د. عزالدين عناية
صحيحٌ لكلّ فصل من فصول السنة طقوسٌ مميزة في الاستجمام، ولكنّ فصل الصيف له نواميس خاصة في القراءة والسفر والدّعة، فهو الفصل الذي يجعلني في حِلّ من التزامات الشغل وضوابطه. ولهذا أرى الصيف إغواء بالرحيل في الكتب، والرحيل في الجغرافيا أيضاً، وكلاهما عندي انعتاق. وقد يقول قائل: لكلّ فصل قراءاته ولكلّ موسم آدابه، ولكن في عرفي لا ارتباط للفصول والمواسم بنوعية القراءة.
أعود إلى عُرف القراءة لديّ، غالباً على مدار السنة ما أنتهز فرصة المطالعة كلّما وجدت متّسعاً من الوقت خارج ضوابط التدريس، وإن كان الشغل لديّ بدوره على صلة وثيقة بالقراءة ومتابعة الجديد، ولكن في هذا الجانب القراءة هي نوع من الفعل الإلزامي. وعلى العموم في تقليد القراءة معي ثمة نوعيتان من القراءة: إحداهما إلزامية على صلة بالدرس والبحث والترجمة والكتابة، والأخرى اختيارية للمتعة والانعتاق، أي لأدنوَ من فهم العالم والترويح عن النفس. فلست من صنف جمّاعي الكتب وتكديس الوثائق، للفرجة أو للتخزين أو للاستعراض، بل أحاول أن أَلْتهم في التوّ ما تقع عليه يديّ ولا أعرف للادّخار في ذلك سبيلاً.
شفاء للروح
كما هو الصيف إغواء بالرحيل في الكتب والقراءة الماتعة، هو أيضاً إغواء بالرحيل في الجغرافيا لدى شقّ آخر من السائحين والحالمين، وكأنّ في الرحيل شفاء للروح من فَقْد دفين في الذات، يلازمها منذ مراحل الطفولة الأولى. ولعلّ الرحيل في ما دأبتُ عليه، فرصة للانبعاث والتعمّد ثانية، وذلك منذ أن هجرت مرابع الطفولة واخترت روما مقاماً. ولا أسمّي مقامي الروماني دار الهجرة، أو مقام الاغتراب، أو بلد المنفى، كما يقول البعض، لأنني حين أخلو بنفسي لا أجد شيئاً من ذلك الإحساس.
فما من شك أنّ الترحال يؤجّج شهيّةَ الكتابة لدى العديد من المبدعين، بما يخلّفه الاشتباك بأحوال وأوضاع جديدة، من تزاحم للأفكار وتدفق للمشاعر في ذهن المبدع وعواطفه الجياشة. ولذلك صاغ كثير من الكتّاب والشعراء والفنانين أعمالاً في منتهى الروعة، في السابق والحاضر، ضمن ما يعرف بأدب الرحلة أو الأعمال الاستكشافية.
حالة الفوران تلك أَلمّت بي في المراحل الأولى من حلولي بإيطاليا. أتيتُ من أوساط قروية في تونس ومن جامعة تاريخية، «الزيتونة»، قضيت فيها زهاء العقد دراسة وبحثاً. فكانت المقارنات والموازنات تكتظّ في ذهني جراء التحول الجديد الذي بتّ أعيشه والنموذج المتجذّر الماثل في اللاوعي في شخصي. لتغدو النظرة إلى إيطاليا لاحقاً، وإلى الغرب عموماً، أكثر تريّثاً، وأقلّ انفعالاً، وأدنى توهّجاً بعد أن صرت جزءاً من الغرب، وقد مرّ على مقامي فيه ما يناهز الثلاثة عقود. لكن في أجواء الترحال والتحول والدراسة والتدريس في إيطاليا، تنبّهتُ إلى أنّ ثمة إدراكاً آخر ووعياً آخر ما كنت أتنبّه إليهما حين كنت أعيش داخل ثقافتي العربية وفي أوضاع سوسيولوجية بسيطة، ألا وهي القدرات الهائلة التي بحوزة الغرب للتحكم بالعالم، ليس فقط في مساراته السياسية وأحواله الاقتصادية، بل في أنماط تفكيره وصناعة أذواقه، ولعلّه الدرس الأعمق الذي وعيته بالتدرّج. أعود إلى الوراء ثانية لأعي مزية الترحال والأسفار والهجرة.
