تفتح الأحداث التي تمرّ بها المنطقة، اليوم، الحديث القديم عن أمن البحر الأحمر. فلا يكاد ينتهي حدث يصوب الأنظار إلى هذه المنطقة حتى يبدأ آخر يبقيها محط أنظار القوى المحلية والإقليمية والدولية.

ولا عجب أن يكون العدوان الصهيوني الجاري على غزّة، وما تبعه من إجراءات اتخذتها جماعة أنصار الله الحوثية تستهدف السفن الإسرائيلية والمتعاملة مع إسرائيل، واحدًا من هذه الأحداث التي تعيد التأكيد على الأهمية الجيوستراتيجية لهذا المعبر البحري الذي يتوسّط العالم، والذي قد يشهد مزيدًا من التصعيد في الأيام القادمة كإحدى ساحات المواجهة الرئيسية كرد على تصاعد الأحداث والاستهدافات الأخيرة، كالاعتداء على ميناء الحديدة في اليمن، أو تدحرج كرة اللهب في لبنان، أو اغتيال إسماعيل هنية في طهران، والعدوان المستمر على غزة، وهو ما قد ينذر بحرب إقليمية واسعة تلوح في الأفق، سيكون البحر الأحمر محورها الأساس.

منذ افتتاح قناة السويس في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1869، لفتت هذه البقعة من العالم أنظار القوى الإقليمية والدولية، وكان لظهور النفط وتجارته عبر البحر الأحمر دور كبير في تعزيز أهميته، إذ هو الممر الموصل إلى أسواق الاستهلاك الأوروبية المتعطشة إلى الطاقة.

وزاد من حدّة الصراع في منطقة البحر الأحمر طبيعتها الجيوبوليتيكية، إذ تتشاطؤُه فيها 8 دول قد تتعارض المصالح فيما بينها، وتكثر مضايقه، مثل: باب المندب، وتيران، وجوبال، وخلجانه مثل: العقبة، والسويس، وتتناثر جزره البالغ عددها 379 جزيرة، وتتنوع موانئه المهمة، مثل: جدة، وينبع، والسويس، وسفاجا، والحديدة، وعصب، ومصوع، والعقبة، وأم الرشراش "إيلات".

كانت الأهمية السياسية للبحر الأحمر هي السبب الرئيسي في جميع الصدامات وتعارض المصالح التي شهدتها دول الإقليم وغيرها. والمؤكد أن الصراع العربي- الإسرائيلي أشعل المنطقة؛ لأنه الأكثر تأثيرًا في تعارض مصالح دول الإقليم. أصبحت المنطقة مع قناة السويس وحركة التجارة العالمية محط أنظار الجميع، مما جعل تحقيق الأمن الجماعي أو الشراكة الإقليمية في التنمية الاقتصادية للدول المتشاطئة أمرًا بالغ الصعوبة، ما زالت تحاول تحقيقه منذ نصف قرن دون نجاح.

الرغبة الصهيونية المحمومة في كسر الاحتكار العربي لهذا البحر، تعدّ أحد أهم أسباب الصراع على أمنه. ولا سيما في ظل غياب حلّ عادل للصراع العربي- الإسرائيلي يحترم معطيات القانون الدولي. بعبارة أخرى، لو كانت هناك حلول تلوح في الأفق لهذا الصراع، لباتَ البحر الأحمر على أعتاب شراكة حقيقية بين دوله.

لكن إسرائيل وسّعت تواجدها فيه عبر إنشاء ميناء إيلات عقب حرب 1948، وحشدت الدعم الغربي لفتح خليج العقبة أمام ملاحة سفنها، وخلقت الخلافات بين دوله لتترجمها إلى صفقات تسليح أو تدريب عسكري، أو للتواجد المادي على أراضيها، وأحيانًا ما تُغير على ما تراه مهددًا لمصالحها.

بطبيعة الحال، هناك مشكلات أقلّ شأنًا، قد يكون بعضها ناتجًا عن تداعيات الصراع العربي- الإسرائيلي، وهي مشكلات نابعة من الأهمية التاريخية للبحر الأحمر كطريق للتجارة وباعتباره منفذًا بحريًا مهمًا.

داخليًا:

خذ على سبيل المثال الصراع متعدد الأشكال على السلطة في اليمن وما يرتبط به من خلافات استدعت تدخل دول الجوار الإقليمي فيه. ومشكلة بناء الأمة في الصومال، منذ الاستقلال عام 1960، ومحاولة شطرها الشمالي المطل على خليج عدن وباب المندب الاعتراف به كدولة مستقلة، وبقاء حركة شباب المجاهدين كعنصر مهدد للاستقرار الداخلي في الصومال. ثم عدم استقرار أوضاع السودان وأزمة بناء الدولة فيه، ومحاولات توظيف ميناء بورتسودان في الخلافات الخاصة بتهميش سكان المشرق.

