صحيفة التغيير السودانية:
2025-02-07@01:57:09 GMT

الرواية والأيدولوجيا

تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT

الرواية والأيدولوجيا

 

الرواية والأيدولوجيا

ناصر السيد النور

ربما تنازعت الرِّواية منذ نشأتها التاريخية حزمة من التعريفات النقدية وغيرها بوصفها جنساً أدبياً بفضائها السردي المفتوح. وتأرجح التعَّريف النقدي من التقيد إلى الإطلاق ومن التباين إلى التنوع والمطابقة، إضافة الى عدد من التعريفات النقدية منها والثقافية بما أنها نتاج سردي مستقل.

وما اتساع دائرة التصنيف النقدي إلا دلالة على اتساع دائرة تأثيرها على مستوى الإنتاج الأدبي والمعرفي الإنساني؛ فثمة رواية رومانسية، وتاريخية، وواقعية وإلى آخر التصنيفات النقدية. وقد لا يعني الرواية في شيء مهما تعدَّدت وصفاتها التاريخية أو ربطها – نقدياً – بتيارات وموجات فكرية وفلسفية. وإذ لم تكتف الرَّواية بتصنيفها الفني في قائمة أشكال الكتابة والفنون الإنسانية، فقد حاول الكثيرون صبغها بهوية الانتماءات التي اتخذت من جدولة الأشياء ضمن حدود الهويات القومية؛ ثمة رواية إنكليزية وأخرى روسية وهناك رواية إسبانية في مدار التصور الغربي بنزعته التراتبية والريادية، ومن ثّم تركت لكل رواية يكبتها صاحبها بحسب المكان الذي ينتمي إليه. ثمة تساؤل عن مدى فعالية التجنيس السياسي للأدب؟ ولا يكفي بالطبع تساؤل فليسوف الوجودية جان بول سارتر: ما الأدب؟ ولو أن تساؤله يخدم مذهبه (الوجودي) أكثر من الأدب وإن كان هو الروائي أيضاً.

حزمة من الاصطلاحات

من أبرز ما أحاط بالرواية مفهوم الأيدولوجيا Idéologie ضمن حزمة من الاصطلاحات التي تعود في جذورها إلى معارف وعلوم مجاورة، أو تيارات تزحم الفضاء الثقافي العام. وقد بقيت هذه التوصيفات بالرغم من اختفائها في سياقاتها التاريخية المنتجة لها، وبقيت ملازمة للرواية في الخطاب المتداول النقدي العام. والايدولوجيا مصطلح أو مفهوم في الخطاب السياسي والنقدي وفلسفة الأفكار والعلوم لم يخل من ظلالها حيثما طبقت معاييره النقدية. ويكاد النقد هو ما يتمثل البعد الأيدولوجيي في التنميط والتطبيق المنهجي في الاستناد على خلفية ايدولوجيا تحكم بنيته، وهو خطاب دائماً ما ظلَّ مصدراً وحكماً للقراءة الأيدولوجية بعكس الرواية. وجود الايدولوجيا لا يعني – بالضرورة – رواية ايدولوجية موازية، فالأيدولوجيات أخفقت في انتاج وصياغة تصورات لاستيعاب التجربة الإنسانية المعقدة لاقتصارها على منهج آحادي لا يأخذ برأي الآخر وتقصر الحوار ضمن نسقها المغلق. وعلى اتِّساع التعريف المفاهيمي والمعجمي لمصطلح “الايدولوجيا”، تبقى مجموع نسقيِّة الأفكار والمحددات المفاهيمية أبرز ما يعرفها. ومع صلابة البنية المفاهيمية للرواية التي استقرت في سياقها السردي، بقيت سيولة الايدولوجيا وتداخلها إلى جانب رؤي فلسفية وتيارات فكرية حاولت تفسيرها اتجاهات سياسية بمختلف التوجهات العقائدية. فالبعد التاريخي للأيدولوجيا يضعها في درجة بتعميمها أقل دقة من العلم ولا يكون القياس عليها إلا على محض تعسف.

