صحيفة التغيير السودانية:
2024-09-09@03:19:03 GMT

الرواية والأيدولوجيا

تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT

الرواية والأيدولوجيا

 

الرواية والأيدولوجيا

ناصر السيد النور

ربما تنازعت الرِّواية منذ نشأتها التاريخية حزمة من التعريفات النقدية وغيرها بوصفها جنساً أدبياً بفضائها السردي المفتوح. وتأرجح التعَّريف النقدي من التقيد إلى الإطلاق ومن التباين إلى التنوع والمطابقة، إضافة الى عدد من التعريفات النقدية منها والثقافية بما أنها نتاج سردي مستقل.

وما اتساع دائرة التصنيف النقدي إلا دلالة على اتساع دائرة تأثيرها على مستوى الإنتاج الأدبي والمعرفي الإنساني؛ فثمة رواية رومانسية، وتاريخية، وواقعية وإلى آخر التصنيفات النقدية. وقد لا يعني الرواية في شيء مهما تعدَّدت وصفاتها التاريخية أو ربطها – نقدياً – بتيارات وموجات فكرية وفلسفية. وإذ لم تكتف الرَّواية بتصنيفها الفني في قائمة أشكال الكتابة والفنون الإنسانية، فقد حاول الكثيرون صبغها بهوية الانتماءات التي اتخذت من جدولة الأشياء ضمن حدود الهويات القومية؛ ثمة رواية إنكليزية وأخرى روسية وهناك رواية إسبانية في مدار التصور الغربي بنزعته التراتبية والريادية، ومن ثّم تركت لكل رواية يكبتها صاحبها بحسب المكان الذي ينتمي إليه. ثمة تساؤل عن مدى فعالية التجنيس السياسي للأدب؟ ولا يكفي بالطبع تساؤل فليسوف الوجودية جان بول سارتر: ما الأدب؟ ولو أن تساؤله يخدم مذهبه (الوجودي) أكثر من الأدب وإن كان هو الروائي أيضاً.

حزمة من الاصطلاحات

من أبرز ما أحاط بالرواية مفهوم الأيدولوجيا Idéologie ضمن حزمة من الاصطلاحات التي تعود في جذورها إلى معارف وعلوم مجاورة، أو تيارات تزحم الفضاء الثقافي العام. وقد بقيت هذه التوصيفات بالرغم من اختفائها في سياقاتها التاريخية المنتجة لها، وبقيت ملازمة للرواية في الخطاب المتداول النقدي العام. والايدولوجيا مصطلح أو مفهوم في الخطاب السياسي والنقدي وفلسفة الأفكار والعلوم لم يخل من ظلالها حيثما طبقت معاييره النقدية. ويكاد النقد هو ما يتمثل البعد الأيدولوجيي في التنميط والتطبيق المنهجي في الاستناد على خلفية ايدولوجيا تحكم بنيته، وهو خطاب دائماً ما ظلَّ مصدراً وحكماً للقراءة الأيدولوجية بعكس الرواية. وجود الايدولوجيا لا يعني – بالضرورة – رواية ايدولوجية موازية، فالأيدولوجيات أخفقت في انتاج وصياغة تصورات لاستيعاب التجربة الإنسانية المعقدة لاقتصارها على منهج آحادي لا يأخذ برأي الآخر وتقصر الحوار ضمن نسقها المغلق. وعلى اتِّساع التعريف المفاهيمي والمعجمي لمصطلح “الايدولوجيا”، تبقى مجموع نسقيِّة الأفكار والمحددات المفاهيمية أبرز ما يعرفها. ومع صلابة البنية المفاهيمية للرواية التي استقرت في سياقها السردي، بقيت سيولة الايدولوجيا وتداخلها إلى جانب رؤي فلسفية وتيارات فكرية حاولت تفسيرها اتجاهات سياسية بمختلف التوجهات العقائدية. فالبعد التاريخي للأيدولوجيا يضعها في درجة بتعميمها أقل دقة من العلم ولا يكون القياس عليها إلا على محض تعسف.

ثمة فروق جوهرية بين العلم والايدولوجيا، فالعلم كما يقول مؤرخ فلسفة العلوم توماس كون لا ينزع إلى مثالية متصورة، وبخلاف الأيدولوجيا، لا تخلو من غموض ترتسم عليها رؤية طوباوية لا تخفي منطلقاتها المتجلية في الدين والسياسية والمجتمع والمدارس الفكرية المختلفة. إنها المحاولة المستنفدة لطرح رؤية كلية للعالم من خلال أدوات من بينها الأدب وليس حصراً عليه. قد تُّولِّد الرواية عن تناص مع مقولات ايدولوجية تكونها ما يعرف بالخطابات السائدة، وقد ساد فيما بعد، أي إلى ماذا أحالت إليه الايدولوجيا في القراءات النقدية أو التحليلات، والتي تعنى مقاربة النص الادبي (الرواية، والنص).

