الرياح في التراث الإماراتي.. كل هوى وله شراع
تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT
محمد عبدالسميع
الرياح مفردةٌ طبيعيّةٌ لافتة، نظر إليها الإنسان الإماراتيّ ووجدها على علاقةٍ وتفاعلٍ مستمرٍ معه، فهي إمّا أن تكون نذير خطرٍ مُحدق، أو وسيلةً رومانسيةً للذكرى واستجلاب الأخبار، حين تهبُّ مع هبوبها على الشعراء والنواخذة والعاملين في البحر رياحُ الحنين وآمال اللقاء، وحين «تسفو» هذه الرياح غبار الصحراء فتحرّكها وتهزّ جذوع الأشجار، فيكون بقدومها المطر وما تحمله من سحابٍ يفرح به الشاعر تماماً مثل فرحة من ينتظر الماء لتعشب الأرض وتنمو الحياة ويخضرّ وجه الأرض.
لكنَّ هذه الرياح، بما هي عنصرٌ من عناصر الطبيعة، وبِغضِّ النظر عن تسمياتها وفق مكان هبوبها أو درجة حرارتها أو نَسِيمِها، أو صفاتها المؤثّرة في الإنسان والزرع والبحر والصحراء والجبل وغيرها من البيئات، .. تدخل بقوّة في المكوِّن الاجتماعي والنفسي الإماراتي، فتحرِّض على الشوق والوصف والتحوّط لها، بل والخوف منها، ولهذا فقد دخلت بسهولة وانسابت في الذهنية الإماراتية والوجدان الشعريّ والمَثل الشعبيّ، بل وفي ثنايا الأغنية التي ما نزال نرددها، فنشعر بجمال البوح ومخاطبة هذه الرياح بأسمائها وطلب الأخبار أو البشرى منها، أو العمل على «أنْسَنتها»، بحوارها ورجائها أن تتلطف أو تحمل الخير، ومن يفعل ذلك فإنّه في النهاية يصف وصفاً له وجاهة أن نحتفي معه بهذا العنصر الطبيعيّ، فنقرأ حضوره ونترك أثره للأجيال لمعرفة المعاناة مع الرياح والتصالح معها، أو تجنّبها، أو قصّ الحكايات والأساطير في ثناياها ومع كل هبّةٍ منها، فهي طقسٌ مثله مثل طقوس المطر والشمس والقمر والنجوم والأشجار، ارتبط معها الإنسان بعلاقةٍ حميمةٍ فشاركته الحياة والمسكن وظلّت ترافقه ويشعر حيالها بحضورها وسطوتها وما تثيره من أشواق ومتاعب وقلق وخوف.
محرك ومحفز
ولو قمنا بإحصاء الرياح والأهوية بمسمّياتها، وما قيل فيها من أشعار، فإنّ هذه العجالة ربما لا تكفي للحديث عن علاقة الإنسان الإماراتيّ بها وحضورها الأثير لديه، ومداليل هذه التسمية والأوصاف، لدرجة أنّنا نكتشف كم هو الإنسان على تفاعلٍ وتماس معها، فمن الطبيعيّ إذن أن تشغل فكره وعقله ووجدانه وتتخلل أشعاره، فيناديها بأسمائها، ويطلب منها، ويعاتبها ويتساءل أمام قسوتها ويفرح بقدومها، .. وهكذا.
ويحسن بنا في هذا المجال أن نتخيَّر أكثر من غرضٍ يؤكد ما نحن بصدده من محاولة فهم دلالة هذه الرياح ومصاحباتها النفسيّة لدى الإنسان الرفيق معها، والشاعر بوجودها، والخائف منها في الوقت ذاته، فلقد دخلت الرياح في الأغنية والفنّ وفي القصّة والكتابة والدراما والمسرح، وفي الحكاية الشعبيّة والأهازيج، وفي كلّ ما يستثير الذائقة البشريّة ويخاطب أحاسيسها ونوازعها، باعتبارها محرّكاً ومحفّزاً يتنافذ على الكثير.
