صحيفة الاتحاد:
2024-11-22@07:46:08 GMT

الرياح في التراث الإماراتي.. كل هوى وله شراع

تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT

محمد عبدالسميع
الرياح مفردةٌ طبيعيّةٌ لافتة، نظر إليها الإنسان الإماراتيّ ووجدها على علاقةٍ وتفاعلٍ مستمرٍ معه، فهي إمّا أن تكون نذير خطرٍ مُحدق، أو وسيلةً رومانسيةً للذكرى واستجلاب الأخبار، حين تهبُّ مع هبوبها على الشعراء والنواخذة والعاملين في البحر رياحُ الحنين وآمال اللقاء، وحين «تسفو» هذه الرياح غبار الصحراء فتحرّكها وتهزّ جذوع الأشجار، فيكون بقدومها المطر وما تحمله من سحابٍ يفرح به الشاعر تماماً مثل فرحة من ينتظر الماء لتعشب الأرض وتنمو الحياة ويخضرّ وجه الأرض.


لكنَّ هذه الرياح، بما هي عنصرٌ من عناصر الطبيعة، وبِغضِّ النظر عن تسمياتها وفق مكان هبوبها أو درجة حرارتها أو نَسِيمِها، أو صفاتها المؤثّرة في الإنسان والزرع والبحر والصحراء والجبل وغيرها من البيئات، .. تدخل بقوّة في المكوِّن الاجتماعي والنفسي الإماراتي، فتحرِّض على الشوق والوصف والتحوّط لها، بل والخوف منها، ولهذا فقد دخلت بسهولة وانسابت في الذهنية الإماراتية والوجدان الشعريّ والمَثل الشعبيّ، بل وفي ثنايا الأغنية التي ما نزال نرددها، فنشعر بجمال البوح ومخاطبة هذه الرياح بأسمائها وطلب الأخبار أو البشرى منها، أو العمل على «أنْسَنتها»، بحوارها ورجائها أن تتلطف أو تحمل الخير، ومن يفعل ذلك فإنّه في النهاية يصف وصفاً له وجاهة أن نحتفي معه بهذا العنصر الطبيعيّ، فنقرأ حضوره ونترك أثره للأجيال لمعرفة المعاناة مع الرياح والتصالح معها، أو تجنّبها، أو قصّ الحكايات والأساطير في ثناياها ومع كل هبّةٍ منها، فهي طقسٌ مثله مثل طقوس المطر والشمس والقمر والنجوم والأشجار، ارتبط معها الإنسان بعلاقةٍ حميمةٍ فشاركته الحياة والمسكن وظلّت ترافقه ويشعر حيالها بحضورها وسطوتها وما تثيره من أشواق ومتاعب وقلق وخوف.