هوية الخطاب السردي

تحمل الرواية هويتها وتشكل ملامح شخصيتها داخل هذه الهوية (هوية الخطاب السردي)، هي بنية لها خاصيتها structurality من جملة معطيات الخطاب الروائي، فالسرد تكوين وتوحيد لعناصر وموجودات متشكلة من بنى تخييلية كما في الخطاب الروائي أو أفكار قائمة بالصراع كالأيدولوجيات. فالهوية (الشخصية) في الخطاب السردي (الرواية) تشكل أحد التصورات الأنطولوجية متمظهرة سردياً ومعزّزة وجودها المتحقق بأدوات تقاوم في استمرار اختلال نسقها وبنية هويتها. فالعالم في النص (الخطاب السردي) المندرج ضمن صراع الوجود محققاً لهويته في مقابل هويات أخرى. وهي تجسيد تبزغ أزمته من واقعة المستحضرة من مجموع تفاعلات تلقي بنتائجها على الهوية السردية وتشير إلى نقطة اختلاف (صدام) الهوية في مواجهة هوية الآخر، لأن الهوية السردية ليست وسيطاً يحدُّ أو يجرد الهوية الذاتية للشخصيات الروائية، ولكن محاولة لتثبيت تلك الصفات مطابقة لتلك الهوية مع النظم تسود بنية الخطاب الروائي.

فالمسافة بين الايدولوجيا كنسقٍ متصلِّب برؤية أحادية، وبين الرواية النص المتجدَّد في تفاعلاته السردية، تجدد من أدواتها اللغوية وعوالمها التي تنبثق عن احداث في تجدد متسمر. يستتبع هذا التجدد في خصائص الرواية ومعالجاتها المتطورة عن تقنياتها السردية. ومن ناحية أخرى، تهمين الايدولوجيا بخطابها الشمولي، بينما تستند الرواية إلى فضاء مفتوح في أفق التجربة الإنسانية المستمرة. أحدث هذا الجدل على المستوى النقدي التنازع بين نسقين أيديولوجي مستقر، وآخر ثقافي تسهم في انتاجه عوامل تتأسس على لا تتقَّوم – بالضرورة- بالأساس النظري.

شروط الأيدولوجيا

لا بد من التشديد في القول إنَّ الرواية لا تخضع لشروط الأيدولوجيا، ولا تندرج ضمن مفاهيمها النسقية ولا يحد من تكوينها كرواية حضور البعد الأيدولوجي، وإن لم تخل من التمثيل الرمزي للأيدولوجيا وانحيازاتها غير المباشرة. فمتى تكون الرواية رواية “ايدولوجيا”؟ وكيف للأيدلوجيا أن تحتمل تفاعلات الرواية السردية، وتنفلت بالتالي من صيغتها المجردة في تكوين رؤية مغايرة تعبر في شكل آخر دون أن تتناقض مُقوِّضَة لأساسها البنيوي النسقي وتتحول إلى نصٍ سردي مفتوح على تجربة إبداعية كتابية؟ وكما يقول الناقد السعودي سعد البازعي إن الرواية الايدولوجية هي الرواية بوصفها جنساً من الكتابة السردية التي تسعى إلى استيعاب قدر واسع من الشأن الإنساني، بمتغيراته وتعدد شخوصه وأحداثه، وما يستتبع ذلك عادة من تعقيد وتشابك، حرية بأن تنحاز باتجاه أي من ذينك الاتجاهين فتكون أقرب إما إلى الرؤية من ناحية أو إلى الأدلجة، من ناحية أخرى. ويتضَّح من هذا التعريف النقدي بإحاطته المنهجية أن ثمة رواية تؤدلجها الرؤى المسبقة. فالأيدولوجيا تقع ضمن تحيِّزات عدة تؤثر على العملية السردية Narratology وليس بالضرورة أن تأخذ صفة الايدولوجيا من حيث التعريف النقدي. فالرواية ليست جزءاً من بينة الأيدلوجيا، وإن تسربت إليها – قصداً – بعض الروايات لا تعبر عن الايدولوجيا، بل أصبحت خطاباً ايدولوجياً صارخاً، وارتبطت تاريخياً بالمراحل الايدولوجية التي سادت تاريخ العالم الحديث. إن الإشكالية التي تقاربها الرؤية النقدية لموقع الايدولوجيا تكمن في توظيف الرواية بتحميلها وصبغها برؤية ايدولوجية تخدم أهدافاً محددة، وهو ما يتعارض مع الفعل الإبداعي، إذ إن الرؤية الروائية لا تنطلق من مقولات مسبقة كالتي تؤسس لها الايدولوجيا في عمومياتها. كما يقول الناقد الأكاديمي تيري ايغلتون لابد من فهم العلاقة الوثيقة بين النقد والايدولوجيا، فالنقد كما يرى لا يمكنه أخذ نص الصراع الأيديولوجي لتحليله فنياً.

