أحسبتم سلب الناس هينًا؟!
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
حمد بن سالم العلوي
لقد أوجدتم من أنفسكم الخصم والحكم، وأتحتم لأنفسكم الحق في سلب ما في جيوب الناس من مالٍ، وذلك مقابل خدمة ليس فيها خيار.. أو منافسة، فصار المواطن والمُقيم ضحيتكم الافتراضية، وقد أخضعتم الغني والفقير، والحكومة والرعية لسلطة فواتيركم الجائرة، حتى أصبحتم بلا شاكر يشكركم، ولا راضٍ بخدماتكم يذكركم بالخير، وكما يُقال: لقد أنعدم شاكروكم ولا نقول قَلّ؛ بل والكل صار يشكوكم إلى الله.
نعم إن شركة "نماء" بحديها القاطعين الكهرباء والماء، هي الخصم والحكم، ولأنَّ هذه الشركة هي من تُصدِر الفواتير بصحيحها وغيره، أو تلك التقديرية الظالمة.
وإذا المرء تمنع عن الدفع احتجاجًا على الغلاء أو سوء الخدمات، ارغمتك الشركة بالدفع، وذلك بقطع الخدمة، وهي الخدمة التي لا غنى اليوم عنها، فإذا أنت استغنيت عن الماء، باستخدام الصهاريج، فإن الكهرباء ليس لها بديل، إلا شركة "نماء" صاحبة الكهرباء والمياه وحدها ووحيدها وبمفردها.
هذه الشركة أصبحت خصمًا للجميع، إلا الدافعون بصمت مع ضمان السكوت الطويل، فأصبح الكل عليه أن يدفع المقسوم، والمقرر من هذه الشركة، وعلى الكل أن يدفع ودون كثرة جدال، وإلا مشرط القطع مشهور كالسيف على الرقاب.
إنها الشركة الوحيدة التي بيدها استيفاء الحق بالذات، وهي الوحيدة صاحبة مبدأ "ادفع ثم راجع"، فإذا اشتكيت من ارتفاع الفواتير، سيطلب منك اختيار واحدة من الشركات التي تتعامل هي معها، وذلك لتقوم بالفحص والتأكد من صحة الشكوى، وعلى حسابك أنت وليس على حساب نماء، وإذا اشتكيت في المحاكم سينتدب خبير من الشركات التي تعمل تحت يدها، وهي بالطبع تحتاج إلى رضاها.
قال لي صديق: كنت أدفع معدلًا شهريًا 140 ريالًا لكهرباء البيت، ومرة من المرات أتفاجأ أن المبلغ قفز إلى 6300 ريال، فذهبتُ أبحث عن مسؤول لكي أتحدث معه، وأفهم منه أين وقع الخطأ، فقيل لي مرة لم تدفع فاتورة شهر، فقلت ليكن الضعف وليس ثلاثة أضعاف، فأرشدوني في قاعة الخدمات إلى هاتف أسود مُعلق على الجدار، لكي أشكو إليه مشكلتي، فسألت من سيكون على الطرف الآخر، فقيل لي موظف، فقلت: أريد مسؤول صاحب قرار اتحدث معه، فقيل لي هذا النظام المعمول به لدينا.
فعلمت أن الموضوع هو مجرد متاهة طويلة، ولأنَّ الفاتورة كانت تحمل إنذارًا بالقطع، فما أحببت المغامرة، فوالدي يعيش معي في البيت، وهو كبير في السن، وإذا قطعوا الكهرباء، سوف ينصهر من شدة الحرارة، لذلك اضطررت إلى الدفع!
وصديق آخر يقول: لدي منزل في البلد، وفي فترة المدارس نقيم في بيتنا الذي في مسقط، ولكن أتفاجأ أن فواتير الكهرباء والماء تأتي وكأننا نسكن هناك، فعندما سألت عن السبب قيل لي: إنها القراءة التقديرية، فقالوا لي عليك أن تكلف أحدًا بتشغيل المكيفات لمدة أسبوع على الأقل، وذلك حتى تتحرك أرقام العداد، ولا تحاسب بالقراءة التقديرية.. وهكذا كان المقترح بالحل!!
وصديق آخر يقول: كان بمنزلي عدادان للمياه، وتأتي القراءة متساوية من العدادين تقريبًا، فطلبت من الشركة أن يقطعوا أحد العدادين، ففعلوا وأخذوا العداد معهم، وأغلقوا أنبوب المياه، ولكن فواتير العداد المقطوع ظلت مستمرة، والفواتير في ارتفاع شهري، وراجعت المسؤولين في الشركة عدة مرات، ولكن دون جدوى، وخشيت أن يقطعوا العداد الحقيقي، لإرغامي على الدفع، فلجأت للنشر عن الحالة في الواتساب، لعل أحداً من الذين يعرفون المسؤولين يساعدني، ولحسن الحظ حصل المتوقع، فشاهد المنشور أحد الأشخاص، وبواسطته تم وقف الفواتير الوهمية.