محرك ومحفز
ولو قمنا بإحصاء الرياح والأهوية بمسمّياتها، وما قيل فيها من أشعار، فإنّ هذه العجالة ربما لا تكفي للحديث عن علاقة الإنسان الإماراتيّ بها وحضورها الأثير لديه، ومداليل هذه التسمية والأوصاف، لدرجة أنّنا نكتشف كم هو الإنسان على تفاعلٍ وتماس معها، فمن الطبيعيّ إذن أن تشغل فكره وعقله ووجدانه وتتخلل أشعاره، فيناديها بأسمائها، ويطلب منها، ويعاتبها ويتساءل أمام قسوتها ويفرح بقدومها، .. وهكذا.
ويحسن بنا في هذا المجال أن نتخيَّر أكثر من غرضٍ يؤكد ما نحن بصدده من محاولة فهم دلالة هذه الرياح ومصاحباتها النفسيّة لدى الإنسان الرفيق معها، والشاعر بوجودها، والخائف منها في الوقت ذاته، فلقد دخلت الرياح في الأغنية والفنّ وفي القصّة والكتابة والدراما والمسرح، وفي الحكاية الشعبيّة والأهازيج، وفي كلّ ما يستثير الذائقة البشريّة ويخاطب أحاسيسها ونوازعها، باعتبارها محرّكاً ومحفّزاً يتنافذ على الكثير.
وفي الشعرّ الشعبيّ، بوصفه أدباً دؤوباً في الاحتفاء بالرياح ومغازلتها، تطالعنا عيون القصائد الشعبيّة والنبطيّة بحضور الرياح والذهاب إليها عن قصدٍ من الشاعر وحركةٍ جميلةٍ منه نحوها، فكم قرأنا لشعراء النبط وهم ينثرون دموعهم مع الرياح لسببٍ أو لآخر، في قصائد ما تزال ماثلةً بيننا حتى اليوم بكلّ ما فيها من خوفٍ أو تحوّطٍ أو رجاء.
فهذه الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي- فتاة العرب- تقول في وصف رياح «المزر»:
يت بالصبا سرّايه
قزرٍ تلاها غيم
في حين يتألّق الشاعر «بن هتاي» في التمنّيات تجاه هذه الرياح ومصاحباتها، حيث يقول:
يعل المزون البيض لي رظوفها زرق
تمزِر ويزغاها هبوب الشروقي
وهذا شاعرٌ مجهولٌ يقول على لسان النوخذة في البحر
دامنه يا دامنه والبحر لا تامنه 
حيث ذكر «الدامنة» كمتعلق من حبال السفينة، مخوِّفاً ومحذِّزاً من البحر، بل إنّ من الشعراء من كان يحاور الرياح بكلّ إحساس، طالباً منها التوقّف، كمحاورة أحد الشعراء لرياح «الكوس» بشكل قاسٍ ربما، حيث يقول:
يالكوس بسّك بسّك
ماخذ هواك مديب
واليوم شِ اللي دسّك
يوم الغربي صليب
ومثلما كانت الرياح سبباً في البشرى، فقد كانت محلاًّ للعتاب والتخوّف، حيث يصف الشاعر راشد بن حميد المزروعي رياح الكوس بقوله:
يا الكوس جيت بغير برهان
عقب العقل باداك لجنون
عقب العشا سويت ريعان
مويك تبنّا مثل الحصون
خلّيت لي في الدار حيران
حيران يرقب باسك يهون
ومن جماليات الرياح، كخطابٍ للشعراء في الإمارات، أنهم اتخذوها لتبلّغ المحبوب وتحمل إليه المكتوب، كما في قول الشاعر خليفة بن مترف مخاطباً «نسيم البر»:
يا نسيم البر يا النودي
يا مخفّف طلة النادي
من حسانك يعلك تعودي
بلّغ المكتوب يا غادي
للذي عنْوي ومقصودي
ومْعناي وغاية مرادي
إن لفيت الدار قل هودي
وينكم يا نسل المجادي
ويقول المغفور له الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، مخاطباً رياح الكوس:
يا الكوسه لِاعشويّه 
ما يبتي لي سداد
بي مقرون الاِحيه
بو شارعٍ منقاد
زاد الحمى عليّه
وتزيد بي الايهاد
وتقول الشاعرة عوشة السويدي أيضاً في قصيدتها المشهورة:
هبّ شرتًا لافح ترسا
من فيوي دبيّ نسناسه
ياب لي في مسمعي همسا
حركت في قلبي جراسه
كما تقول أيضاً:
هلا بك عدّ نسناس الصبا والمطلعي والياه
ويهلا عد مويات البحر عبر الغبيب السود
وتقول:
مرحبا ما هبّ ذعذاع الجنوب
بارد النسناس لي صوبي حمل
ومن أغراض قول الشعر في الرياح تبيان العدد بحجم هذه الرياح، وهو ما يدلّ على المحبة واختتام القصيدة، كما في قول الشاعر سالم الجمري:
والختم صلّوا عدد ما لاح برّاق
واعداد ما هبّت شمالٍ عقب دوق
ويقول الشاعر سالم الدهماني:
تمّت عدد ما خط كتّيب
واعداد ما صلّب هوى الكوس

