحيح أيضا أنه في وجود تلك الدولة كانت الحياة تسير في كل مناطق السودان الخالية من حرب الهويات المعتوهة وكان الشباب في الخرطوم يذهب للجامعات ويتسكع في المقاهي وشارع النيل – كما يجب. صحيح أن النظام كان يتنمر عليهم بالقبض والجلد أحيانا ولكن هذا التضييق لا يمكن مقارنته بحال الشباب اليوم داخل السودان وخارجه.
????وفي أيام دولة البشير كانت صحف المعارضة تنشر وتبيع وكان محترفو الأنجوة وحقوق الانسان يسافرون عبر مطار البشير إلي ورشات حقوق الانسان ومؤتمراتها، وكان النظام يضايقهم بالتحرش والسجن أحيانا وكثيرا ولكنهم كانوا في النهاية يذهبون إلي بيوتهم ويذهب الصحفي لصحيفته والاستاذ إلي جامعته، والمحامي إلي مكتبه وصاحب الأنجوة إلي أنجوته ويتكاثرون ويزورون الأقارب ويرسلون أطفالهم للمدارس والجامعات وياخذون أمهاتهم وأجدادهم إلي المستشفيات.
????وكان سودانيو المهاجر يهجون النظام بالسنة حداد ثم يتوجهون إلي السودان في الأعياد والإجازات ويدخلون عبر مطار البشير ويقضون العطلات مع الأسرة والأصدقاء ويخرجون إلي مهاجرهم عبر نفس مطار البشير ليواصلوا نقدهم المستحق لنظامه من جميع أركان الارض. واستباقا للسفسطة الدعائية فان قولنا هذا لا يذهل عما كان يحدث في أقاليم الحرب ولا للطبقات الأشد فقرا.
???? في تاريخية الأشياء خذ علي سبيل المثال أكثر أقاليم العام تطورا. الإتحاد الأوروبي لم يتجاوز الدولة بعد بل شيدت دوله سوبر دولة سمتها الأتحاد الأوربي. الولايات المتحدة قارة توحدت فيها خمسين ولاية أو نحو ذلك وخلقت سوبر دولة. وكذلك الصين ميليارية السكان. أو روسيا، أكبر دولة علي سطح الأرض مساحة. وهكذا. ثم قارن ذلك بأحوال البشر في أماكن إنهيار الدولة مثل الصومال وهاييتى وليبيا. وتذكر حال الدول التي بها دولة ولكنها ضعيفة – أو ما يعرف بظاهرة الدولة الرخوة – مثل معظم دول أفريقيا.
???? ولا ننسي أن أهم واسرع واعظم تجربة تنموية في التاريخ قادتها وتقودها دولة صينية مذهلة الكفاءة علي سىدتها أحفاد ماو ودينق شاوبينغ, ذلك الثعلب الماركسي الذي دخل التاريخ كاحد أهم المصلحين في مسيرة الإنسانية. إرتباط قدرة مجتمع علي الدفاع عن نفسه وتحقيق درجة من الرفاه الأقتصادي بوجود دولة قوية قادرة علي تنظيم المجتمع وإنفاذ القوانين من الوضوح بحيث لا يحتاج إلي درس عصر.
???? من المفارقات في السياسة الأمريكية (والغربية عموما) – وهي ليست مفارقة لمن أدرك أبجديات الفلسفة السياسية – أن اليسار صاحب القدح المعلي في نقد الدولة تاريخيا هو الداعي لتقوية الدولة وزيادة دورها في تنظيم الحياة الأقتصادية. وان أقصي اليمين ، المعروف بالتحرريين، يدعو إلي تقزيم دور الدولة إلي أدني حد ممكن. ومن كليشيهيات هذا اليمين التحرري القول بضغط وتقزيم حجم الدولة حتي يمكن إستيعابها في بانيو الحمام.
???? النظرة السطحية للأمور قد تشي بان اليمين التحرري أكثر راديكالية بالمعني الايجابي للجذرية . ولكن اليسار الذي قام بواجبه المنزلي النظري يعرف أن إنحسار الدولة في توازن القوي الحالي ينقل مركز القرار من حكومة لا تستطيع تجاهل مطالب الشعب بصورة كاملة إلي شركات هي في الحقيقة مؤسسات شمولية، غير منتخبة راسية، شبه فاشية، لا توجد فيها ولا ذرة من الديموقراطية. وهذ الإنحسار ردة حضارية وليس تطورا جذريا. ولاحظ أن الرئيس الأرجنتيني الحالي، خافيير ميلي، الاناركي الراسمالي الأكثر عداء للدولة، ينحدر من أشد أطياف اليمين رجعية وحماقة.