ثمة فروق جوهرية بين العلم والايدولوجيا، فالعلم كما يقول مؤرخ فلسفة العلوم توماس كون لا ينزع إلى مثالية متصورة، وبخلاف الأيدولوجيا، لا تخلو من غموض ترتسم عليها رؤية طوباوية لا تخفي منطلقاتها المتجلية في الدين والسياسية والمجتمع والمدارس الفكرية المختلفة. إنها المحاولة المستنفدة لطرح رؤية كلية للعالم من خلال أدوات من بينها الأدب وليس حصراً عليه. قد تُّولِّد الرواية عن تناص مع مقولات ايدولوجية تكونها ما يعرف بالخطابات السائدة، وقد ساد فيما بعد، أي إلى ماذا أحالت إليه الايدولوجيا في القراءات النقدية أو التحليلات، والتي تعنى مقاربة النص الادبي (الرواية، والنص).

هوية الخطاب السردي

تحمل الرواية هويتها وتشكل ملامح شخصيتها داخل هذه الهوية (هوية الخطاب السردي)، هي بنية لها خاصيتها structurality من جملة معطيات الخطاب الروائي، فالسرد تكوين وتوحيد لعناصر وموجودات متشكلة من بنى تخييلية كما في الخطاب الروائي أو أفكار قائمة بالصراع كالأيدولوجيات. فالهوية (الشخصية) في الخطاب السردي (الرواية) تشكل أحد التصورات الأنطولوجية متمظهرة سردياً ومعزّزة وجودها المتحقق بأدوات تقاوم في استمرار اختلال نسقها وبنية هويتها. فالعالم في النص (الخطاب السردي) المندرج ضمن صراع الوجود محققاً لهويته في مقابل هويات أخرى. وهي تجسيد تبزغ أزمته من واقعة المستحضرة من مجموع تفاعلات تلقي بنتائجها على الهوية السردية وتشير إلى نقطة اختلاف (صدام) الهوية في مواجهة هوية الآخر، لأن الهوية السردية ليست وسيطاً يحدُّ أو يجرد الهوية الذاتية للشخصيات الروائية، ولكن محاولة لتثبيت تلك الصفات مطابقة لتلك الهوية مع النظم تسود بنية الخطاب الروائي.

فالمسافة بين الايدولوجيا كنسقٍ متصلِّب برؤية أحادية، وبين الرواية النص المتجدَّد في تفاعلاته السردية، تجدد من أدواتها اللغوية وعوالمها التي تنبثق عن احداث في تجدد متسمر. يستتبع هذا التجدد في خصائص الرواية ومعالجاتها المتطورة عن تقنياتها السردية. ومن ناحية أخرى، تهمين الايدولوجيا بخطابها الشمولي، بينما تستند الرواية إلى فضاء مفتوح في أفق التجربة الإنسانية المستمرة. أحدث هذا الجدل على المستوى النقدي التنازع بين نسقين أيديولوجي مستقر، وآخر ثقافي تسهم في انتاجه عوامل تتأسس على لا تتقَّوم – بالضرورة- بالأساس النظري.

شروط الأيدولوجيا

لا بد من التشديد في القول إنَّ الرواية لا تخضع لشروط الأيدولوجيا، ولا تندرج ضمن مفاهيمها النسقية ولا يحد من تكوينها كرواية حضور البعد الأيدولوجي، وإن لم تخل من التمثيل الرمزي للأيدولوجيا وانحيازاتها غير المباشرة. فمتى تكون الرواية رواية “ايدولوجيا”؟ وكيف للأيدلوجيا أن تحتمل تفاعلات الرواية السردية، وتنفلت بالتالي من صيغتها المجردة في تكوين رؤية مغايرة تعبر في شكل آخر دون أن تتناقض مُقوِّضَة لأساسها البنيوي النسقي وتتحول إلى نصٍ سردي مفتوح على تجربة إبداعية كتابية؟ وكما يقول الناقد السعودي سعد البازعي إن الرواية الايدولوجية هي الرواية بوصفها جنساً من الكتابة السردية التي تسعى إلى استيعاب قدر واسع من الشأن الإنساني، بمتغيراته وتعدد شخوصه وأحداثه، وما يستتبع ذلك عادة من تعقيد وتشابك، حرية بأن تنحاز باتجاه أي من ذينك الاتجاهين فتكون أقرب إما إلى الرؤية من ناحية أو إلى الأدلجة، من ناحية أخرى. ويتضَّح من هذا التعريف النقدي بإحاطته المنهجية أن ثمة رواية تؤدلجها الرؤى المسبقة. فالأيدولوجيا تقع ضمن تحيِّزات عدة تؤثر على العملية السردية Narratology وليس بالضرورة أن تأخذ صفة الايدولوجيا من حيث التعريف النقدي. فالرواية ليست جزءاً من بينة الأيدلوجيا، وإن تسربت إليها – قصداً – بعض الروايات لا تعبر عن الايدولوجيا، بل أصبحت خطاباً ايدولوجياً صارخاً، وارتبطت تاريخياً بالمراحل الايدولوجية التي سادت تاريخ العالم الحديث. إن الإشكالية التي تقاربها الرؤية النقدية لموقع الايدولوجيا تكمن في توظيف الرواية بتحميلها وصبغها برؤية ايدولوجية تخدم أهدافاً محددة، وهو ما يتعارض مع الفعل الإبداعي، إذ إن الرؤية الروائية لا تنطلق من مقولات مسبقة كالتي تؤسس لها الايدولوجيا في عمومياتها. كما يقول الناقد الأكاديمي تيري ايغلتون لابد من فهم العلاقة الوثيقة بين النقد والايدولوجيا، فالنقد كما يرى لا يمكنه أخذ نص الصراع الأيديولوجي لتحليله فنياً.