الأمثال الشعبية
دخلت الرياح في الأمثال الشعبية والعبارات الموجزة الدالّة على تجربة الحياة عند الكبار وأصحاب التجربة والمعرفة، كما في قولهم: (السبعين اذا يت ليلة الجمعة اتسبّع)، أي أن رياح السبعين الباردة حين تأتي ستستمرّ أسبوعاً، وقولهم: (برد الطّلوع يثّر في الضلوع)، وقولهم: (العقرب يسقي بر وبحر)، وقولهم كذلك: (كل هوى وله شراع)، .. وهكذا من الأقوال والأمثال والعبارات.
وتدخل الرياح بطبيعة الحال في الأعمال التشكيلية الإماراتيّة، كما هو الحال عند الفنان التشكيلي الإماراتي الدكتور محمد يوسف، الذي يرى أنّ العمل الفني يكون أفضل وأجمل عند وجود صوت، ليصل للمشاهد إحساسٌ معين، مثل عمله الفني «النعاشات»، الذي يعبّر عن علاقة الريح بالشّعر، حيث يشعر بالعمل أكثر إذا كان فيه حركة، مثل صوت المدّ والجزر وحركة الموج وضجيج الأطفال، وهو الفنان المهتمّ بتحويل الموسيقى إلى أعمال فنيّة، في أعماله التركيبية، المبنيّة على خامة الخشب المأخوذ من شجرة النخيل، حيث تجسّد الريح ارتباطه بالبيئة الطبيعية بريح الشمال والكوس والغربي، من خلال الإيقاع القادم من الطبيعة، والذي يوحي بدلالات الزمن.
ومن الطبيعي أن تحمل الرياح أفكاراً تثير المخاوف وتنقل الإنسان الحسّاس إلى عوالم غيبية وأرواح ربما تكون شريرة، حيث يوحي صفير الرياح بحضور الجنّ والعالم الآخر، وهو ما يدخل في أعمال الدراما والمسرح والسينما، كمؤثر صوتي قوي يستدعي الكثير من محفّزات الذات الإنسانيه على التخيّل والمتابعة.
وبالطبع، فإنّ الرياح، ولكثرة هبوبها، ربما تزيح عن كاهل الأرض أتربةً ورمالاً، فتترك المختصين والباحثين أمام آثار غافية تحت هذه الأتربة والرمال، ولهذا فهي عنصرٌ مهمٌّ في الاكتشافات والبحوث الأثرية.

أخبار ذات صلة «البيت الأولمبي».. ضيافة إماراتية في باريس محمد الشرقي يلتقي فريق نادي الفجيرة لـ«فورمولا المستقبل»

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: الأمثال الشعبية التراث الإماراتي التراث الإمارات الموروث الإماراتي الرياح الشعر النبطي هذه الریاح

إقرأ أيضاً:

بدر بن عبد المحسن.. تجربة متفردة توجته بلقب أمير الشعر العربي

شهدت قلعة الجاهلي التاريخية ليلة استثنائية من برنامج "ليالي الشعر: الكلمة المغناة"، إحدى أهم فعاليات مهرجان العين للكتاب 2024، خصصها لتناول سيرة ومسيرة أمير الشعر العربي الراحل بدر بن عبد المحسن آل سعود، ضمن محور "الغائب الحاضر"، وهو الذي قاد ثورة الشعر الشعبي عبر قصائد خالدة توجت بالشهرة والانتشار.

تفاصيل الأمسية 


وتحدث في الأمسية، التي نظمها مركز أبوظبي للغة العربية، الشاعران علي السبعان وعلي العبدان، وحاورتهما الإعلامية والشاعرة لمياء الصيقل، حيث بدأت الفقرة بعرض فيلم قصير لخص رحلة الأمير بدر، الذي صدحت بأشعاره أصوات أشهر المطربين العرب، وافتتاحيات أكبر المهرجانات السعودية، وأصدر دواوين شعرية عكست صورة المجتمع بعمق وشفافية، حتى منحه الملك سلمان "وشاح الملك عبد العزيز"، وكرمته "اليونسكو" في اليوم العالمي للشعر، قبل أن يودع جمهوره ومحبيه هذا العام، ويرثيه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في قصيدة مطلعها "الشعر ما يفنى ولا يموت الإبداع، لكن بدر من بدوره ترجل".