كل هذه المشكلات الداخلية في الدول المطلة على البحر، تنعكس على أمنه؛ لأن النزاع على السيطرة على هذا البحر يكون أحد مسارات الصراع الداخلي.

بين بلدان الإقليم:

يوجد الخلاف اليمني – الإريتري على جزر حنيش الكبرى وحقوق الصيد حولها. والخلاف اليمني- السعودي على مجمل أوضاع الداخل اليمني وعلى الحدود بين البلدين، ويرتبط ذلك بمحاولات إيران مدّ نفوذها إلى قلب الجزيرة العربية. وهناك الخلاف الإثيوبي- الإريتري الذي تتعدد أسبابه، ومنها محاولة إثيوبيا خلق موطئ قدم على البحر الأحمر. والخلاف الصومالي- الإثيوبي نتيجة التفاف إثيوبيا لخلق منفذ بحري لها عبر التحالف مع جمهورية أرض الصومال. والخلاف الحدودي بين مصر والسودان. وأخيرًا، الخلاف بين مصر وإثيوبيا وهي الدولة الطامحة لاستعادة شاطئ البحر الأحمر؛ بسبب سد النهضة.

كل ما سبق من خلافات تسبب في وجود عدد من القواعد العسكرية الثابتة والمتحركة على شاطئ البحر، وسوق للسلاح الذي يرد بعضه من بلدان في المنطقة وبعضه من خارجها.

فمن داخل المنطقة:

  مصر: قامت مصر بتأسيس الأسطول الجنوبي، ودعمت قاعدة برانيس البحرية، كما تم تسليح البحرية مؤخرًا بعدد من الفرقاطات وغواصات. إسرائيل: حققت تواجدًا دائمًا في أرخبيل دهلك الإريتري وفي ميناء وجبال مصوع وتلال الأرخبيل، وأسست عددًا من محطات التجسس على باب المندب، وهي تقوم بمراقبة موانئ اليمن بالبحر الأحمر، وتقوم بتتبع حركة الطيران العسكري الخليجي فوق اليمن، وتقوم برقابة على موانئ السودان لمواجهة الدعم العسكري الذي يصل للمقاومة الفلسطينية من خلال إيران. وتبيع السلاح الإسرائيلي لأطراف الصراع في الإقليم كدعم إريتريا في مواجهة اليمن، وهي تدعم الحكومة في دولة جنوب السودان أمام معارضيها، وقد قامت مؤخرًا بضرب ميناء الحديدة اليمني في 20 يونيو/حزيران الماضي، وقامت قبل ذلك بضرب السودان لاتهامه بمدّ حماس بالسلاح الإيراني. جيبوتي: تقوم بتأجير أرضها لأطراف متباينة المصالح، حيث تأسَّست القواعد العسكرية الأميركية والفرنسية (بها أيضًا جنود من ألمانيا وإسبانيا) واليابانية والتركية والصينية والإماراتية، ويركز التواجد العسكري الأميركي والغربي عامة هناك على تأمين خطوط النفط بالبحر الأحمر، وضمان حركة التجارة الدولية، والرقابة على حركة الصين التجارية. إريتريا: على نهج جيبوتي، تحاول إريتريا الخروج من أزمتها الاقتصادية عبر تأجير أراضيها المطلة على البحر الأحمر. فإضافة إلى إسرائيل سعت هي الأخرى لجمع الأطراف المختلفة على أراضيها، فجعلت لإيران موطئ قدم.

أما الدول الخارجية، فتتنوع أسباب اهتمامها بالبحر أيضًا، ففيما تهتم الصين بالتواجد العسكري في جيبوتي لضمان خط سير تجارتها، تهتمّ الإمارات بتواجدها عسكريًا في جيبوتي وبربرة وعصب، وتهتم تركيا بالتواجد العسكري متعدد الأشكال في جيبوتي والصومال، وذلك أيضًا بغرض تأمين استثماراتها ومراقبة التحرّكات الإيرانية.

هكذا أصبح البحر الأحمر ومدخله اليوم حافلًا بكل أسباب الصراع، وتتزاحم فيه القوى التي تتضارب مصالحها، ويصبح في كثير من الأحيان ميدان صراع سواء بين الفرقاء المتنافسين في أي من دوله، أو بين واحدة وأخرى من الدول المطلة عليه، وأحيانًا يكون ساحة صراع بين بعض دوله ودول من خارج إقليمه: (إيران وتركيا وإثيوبيا)، ثم هو ميدان لصراعات الدول الكبرى كالولايات المتحدة والصين.