????كما أن برامج التكيف الهيكلي التي ظل البنك الدولي والصندوق يبشرا بها تركز علي إضعاف دور الدولة الإقتصادي لصالح السوق والقطاع الخاص. ولم نر يسار أناركي أو جذري يحتفل بتحجيم الدولة علي يد البنك والصندوق لان السياق والمرحلة التاريخية هما ما يحدد الموقف السليم من دور الدولة.
???? بنفس المنطق، فان إنهيار الدولة في السودان تحت سنابك الغزاة المدعومة بلا مبالاة مثقفين تم تحييدهم بفضل تخليطات نظرية من يسار لا-تاريخي أو دعاية غزاة ممولة بسخاء، إنهيار الدولة هكذا سيكون ردة حضارية وفناء السودان كما نعرفه إلي الأبد ولن يكون موت الدولة والجيش مدخلا لمجتمع تتحسن فيه الحريات وأسباب الحياة إلا في خيال بلغت خصوبته درجات لا قبل لنا بها.
???? في موضوع البناء القاعدي، أتفق مع الأطروحة وأدعمها نظريا وعمليا ما أمكن. ولكن أختلف مع بعض أصحابها في إعتقادي بان البنيات القاعدية المحلية، علي أهميتها وضرورة التبشير بها، ليست بديلا للدولة وجيشها. وانه في غياب كيان الدولة الأوسع والجيش الحامي ستذهب هذه التكوينات شمار في مرقة وسىيجغمها الغزاة وأخدامهم المحليون زوت.
????ولا ننسي أن هناك الكثير من المحليات القاعدية تعتبر أن تدخل المراة في السياسة رجس من عمل الشيطان، فليس كل كيان محلي صغير أكثر نبلا من الدولة.
????كما لا ننسي أن التنظيمات القاعدية التي بلغت ذروة قوتها بإسقاط البشير لم تستطع منع وقوع السلطة في أيد جماعات رجعية عندها الخيانة وجهة نظر ولا تمد جذورها إلا إلي الخارج ثم قادت هندستها السياسية الجهولة لحرب ضروس.
???? وفي حال إنهيار الدولة لا أعرف كيف يسافر سوداني للخارج لعلاج أو تعليم أو زيارة أقارب أو ترويح وهو يحمل جواز سفر صادر من اللجنة القاعدية لجذرية أم عضام، ريفي المسلمية التابعة للحصاحيصا كاونتي. ولا أدري ما هي الدول المستنيرة المستعدة لقبول سوداني بمثل هذه الأوراق الثبوتية الجذرية .
???? من نافلة القول أن السفر إلي الخارج ليس من أولويات حياة المعذبين في الأرض ولكن أورد المثال في سبيل العبرة، فقد قعد الكلام المثقف المتميز قصي همرور الذي بين مرارا وتكرارا أن هناك خدمات أساسية فائقة الأهمية تقوم بها الدولة ويستحيل علي كيانات محلية قاعدية أو غيرها أن تقوم بها.
????لذلك فان الموقف الصحيح هو نعم للبناء القاعدي ولكن ليس كنقيض ناف للدولة وجيشها.
???? أختم بإقتباس من مقال قصي همرور الأخير وهو مكتوب واجب القراءة ومبذول في أول رابط. يقول قصي:
“أما من ناحية النظريات الثورية، التاريخية النقدية، فهي في جملتها تتوافق على أن تجاوز تناقضات الدولة العصرية أمر ضروري وهدف واضح، بيد أنه يكون عبر ظهور نماذج أوسع وأكثر كفاءة في استيعاب تعقيدات العصر الحديث وفض تناقضاته، بتكنولوجياه ولوجستياته وثقافاته ومصالحه وعملياته، وليس عبر اللامبالاة بتفكيك الدولة كــ”حَرَدان” (وهو حردان موضعي، إذ نكاد حاليا ننتقد الدولة كظاهرة تاريخية كوكبية وفق أداء الدولة السودانية فحسب، بينما الدولة السودانية أحد أسوأ نماذج الدولة العصرية ولا تصلح ممثلا لها). تجاوز ظاهرة الدولة يكون عبر التحرك للأمام نحو نموذج أوسع وأشمل، يصطحب إنجازاتها ويتسامى على احتقاناتها، وليس عبر الهجرة العكسية في التاريخ نحو نماذج وتناقضات ما قبل الدولة…. وللحديث شجون.”
معتصم اقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: الدولة السودانیة إنهیار الدولة الدولة والجیش الجیش والدولة هدم الدولة لا تاریخی
إقرأ أيضاً:
السودان والإمارات.. هل تغير “دولة ممزقة” تاريخ الحروب؟
لعقود طويلة، كانت حروب الوكالة ـ ولا تزال ـ حيزا غامضا تتحرك في فضائه الدول لتحقيق أهدافها الاستراتيجية من دون الانخراط المباشر في أعمال عسكرية واسعة النطاق، لكن هذا الحيز الرمادي ـ ثمة احتمالات ولو ضعيفة ـ قد يتقلّص، إذ تعيد دعوى قضائية جديدة النقاش حول إمكانية تجريم المشاركة ـ ولو عن بُعد ـ في جرائم الحرب.
