بعد فشل الحلول الخارجية مفتاح الحل في الداخل
تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT
بقلم : تاج السر عثمان
١
مع التاكيد على ضرورة وقف الحرب واسترداد الثورة، الا أنه يظل مفتاح الحل في الداخل باعتباره الحاسم، ويظل العامل الخارجي مساعدا، فقد فشلت الحلول الخارجية حتى كتابة هذه السطور في وقف الحرب، كما في منابر جدة، الايغاد والاتحاد الأفريقي ، وزيارات المبعوث الأمريكي ( المكوكية) ، والتدخل الروسي الإيراني وتركيا لمساعدة الجيش السوداني، وتدخل الإمارات لمساعدة الدعم السريع، اضافة للتدخل الإثيوبي كما استضافة مؤتمر (تقدم) والتدخل المصري وعقد مؤتمر القاهرة الأخير.
٢
لقد أدت الحرب اللعينة التي دخلت شهرها السادس عشر الي مآسي إنسانية وارتكبت فيها مجازر وانتهاكات وإبادة جماعية واغتصاب وعنف جنسي، وكانت الحصيلة :
نزوح أكثر من ٩ مليون داخل وخارج مع ظروف إنسانية بالغة السؤ يعيشها النازحون جراء فقدان مقومات الحياة من غذاء وماء شرب نقي وخدمات صحية وتعليم. الخ.
أشارت منظمات الأمم المتحدة الي ٢٥ مليون سوداني يعيشون في حالة انعدام الأمن الغذائي. وتضرر ٢٤ مليون طفل من الصراع، اضافة لفشل الموسم الزراعي ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤ وفشل الموسم الزراعي الصيفي ٢٠٢٤، بسبب اجتياح الدعم السريع لمناطق إنتاج الحبوب في ولايات الجزيرة وسنار وشمال كردفان دارفور.. الخ، ونزوح المزارعين، مما يهدد بمجاعة تستوجب إعلان السودان منطقة مجاعة كما جاء في بيان التحالف الاقتصادي لقوى ثورة ديسمبر المجيدة بتاريخ ١٦ يوليو ٢٠٢٤.
مقتل أكثر من ٣٠ الف شخص، واصابة أكثر من ٧٠ الف شخص، فضلا عن فقدان الآلاف.
انهار النظام الصحي جراء خروج ٨٠ ٪من المستشفيات من الخدمة والهجوم على الكادر الطبي. كما يحتاج ١٥ مليون مواطن للخدمات الصحية.
حرمان ١٩ مليون طفل من التعليم بعد تعطيل المدارس لأكثر من عام، اضافة لتدمير مؤسسات التعليم العام والعالي، وجعل ما تبقى منها ثكنات عسكرية.
تم تدمير البنيات التحتية ومرافق الدولة الحيوية والمصانع والأسواق والبنوك، وتقدر الخسائر بأكثر من ١٢٠ مليار دولار.
إضافة لحملة الاعتقالات والتعذيب الوحشي حتى الموت للمعتقلين في سجون طرفي الحرب، اضافة لمحاولات ( الفلول) لاعادة قانون الأمن الذي يبيح الاعتقال والاحتجاز التعسفي، والتراجع عن إنجاز الثورة في ان جهاز الامن لجمع المعلومات.
إضافة لنهب ممتلكات ومنازل وعربات المواطنين من طرفي الحرب. مما اكد انها حرب ضد المواطن وتصفية الثورة.
٣
إضافة لدور المحاور الاقليمية والدولية في تسليح طرفي الحرب، بهدف نهب اراضي وثروات البلاد، في ظل اشتداد حدة الصراع الدولي لنهب موارد السودان وافريقيا، والوجود العسكرى على البحر الأحمر. مما يهدد بتقسيم وتمزيق وحدة البلاد بعد فصل الجنوب بتغذية وتوسيع الصراعات القبلية والعرقية، وخطر امتداد الحرب للبلدان المجاورة، اضافة للتفريط في السيادة الوطنية.