من هنا نواجه السؤال: هل آن الأوان لتلك الشبكة المعقدة من الصراعات وتباين المصالح، أن تتّحد لحفظ أمن البحر الأحمر الذي يعود بالضرورة بالخير على الدول المطلة عليه؟ مبادرات الحل التي ظهرت في العقود الماضية تحطّمت على صخرة الخلافات. وعلى الدول المطلة على هذا البحر أن تدرك أن الأمن الجماعي لإقليم البحر الأحمر يفوق الأمن القُطري. والخلافات واستدعاء السلاح من الخارج لم يصبّا في مصلحة أحد، وجعلا البحر ساحة لمواجهة القوى الكبرى ذاتها.

90.2 ٪ من شاطئ البحر الأحمر عربي. ولو نجحت تلك الدول في تجاوز خلافاتها، سيصبّ ذلك في منحها سويًا قوة كبرى، فيما يضعف الطرف الإسرائيلي. كما سيفتح أمامها أبوابًا للتعاون الاقتصادي يتقاسم ثمرته الجميع. الأمر يحتاج إلى نظرة للبعيد وإنكار للذات، وتفكير في المصلحة الجماعية لدول الإقليم، وحين يتحقق ذلك ستصبح كل واحدة منها أقدر على تجاوز أزماتها الداخليّة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات البحر الأحمر الدول المطلة على البحر

إقرأ أيضاً:

برلماني سابق: حل الدولتين السبيل الوحيد لتحقيق السلام في المنطقة

قال النائب السابق محمد إسماعيل، إن خروج عشرات الآلاف من الشعب المصري إلى معبر رفح هو رسالة قوية للعالم، تؤكد أن المصريين يقفون صفًا واحدًا خلف رئيسهم، ويدعمون حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

كما شدّد في مداخلة هاتفية لبرنامج "خط أحمر" الذي يقدمه الإعلامي محمد موسى على قناة الحدث اليوم،  على أن الحل العادل للقضية الفلسطينية لا يمكن تحقيقه إلا من خلال حل الدولتين، وهو السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار في المنطقة، مشيرًا إلى أن محاولات فرض سياسة الأمر الواقع لن تجلب سوى مزيد من التوتر.

وأوضح إسماعيل أن الأوضاع في غزة كارثية، حيث سقط أكثر من خمسين ألف شهيد، إلى جانب الآلاف من الجرحى وتدمير البنية التحتية، لافتًا إلى أن الحديث عن تهجير الفلسطينيين بعد كل هذا الدمار أمر غير مقبول على الإطلاق. كما أكّد أن مصر لم ولن تتخلى عن موقفها التاريخي الداعم للقضية الفلسطينية، وأن القيادة السياسية تدرك تمامًا أن الحفاظ على حقوق الفلسطينيين هو جزء لا يتجزأ من الحفاظ على الأمن القومي المصري.

 أشاد إسماعيل بجهود الدولة المصرية، ممثلة في قيادتها السياسية وأجهزتها المعنية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة، في إيجاد حلول عادلة للقضية الفلسطينية، معربًا عن أمله في أن تؤدي هذه التحركات إلى إنهاء معاناة الفلسطينيين وتحقيق الاستقرار في المنطقة، تمامًا كما يسعى العالم لحل النزاعات الأخرى، مثل الأزمة الروسية الأوكرانية.

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية يشدد على أهمية الدور الأمريكي لتحقيق تسوية نهائية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي
  • انطلاق رحلات العودة الطوعية من بورتسودان إلى ولاية الجزيرة الاثنين القادم
  • القاهرة تجدد رفضها لأي تواجد عسكري في البحر الأحمر من غير دول “المشاطئة”
  • عاجل - السيسي يؤكد أهمية تأمين البحر الأحمر وباب المندب لضمان استقرار المنطقة
  • المرشح الرئاسي في رومانيا يؤكد أن سياسات كييف تؤجج الصراع
  • الصراع العسكري في السودان … الجهود الدولية لتحقيق العدالة لجنة تقصي الحقائق نموذجا
  • حرب على الكولتان والذهب| كيف يؤثر الصراع بين الكونغو ورواندا على دول المنطقة والعالم؟
  • كيف يؤثر الصراع على المعادن في الكونغو الديمقراطية على دول المنطقة والعالم؟
  • برلماني سابق: حل الدولتين السبيل الوحيد لتحقيق السلام في المنطقة
  • حكاية 77 عامًا من الصراع المصري - الإسرائيلي.. من 1948 حتى اليوم