الشغف بالأسفار
تُحدّثنا الروايات الأولى للتطورات العلمية في الغرب أنّ الأُسر النبيلة، منذ بدايات القرن السابع عشر، كانت غالباً ما تحرص على حثّ أبنائها على خوض غمار الرحلة والشغف بالأسفار كتدريب على الاندفاع والإقدام والقيادة، بالاطّلاع على تجارب الأغيار وأشكال عيشهم. ولذلك كان جلّ الرحالة الغربيين الأوائل نحو البلاد العربية، سواء من النساء أو الرجال، من أُسر من علية القوم. القائمة طويلة في هذا، المؤرخة جيرترود بيل التي أسهمت في تأسيس متحف بغداد سنة 1923 وقد تم تدشينه خلال العام 1927، والمستشرق الأمير ليونه كايتاني (1869-1935) مؤلف الأعمال الموسوعية «دراسات التاريخ الشرقي» و«حوليات الإسلام» وغيرهما كثير. كانت الأسر الأرستقراطية في الغرب تحرص على تقليد الرحلة في أوساطها، وترى في السفر تدريباً مفيداً على مجابهة الصعاب وتعزيز مكتسبات الوجاهة المعنوية والرمزية لديها، وبالتالي تسعى جاهدة إلى غرس تقليد التشوف بعيداً في نفوس أبنائها.
فكانت قوافل الشبان والشابات ممن يتحدّرون من البرجوازية الصاعدة، يخوضون جولات كبرى بين آثار روما وصقلية واليونان، ويبلغ نفرٌ منهم الحواضر العربية القديمة: قرطاج، ولبدة، وشحّات (قورينة)، وأهرامات مصر، والقدس، وتدمر، وبابل، ومنهم من تستهويهم الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا أو صحراء الجزيرة العربية وأهوالهما الغرائبية في المخيال الغربي.
في مؤلّف بعنوان «الرحالة العرب في القرون الوسطى» صدر في ميلانو (2021) للإيطالية آنّا ماريا مارتيللي، تُبيّن الباحثة أنّ تطوّرَ فنّ الرحلة لدى العرب ترافقَ مع تمدّد الإسلام، وكان لعامل أداء فريضة الحجّ دورٌ بارز في تحفيز المسلمين على التنقل والسفر. ولكن الرحلة في التقليد العربي ما كانت محصورة بالحجّ، بل جاءت العديد من الرحلات مرتبطة باستكشاف الآفاق البعيدة وبغرض البحث العلمي، ولا سيّما الرحلات المتّصلة بجمْع الحديث النبوي. لكن الرحلة إلى أطراف العالم الإسلامي، جاءت أيضاً بدافع نشر المذهب وترويج الرأي المغاير، فقد تخلّل تاريخ الإسلام المبكر رحيل عائلات سياسية وتلاميذ مدارس فقهية وكلامية، بغرض نشر آرائها في الأقاليم النائية، وهو حال المذاهب الفقهية والكلامية والطرق الصوفية التي تمدّدت وانتشرت في نواح نائية مشرقاً ومغرباً.
وجرّاء هذا الولع المتأصّل لدى العرب بفنّ الرحلة، تشكّلت تقاليد وعوائد في شتى الأصقاع. إذ تخضع العملية إلى نظام داخلي مراعى، يتغيّر بحسب المسار والمناخ، فضلاً عن المحطّات التي يحطّ بها الرحالة، والتي عادة ما تكون خانات أو تكايا وزوايا أو أماكن وفادة داخل الرباطات الحدودية. هذا وقد تكون الرحلة برّية في مجملها، وقد تكون بحرية في جزء منها كما كان يخوضها أهالي بلاد المغرب والأندلس، حين ينزلون بالإسكندرية ثم يُكملون طريقهم برّاً نحو البقاع المقدّسة.