التدخل الخارجي كما اشرنا سابقا يهدف
لنهب ثروات البلاد وأراضيها ، والتفريط في السيادة الوطنية كما صفقة ميناء( ابوعمامة) لصالح الإمارات في ظل حكومة انقلابية غير شرعية ، وغياب مؤسسات الشرق ومؤسسات البلاد التشريعية المنتخبة ، مما يتنهك السيادة الوطنية ، ويقضي علي ميناء بورتسودان وبقية الموانئ السودانية علي البحر الأحمر ،وهذا المخطط وجد مقاومة جماهيرية كبيرة من الشعب السوداني وجماهير شرق السودان ، كما تم اسقاط مخطط البشير لتأجير الميناء الجنوبي بعد ثورة ديسمبر.
هذا اضافة لأهداف الاستثمارات الزراعية الواسعة في اراضي السودان الواسعة الضارة بمصلحة شعب السودان، ولمصلحة الاستثمارات الخارجية وتصدير العائد للخارج ، كما في مشاريع السعودية والامارات في السودان ، ونهب عائدات الذهب وبقية المعادن والمحاصيل النقدية وتهريبها للخارج ، بعد تهجير السكان الاصليين بالابادة الجماعية كما حدث في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان ، والمخطط الجاري في الحرب الراهنة لنهب أراضي مشروع الجزيرة بعد التهجير والابادة الجماعية لسكان القرى بعد الحرب اللعينة .
كل هذه المخططات تتم في ظل حكومة انقلابية غير شرعية ،فرطت في سيادة البلاد لمصلحة المحاور الاقليمية والدولية. مما يفسر السعي لايجاد تسوية بدعم إقليمي ودولي تكرس هيمنة العسكر والدعم السريع في السلطة وعدم قيام حكم ديمقراطي حقيقي ومجلس تشريعي منتخب، بهدف الاستمرار في نهب ثروات وأراضي البلاد وتهريب عائدات الذهب و المحاصيل النقدية والماشية للخارج، وتكريس احتلال الأراضي السودانية في الفشقة حلايب وشلاتين، الخ.
مما يتطلب حماية السيادة الوطنية ووقف نهب ثروات البلاد، وتوسيع الحراك الجماهيري القاعدي الجاري لوقف الحرب في داخل وخارج البلاد، كما في حراك لجنة المعلمين ، وقوى التغيير الجذري والميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب والجبهة النقابية، الخ، لوقف الحرب ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها في الحكم المدني الديمقراطي كما عبرت في مواثيقها، مما يشكل أساسا لبرنامج مشترك من تلك المواثيق مع احتفاظ كل تحالف وتنظيم باستقلاله، لقيام جبهة جماهيرية قاعدية لوقف الحرب واسترداد الثورة.
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: السیادة الوطنیة فی الحرب
إقرأ أيضاً:
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب.
مرت الخميس الماضي الذكرى السادسة لثورة الـ19 من ديسمبر عام 2018 في السودان. وربما لم يُعدّها ثورة في يومنا قوم حتى من بين مَن قاموا بها قياساً بأعراف فكرية نزعت صفة الثورة عن ثورات سبقت ثورة 2018، في أكتوبر عام 1964 وأبريل عام 1985. فبين الثورة السودانية وعلمها جفاء، إن لم نقُل خصومة. فكانت صفوة من كتابنا تواضعت على نقد خطأ شائع، في رأيهم، وصف الحراكين المذكورين بالثورة. فالثورة في مفهومهم هي التي لا تسقط النظام القديم فحسب، بل تغير ما بنا تغييراً مشهوداً أيضاً. فالثورتان المزعومتان لم تغيرا ما بنا وإن نجحتا في إزالة النظامين اللذين خرجتا لإسقاطهما.