السودان ضد الإمارات
يقاضي السودان دولة الإمارات أمام محكمة العدل الدولية بتهمة تأجيج نزاع داخلي، من دون أن تنشر الدولة الخليجية قواتها على الأراضي السودانية.
يزعم السودان أن الإمارات متواطئة ـ بتقديم دعم مالي وسياسي وعسكري ـ في "إبادة جماعية" ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع بحق قبيلة المساليت في غرب دارفور، نوفمبر 2023.
القضية "غير مسبوقة في نطاق القانون الدولي"، يقول لموقع "الحرة" عبدالخالق الشايب، وهو مستشار قانوني وباحث في جامعة هارفارد.
وإذا قضت المحكمة لصالح السودان، فيسكون الحكم ـ بدوره ـ "سابقة قانونية" تُحمّل فيها دولة المسؤولية القانونية عن حرب بالوكالة، خاضتها عن بُعد.
وسيوفر الحكم أساسا لمساءلة الدول عن حروب الوكالة، وإعادة تقييم مبدأ عدم التدخل في سياق الحروب غير المباشرة.
يقول خبراء قانون لموقع "الحرة"، إن قضية السودان ـ إذا نجحت ـ ستؤدي إلى إعادة النظر في أدق التحفظات المتعلقة بالمادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، خصوصا عندما تكون هناك ادعاءات بارتكاب إبادة جماعية.
وقد تفقد الدول ـ نتيجة لذلك ـ القدرة على حماية نفسها من اختصاص المحكمة في مثل هذه القضايا.
ومن تداعيات القضية ـ إذا قررت محكمة العدل الدولية البت فيها ـ إعادة تفسير اتفاقية الإبادة الجماعية لتشمل حالات التورط غير المباشر أو التواطؤ في جرائم الحرب.
حروب الوكالة
في حديث مع موقع "الحرة"، تقول ريبيكا هاملتون، أستاذة القانون الدولي في الجامعة الأميركية في واشنطن، إن مفهوم الحرب بالوكالة يتبدى عندما تتصرف دولة كراع وتدعم طرفا آخر في ارتكاب أفعال خاطئة.
ورغم أن حروب الوكالة تبدو ظاهرة حديثة، فلها تاريخ طويل ومعقّد.
تُعرّف بأنها صراعات تقوم فيها قوة كبرى ـ عالمية أو إقليمية ـ بتحريض طرف معين أو دعمه أو توجيهه، بينما تظل هي بعيدة، أو منخرطة بشكل محدود في القتال على الأرض.
تختلف حروب الوكالة عن الحروب التقليدية في أن الأخيرة تتحمل فيها الدول العبء الأكبر في القتال الفعلي، وعن التحالفات التي تساهم فيها القوى الكبرى والصغرى حسب قدراتها.
وتُعرف حروب الوكالة أيضا بأنها تدخّل طرف ثالث في حرب قائمة. وتشير الموسوعة البريطانية إلى أن الأطراف الثالثة لا تشارك في القتال المباشر بشكل كبير، ما يتيح لها المنافسة على النفوذ والموارد باستخدام المساعدات العسكرية والتدريب والدعم الاقتصادي والعمليات العسكرية المحدودة من خلال وكلاء.
من الإمبراطورية البيزنطية إلى سوريا
يعود تاريخ الحروب بالوكالة إلى عصور قديمة، فقد استخدمت الإمبراطورية البيزنطية استراتيجيات لإشعال النزاعات بين الجماعات المتنافسة في الدول المجاورة، ودعمت الأقوى بينها.
وخلال الحرب العالمية الأولى، دعمت بريطانيا وفرنسا الثورة العربية ضد الدولة العثمانية بطريقة مشابهة. وكانت الحرب الأهلية الإسبانية ساحة صراع بالوكالة بين الجمهوريين المدعومين من الاتحاد السوفيتي والقوميين المدعومين من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية.
وخلال الحرب الباردة، أصبحت الحروب بالوكالة وسيلة مقبولة للتنافس على النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تجنبا لاحتمال نشوب حرب نووية كارثية.
ومن أبرز الأمثلة: الحرب الكورية، حرب فيتنام، الغزو السوفيتي لأفغانستان، والحرب الأهلية في أنغولا. استمرت هذه الحروب حتى القرن الحادي والعشرين. وتُعد الحرب في اليمن مثالا واضحا لحروب الوكالة، حيث تدعم إيران الحوثيين بينما تدعم السعودية وحلفاؤها الحكومة اليمنية.
وأظهر الصراع في سورية قبل سقوط نظام بشار الأسد مثالا صارخا لحروب الوكالة في عصرنا، من خلال تدخل روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا دعما لفصائل مختلفة.