الرواية العربية كان لها حظها من التصنيف على الصبغة السياسية منذ أن عرفت الكتابة العربية الرواية بشكلها ونمطها المستجد على مدونة السرد العربي. وعلى سبيل التقليد أو المجاراة عرفت الرواية العربية أنماطاً مختلفة من الرواية الواقعية والرومانسية والوجودية وغيرها من تيارات غير محددة الملامح بشروط الكتابة الروائية الممارسة أو الإشارات النقدية. ولكن الأيدولوجيا أعمَّ شمولاً من التيارات التي تعتبر فرعاً أو تمثلاً أكثر منها محتوىً جوهرياً.

الأيدولوجيا والرواية العربية

فالرواية العربية على ما عايشته من مرحلة الفوران الايدولوجي في خمسينيات وستينات القرن الماضي تأثرت بما أثارته موجات تيارات أدبية تسيِّدت المناخ المعرفي والأدبي كالواقعية الاشتراكية بظلالها الايدولوجية الكثيفة. الايدولوجيا العربية إن وجدت في كتابات عبد الله العروي قبل ما يزيد على النصف قرن في “الايدولوجيا العربية المعاصرة” وهي كتابات لا تقترب من الرواية بمعناها المفهوم الا بقراءة اللغة والتراث في التصورات النمطية للرواية الايدولوجية نفسها. والايدولوجيا السردية – إن جاز الوصف – تنطلق من اتجاهين: الرواية والنقد، والنقد يمثل الخطاب الذي تحدد من خلال أدواته واستنتاجاته التحليلية هوية الرواية باختلاف مقاييس التصنيف النقدي والذائقة والاستيعاب المعرفي للناقد؛ والرواية بما تعكس من مواقف تتقوم بما بواقع الأحداث وفي مجال أوسع تحيطه به خيال وتأملات وشخصيات يحتويها زمن يستعيدها أو ينتجها الروائي.

يلزم البحث في أفق الأيدولوجيا قراءة الرواية والروايات التي حاولت التعبير ايدولوجياً من منظور نقدي تاريخي ككتابات تأثرت بينيتها السردية بالنمط الأيديولوجي السائد في تعدد الخطابات الأيدولوجية من رؤى اجتماعية داخل علاقات المجتمع وطبقاته، أو مفاهيم ذات نزعة ايدولوجيا سايرت فيها الرواية/الروائيون لإنتاج أعمال سردية توفيقية ما بين الاقتراب والابتعاد من الخطاب الأيديولوجي. وتفضي القراءة الفاحصة للرواية من منظور أيديولوجي إلى الأدب المقارن في جزئية تنفصل عن منهج القراءة المقارنة كما في تحديد.

نقاد ما بعد الاستعمار

منذ نشأتها في محيطها البرجوازي التاريخي لم تكن الرواية الا انعكاساً لحزمة أفكار وقيم تراهن على اتجاهات ايدولوجية حتى وأن كانت تعبيراً غير مباشر لتلك القيم. ووفقاً لتاريخ الرواية النقدي، فإنها لم تسلم من تدخل الرؤى والشروط الايدولوجية. ويختبر هذا الاتجاه في الرواية الغربية الحديثة وكيف أنها حملت معها المركزية الغربية (ايدولوجياً) للآخر في عدد من الأعمال الرواية مما دفع النقاد – نقاد ما بعد الاستعمار – إلى عدها روايات حققت التصور الأكمل للمركزية الغربية في المراحل المبكرة للرواية الغربية كرواية دانيال ديفو روبنسون كروزو، وقلب الظلام لجوزيف كونراد وغيرها فيما تسلسل بعد من روايات اصحبت محط دراسات مدرسة ما بعد الاستعمار في العلاقة بين الغرب والآخر.