فقال الأكاديمي والعضو المخضرم في الحزب الجمهوري النور حمد إن ثورة أكتوبر ليست “ثورة” لأنها، وإن نجحت في إسقاط نظام الفريق عبود العسكري (1958-1964)، لم تحدث تحولاً جوهرياً مما نُعدّه نقلةً إلى الأمام في الواقع السوداني. فعادت الأحزاب التقليدية التي حكمت قبل الفريق عبود عودة أسوأ مما كانت قبلاً. واستكثر المؤرخ والوزير والدبلوماسي حسن عابدين أن يسمي أكتوبر “ثورة” وقال إنها “انتفاضة” في خفض لمرتبتها لأنها “لم تكُن ثورة، وإنما انتفاضة لأن الصحيح أن تُحدث الثورة تغييراً في نظام الحكم، وفي حركة المجتمع والدولة والثقافة والاقتصاد، وتغييراً في كل شيء، وهذا لم يحدث في أكتوبر”.
وعموماً فالتخليط في علم سياسة الثورة في السودان متفشٍّ. فاشتهر الحراك الذي أسقط نظام الرئيس جعفر نميري عام 1985 بـ “انتفاضة أبريل”، في حين أنها أسقطت نظاماً قديماً مثلها في ذلك مثل “حراك أكتوبر” الذي يسمى “ثورة”. بل يكفي أن مفكراً في مقام الوزير والكاتب منصور خالد وصف أكتوبر بأنها “ثورة” و”لا ثورة” في الكتاب نفسه وعلى مسافة 23 صفحة من الصفتين في كتابه “النخبة السودانية وإدمان الفشل، الجزء الأول”. فقال في الموضع الأول من الكتاب إن أكتوبر “ثورة لا يعادل خطرها سوى مؤتمر الخريجين (1938)” الذي كان طليعة التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني. فهي عنده ثورة لأن قوامها “قوى حديثة مصممة على الانعتاق من ربقة القديم إلى رحاب الجديد وهو انتقال إلى لب السياسة”. ووصفها في الموضع الآخر بأنها ثورة “من باب التبسيط”. فالثورة في قول منصور “صناعة للتاريخ ولها مقومات لم تتوافر في أكتوبر”.
شرط التغيير الجذري
لن يجد المرء سنداً لاشتراط هذه النخبة أن تقوم الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد إسقاط النظام مباشرة وإلا صارت “انتفاضة” في أحسن الأحوال. فالثورة تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. أما التغيير فلا يأتي للتو بعد سقوطه. فهو مما تختلف الآراء فيه وفي سبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. فمن وقف على الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها رأى أن جماعاتها الثورية اختلفت بعد سقوط النظام القديم حول التغيير محلياً وأوروبياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية، وهما العقيدتان من وراء الثورة، تحققتا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يزعم بعض صفوتنا. ويكفي أنه جرى استرداد الملكية التي أسقطتها الثورة نفسها للعرش ثلاث مرات ولم تتوطد عقيدة الجمهورية إلا في ثمانينيات القرن الـ19. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية للمرة الأولى. وتستغرب هذا التباطؤ في العلمانية من ثورة ألغت الدين المسيحي في طورها الباكر واستبدلته بـ”الربوبية” وهي دين يعترف بالرب الذي سرعان ما توارى عن الكون بعد الخلق.
قلَّ أن تتوقف أقلام هذه النخبة عند ما حال دون الثورة والتغيير الذي تكون به أو لا تكون، وكأن امتناع وقوع التغيير عاهة أصل في الثورة لا نتيجة لخلافات حوله بين قوى الثورة نفسها وقوى النظام القديم رجحت فيه كفة النظام القديم. فذكر النور حمد أن ثورة أكتوبر “أُجهِضت” بعد أربعة أشهر فقط من قيامها وأجهزت عليها الانتخابات التي قامت عام 1965، فعادت بها الأحزاب القديمة للحكم كما كانت قبل انقلاب الجيش عليها عام 1958. ولم يتوقف النور أو غيره عند سياسات ذلك الإجهاض للثورة الذي امتنع به التغيير.