ومن أراد أن يعرف المزيد من القصص عن فواتير شركة نماء، فليدخل وسائل التواصل الاجتماعي، وسيعرف العجب العجاب، والآن طالعين علينا بحيلة جديدة، ألا وهي جدد معلوماتك الشخصية، وإلا سنعتبرك وافدًا، طيب إذا نحن في المرة الأولى احتجنا ما يقارب ستة أشهر، حتى نثبّت المعلومات الشخصية بالوثائق المطلوبة.
وأخيرًا أقول للمسؤولين: ألا يكفي من تجارب الأخطاء السابقة والقائمة من خصخصة الشركات الحكومية، التي خدمت أصحاب الجشع والطمع، ولم تخدم الحكومة والشعب معًا؛ إذ إن خدمات الكهرباء والماء، خدمات أساسية وضرورية، ليس للمواطن وحسب، وإنما لتطور البلاد وتقدمها، فالمستثمر يحتاج الكهرباء والماء.. لكي يستمر وينتج، وتنمية التجارة والصناعة تحتاج إلى الكهرباء والماء.. لكي تستمر وتطور، وكذلك التنمية الزراعية، والشركات الصغيرة والمتوسطة، فلماذا تجبرون الناس، وتقدموهم مرغمين على مقصلة الكهرباء والماء، وذلك دون حول أو قوة منهم.. وأنتم أعلم بأسلوب أرباب الجشع والطمع، فهم كجهنم إذا سئلت هل امتلأتِ تقول هل من مزيد؟!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كووج إيْ نُومْ أو رحيل الحضور لدينق قوج
خالد فضل
ليسمح لي د. فرانسيس دينق في استخدام عبارته من لغة أهلنا دينكا نقوك التي أوردها في كلمته الرصينة وفاءا لحق أستاذه وزميله الراحل بروفسير محمد إبراهيم خليل قبل ايام , وبالفعل فإنّ المرء ليأسى حقا عند رحيل أؤلئك النفر الكرام من السودانيين/ات الذين شكّلوا أحد الدعائم الأساسية في مسيرة حياة هذا الشعب الذي ما يزال يكابد لتحقيق أدنى مقومات البقاء على قيد الحياة ؛ حفظ الارواح نفسها . ولعل شهادة قيّمة ممن هم في قامة فرانسيس دينق تعتبر في حد ذاتها قبس من الوعي والتنوير التي تزداد حاجتنا إليها في أوقات العطب الإنساني/الوطني الراهن فهي ليست شهادة عاطفية في لحظة الفقد إنّما خبرة حياة بذلها الراحل في سبيل الغايات النبيلة التي يهفو إليها أغلبية أبناء وبنات شعبه , عرضها صديقه وزميله بإسلوبه البديع ولغته الحيّة وسرديته الروائية المبدعة . للبروف الراحل محمد إبراهيم خليل واسع الرحمات والعزاء لأسرته ولكل من عرف مقامه وفضله . بيد أنّني هنا استلف عبارته من لغة الدينكا (كُووج إيْ نُومْ) ومعناها إيقاف الرأس في وضع مستقيم , ودلالاتها الروحية (لا نحزن على شخص ترك وراءه أطفالا ليستمر اسمه وتأثيره في هذا العالم )
فقد فُجع آلاف السودانيين/ات في شطري البلد الكبير شمالا وجنوبا بالرحيل المفاجئ لدينق قوج مما كان وقعه قاسيا على القلوب والمشاعر , ولعل محجوب شريف قد عبّر عن الذهول في يابا مع السلامة لروح عبدالكريم ميرغني عليهم جميعا رحمات الله :
يا موت لو تركتو مننا قد سرقتو
كنا نقول ده وقتو لكنك حقيقة
في الواقع عبّر الجميع عن الجميع فيما كتبوه عن دينق قوج , فما من سطر خُطّ أو كلمة قيلت وفاء له إلا وكانت هي لسان الآخرين ولو جاءت بعبارة أخرى , هنا يستوقفني قول فرانسيس عن الإنسان الذي يموت ورأسه في وضع مستقيم . إنّ دينق قد خلّف آلاف الأبناء بهذا المعنى لهذا ضمن خلود اسمه وتأثيره في هذا العالم , فكل كلمة ؛ ولابدّ أنّها صادقة قيلت عنه هي مولود يحيا ويؤثر في الحياة , وليس بالضرورة الأولاد البيولوجيين الذين رُزق بهم فحسب . وهذه مأثرة وميزة لا يحوزها كثيرون , فكم من راحل لم يأبه بفقده أحد .وكم من يسعد بعض الناس برحيله . ومن السيئ أن يعمد بعض ذوي السلطة والنفوذ إلى حجب الناس ومنعهم من التعبير عن الفقد على أضيق نطاق , فقد حدث منع إقامة سرادق العزاء للراحل د. خليل إبراهيم في منزل عائلته بحي السلمة جنوب الخرطوم بسبب أنّ المرحوم كان على خصومة مع السلطة الإسلامية الحاكمة وقتذاك . مع الأسف تكرر هذا الموقف مرّة أخرى قبل أيام , حسبما قرأت في أحد المواقع السودانية _إنْ صحّ الخبر_ أنّ عناصر من قوات الدعم السريع قد منعت إقامة سرادق عزاء لأحد الضباط في القوات المسلحة السودانية من منطقة تُلس بجنوب دارفور كان قد قُتل في معارك الفاشر . أمّا الأسوأ مطلقا و هذه مرحلة سحيقة من مراحل فقدان الحس الإنساني على كل حال أنْ يتم التمثيل بالجثث بعد قتلها ذبحا أو بالرصاص مثلما وقع من مشاهد مقززة من كلا الجانبين في محرقة السودان الراهنة , فيما كان دينق قوج يفتح داره ويوفر ما يستطيعه ليس للفارين من الحرب فحسب بل حتى قطعان المواشي يتعهد بضمان سلامتها في منطقة الرنك .