وعلى المستوى الغربي كانت فورة العقلنة والشغف بالبحث العلمي دافعين لخوض العديد من المغامرات مع كثير من الرحالة والباحثين. فقد كان السعي لاكتشاف العالم، ومن ثَمّ ضبط القواعد في شتى المعارف والعلوم الناشئة حافزاً للرحلة وارتياد الآفاق البعيدة ورصد الشعوب ومعاينة الآثار. عبّر عن هذا التحفز والنفور من الانطواء جيمس كليفورد بقوله: «إذا كنّا نريد صياغة حقائق على هوانا فالأحرى أن نمكث في البيت». أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: أدب الرحلة أدب الرحلات السفر
إقرأ أيضاً:
كيف زيِّفت أوروبا ذاتها الحضارية؟!
••هل تنهض المجتمعات لخصائص ثقافية متأصلة فيها أم يعود الأمر لسبب آخر؟ إن هذا السؤال يحتل موقعاً مركزياً في البحوث الاجتماعية المعاصرة، ويراد به فحص الجدل الدائر حول أسباب النهضة والتقدم الاجتماعي، ولعل طرحه يعود لفترة أقدم حين اطمئن علماء الأنثروبولوجيا إلى فرضية علاقة القيم الثقافية بقضية النهضة في الحياة الاجتماعية من مناحيها كافة، فالبعض منهم وضع شرطاً أساسياً لتركيز عمليات النهضة، وهو تحصيل التعليم وبناء المؤسسات، ولكن أكبر انعطافة هددت وثوقيات الاجتماعيين حول دور القيم الثقافية واعتبارها المرتكز الأساس في نهضة الشعوب، كانت على يد جاك غودي (توفي 2015م) الأنثربولوجي الإنجليزي والمحاضر الأشهر في جامعة كمبريدج، وغودي ومنذ الستينيات حين أصدر كتابه «محو الأمية في المجتمعات التقليدية «1968م» استطاع هدم الأساس الذي تقوم عليه المركزية الأوروبية ابتداءً من عصر النهضة وحتى الآن، وهي فرضة تشدد على أن ثمة خصائص «أوروبية بالطبع» موروثة من الحضارات اليونانية واللاتينية ثم من الأديان يهودية ومسيحية كلها هي التي مكَّنت لهذا الغرب من إنجاز عمليات النهضة، وما أعاق هذه العمليات في المجتمعات الأخرى هو فقدانها هذه الخبرة الثقافية المستندة إلى العقلانية والتي تنتشي فيها روحانية الشرق، وبذا فإن العالم الغربي تقدم لأنه صنع تاريخاً علمياً تسنده قيم ثقافية مكتسبة من سياق معرفي خاص، هو سياق الذات الغربية من اليونان وحتى عصر التنوير لينتج نهضةً ثقافية شاملة، أما غودي فإنه يقف على النقيض من ذلك تماماً، ويرى أن هذه السردية معرضة دائماً إلى التزوير وطغيان الأنا أكثر منها حقيقة اجتماعية، ليقول في تحليله أن تقدم جزء من العالم في الوقت الذي يتزامن معه ركود في أجزاء أخرى لا يعود إلى الخصائص الثقافية المتأصلة في طرف وغائبة في آخر، بل إن مسألة التقدم خاضعة وباستمرار لديناميكيات يمكنها أن تتوفر وفق عمليات مستمرة من التحديث الذاتي.