وفي الشعرّ الشعبيّ، بوصفه أدباً دؤوباً في الاحتفاء بالرياح ومغازلتها، تطالعنا عيون القصائد الشعبيّة والنبطيّة بحضور الرياح والذهاب إليها عن قصدٍ من الشاعر وحركةٍ جميلةٍ منه نحوها، فكم قرأنا لشعراء النبط وهم ينثرون دموعهم مع الرياح لسببٍ أو لآخر، في قصائد ما تزال ماثلةً بيننا حتى اليوم بكلّ ما فيها من خوفٍ أو تحوّطٍ أو رجاء.
فهذه الشاعرة عوشة بنت خليفة السويدي- فتاة العرب- تقول في وصف رياح «المزر»:
يت بالصبا سرّايه
قزرٍ تلاها غيم
في حين يتألّق الشاعر «بن هتاي» في التمنّيات تجاه هذه الرياح ومصاحباتها، حيث يقول:
يعل المزون البيض لي رظوفها زرق
تمزِر ويزغاها هبوب الشروقي
وهذا شاعرٌ مجهولٌ يقول على لسان النوخذة في البحر
دامنه يا دامنه والبحر لا تامنه
حيث ذكر «الدامنة» كمتعلق من حبال السفينة، مخوِّفاً ومحذِّزاً من البحر، بل إنّ من الشعراء من كان يحاور الرياح بكلّ إحساس، طالباً منها التوقّف، كمحاورة أحد الشعراء لرياح «الكوس» بشكل قاسٍ ربما، حيث يقول:
يالكوس بسّك بسّك
ماخذ هواك مديب
واليوم شِ اللي دسّك
يوم الغربي صليب
ومثلما كانت الرياح سبباً في البشرى، فقد كانت محلاًّ للعتاب والتخوّف، حيث يصف الشاعر راشد بن حميد المزروعي رياح الكوس بقوله:
يا الكوس جيت بغير برهان
عقب العقل باداك لجنون
عقب العشا سويت ريعان
مويك تبنّا مثل الحصون
خلّيت لي في الدار حيران
حيران يرقب باسك يهون
ومن جماليات الرياح، كخطابٍ للشعراء في الإمارات، أنهم اتخذوها لتبلّغ المحبوب وتحمل إليه المكتوب، كما في قول الشاعر خليفة بن مترف مخاطباً «نسيم البر»:
يا نسيم البر يا النودي
يا مخفّف طلة النادي
من حسانك يعلك تعودي
بلّغ المكتوب يا غادي
للذي عنْوي ومقصودي
ومْعناي وغاية مرادي
إن لفيت الدار قل هودي
وينكم يا نسل المجادي
ويقول المغفور له الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، مخاطباً رياح الكوس:
يا الكوسه لِاعشويّه
ما يبتي لي سداد
بي مقرون الاِحيه
بو شارعٍ منقاد
زاد الحمى عليّه
وتزيد بي الايهاد
وتقول الشاعرة عوشة السويدي أيضاً في قصيدتها المشهورة:
هبّ شرتًا لافح ترسا
من فيوي دبيّ نسناسه
ياب لي في مسمعي همسا
حركت في قلبي جراسه
كما تقول أيضاً:
هلا بك عدّ نسناس الصبا والمطلعي والياه
ويهلا عد مويات البحر عبر الغبيب السود
وتقول:
مرحبا ما هبّ ذعذاع الجنوب
بارد النسناس لي صوبي حمل
ومن أغراض قول الشعر في الرياح تبيان العدد بحجم هذه الرياح، وهو ما يدلّ على المحبة واختتام القصيدة، كما في قول الشاعر سالم الجمري:
والختم صلّوا عدد ما لاح برّاق
واعداد ما هبّت شمالٍ عقب دوق
ويقول الشاعر سالم الدهماني:
تمّت عدد ما خط كتّيب
واعداد ما صلّب هوى الكوس
الأمثال الشعبية
دخلت الرياح في الأمثال الشعبية والعبارات الموجزة الدالّة على تجربة الحياة عند الكبار وأصحاب التجربة والمعرفة، كما في قولهم: (السبعين اذا يت ليلة الجمعة اتسبّع)، أي أن رياح السبعين الباردة حين تأتي ستستمرّ أسبوعاً، وقولهم: (برد الطّلوع يثّر في الضلوع)، وقولهم: (العقرب يسقي بر وبحر)، وقولهم كذلك: (كل هوى وله شراع)، .. وهكذا من الأقوال والأمثال والعبارات.