منظرو الرواية من المنظرين والنقاد الكلاسيكيين من أمثال جورج لوكاتش والروسي مخائيل باختين وريموند وليامز، فقد نظروا أيضا للرواية من زوايا ايدولوجية بحسب السياق التاريخي حيث سادت المدارس النقدية تحت مظلة شبح الأيدولوجيات الكبرى Grand Ideologies في مقابل السرديات الكبرى Grand Narratives أو كما يشير الناقد صلاح فضل بأن تفسير هذه العناصر بتحديد جذورها الشخصية والموضوعية؛ أي تقويم الوسائل الأسلوبية باستحضار جذورها الذاتية في شخصية الكاتب من ناحية والشبكة الدلالية الموظفة لها من ناحية أخرى. ومن هنا فإن هذا التقدير الشامل لا يمكن القيام به إلا في مرحلة أدبية معينة أو في نطاق جنس أدبي خاص، محوط بوجهة موضوعية “أيدولوجية” تضفي على هذه المكونات الجمالية طابعها المتماسك.

ما بعد الأيدولوجيا

وبما أن الأيدولوجيا لم تعد جاذبيتها في الدراسات النقدية والسياق الفكري العالمي العام لعوامل تاريخية وأخرى ثقافية سياسية لها نتائجها الحتمية على مسار الأفكار. فقد تخطت دراسات الحقول الثقافية والنقد الثقافي لما بعد الحداثة. وبالتالي أصبحت الرواية في موجتها الجديدة – ما بعد الايدولوجيا – مناهضة للأيدولوجيا نفسها. ولأنها، أي الايدولوجيا تعلو على الواقع بمهيمنتها الناموسية، وصارعت الرواية في التخلص من قيِّودها ومؤثراتها الخارجية ومنها بطبيعية الحال (الايدولوجيا). ومع ذلك تبقى ايدولوجيا الرواية تاريخ الرواية وجزء من مكونات مراحلها التطورية دون أن تكون تحدَّ من مكوناتها الجمالية؛ فقد توقفت الايدولوجيا بمفهومها التاريخي واستمرت الرواية في تجديد فضاءاتها السردية.

 

 

الوسومالايدولوجيا الرواية الرواية العربية ما بعد الاستعمار

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الرواية الرواية العربية ما بعد الاستعمار

إقرأ أيضاً:

دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة

ما من مدينة أكثر أهمية إذا أردنا قراءة سمات النهوض والتطور من العاصمة السورية دمشق، فقد بقيت تستقطب على الدوام اهتمام الآخر، وعندما يتطلع المرء إليها فإنه يتطلع في الحقيقة إلى أصول الدنيا.

ويُجمع المؤرخون على أن الحياة دبت في دمشق وتواصلت دون انقطاع منذ الألف الثاني قبل الميلاد وازدهرت وتطورت، وأصبحت ملتقى القوافل التجارية الآتية من الجزيرة العربية وأفريقيا الشرقية والأناضول وآسيا الوسطى ومفترق الطرق القادمة من الهند والصين ومحطة رئيسية على طريق الحرير القديم.

وأسهم تعاقب الحضارات على أرضها في تنامي المظاهر الاجتماعية وتعدد دور العبادة وتطور نموذج السلطة الحاكمة، وعبّرت جميعها عن وجود شكل مبكر لحياة مدنية ذات بعد إنساني وصبغة روحانية اشتهرت بها المنطقة.

ومثلما سمحت قدراتها على لعب أدوار متقدمة كمدينة مركز وعاصمة قومية باتت في فترات مختلفة مسرحا لتجاذبات أممية على جانب من الأهمية جعلتها تخضع لامتحانات صعبة في الحرب والسلام دفعت أثمانها غاليا، لكنها نجحت في تجاوز تحدياتها مع مرور الوقت.