فقد اثبت عمليا قيمة الفرد عندما يرتقي كإنسان , وكم تهفو النفوس السوية إلى الكمال الإنساني , ويكدح الفرد الحر المستنير إلى ذلك المقام عساه يبلغ منه درجات , لذلك يبدو رحيله كحضور قوي وآسر وفعّال أكثر منه غياب . أذكر أنّ الأب الراحل جون فراشيني (إيطالي الجنسية كان قسيسا ضمن بعثة كمبوني ) قد ألقى ما يعرف بوعظ الأحد أمام جمع من المصلين في إحدى الكنائس بأم درمان ؛ كان موضوعها عن فكرة الموت , تمّ بثها مسجلة في عزاء قصير أقامته مدرسة كمبوني الخرطوم حينها , قال ما معناه : إنّ الناس هنا تحزن وهي تردد , أبونا كان معانا قبل شوية , كنت اسمعه يتحدث قبل قليل .. إلخ في الحقيقة انتقلت الروح إلى الحياة الأبدية بجوار الأب , هل ألحياة وسطكم أفضل أم الحياة بجواره ؟ أليس كل ما نرجوه بعد موتنا أن تسكن أرواحنا بسلام وأمان إلى جواره ؟ فلا تبكوا أو تحزنوا إذا حضرتم الإسبوع القادم وقالوا لكم أبونا جون مات ..لقد كانت مصادفة ذات مغزى في تقديري أنّ ذلك الأب كان يتحدث ويضرب المثل بنفسه, ليتوفى في نفس اليوم . وبقيت كلماته تلك مؤثرة حتى الآن .
ودينق الذي يقف رأسه في وضع مستقيم ؛برزق الله , كان تأثيره متعديا لحدود ضيّقة , لقد وضح أنّه يمثل روح وطن إنساني كبير جدا , ذابت في لحظات وفاته أي سمات تميّز بين هذا أو ذاك من الناس وانهمرت المشاعر الصادقة في التعبير عن فداحة الفقد و ولعل روحه الآن ترقد بسلام في رحاب الرب الخالق الأحد , وفي مقام أفضل من أي مقام في دنيا الناس.
حضور دينق في موته جعلني أفكّر من زاوية أخرى في حجم ما يضيع على الناس نتيجة جهلهم بالآخر أو تصنيفه مسبقا بأي صفة لاحقة لجوهره كإنسان . أعني هنا مباشرة , لو أنّ دينق بكل خلاله وسجاياه التي عرفها عنه من عرفه لاحقا كان قد توفي قبل إتفاقية السلام الشامل , عندما كان أعضاء وعناصر الحركة الشعبية وربما كلّ الجنوبيين تلحقهم الدمغة المقيتة من خائن وعميل وصهيوني وكافر صليبي على مستوى الخطاب الإعلامي والرسمي , ونعوت التحقير في الثقافة الشعبية السائدة في معظم أرجاء الشمال وأواسط السودان تُرى هل كان أيّا منها ينطبق عليه حقّا ؟ الإجابة الصحيحة في تقديري , أنّ تلك الصفات الذميمة إنما مجرد هُراء والدليل أنّ دينق قوج وربما مئات الآلاف أو الملايين ممن دمغوا بها إتضح في الحقيقة أنّهم من ذوي القيم الرفيعة . فهل نفكّر الآن فيمن لا نعرف قبل دمغهم جملة واحدة بما ليس فيهم ؟ تُرى كم نظلم الآخر لمجرد جهلنا به .
إنّ الوفاء لروح دينق قوج والحرص على بقاء تأثيره مستمرا في الحياة تجعلنا أكثر تمسّكا لنشر وممارسة ما كرّس له حياته القصيرة العامرة من قيم الخير والنقاء والصدق والشهامة والوفاء , نشر روح المحبّة والتسامح ولجم خطاب الكراهية والعداء للآخر المختلف . هذا هو سبيل الشفاء مما نعانيه من شقاء .ولروح صديقنا وزميلنا الراحل صادق الدعوات بالرحمة والمغفرة , لأسرته وجميع من عرفه خالص العزاء