بين السياسيّ والدبلوماسيّ أمـورٌ مُتشابهات ؟
تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT
جمال محمد ابراهيم
(1)
ظللتُ أتابع حلقة تلفزيونية مع قيادية في الحركة الاسلامية ، قدم فيها المحاور في القناة الفضائية ضيفـته وخاطبها بلقب "ســفـيرة"، فلا هي أقـدمتْ على تصحيح اللـقـب الــذي اعتمدته تلـك القـناة، ولا المحاور وجد حـرجـاً في مخاطبها بلقب مهني فـيما هي تقول عن نفسها أنها "قـياديـة" في حركة سياسية بإسم المؤتمر الوطني، ذلك الذي بقي نظام البشير ثلاثين عاما تحت مظلته، لكنها قالت بوضوح أنها تنطق فقط بإسمها وليست الناطقة بإسم تلك الحركة .
يأتي الالتباس من كون السياسة شيء، والدبلوماسية شيء مختلفاً تماماً ، إذ السياسة تتصل بمواقف الدولة العليا ، والدبلوماسية تتصل بالتعبير عن تلك المواقف وانفاذها، على مستوى العلاقات الخارجية مغ البلدان الأخرى.
(2)
المعروف أنّ العلاقات الدبلوماسية بين الدول، تحكمها إتفاقيات دولية أقرّتْ منذ أوائل أعـوام ســتينات القرن الماضي، يتموفقها ضبط وتنـظـم شكل وأســـاليب أداء الأجـهـــزة الدبلوماسية لأيّ دولة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وهي التي عرفت باتفاقيتي فيينا وما تفرّع عنهما وأضيفت إليهما عـدةً اتفاقيات لاحقة. تتدرّج مهام الوظائف بالدبلوماسية تدرّجاً يبدأ في مداخل الخدمة الرسمية للحكومة، بوظيفة ملحق دبلوماسي ثمّ السكرتيرالثالث والثاني والأول ، تليهم تصاعداً وظيفتا المستشار والوزير المفوّض، وصولاً إلى رأس سلم الدّرجــات الدبلوماســية، وهي درجــة الســفير. والوظيفة الدبلوماســية بما فيها وظيــفة السفير- ووفق ما نصّت عليه الاتفاقيات الدولية الملـزمة- هي التي يشغلها في موظفون يتمّ تعيينهم في الأجهزة الدبلوماسية لكلّ بلد، تحت مظلة وزارة تسمى وزارة الخارجية، وذلك وفق ضــوابط إدارية معينة، باعتبارهم موظفي خدمة مدنية في بلدانهم وتوكل إليهـم مهام تتصل بإدارة العلاقات الخارجية مع الدول الأجنبية.
أما السياسـيون في العـرف المعلوم، فلنشاطاتهم فضــاءات مختلفة ، ســواءا في أنظمة تعددية أو شمولية، تتحكّــم فــي سلوكياتهم وأدائهم الســياسـي، بل يتم تقييم نشاطهم يحسب التزامهم بالبرامج السـياســية للكيانات السياسـية التي يتبعون لها إيجاباً تســتدعي التقريظ، أو سلباً يقتضي المحاسبة. لا يخضع السياسي ، بداهــة لأى ضوابط إدارية ممّا يعرف عن الخدمة المدنـية في أيّ حكومة راشـــدة .
(3)
البديهي والمعلوم أن النشاط السياسي يتصل بقناعات وتوجّه فكري يخصّ فرداً أو جماعة ، أما العمل الدبلوماسي، فهو يتصل بأداء عمل ومهام محــددة تلزمه قيادة الجهاز التنفيذي بالدولة بالقيام بها، ويحظر -عادة-على ذلك الموظف العمل بالسياســة . النشــاط السياسي بيـّن والعمل الدبلوماسي بـيّـن، ولا ينبغي الخلط بينهما، وإلا فسـدتْ أمـورُ كليهما ، ذلك كمزجك الزيت بالماء، فلا تجـد من بعد مزجهما ماءا ولا زيتـا. .