صح السؤال هنا، على ضوء عبارة النور عن إجهاض ثورة أكتوبر من دون إحداث التغيير الجذري الذي انتظره، ما كان ذلك التغيير المنتظر؟ وما هي القوى التي تصارعت حوله في الثورة؟
الصراع حول التغيير
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979)، فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة وتعلي النسب على الكسب. وقال عنها إنها تشكل بتصوراتها وممارساتها عقبة كؤوداً في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي، مما يجعلها خصماً للعقلانية والفردية التي هي سمة الطبقة الكسبية الحداثية.
وكانت الديمقراطية هي عظمة النزاع بين الطبقة الإرثية والطبقة الكسبية في ما بعد سقوط الأنظمة بالثورة، فتعاني الطبقة الكسبية حيال هذا المطلب محنة يصفها الأعاجم بـ”كاتش 22″ أي إنها المأزق الذي لا فكاك منه لأن أحواله إما تناقض واحدها مع الآخر، أو وجِدت معاً لا يستغني أحدها عن الآخر. فبينما تطلب الطبقة الكسبية الديمقراطية إلا أنها مدركة في الوقت نفسه أنها لن تحظى بتمثيل ذي معنى في البرلمان لضآلة عددها في المجتمع، قياساً بغزارة الطبقة الإرثية. وقال منصور عن فرط نفوذ هذه الطبقة الإرثية في الريف أنها جعلته “مستودعاً لاستجلاب الناخبين والهتيفة”.
ولا أعرف من سبق إلى تشخيص أزمة هذه الطبقة مع البرلمانية مثل الأكاديمي والوزير محمد هاشم عوض، وفي وقت باكر عام 1968 باستقدامه لمفهوم “البلوتكرسي” إلى طاولة البحث، والمصطلح إغريقي لحكم الأثرياء الوراثي في بلد ما، فدولة الإرث هذه هي ما ساد في النظم البرلمانية عندنا وحال دون الطبقة الكسبية وإطلاق العنان لمشروعها الحداثي. ووصف عوض الحكم في بلدنا بـ”البلوتكرسي” من خلال تحليل اقتصادي واجتماعي نيّر، فنظر إلى عنصر الإرث ومؤسساته في الجماعة الدينية والعشائرية الحزبية، محللاً منازل أهل الحكم عندنا في المجالس النيابية تحليلاً شمل المجلس الاستشاري لشمال السودان (1944) والجمعية التشريعية (1948) والبرلمان الأول والثاني (1954-1958)، فوجدنا دولة للأغنياء سادوا جَامعين تليد النفوذ القبلي والطائفي إلى طريف الجاه والمال.
ونواصل عن الطبقة الكسبية التي لا تريد الديمقراطية ولا تحمل براها.
صورة تذكارية للفصل النهائي لمدرسة الفاشر الثانوية في نحو 1962 ومنه الشهيد أحمد القرشي الذي اشعل مصرعه ثورة أكتوبر مؤشراً عليه بسهم. وبدا في الصورة ناظر المدرسة بربطة العنق الذي أذكر أن قيل أنه أحمد هاشم أبو القاسم الذي كان نائب الناظر في عطبرة الثانوية في نهاية الستينات.
السودان: ثورات تبحث عن علم سياسي (2-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
أفضل مَن شخّص التغيير واصطراع القوى حوله بعد ثوراتنا الثلاث هو منصور خالد في كتابات له بعد ثورة أكتوبر عام 1964 نشرها في كتابه “حوار مع الصفوة” (1979). فالصراع عنده قائم بين بما قد نصطلح عليه بـ”القوى الكسبية” و”القوى الإرثية”. فالقوى الكسبية هي التي اشتهرت بالأفندية وهي طبقة طارئة على المجتمع السوداني أسسها الاستعمار الإنجليزي لأغراضه وتقلدت منزلتها كسباً. وهذا بخلاف الطبقة الإرثية التي قال منصور إنها تليدة وعليها ركائز المجتمع “الوصائي” (الأبوي) في العشائر والطرق الصوفية في الريف بخاصة، وتعلي النسب على الكسب. وقلنا أن الطبقة الكسبية في مأزق: فالديمقراطية هي بيئتها المثالية ولكن الديمقراطية الليبرالية (صوت لكل مواطن مستحق) تحول دونها والتمثيل الفعلي في البرلمان لأن الواحد من الطبقة الإرثية له صوته وأصوات شيعته كلها كما تجري العبارة.