الرواية العربية كان لها حظها من التصنيف على الصبغة السياسية منذ أن عرفت الكتابة العربية الرواية بشكلها ونمطها المستجد على مدونة السرد العربي. وعلى سبيل التقليد أو المجاراة عرفت الرواية العربية أنماطاً مختلفة من الرواية الواقعية والرومانسية والوجودية وغيرها من تيارات غير محددة الملامح بشروط الكتابة الروائية الممارسة أو الإشارات النقدية. ولكن الأيدولوجيا أعمَّ شمولاً من التيارات التي تعتبر فرعاً أو تمثلاً أكثر منها محتوىً جوهرياً.

الأيدولوجيا والرواية العربية

فالرواية العربية على ما عايشته من مرحلة الفوران الايدولوجي في خمسينيات وستينات القرن الماضي تأثرت بما أثارته موجات تيارات أدبية تسيِّدت المناخ المعرفي والأدبي كالواقعية الاشتراكية بظلالها الايدولوجية الكثيفة. الايدولوجيا العربية إن وجدت في كتابات عبد الله العروي قبل ما يزيد على النصف قرن في “الايدولوجيا العربية المعاصرة” وهي كتابات لا تقترب من الرواية بمعناها المفهوم الا بقراءة اللغة والتراث في التصورات النمطية للرواية الايدولوجية نفسها. والايدولوجيا السردية – إن جاز الوصف – تنطلق من اتجاهين: الرواية والنقد، والنقد يمثل الخطاب الذي تحدد من خلال أدواته واستنتاجاته التحليلية هوية الرواية باختلاف مقاييس التصنيف النقدي والذائقة والاستيعاب المعرفي للناقد؛ والرواية بما تعكس من مواقف تتقوم بما بواقع الأحداث وفي مجال أوسع تحيطه به خيال وتأملات وشخصيات يحتويها زمن يستعيدها أو ينتجها الروائي.

يلزم البحث في أفق الأيدولوجيا قراءة الرواية والروايات التي حاولت التعبير ايدولوجياً من منظور نقدي تاريخي ككتابات تأثرت بينيتها السردية بالنمط الأيديولوجي السائد في تعدد الخطابات الأيدولوجية من رؤى اجتماعية داخل علاقات المجتمع وطبقاته، أو مفاهيم ذات نزعة ايدولوجيا سايرت فيها الرواية/الروائيون لإنتاج أعمال سردية توفيقية ما بين الاقتراب والابتعاد من الخطاب الأيديولوجي. وتفضي القراءة الفاحصة للرواية من منظور أيديولوجي إلى الأدب المقارن في جزئية تنفصل عن منهج القراءة المقارنة كما في تحديد.

نقاد ما بعد الاستعمار

منذ نشأتها في محيطها البرجوازي التاريخي لم تكن الرواية الا انعكاساً لحزمة أفكار وقيم تراهن على اتجاهات ايدولوجية حتى وأن كانت تعبيراً غير مباشر لتلك القيم. ووفقاً لتاريخ الرواية النقدي، فإنها لم تسلم من تدخل الرؤى والشروط الايدولوجية. ويختبر هذا الاتجاه في الرواية الغربية الحديثة وكيف أنها حملت معها المركزية الغربية (ايدولوجياً) للآخر في عدد من الأعمال الرواية مما دفع النقاد – نقاد ما بعد الاستعمار – إلى عدها روايات حققت التصور الأكمل للمركزية الغربية في المراحل المبكرة للرواية الغربية كرواية دانيال ديفو روبنسون كروزو، وقلب الظلام لجوزيف كونراد وغيرها فيما تسلسل بعد من روايات اصحبت محط دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار في العلاقة بين الغرب والآخر.