وكثيراً ما نشهد في مجـال العلاقات الخارجية بين الدول ، خصوصية تنشأ بين دولة وأخرى، بما يتتطلب تمثيلاً دبلوماسياً إسـتثنائيا ومميّـزاً . تلك هي الحالة التي تقرّر فيها قيادة الدولة تكليـف شخصٍ بمواصفات سياسية خاصة ومحددة، وليس بالضرورة من وزارة الدبلوماسـية ليرأس بعثة دبلوماسـية ، وقـد يمنح صفة سـياســية كـوزير أو نائب وزير، بصلاحيات أوسع ممّا يتاح للسفير المهني التابع لوزارة الخارجـيـة في البلد المعني . غير أن العرف والتقليد في الممارســات الدبلوماســـية، وبما لا يتعـارض مع نصوص الاتفاقيات الدوليـة المنظمة ، جرى أن لا يتجاوز عدد من يتم تعيينهم على هذا النحو، ما نسبته 10% إلى 15%. ويبقى تعييناً استثنائيا وفي أضيق نطاق، في الأنظمة الديمقراطية الراشدة، وينتهي التكليف بانتهاء المهمة. ذلك التكليف الاستثنائي عرفاً، وفي الدول الراشدة، لا يخوّل المكَلفَ لحمل لقب "ســـفير" طيلة حياته.
(4)
لكن في حالة الأنظمة الشمولية ، التي عادة ما تراعي الموالاة السياسية على حساب التأهيل المهني، قد يختلف الحال فتنقلب نسبة التكليفات الاستثنائية رأساً على عقب - وليس في وزارة أو هيئة واحــدة، بل في جميع مؤسسات الدولة بكاملها- إلى نســبة قد تتجــاوز الـ70 %، ويكون التوظيف المهني في أدنى درجاته، إلى أقل من نسبة ال 30% . سياسة التمكيــن التي مارسها نظام الانقاذ في سنواته الأولى، على يد عرّابه الترابي ، هــدف إلى بســـط سيطرته على مفاصل الدولة ، فتجاوزت نسبة التعيين السياسي الـ 70% ، فصار الاستثناء هو الأصل . في وزارة الخارجية السودانية التي نحن بصــدد الحــديث عـنها، تراجعت نسبة السفراء والدبلوماسيين المهنيين بصورة أضعفت من أداء الدبلوماسية في تلكم السنوات وما تلاها، فلم يعد ثمة اهتمام بالتدريب او بمعرفة اللغات أو التمرّس لاكتساب متطلبات العمل الدبلوماسي.
(5)
الذي زاد الطين بلة ، أنّ سياسة التعيين السياسي في وزارة الخارجية للموالين للنظام الإسلاموي لم تقف على تعيين السـفراء في رئاسة البعثات الدبلوماسية، بل تم إلحاق أعدادٍ منهم في بقية الدّرجات الدبلوماسية: الدنيـا والوسيطة، دون الالتــزام بإجراء لاختــبارات التحريرية المعلومة قبل التعيين في مداخل الخدمـة ، وبتجاهلٍ تام لأهمــية المقــابلات والمعاينات الشخصية قصد تقييم أهلـية المتقـدمين للخدمة الدبلوماسية. وهكذا لم يقتصر التعيين السياسي على وظيـفة السفير وحـدها ، بل تعداها إلى التعيين في الوظائف الدنيــا والوسيطةل.. ، فكانت تلك مفارقة غير المسبوقة، وبدعة لم تشهدها أية خدمة دبلوماسية لأي دولة راشــدة ، من العالم الأول أو الثاني أو الثالث. . !
أربكتْ تلك السياسة غير السوية أداء الدولة الذي يجدد السياسة السياسة الخارجية، وجهاز الدبلوماسية الذي ينفذ تلك السياسات، بل أضعفها ضعفاً بيناً. هو اعتماد النظــام الحاكم على تولي أهل الولاء للحــزب الشمولي المسيطر دون النظر إلى التأهيل المهني المناسب لشغل أي وظيفة من الوظائف العامة في الدولة. هانحن نجني ثمار سياسات أخفقت في إدارة الدولة ومؤسساتها جميعا. ومثلما لقوات البلاد المسلحة عقيدة تلزم منسوبيها بحماية البلاد ، فإن للدبلوماسية أداءاً مهنياً عقدياً يلزمها الدفاع عن الوطن ، لا الدفاع عن كيان سياسي ، أو توجهٍ يميل لجهة دون أخرى . إنّ تسييس الخدمة العسكرية والنظامية ومثله تسييس الخدمىة المدنية في كامل تكويناتها التي تعنى بإدارة البلاد بحكمة ورشـاد، هي العلة التي أفضت بالبلاد – مع عوامل أخرى- إلى هذا الخـراب الذي نرى في الـبلاد.