ومع ذلك، لم تكن دمشق بمنأى عن لعبة الموت على مر العصور، فقد تعمدت بالدم منذ آماد بعيدة، كما تعرضت للخراب والدمار مرات عديدة، واختفت ورودها وأزهارها، وتعفر ربيعها بسنابك خيول ملوك بيزنطة وقواد الحملات الصليبية ومصفحات ومدافع الجيوش الفرنسية، وأخيرا بدبابات البعث وطائرات وصواريخ عائلة الأسد التي حكمت سوريا منذ عام 1970 حتى سقوطها في ديسمبر/كانون الأول 2024.

إعلان مدينة مليئة بالمسرات والمتع

ارتبطت دمشق طبيعيا بنهر بردى الذي ينبع من سهول الزبداني على بعد 50 كيلومترا من المركز، وقد ألهبت مياهه التي تسقي ما يصطف على ضفتيه من بساتين مشاعر الكثير من أدباء الغرب ومستشرقيه ممن زاروها.

وطوقتها بساتين وهضاب طبيعية، وأضافت إليها الحدائق وأفرع النهر مشهدا خلابا، مما دفع المؤرخ الطبري إلى أن يعتبرها أحد الأماكن الأربعة في العالم المليئة بالمسرات والمتع، في حين نظر إليها الفرنسي بيير ديلفيل هيلبير كمعجزة، ومعجزتها في الغوطة، هذه الواحة الواسعة والملاذ الظليل.

روح الشرق

دخلت المسيحية دمشق في زمن بولس الرسول، وبحسب سفر أعمال الرسل دُعي المؤمنون بالمسيح، مسيحيون لأول مرة في أنطاكيا عاصمة البلاد آنذاك، وأقام في مدنها عدد من الرسل الـ70 الذين عينهم يسوع بحسب إنجيل لوقا، وكان من أبرزهم حنانيا الذي غدا أسقف دمشق.

وفي أواخر العقد الرابع من القرن السادس الميلادي وصلها الإسلام على يد أبي عبيدة بن الجراح، وعيّن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان واليا عليها، وعقب وفاته حل مكانه معاوية، وخلال فترة وجيزة انفردت دمشق بقيادة الدولة الإسلامية، وأصبحت عاصمة إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت حدودها من جنوب الصين إلى إسبانيا والجنوب الفرنسي.

وسوف يمنحك تجاور المساجد والكنائس في الحواري القديمة وتمازج أصوات الأذان الشجية من شرفات المآذن مع أصوات أجراس النواقيس بإيقاعاتها المؤثرة انطباعا قويا عن عاصمة بقيت وفية لتقاليدها رغم تطورها المدني والحداثي.

فقد حافظت الشام على التآخي وأصول العيش المشترك بين أديان ومذاهب احتضنت بعضها البعض ضمن نسيج متماسك، خيط من أصول واحدة.

وتماهت العلاقة بين المسيحية والإسلام داخل أحياء وحارات متعددة، لم تكن تفرق في يوم من الأيام بين دين وآخر، ليس فقط على مستوى الجوار، بل على مستوى السلطة والحياة السياسية الوطنية في البلاد.

إعلان

وفي هذا الصدد، تروي الصحفية الفرنسية أليس بوللو في يومياتها كيف حاول الفرنسيون إحداث شرخ بين السكان المسلمين وجيرانهم المسيحيين أثناء ثورة عام 1925 عبر بث الإشاعات لإحداث صدع داخل الجبهة المدنية الدمشقية، قائلة "وعلى الفور تلقى غبطة بطريرك الروم الأرثوذكس كتابا من قيادة الثورة يطمئنه بعدم صحة الإشاعات، ويتعهد له على لسان سلطان باشا الأطرش قائد الثورة بأن لا خوف ولا خطر على المسيحيين من الثورة الوطنية، فهي لا تقصد إيذاءهم أو ترمي إلى إساءة معاملتهم بأي حال".

ومن الواضح أن العلاقات الاجتماعية التي كانت تربط سكان حي باب توما- القصاع أكبر الأحياء المسيحية في دمشق بجيرانهم المسلمين -على سبيل المثال- تتجاوز حدود الجيرة في كثير من الأحيان، لتبدو أقرب إلى علاقة روحية تجسد مفهوم العائلة بمنطق القيم الأخلاقية والعرف والتقاليد.

فقد كانت المسيحية والإسلام وجهين لعقيدة لم ينظر الدمشقيون إليها إلا من خلال مصدر إلهي واحد حض أتباع كل ديانة على الرحمة والتآخي ورهافة القلب.