جاءت الطبقة الكسبية بمأزقها مع الديمقراطية إلى ساحة ثورتي 1964 وأبريل 1985، وكان التغيير الجذري الذي طلبته هو إصلاح عميق في البرلمانية يأذن لها بتمثيل مرموق فيها يمكّنها من وضع بصمتها على التشريع صوب الحداثة. فسعت في ذلك الإصلاح إلى “التحايل”، إذا شئت، على مبدأ “صوت واحد للمواطن” الذي يربح منه الإرثيون بينما يكاد يلغي وجود الكسبيين في البرلمان. وكان لب اقتراح طبقة الكسب هو افتراع كليات مهنية وقطاعية انتخابية لها فيها نفوذ مؤكد تكسر به حدة غزارة جمهور الطبقة الإرثية.
فتبنت الطبقة الكسبية، ناظرة لمأزقها السياسي المشاهد، ثلاثة إصلاحات تؤمن بها لنفسها تمثيلاً معتبراً في البرلمان يعوضها قلة نفرها الاقتراعية.
الإصلاح الأول
طالبت هذه القوى مرتين بعد ثورتي 1964 و1985، تطويل المرحلة الانتقالية قبل إجراء الانتخابات للجمعية التأسيسية المنتظرة، فواضح أنهم كانوا يريدون شراء الوقت وهم في “عسى ولعل” أن دروس الثورة والتغيير تنسرب لوعي الجمهور، فيميل ناحيتها ويرجح كفتها في تلك الانتخابات، وكانت الأحزاب التقليدية تريد الفترة الانتقالية “قصيرة وعسل” في عبارة إنجليزية ماتعة. فطمعت الطبقة الكسبية بعد انتفاضة 1985 أن تطول الفترة الانتقالية لخمس سنوات، وكانت حجتهم للتطويل أن البلد بحاجة إليه لإزالة “آثار مايو”، أي حكم نميري الذي جاء بانقلاب في مايو (أيار) عام 1969، ووضع القواعد لسودان ليبرالي موحد. ثم اكتفوا بسنتين للمهمة الانتقالية في مفاوضات صاخبة مع الطبقة الإرثية والمجلس العسكري الانتقالي الذي فرض ولايته على البلاد بعد نجاح الثورة بعزم التدرج بها للحكم الديمقراطي. وقد أرادها المجلس أيضاً قصيرة وعابرة، ثم عادت القوى الحديثة من الغنيمة بعام واحد للفترة المقصودة لإصرار المجلس والقوى التقليدية على تقصير الفترة الانتقالية. وفي ثورة 2018 نجحت هذه القوى بجعل الفترة الانتقالية ثلاث سنوات قابلة للتمديد.
الإصلاح الثاني
وكانت حيلة الطبقة الكسبية الثانية أن يقوموا بإصلاح يؤمن لهم تقلد زمام الفترة الانتقالية وما بعدها، فبعد ثورة أكتوبر نادوا بأن تصبح جبهة الهيئات التي قادت الثورة كياناً دائماً ليؤمن مسار الثورة، ورفضت القوى الإرثية تلك الدعوة ووجهت منسوبيها للتحريض على سحب نقاباتهم من عضويتها. وعام 1985 اقترحوا حكومة ثلاثية التكوين قوامها مجلس وزراء تنتخب النقابات 60 في المئة من عضويته، ويأتي 40 في المئة منه من الأحزاب الإرثية مع حرمان الإخوان المسلمين (الجبهة الإسلامية القومية) من التمثيل فيه جزاء وفاقاً لتعاونهم مع نظام الرئيس نميري حتى قبيل خلعه بقليل، ومجلس منتخب من النقابات بمثابة مجلس تشريعي، إضافة إلى مجلس سيادة، ورفضت القوى الإرثية الخطة بالكلية.