ومن ضمن تلك الفوضى، بات النظر إلى الوظيفة الدبلوماسية ، خاصة وظيفة السفير، كجائزة للموالين للنظام الشمولي الحاكم بأمر كيانه السياسي القابض، وليــس كتكلـيف وظيفي يخدم علاقات السودان الخارجية. من لوثة التمكيــنوفشل تطبيقه، ها نحن نجني الذي نشهده حالياً من سوء إدارة في البلاد.
(6)
ومن عجبٍ، دعني أحدثك عن وظيفة السـفيـر ووظيفة حاملي درجة الدكتوراة. لو أمعنت النظر طيلة سنوات حكم "الانقاذ" الأخيرة سيلفت نظرك كثرة حملة لقب الدكتور في العلوم الإنسانية، وأيضاً من تمسكوا بلقب السفي، وإن كانوا ضيوفاً على مهنة ليست لهم ولك أن تتساءل لمَ هذا التكالب لحمل هاتين الصفتين دون بقـيـة الوظائف الأخرى..
تعجب أن ترى رأس ذلك النظام البائد وقد وجد لنفسه وقتاً يعفيه من مهامه، ليجلس ليحضّر لنيل درجة الدكـتـوراة. بل أن قرينته الثانـيـة، وهي التي ربما أكملت المدرســـة الثانوية، قد أسـرعت لنيل شهادة جامعية في بضعة سنوات ، وسمعنا أنها نالت درجــة الكتوراة. وأحدثك ثانية عمّن عرفتُ من متابعاتي تلكم السنوات، من منسوبي ذلك النظام البائد ، وقد شغل منصباً سياسياً بدرجة وزير دولة، لكن بعد إعفائه من ذلك المنصب قرّر رئيسه تكليفه بمهمةٍ دبلوماسية، وبعثوا به سفيراً من منزله فوراً إلى دولة مجاورة . من أسفٍ أنه وبعد عدة أشهر، بان إخفاقه في تلـك المهـمة الدبلوماسية، وجرى اعفـاؤه ثانـيـة منها . لعلك تعجب معي كيفَ أنّ الرّجل وفي العديد من مقابلاته الإعلاميــة ، ظلّ متمسكاً بلقـب "السـّــفـيـر"، متناسيا أنه كان يحمل لقب وزيـر قبل ذلك. .! ترى أيّ بريقٍ في منصب السّـفيـر ممّا لا يتوفـر لمن يشغل منصب الوزيـر . . ؟
(7)
الأستاذة التي شغلتْ يوماً منصب وزيرة دولة بوزارة الثقافة والإعـلام في السّـــودان، وهي قيادية في الحزب الحاكم "السـابق"، لم تعد تذكر صفتها كـ"وزيــرة ســـابقة" ، بل تمسّـكت - فيما بدا في مقابلاتها الاعلامية- بصفـتها كـ"ســفيـرة"، وســفيـرة فحسب ولـم تذكّر من حاورها بلقـبها السياسي في النظام السابق، كوزيرة دولة بوزارة الثقافة والإعلام، أو أي لقب مهني آخر نعرفه عنها . وما يلفت النظر المتابع أنه، لا هي ولا من أجـرى ذلك الحوار معها على تلـك القناة الفضائية العربيـة الشهيرة، تنـبّها إلى التناقض البيّـن بين صـفة |"سـَـفيـر"، وهي وظيفة مهنية لم تكن هي جزءاً منها في الخدمة الخارجية للحكومة السودانية، وصفة "قـيـادية" في حركة سياسية إنتمت إليها الضيفة ، ولم تعد لها شـرعية بعذ أن أسقطت ثورة ديسمبر عام 2018 في السودان، حزبها الحكم وعناصره - الذين هـم واللاتي هنّ - في حال لواذٍ وفرار إلى تركيا حتى ساعة كتابتي هنا.