منظرو الرواية من المنظرين والنقاد الكلاسيكيين من أمثال جورج لوكاتش والروسي مخائيل باختين وريموند وليامز، فقد نظروا أيضا للرواية من زوايا ايدولوجية بحسب السياق التاريخي حيث سادت المدارس النقدية تحت مظلة شبح الأيدولوجيات الكبرى Grand Ideologies في مقابل السرديات الكبرى Grand Narratives أو كما يشير الناقد صلاح فضل بأن تفسير هذه العناصر بتحديد جذورها الشخصية والموضوعية؛ أي تقويم الوسائل الأسلوبية باستحضار جذورها الذاتية في شخصية الكاتب من ناحية والشبكة الدلالية الموظفة لها من ناحية أخرى. ومن هنا فإن هذا التقدير الشامل لا يمكن القيام به إلا في مرحلة أدبية معينة أو في نطاق جنس أدبي خاص، محوط بوجهة موضوعية “أيدولوجية” تضفي على هذه المكونات الجمالية طابعها المتماسك.

ما بعد الأيدولوجيا

وبما أن الأيدولوجيا لم تعد جاذبيتها في الدراسات النقدية والسياق الفكري العالمي العام لعوامل تاريخية وأخرى ثقافية سياسية لها نتائجها الحتمية على مسار الأفكار. فقد تخطت دراسات الحقول الثقافية والنقد الثقافي لما بعد الحداثة. وبالتالي أصبحت الرواية في موجتها الجديدة – ما بعد الايدولوجيا – مناهضة للأيدولوجيا نفسها. ولأنها، أي الايدولوجيا تعلو على الواقع بمهيمنتها الناموسية، وصارعت الرواية في التخلص من قيِّودها ومؤثراتها الخارجية ومنها بطبيعية الحال (الايدولوجيا). ومع ذلك تبقى ايدولوجيا الرواية تاريخ الرواية وجزء من مكونات مراحلها التطورية دون أن تكون تحدَّ من مكوناتها الجمالية؛ فقد توقفت الايدولوجيا بمفهومها التاريخي واستمرت الرواية في تجديد فضاءاتها السردية.

 

 

الوسومالايدولوجيا الرواية الرواية العربية ما بعد الاستعمار

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الرواية الرواية العربية ما بعد الاستعمار

إقرأ أيضاً:

سياسة ستارمر التي نجحت في توحيد الإسرائيليين والفلسطينيين

ترجمة: أحمد شافعي -

هل تقترب جائزة نوبل السلام من كير ستارمر قبل الأوان؟ هل بوسع رئيس الوزراء البريطاني الجديد أن يتجاوز إنجاز باراك أوباما الذي اقتنص الجائزة ولم يمض على توليه السلطة 10 شهور؟ يثار هذا السؤال لأن حكومة حزب العمال نجحت في مهمة ظن الكثيرون أنها مستحيلة، وهي توحيد الجانبين فيما قد يكون أكثر صراعات العالم مرارة. إذ استطاعت حكومة العمال هذا الأسبوع أن تقود أجهر أنصار إسرائيل صوتا وأبرز المدافعين عن الفلسطينيين إلى موقف اتفاق نادر. لولا مشكلة واحدة، هي أن المشترك بين الفريقين لم يكن إلا غضبهما المشترك على حكومة المملكة المتحدة.

حدثت نقطة التلاقي بسب تعليق بريطانيا ثلاثين من تراخيص تصدير الأسلحة لإسرائيل، وهو قرار اتخذته الحكومة بعد أن رأت «خطرا واضحا» من احتمال أن تستعمل المعدات المبيعة ـ وهي طائرات حربية ومروحيات ومسيرات ومعدات استهداف ـ في انتهاكات للقانون الإنساني الدولي.

بالنسبة لأحد الجانبين كان التوقيت من العوامل التي أدت إلى تعميق الإساءة. ففي اللحظة التي صدر فيها الإعلان عن مجلس العموم البريطاني، كانوا يدفنون موتاهم في القدس. وحينما كان وزير الخارجية واقفا على قدميه، كان والدان ـ على بعد آلاف قليلة من الأميال ـ يودعان ابنهما الشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، مع خمس رهائن آخرين، قُتلوا في نفق بغزة قبل أيام قليلة.