قضية السودان ضد الإمارات قد تدفع دولا أخرى إلى التفكير باللجوء إلى محكمة العدل الدولية في دعاوى مماثلة، ولكن!
الإبادة الجماعية؟
لا تتعلق دعوى السودان بحروب الوكالة تحديدا، يؤكد الخبراء، بل تستند إلى اتفاقية "منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة المتورطين فيها".
تدّعي الخرطوم أن ميليشيات الدعم السريع ارتكبت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بينها القتل الجماعي، والاغتصاب، والتهجير القسري للسكان غير العرب، وتزعم أن تلك الجرائم ما كانت لتحدث لولا الدعم الإماراتي، بما في ذلك شحنات الأسلحة عبر مطار أمجاراس في تشاد.
"يحاول السودان أن يثبت دور دولة أخرى غير المباشر في ارتكاب قوات عسكرية أو ميلشيا تحارب في السودان إبادة جماعية".
"أساس القضية،" يضيف، "المادة التاسعة من اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها".
رغم أن كلّا من الخرطوم وأبوظبي من الموقعين على الاتفاقية، تعتقد هاملتون أن من غير المحتمل أن يتم البت في هذه القضية، إذ إن "محكمة العدل الدولية تفتقر إلى الاختصاص القضائي للنظر فيها".
"عند توقيعها على اتفاقية الإبادة الجماعية،" تتابع هاميلتون، "أكدت الإمارات أنها لم تمنح محكمة العدل الدولية السلطة للفصل في النزاعات التي قد تنشأ بينها وبين دول أخرى بشأن هذه الاتفاقية".
ويلفت ناصر أمين، وهو محام مختص بالقضايا الدولية، إلى أن النزاع القائم في السودان يُعتبر وفقا لأحكام القانون الدولي الإنساني نزاعا مسلحا داخليا، إلى أن تثبت الخرطوم بأن هناك تدخلا من إحدى الدول لصالح أحد أطراف النزاع داخليا".
"وهذا يحكمه بروتوكول ملحق باتفاقيات جنيف أو بالقانون الدولي الإنساني المذكور في المادة 3 من البروتوكول الثاني لاتفاقيات جنيف المنعقدة عام 1929،" يضيف.
تنص المادة الثالثة على أن أحكام هذه الاتفاقية لا تسمح لأي دولة أن تتدخل في الشأن الداخلي لأي دولة أخرى أو أن تمارس أي أعمال داعمة لأي فصيل متنازع أو متصارع.
"على السودان أن يثبت أمام محكمة العدل الدولية أن هناك خرقا حدث للمادة 3 من البروتوكول"، يوضح.
نقاط القوة والضعف
وتقول ربيكا هاملتون "من المؤسف" أنه من غير المحتمل أن تُرفع هذه القضية، حيث إن محكمة العدل الدولية تفتقر إلى الاختصاص القضائي للنظر فيها.
ويشير الباحث القانوني، عبدالخالق الشايب، إلى أن قضية السودان ضد الإمارات "يبقى التعامل معها متعلقا بوكالات الأمم المتحدة أو مجلس الأمن تحديدا".
لكن هاملتون تقول إن هناك مجموعة من القوانين الدولية التي تحظر حروب الوكالة، لكن "التحدي الحقيقي يكمن في كيفية إنفاذ هذه القوانين".
"سابقة".. حتى لو تعثرت؟
أن تتعثر قضية السودان ضد الإمارات ـ بسبب الاختصاص القضائي ـ أمر وارد، لكنها تبقى، وفق خبراء في القانون، "ذات دلالة رمزية كبيرة".
"بغض النظر عن نتيجتها،" تقول أستاذة القانون الدولي ربيكا هاملتون، لموقع "الحرة"، "تمثل القضية محاولة جريئة من دولة ممزقة بالصراعات لتوسيع مفهوم المساءلة عن ممارسات الحرب الحديثة".
وحتى إن رفضت محكمة العدل الدولية النظر في الدعوى، فإن القضية تضيّق الحيز الرمادي الفاصل بين المسؤولية المباشرة والمسؤولية غير المباشرة عن جرائم الحرب.
في تصريحات لموقع "JUST SECURITY"، يشير خبراء قانون إلى أن صدور حكم لصالح السودان ـ حتى وإن كان ذلك غير مرجح ـ قد يؤدي إلى إعادة تقييم شاملة للمعايير القانونية الدولية المتعلقة بتواطؤ الدول وتدخلها.
قبول الدعوى قد يدفع القانون الدولي إلى مواجهة التكلفة الحقيقية لحروب الوكالة الحديثة — سواء خيضت بجنود على الأرض، أو من خلال دعم مالي وعسكري عن بُعد.
الحرة - واشنطن