وتدخل الرياح بطبيعة الحال في الأعمال التشكيلية الإماراتيّة، كما هو الحال عند الفنان التشكيلي الإماراتي الدكتور محمد يوسف، الذي يرى أنّ العمل الفني يكون أفضل وأجمل عند وجود صوت، ليصل للمشاهد إحساسٌ معين، مثل عمله الفني «النعاشات»، الذي يعبّر عن علاقة الريح بالشّعر، حيث يشعر بالعمل أكثر إذا كان فيه حركة، مثل صوت المدّ والجزر وحركة الموج وضجيج الأطفال، وهو الفنان المهتمّ بتحويل الموسيقى إلى أعمال فنيّة، في أعماله التركيبية، المبنيّة على خامة الخشب المأخوذ من شجرة النخيل، حيث تجسّد الريح ارتباطه بالبيئة الطبيعية بريح الشمال والكوس والغربي، من خلال الإيقاع القادم من الطبيعة، والذي يوحي بدلالات الزمن.
ومن الطبيعي أن تحمل الرياح أفكاراً تثير المخاوف وتنقل الإنسان الحسّاس إلى عوالم غيبية وأرواح ربما تكون شريرة، حيث يوحي صفير الرياح بحضور الجنّ والعالم الآخر، وهو ما يدخل في أعمال الدراما والمسرح والسينما، كمؤثر صوتي قوي يستدعي الكثير من محفّزات الذات الإنسانيه على التخيّل والمتابعة.
وبالطبع، فإنّ الرياح، ولكثرة هبوبها، ربما تزيح عن كاهل الأرض أتربةً ورمالاً، فتترك المختصين والباحثين أمام آثار غافية تحت هذه الأتربة والرمال، ولهذا فهي عنصرٌ مهمٌّ في الاكتشافات والبحوث الأثرية. أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الأمثال الشعبية التراث الإماراتي التراث الإمارات الموروث الإماراتي الرياح الشعر النبطي هذه الریاح
إقرأ أيضاً:
كلمات رديئة لميثم راضي.. أن تكون شاعرًا عراقيًا
(الشعر يولد في العراق، فكن عراقيًا لتصبح شاعرًا، يا صاحبي)، من منا ينسى هذا القول الخالد للعظيم محمود درويش؟ فور قراءتي لهذه الكلمات، أتذكر ميثم، الذي دوّخت قصائده الآلاف من قراء الشعر في عالمنا.
لماذا لم يصدر ميثم غير هذا الكتاب "كلمات رديئة"؟ أليس هذا محيرًا؟ لماذا لم يشارك في مهرجانات شعرية وهو الذي بالتأكيد تلقى عشرات الدعوات؟ لماذا لم يظهر للعلن أمام الجمهور إلا في مهرجان المعلقة الشعري في السعودية مؤخرًا؟
نسأل هذه الأسئلة ونحن نعرف أن ميثم، العبقري الذي يحترق في كل نص يكتبه، هو شاعر يتعذب بالشعر ويعذبنا معه. أكاد أتخيله بعد كل نص يذهب إلى المشفى، فالكلمات عظامه، والصور دمه، والحروف قلبه. يهرب ميثم إلى رسومات الكاريكاتير التي يبدع فيها، ويشارك من خلالها في معارض هنا وهناك. يحترق ميثم بالشعر، ويحرق قراءه، ويحرق العالم معه، وكأني به يريد أن يرأف بنا، قائلًا: يكفيكم شذراتي في تطبيق الفيسبوك، دعوكم من الكتب، فلو نشرت نصوصي عبر الكتب، ستسبب لكم حرائق أكبر، وقد تحرق حقولكم وبيوتكم وشرفات بيوتكم، ولن تجدوا أحدًا يقدر على وصف هذه الحرائق.