 

قصيدة “حروف الذهب” لعلي السبعان 


واستهل الشاعر علي السبعان حديثه بإلقاء قصيدة "حروف الذهب"، التي نظمها الأمير الراحل، وأهداها لدولة الإمارات، قبل أن يحكي عن شخصية الأمير الإنسانية والفكرية بإسهاب، موضحًا أن تجربة الراحل الشعرية تجربة نادرة ومكتملة ومتفردة؛، فهو شاعر موسوعي لم يؤطر نفسه في إطار محدد، وأبدع في الأغنية، وجعلها تنتشر في أرجاء العالم العربي.


وأضاف أن الأمير كان متميزًا بالقصيدة الكلاسيكية بعراقتها وأصالتها، وقد أبدع في الكلمة المغناة وخرج عن التفعيلة، مشيرًا إلى أن شعره كان يشبه إنسانيته وشخصيته.


ورأى السبعان أن الأمير الشاعر كان فدائيًا في تحديث الشعر، وكان جريئًا في أشعاره، وأيضًا كان له تأثير كبير على الأغنية، فقد حدّثها ورفع سقف اللغة والفكر، واقترب إلى الفصيح لذلك تجد له مريدين كثر في العالم العربي كله.

الشاعر والباحث علي العبدان


من جانبه، أوضح الشاعر والباحث علي العبدان، أن الأمير بدر أبدع في القصيدة القديمة كما أبدع في الشعر الحر. وقال إن "الأمير بدر يمثل شعره ويمثل قصائده، وليس غريبًا أنه أدخل الحداثة إلى الشعر الشعبي، فهذا نتيجة طبيعية للحياة والبيئة التي عاشها الراحل، فقد عاش في مصر، ودرس فيها فترة الطفولة، ثم سافر إلى بريطانيا وأميركا، وتابع دراسته العليا هناك، وهذا انعكس في أشعاره، فالاغتراب والعزلة وعلاقته بأخيه الوحيد كلها عوامل صقلت نفسية الشاعر وأثرت في شعره".


وأضاف العبدان أن الشاعر الشعبي عادة ما يتواجد بين شعراء شعبيين، لكن البيئة التي عاشها الأمير بدر كانت مختلفة، فقد عاش في مصر بين شعراء عرب، واطلع على الشعر الحديث، كما عاصر الغرب وبالتأكيد اطلع على أشعارهم، لذلك خلق توجهًا جديدًا يتناسب مع البيئة التي عاش فيها والتنقلات التي تنقلها، كما عرف قيمة المسافات والجدار والعزلة، ثم أنتج العديد من الأغاني الخالدة مثل أغنية "الرسائل" التي غناها محمد عبده، وأغنية "وترحل" لطلال مداح، ففي فترة السبعينيات كانت الحداثة العربية موجودة في القاهرة وبيروت، وكان هو في طريق وسط بين الأصالة والحداثة، ونجح بأن يدخل الحداثة للشعر من دون أن يتخلى عن الأصالة، كما أن موهبته في الرسم ساعدته على المزيد من التألق في الشعر، فهو ينقل مشاعره سمعًا وبصرًا.

مقالات مشابهة

  • تجربة بدر بن عبد المحسن في "العين للكتاب"
  • بدر بن عبد المحسن.. تجربة متفردة توجته بلقب أمير الشعر العربي
  • كان رايح المدرسة.. مصرع تلميذ على مزلقان سكة حديد الرياح بقنا
  • الجوانب الاجتماعية والوطنية في ديوان الشاعر علي أحمد كتوب في محاضرة بثقافي الدريكيش
  • الأكبر في أفريقيا.. تمويل جديد لتوسيع محطة طاقة الرياح بخليج السويس
  • 21 مليون دولار تمويل من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار لتوسعة محطة طاقة الرياح بخليج السويس
  • «من حق الكفيف».. قصيدة من إبداعات الشاعر المبدع محمد رجب
  • مواسم المطر وتجليات الوطن في بيت الشعر بالشارقة
  • 11 شركة ناشئة من 2207 مترشحين تتنافس في المرحلة النهائية من “تحدي بوابة الشارقة 2024”
  • ديشان ينجح في مقاومة الرياح مع منتخب فرنسا