ذلك التزامن وحده، الذي تجسد في الشاشة المنقسمة، هو السبب فيما تعرضت له حكومة حزب العمال من هجوم. إذ وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي الخطوة بـ«المخزية»، وقال كبير الحاخامات في بريطانيا إنها خطوة «تستعصي على التصديق». وانتهز رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون الفرصة فتساءل إن كان لامي وستارمر «يريدان أن تنتصر حماس».

افترض كثير من أولئك المنتقدين أن حكومة العمال تتصرف بوازع من حسابات سياسية، غايتها هي استمالة اليسار الذي أغضبته حرب إسرائيل على حماس طوال قرابة العام، بعد أن أظهر اليسار عضلاته في الانتخابات العامة، إذ استولى المرشحون المستقلون الموالون لغزة على حفنة مقاعد من حزب العمال واقتربوا من ذلك في العديد من المقاعد الأخرى. ولو أن ذلك كان الهدف، فقد فشل فشلا ذريعا. لأن ذلك المعسكر بلغ من لذوعة الإدانة مثل ما بلغه المعسكر المناظر في الجانب الآخر، إذ أدان الحكومة لأنها بهذه الخطوة لم تفعل غير أقل القليل، تاركة نحو ثلاثمائة وعشرين ترخيصا دونما مساس بها. ووصفت منظمة العفو الدولية قرار السماح باستمرار إمداد إسرائيل بقطع غيار طائرات إف 35 المقاتلة ـ ولو بشكل غير مباشر ـ بـ«القرار الكارثي»، في حين وصفت «حملة مناهضة تجارة الأسلحة» القرار بـ«الشائن وغير المبرر».

كيف انتهت هذه الحكومة إلى هذه النقطة، ملومة من الطرفين؟ تنبئنا الإجابة بشيء مهم عن كل من هذه الحكومة الجديدة وكيف أن أمثالها من الإدارات في العالم مما يتألف من أحزاب يسار الوسط تجاهد بمشقة غير مسبوقة النظير للتحرك عبر تضاريس الصراع الإسرائيلي الفلسطيني دائمة الخطورة في هذا الطور الأخير من حكم نتنياهو.

سيجد من يتحدث إلى المقربين من عملية صنع القرار في الحكومة أنهم مصرون على أن كل الحديث عن الإشارات والتبادلات السياسية إنما هو حديث في غير موضعه، وإن الأمر لا يتعلق بالفاعلين السياسيين إذ يلتقون ويدبرون كيفية إدارة حزب العمال لائتلاف انتخابي، ولكنه أمر أكثر مباشرة من ذلك، فهو بالأساس عملية قانونية يقودها مسؤولون ويديرونها على النحو الصحيح.

وفقا لهذه الرواية، لم يكن هناك قرار أصلا ليتخذ. ثمة سياسة قائمة، سياسة أسبق من هذه الحكومة، والوزراء مرغمون على اتباعها. وفي جوهر هذه السياسة «تحليل قانوني محض» هو الذي يؤدي ـ في حالة إشارته الواضحة إلى مخاطرة جلية باستعمال هذا العنصر أو ذلك في انتهاك القانون الإنساني الدولي ـ إلى ألا يبقى أمام الوزراء خيار إلا تعليق ترخيص بيع ذلك العنصر.

وفقا لهذه الرواية، كان عدد التراخيص المعلقة مسألة تقنية أيضا. فهو لم يكن نتيجة لاختيار لامي رقما عشوائيا، مرتفعا بالقدر الذي ينبه إسرائيل، ومنخفضا بالقدر الذي يجتنب صدعا دبلوماسيا. ولكنه رقم توصل إليه تقدير المسؤولين للأجزاء الدقيقة من المعدات التي قد تتصادم مع القانون الإنساني الدولي ولا تشملها أي استثناءات قائمة. أما عن التوقيت، فالحكومة تقول إن ذلك لم يكن أكثر من مسألة تتعلق باتباع القواعد: ففور اتخاذ القرار، كان لا بد من إعلام البرلمان به عند أول فرصة تسنح لذلك، أي يوم الاثنين. والنتيجة غضب في كل اتجاه.

وحتى الذين يدعمون القرار يسلّمون بأن التوقيت كان شنيعا. صحيح أنه ما من يوم مناسب لإعلان كذلك، فمنذ السابع من أكتوبر لم تمض إلا أيام قليلة دون أن يدفن أب ـ إسرائيلي أو فلسطيني ـ ابنا له فيها. لكن جنائز يوم الاثنين كانت لحظة توتر خاص، وذلك جزئيا لأن أحد الذين لقوا مصرعهم، وهو هيرش جولدبرج بولين، صار له موضع خاص لا بالنسبة لإسرائيل وحدها وإنما بالنسبة لليهود في العالم كله.