وزاد الإسلام حين جعل الاعتقاد بالأنبياء ونبوتهم جانبا مكملا للإيمان وشرطا من شروط صحته، وخص عيسى وأمه مريم بمكانة يدرك المسيحيون أنهم لم يألفوا ما يماثلها في أي معتقدات أخرى.

وبقيت المدينة متمسكة بتراثها الديني والإنساني، وحافظت على الروحانية التي تتمتع بها رغم الحروب والمآسي، إذ صنعت من أوجاعها صورة مشرقة لطالما هزت مشاعر الذين لا يعرفونها عن قرب، كما ترجمت بتسامحها روح الشرق، تلك الروح التي كثيرا ما عبرت عن ارتباطها بقوة عليا وانجذابها العاطفي نحو الخير والجمال والمعرفة.

المدينة المقدسة

تقلدت دمشق قلادة العروبة في وقت مبكر، وحين كان ينظر إليها كعاصمة حكمت جنوب المتوسط تحت راية الخلافة ومنبع تفاعل الفكر والعلم ومدينة مقدسة تضم تربتها آثار عشرات الرسل والأنبياء مكث فيها المسيح مع أمه، ودخلها القديس يوحنا المعمدان، وغدت المكان الذي وصلته كلمة الله قبل أي مكان آخر، وكان ينظر إليها بمثابة مركز إشعاع قومي شهدت أرضها أولى خفقات العروبة وتجلياتها.

إعلان

وعلى هذه الخلفية تواصل استهدافها، وبقيت محط أطماع الشرق والغرب، وقطعة الجبن التي يسيل لها اللعاب كلما داعبت نوازع الشر توجهات المال والسياسة.

لقد حاول الصليبيون احتلالها بعد أن استولوا على القدس لكنهم فشلوا، واستطاع عماد الدين زنكي أن يؤسس في تلك المرحلة مع ابنه نور الدين لزمن استعادت العاصمة السورية فيه مجدها وتألقت ونهضت علومها وإبداعاتها.

ثم تابع الأيوبيون ما أنجزته الأسرة الزنكية، وبرز نجم صلاح الدين الأيوبي باعتباره قائدا ومحاربا من طراز رفيع حكم بلاد الشام ومصر وحرر القدس، وتمكن من بعده الظاهر بيبرس القائد المملوكي من تحرير أنطاكيا وطرابلس وعكا، مسدلا بذلك الستارة على ما عرف بالعصر الصليبي، عصر التوحش والدماء.

دمشق تنافس إسطنبول

حافظت دمشق على تألقها كمركز ولايات ثلاث خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام بعد أن دخلها السلطان سليم في 27 سبتمبر/أيلول 1516 عقب انتصاره على سلطان المماليك قانصوه الغوري في معركة مرج دابق شمالي حلب.

وتؤكد الوثائق العربية والعثمانية ارتباط شمال جبال طوروس بجنوبها بعلاقات طيبة بعد أن أصبحت إسطنبول مقرا لخلافة الإسلام، وكان من الواجب على المسلمين أن يرتبطوا بسلطة أمير المؤمنين أو الخليفة دون تردد أو انتظار.

وخلال فترة قصيرة نافست شام شريف إسطنبول عاصمة الخلافة، وبقيت المدينة الأكثر إثارة في مخيلة رواد المعرفة وباحثي التاريخ ونشطاء الفكر والسياسة.

وكان إذا ما أريد حقا التعمق بهذه الروح ومتابعة خفقاتها -وفق الكاتب الفرنسي بيير لامازيير- فإنه يجب أن تكون وجهة المرء هي دمشق لأنها قلب سوريا ودماغها.

كيف غيرت عائلة الأسد وجه دمشق؟

توسعت المدينة خارج حدودها القديمة في مطلع القرن الـ20، وشهدت الأطراف الملاصقة لسورها أحياء حديثة وشوارع ممهدة وأسواقا جديدة كالحميدية ومدحت باشا وناظم باشا وعمارات ذات مسحة غربية أخذت في الظهور على امتداد الطريق الواصل بين ساحة المرجة وحي الصالحية، حيث ينتشر مركزها التجاري.

إعلان

وبخلاف العواصم العربية الأخرى مثل بغداد والقاهرة لم تكن العاصمة السورية التي دخلت سجل التراث العالمي في عام 1987 مدينة مترامية الأطراف، بل احتفظت على الدوام بطابع المدينة التقليدية التي ترتبط مع محيطها بعلاقة تكاملية دون اعتماد كلي أو تراجع في مسارها، فبقيت ودودة مع محيطها تربط بينهما علاقات دافئة ومشاعر متبادلة تزداد لحمة في أوقات الشدة.