الإصلاح الثالث
وجاءت مشاريع إصلاح النظام الانتخابي للقوى الكسبية متوافقة مع خطتها لاكتساب الغلبة في البرلمان المنتظر غلبةً لا تستحقها بأعدادها القليلة بين السكان، فبعد ثورة أكتوبر 1964 استلهموا تجربة الناصرية فطالبوا بأن تقوم الانتخابات، إلى جانب الأسس الجغرافية، في دوائر مخصصة لمهن الناخبين وقطاعاتهم، وعليه ستكون للعمال والمزارعين والمثقفين دوائر مخصصة. وأذاع الحزب الشيوعي في ديسمبر 1985 مشروعاً لإصلاح الانتخابات جعل للقوى الحديثة 110 مقاعد في برلمان منتظر من 360 مقعداً، وجعل للعمال 35 مقعداً وللمثقفين المهنيين 15 مقعداً. واقترح التحالف النقابي الوطني الذي قاد الانتفاضة في 1985 برلماناً من 225 مقعداً جعل للعمال منها 19 مقعداً. ووقف “الحزب الاتحادي الديمقراطي”، المشكّل من القوى الإرثية، بقوة ضد أي مشروع لتمثيل القوى الحديثة. ولم تقوَ لجنة الانتخابات على بتّ الخلاف الذي نشأ حول المسألة. واجتمعت مع المجلس العسكري الذي رفض فكرة تمثيل هذه القوى بترتيب غير الانتخاب بصوت لكل مواطن.
الثورات والتغيير
إذا كان التغيير الجذري شرط بعض نخبتنا لتسمية الحراك الذي أسقط نظاماً قديماً ثورة، فواضح من عرضنا أن الثورات السودانية لم تخلُ من رؤية للتغيير، أو همة لتنزيله كسياسات للدولة بعد سقوط النظام. فلا يجوز نزع صفة الثورة من ثورات السودان إذا بدا لهؤلاء الكتّاب أنه لم يتغير شيء بعد سقوط النظام، والأحرى بهم تحري الأسباب التي أدت إلى “إجهاض” ذلك التغيير لا قبوله ضمن طبائع الأشياء. فقد كان الصراع حول مشروع التغيير الانتخابي الذي طرحته القوى الكسبية صدامياً، لا كما وصفه الأكاديمي عبدالوهاب الأفندي الذي قال إن حصيلة ثورة أكتوبر، مهما قلنا عنها، تطور طبيعي “في إطار تفاهمات وتنافس نخبة صغيرة تتشارك في الرؤى والمصالح، جرت في جو حميمي أقرب إلى الاسترخاء منه إلى الانفجار”. فيكفي أن القوى الإرثية التي كرهت مشروع القوى الكسبية الانتخابية وغيرها، روعت الخرطوم بتحشيد جماهيرها من الريف في شوارعها في الـ18 من فبراير (شباط) عام 1965 لتُسقط حكومة ثورة أكتوبر الأولى التي غلبت فيها القوى الكسبية على الإرثية. فاستقال سر الختم الخليفة، رئيس الوزراء، ولم يمضِ في الحكم سوى أربعة أشهر، حرصاً، في قوله، “على مصلحة البلاد وسلامتها وعلى تجنيب أبنائها الشقاق والخلاف الحاد”.
اشتراط وقوع التغيير بالثورة ضربة لازب وإلا انتفت عنها صفة الثورة، وجه آخر من وجوه قلة حيلة علم السياسة عندنا في دراسة الصراع في الفكر والممارسة على بينة من صدام الإرادات والمصالح والرؤى. فالثورة التي قصرت دون التغيير في رأي هذا العلم ليست من الثورة في شيء. وهذا الحكم عقوبة وليس تحليلاً ترحل بالمسألة لضبط المصطلح لا لدراسة معينة في ديناميكية إجهاض الثورة.
محمد هاشم عوض كتابه البلوتوكرسي شخص فيه باكراً أزمة الطبقة الكسبية مع الديمقراطية الليبرالية