ويرجع بعض أسباب هذا إلى أن والدي هيرش أقاما حملتهما العالمية من أجل إنقاذه باللغة الإنجليزية، ويرجع أيضا إلى أن الأبوين أصرا دائما، وبصورة استثنائية، على ألا يقصرا حديثهما على ألمهما، وإنما شملا آلام الثكلى من الفلسطينيين في غزة أيضا. وقد تكلم والد هيرش في مؤتمر الحزب الديمقراطي الأمريكي بشيكاغو الشهر الماضي عن «فائض الألم» لدى الإسرائيليين والفلسطينيين قائلا إن المتاح منه يكفي الجميع.

ولذلك كان إعلان هذه الإجراءات بينما يسجى جثمان هيرش تحت التراب أمرا لا يمكن أن يمر مرور الكرام، شأنه شأن غضب الغاضبين لمقتل أربعين ألفا في غزة الذي ما كان له أبدا أن يهدأ بتعليق محض عُشر تراخيص الأسلحة البريطانية لإسرائيل. صحيح أنه كان ثمة داع إضافي للعجلة يتمثل في أن نظام مبيعات الأسلحة البريطانية لإسرائيل كان مقررا أن تنظره المحكمة في يوم الثلاثاء التالي مباشرة، وهي مواجهة قانونية كان يرجح أن تخسرها الحكومة ما لم تسبق المحكمة بالتحرك. لكن من المؤكد أنه كان يمكن القيام بذلك في ساعة مختلفة.

ومع ذلك، لا ينبغي لشيء من ذلك كله أن يلهينا عن النقطة الرئيسية في الموضوع. لدينا الآن حكومة تتعامل مع القانون بجدية، ولا تمن على نفسها ـ شأن الحكومة السابقة ـ بمساحة للمناورة حين تنعدم المساحة للمناورة. ولا شك أن هذا الأمر يتم تحديده من القمة، على يد قانوني جاد يؤمن بأن سيادة القانون تعلو على ما عداها. وهذا جدير بالإعجاب.

غير أنه لم يؤد إلى كثير من الإعجاب. وذلك أحدث دليل على مدى الصعوبة التي باتت تواجه ساسة يسار الوسط من أمثال لامي وستارمر حيال التعامل مع القضية الإسرائيلية الفلسطينية التي لم تكن يسيرة قط. واقرأوا خطاب وزير الخارجية أمام مجلس العموم لتروا بأعينكم كفاحه لكي يؤكد أنه يريد الخير للشعبين. فقد قال إن الهدف هو «الأمن، والسلامة، والسيادة لكل من إسرائيل ودولة فلسطينية». ووجهت كامالا هاريس رسالة مماثلة في شيكاغو: دعم لا يتزعزع لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها مع مطالبة «بأن يتسنى للشعب الفلسطيني أن يدرك حقه في الكرامة والأمن والحرية وتقرير المصير».

لقد مر وقت كان بوسع الحكومات الإسرائيلية فيه أن توافق على مثل هذه التصريحات المتوازنة. وبرغم كل الإدانات الصادرة عن مؤسسات رسمية لا يزال كثير إن لم يكن جميع يهود الشتات في بريطانيا وغيرها يتبنون هذه التصريحات. حتى نتنياهو نفسه كان في وقت ما يتقبلها على مضض، وذلك قديما حينما كان يشعر أنه مضطر لادعاء دعم حل الدولتين. لكن قلب حكومته النابض اليوم هما اليمينيان المتطرفان الوحشيان إيتامار بن جيفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذان يريان أن الدور الوحيد للفلسطينيين هو أن ينزاحوا من طريقهما. وفي هذا الواقع، يكون أي تنازل لاحتياجات الطرف الآخر، حتى حينما يفرضه القانون، بمثابة الخطر أو التهديد، بل والخيانة.

وهذا لا يمثل صعوبة كبيرة للساسة اليمينيين القوميين. فبوسع دونالد ترامب أن يميل بثقله إلى أحد الجانبين، أي إسرائيل، ويتظاهر أن الطرف الآخر ليس له وجود. أما أمثال ستارمر وهاريس، فالأمر أصعب بلا حدود، ومؤلم ألما لا نظير له.

جوناثان فريدلاند من كتاب الرأي في جارديان.

مقالات مشابهة