وخلال الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في عام 2011 ضد حكم عائلة الأسد كان محيط دمشق أكبر رافعة للثورة، لكنه دفع ثمنا باهظا على غرار ما تعرضت له المدن الناشطة على يد القوات الحكومية من عمليات قتل وتدمير ممنهجة.

لم تتصالح دمشق مع البعث منذ انقلابه في عام 1963، وأعلنت في عام 1965 عصيانا مدنيا داخل الجامع الأموي بدعوة من الشيخ حسن حبنكة الميداني الذي كان حينئذ يقود صراعا مع الملاحدة حتى العظم، فقابلته سلطة البعث بكل قسوة، ودفعت المدرعات العسكرية لتقتحم حرم الجامع وترتكب مذبحة وتعتقل عشرات المدنيين.

تواصلت المذابح طوال عهد عائلة الأسد، لكنها ازدادت ضراوة أثناء حكم الأسد الابن، إذ لم ينجُ منها حتى الأطفال الذين خرجوا يهتفون للحرية بشكل عفوي وسلمي في الشوارع والساحات.

وفي مفارقة مؤلمة، يروي الشيخ علي الطنطاوي أنه شاهد أطفالا يتظاهرون ضد الاحتلال الفرنسي لدمشق "يخرجون من بين الأرجل، منهم التلميذ ذو الصدرية السوداء فر من مدرسته وحقيبته لا تزال معلقة بعنقه، وحمل مسطرته بيده، ومنهم صبي اللحام وأجير الخباز، قد اتحدوا جميعا وأقبلوا يهجمون بالمساطر على الدبابة وهي تطلق النار، وهم يطلقون من حناجرهم الرقيقة بأصواتهم الناعمة أناشيد وطنية".

ويتابع "وقف الناس ينظرون إليهم وقد عراهم ذهول عجيب، لقد رأوا الدبابة قد كفت عن الضرب ثم انفتح برجها وخرج منه شاب فرنسي يبتسم للأطفال وفي عينيه أثر الدمع من التأثر، ويداعبهم ويقدم لهم قطعة من الشوكولاتة ثم يعود إلى مخبئه".

إعلان

في القروسطية -التي تبوأت صدارة المشهد في ظل حكم آل الأسد- لا مكان للرحمة، فقد دعم العنصر الوراثي للعائلة الحاكمة سلوكا جرميا خطيرا، لم يكن من الوارد بحسب مقاييس الحكم الرشيد أن ينتج رئيسا عصريا يعمل لمستقبل بلاده.

فتغير تاليا وجه دمشق التاريخي والجمالي، وأمعنت معاول السلطة بتحالفها مع الزبائنية في عمليات الهدم لتغيب الديمقراطية والحريات السياسية خلف قضبان السجون والمعتقلات، وتفقد المدينة معظم معالمها الطبيعية والتاريخية، إذ لم يعد بإمكان المرء الذي يقف على جبل قاسيون أن يرى على امتداد النظر غير كتل إسمنتية رمادية اللون ابتلعت مساحاتها الخضراء الواسعة، وطقوس شعوبية تقتص من تاريخها العربي المضيء على نحو مبرمج وصريح.

مقالات مشابهة

  • ريال مدريد فقد عقله.. رئيس الدوري الإسباني يهاجم الملكي ويتوعده
  • الخطاب الديني
  • اجتماع البنك المركزي القادم.. الأول للجنة السياسة النقدية هذا العام
  • التهاب المفاصل..ما أبرز الأطعمة التي تُساعد في تخفيف أوجاع هذا المرض؟
  • دمشق التي تغادر زمن الوجع والمرارة
  • الاعيسر .. الايام المقبلة ستشهد وفرة في الأوراق النقدية و تسهيل المعاملات
  • رواق عمر بن الخطاب: نقطة تحول جديدة لراحة الزوار حول المسجد النبوي .. فيديو وصور
  • سكان جباليا لا يجدون شيئا في بيوتهم التي دمرها الاحتلال
  • بعد أزمة الكاش.. لجنة إستبدال العملة تكشف عن خطوات لتوفير الأوراق النقدية وربط التطبيقات البنكية وبدء السداد الإلكتروني في هذه الوزارة
  • إنهيار الخطاب الإعلامي للحلف الجنجويدي