يكتب ميثم نص المذبحة، ليست المذبحة بالمعنى السياسي فقط، بل بكل المعاني النفسية والفلسفية والإنسانية: (أيها الملاك المسؤول عن توزيع المفاصل، امنح الفتاة التي سيُكتب لها أن تكون أرملة ركبةَ أب). عبقرية ميثم تتركز في موهبة توزيع الألم عبر نصوصه، ولأنه تشكيلي أولًا، فهو يلوّن الألم الإنساني بطريقة تصدم وعينا، ويرسمه وكأنه يحفره في ذاكرتنا. لم أقرأ لشاعر عربي هذه القدرة على ترتيب الكلمات بطريقة تشبه السحر: (أنا أعتذر لك يا صغيري، لقد علمتك الكلام ثم تركت لك الأيام التي لا يمكن التعبير عنها).
في العراق المذبوح حد اللامعقول، بالفعل، هنا ثمة عجز عن التعبير، إلا عند ميثم، فهو ملك العبارة المختلفة، الصاعقة، الحارقة، المنفلتة من كل معتاد. نمت قدرة ميثم على التقاط ورسم حواف الهاوية البشرية داخل جحيم الموت العراقي، وبموازاتها نمت معها لهفتنا في انتظار لسعاته الرهيبة.
صدر هذا الكتاب الصغير عام 2015 عن دار المتوسط في ميلانو، بواحد وعشرين صفحة، وما يعطي هذا الكتاب أهميته وما يجعلنا نحتفي به ليس فقط فوزه قبل أيام بجائزة المعلقة الشعرية في السعودية عن فئة النثر، حيث ضمت المسابقة ثلاث فئات شعرية رئيسية: الفصيح، الحر، والنبطي. تشكلت لجنة تحكيم فئتي الشعر الفصيح والحر من نخبة من الأدباء والشعراء، وهم الشاعر العراقي عارف الساعدي، والشاعرة والكاتبة السعودية فوزية أبو خالد، والشاعر السعودي محمد إبراهيم يعقوب.
فبعيدًا عن الجائزة، التي سبقتها آلاف الجوائز التي حصل عليها العراقي ميثم الراضي من متابعيه ومعجبيه، على شكل حب متواصل وبحث محموم عن كتبه، تشكل تجربة ميثم ظاهرة شعرية فريدة من نوعها. تصور هذه التجربة غرابة الحياة بطريقتها الخاصة، ففي الحياة داخل العراق، وهو بلد الشاعر، ثمة أحداث غير معقولة حدثت وتحدث. يكتب عنها الشاعر بلغة بسيطة، لكنها ليست أي لغة، بل داخل تجربة الشاعر ثمة دروب فلسفية تنتمي لتصوره وحده:
انظروا هذه الصورة في أول الكتاب: (تحاول الكلام مثل طفل لم يعرف نارًا أكبر من عود ثقاب، وعليه الآن أن يصف غابة كاملة تحترق).
كُتبت عن كتاب "كلمات رديئة" العديد من المراجعات النقدية والقراءات منذ صدوره نهاية 2015، وتوزعت عبر عدد من المواقع والصحف العربية. من بينها قراءة الشاعر والمترجم التونسي أشرف القرقني، التي جاءت بعنوان: نصوص شعرية يدخلها القارئ شخصًا، ويخرج منها شخصًا آخر. ومما جاء فيها:
"إنَّ الشَّاعر يدوّن محاولة خلق أيّامهِ من جديد في اللّغة وعلى نحو فنّي، بوصفها إشارة حارّة إلى ما لا يقال في أيّامنا المغرقة بدماء الأطفال ورؤوسهم المقطوعة. وفي هذا المستوى تستعيد الكتابة الحديثة عمقها الفلسفيّ، فلا مجال للخطابة والصّراخ الذي امتلأت به أرواحنا وآذاننا. لا مكان يتّسع لزركشة بلاغيّة أو حذلقة بيانيّة."
الشاعر في سطور
ميثم راضي عباس، من العراق، يسكن في مدينة العمارة جنوب العراق. يعمل مهندس كهرباء في دائرة الصحة، وهو رسام كاريكاتير منذ أكثر من 25 عامًا، حيث أقام معارض داخل العراق، ونشر رسوماته في الكثير من الصحف والمواقع العربية. يكتب منذ عام 2010، وينشر على الفيسبوك فقط، ولم يشارك في أي مهرجان شعري، ولم يصدر سوى كتاب واحد بثلاث طبعات.