تلك قصة أخرى لا مجال للخوض فيها هنا، إذ آثرتُ أن أقصر مقــالي على الشـكل المراسمي والإعلامي الذي أعرفه بحكم مهنـتي واتصالها بالعــلاقات الخارجـية ، وقــد امتهنتخت لسنوات طوال ، ولن أخوض في السياسة الداخلية هنا . المحاور الذكي ظلَّ يطلق الصـفتين: السفيرة والقيادية على الأســتاذة ، وكأنَّ الأمـر عـنده وعــندها، أمرٌ عادي وطبيعي ، ولم يريـا معي ما كتبت وما أوضحته أعلاه عن خطل مزج الزيت بالماء .
عـرفتْ الدبلوماسيةُ السودانية، منذ إنشائها عام الاستقلال في يناير من عام 1956م، سفراءَ كبارٍ، شغلوا سياسيا وظائف دبلوماسية ، تركوا صماتٍ لا تنكر لكن - وبعـد انتهـاء مهامهم - لم يُعرف عنهم إصـرار على حمل لقب ســفير، أو تنكراً لمهنهم الأصلية ، سواءاً كانوا عسكريين أو معلمبن ، وأذكر لك منهم : محمد عثمان يس ، سر الختم الخليفة، منصور خالد ، مبارك عثمان رحمة، عبداللطيف دهــب ، موسى عوض بلال، عبدالله أحمد عبدالله وسواهم . .
إن كان لله في خلقه شـئون، فإنّ للأنظمة الشمولية في أتباعـها شـئون وشـئون. .
القاهرة – 29/7/2024
jamalim@yahoo.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
خلف: لا بد للعدوان الجائر على لبنان أن ينتهي
قال النائب ملحم خلف أنّه "لا بد للعدوان الجائر على لبنان أن ينتهي. فهذه سنة الحروب. يبقى السؤال حول عما سوف نعمل، نحن اللبنانيين، في اليوم التالي لانتهاء العدوان".
وأضاف في تصريح له أنّ "آلاف الشهداء، عشرات الآلاف من الجرحى والمعوقين، قرى مدمرة، أبنية مهدمة، أرواح زهقت، أرزاق تبددت، بلاد بأكملها دكها العدو. فما عسانا نفعل بعد عودة السلم؟ أنعود الى ما كنا عليه وما كان عليه لبنان قبل العدوان؟ أنعود الى فشل من لا يرغب بتطبيق الدستور ويرفض الاحتكام الى العدالة ويعمل على تخطي المؤسسات؟ أنعود الى ما انتجه اعوجاج النظام السياسي من ويلات طالت أجيال من اللبنانيين؟ أنعود الى فيدرالية الطوائف ودكتاتورية مستغلي الدين التي تحكم لبنان بالمحاصصة والزبائنية والفساد منذ أكثر من ثلاثة عقود؟".
وتابع :"أنعود الى هذه الممارسات الشاذة التي اودت بالبلد الى الإفلاس والى هجرة أبنائه، وحولت نظامنا السياسي الى شبه ديموقراطية يديرها حفنة من الزعماء يستمدون قوتهم من انتمائهم المذهبي وليس من انتمائهم الوطني؟ أنعود الى ذات التركيبة والتي سوف تؤدي بنا لا محال الى ذات الكارثة مرة جديدة، أو الى أسوأ منها؟ أو أننا ننتهز الفرصة لكي نباشر ولو متأخرين في بناء الدولة القادرة والعادلة والتي تستمد شرعيتها من علاقتها المباشرة بجميع مواطنيها، الدولة الحاضنة والمطمئنة لجميع أبنائها؟"
وقال :"يجمع زعماء الدول العظمى على القول بأن العالم يعيش حاليا فترة تحولات عميقة. لقد حان الوقت للبنان أن ينتقل هو أيضاً من نظام المزرعة الى نظام الدولة، دولة القانون والحق والمؤسسات، دولة تكون هي الضامنة للمواطنين فيها على اختلاف انتماءاتهم الدينية".
وختم : "والطريق الوحيد الى هذا المبتغى يكمن في انتخاب رئيس جمهورية غير مرتهن، يعتمد على حكومة فاعلة مع صلاحيات استثنائية، ولو لفترة انتقالية، حتى تعيد البلد الى الطريق الصحيح. وإن لم نفعل ذلك، لراحت أرواح شهدائنا سدى، ولضاع مستقبل ناسنا من دون جدوى، ولخسرنا أجيال من أبنائنا الى غير رجعة".