•وغودي نشر في العام 2007م كتابه «سرقة التاريخ» وهو بيان متماسك عن الكيفية التي استطاعت بها أوروبا أن تنسب لنفسها تراثاً علمياً لا يخصها بالدرجة الأولى، بل الأمر يشبه «السرقة» وأنها بموجب هذا التراث المركب بعنف التدوين بنت عليه قيماً إنسانية، قالت أنها أوروبية، أوروبية فقط، ويشير غودي إلى أن هذه المركزية أجبرت بقية العالم على ارتداء أقنعة تفكير لا تبصر معالم للتقدم إلا من وجهة نظر غربية في الأساس، واستمراراً في مشروعه صدر كتابه «الشرق في الغرب» والذي يعد نظرية في فضح الإدعاء الغربي بامتلاك العالم وصناعته بل وصياغة قيمه بشكل أحادي ومطلق، وقد صدر هذا الكتاب في نسخته العربية بترجمة محمد الخولي، والحقيقة أنه لا عذر لمن يشتغلون في المسألة الاجتماعية متخصصون ومهتمون من الإطلاع عليه ودراسته ونقده، وذلك للفائدة العظمى، ليس فقط كونه يفضح عمليات التنهيب التي مارستها أوروبا على العالم، وكيف صنعت أقانيم خالدة تحط من قدر كل ما هو غير أوروبي، بل الفائدة الأكبر تعود إلى كونه منجز محكم التأسيس قوي الحجة، ولدقة أحكامه فإنه يطرح التساؤل حول، متى أصبح الأوروبيون على وعي بتفوقهم بالنسبة إلى سائر الأمم؟» وفي إجابته عن هذا السؤال يقدم لنا مادة تحليلية عميقة وذات تكوين متسق يفسر بها بعض المقولات التي صنعت هذا التمايز، بل ويقوم بتفكيكها بشكل منهجي عظيم. ويستمر الرجل في هدم التصورات الأوروبية حول مركزية الغرب ضد الشرق، ويرى أن حضارات أوروبا وآسيا نشأتا من أصل واحد، بل ويرى في منجزات الفكر السياسي الأوروبي المرتبط بتطور ظاهرته الاجتماعية كونها استندت على ترسانة فكرية هي أسس عمليات التطور الاقتصادي، فإنه يرى من ضمن مقولاته الهادمة لخديعة الغرب بأن الديموقراطية ليست صناعة غربية، فهو يرى أنه إذا كان القرن الخامس عشر هو بدايات هيمنة أوروبا على العالم، وهي هيمنة أفصحت عن نفسها بمقولة رئيسة وهي أن الشرق المتخلف يحتاج إلى النهضة، والتي لن تتم إلا على يد الغرب، فإن وسم الشرق بالتخلف لا يعدو إلا عملية احتيال ممتازة العرض، فالصين ظلت البلد الأقوى في صناعة البارود منذ زمن بعيد، وهي الصناعة التي مكنت لأوروبا التوسع وغزو العالم، ولولا البارود الصيني لما استطاعت القيام بهذا الكم من عمليات الغزو لعدد من البلدان، وهو هنا يشتبه بقوة في رواية التقدم الغربية تلك التي صنعت لنفسها مساراً خطياً يبدأ من بترارك «فرانشيسكو، أحد أعمدة التفكير الإنساني في عصر النهضة» وحتى ديكارت صاحب نظرية الشك وقواعد المنهج، ويرى الأمر مجرد خدعة، فكونها «أوروبا» اعتمدت في نهضتها على بناء أسطوريتها القومية، هي تلك التي استعادت اليوناني وأدمجته في ذاتها الاجتماعية لتقول بثبات عمليات النسب الحضاري فيها، والرجل محق فالأمر ليس إبداعاً أوروبياً فالحقيقة أن عمليات استثمار الماضي هي دينامية مستقرة في أي بناء اجتماعي متحرك.
•لقد تركز نقد غودي على «عصر النهضة» أو بالأدق على الجانب المظلم في هذه السردية، وأن الأمر ليس كما تعرضه المركزية الغربية وهي تبشر بحداثتها إبان عصر التنوير، وأنه لا صحة لهذه السردية القائلة بتواصل عمليات الانتقال الحضاري منذ اليونان وحتى إيطاليا النهضة، بل يرى أنها فترات عاشت فيها الذات الحضارية الأوروبية انقطاعاتها الكبرى، فسقوط الإمبراطورية الرومانية، وبدأ اعتناق شعوبها المسيحية، ثم ظهور عهد الإقطاع وما تلاه من تطور في الاقتصاد السياسي فإنه لا يمكن والحال كذلك أن نطمئن لوجود منظومة قيم ثقافية هي سبيل لأوروبا للحصول على التفوق الحضاري دون غيرها من الأمم..
•إن جملة المناقشات حول الغرب والشرق ظلت خامدة ودون تأثير إلى أن قام جاك غودي وبفضل قدراته استخدام مناهج التحليل التاريخية والتجريبية والمقارنة في علم الاجتماع من فتح مسارات جديدة لفهم هذه العلاقة، نعم هو يريد الذات الغربية محل للدرس، وليس الآخر، فالآخر يظل انعكاس لعمليات التحليل عنده، ولذا فإن سجالات النهضة العربية لن تفلح في بناء حقائقها دون الوقوف الجاد على جدل النهضة والتقدم في الكتابة الغربية، وغودي هو أحد أهم الأمثلة المنتجة لفهم جديد في سياق علاقات الغرب والشرق، بل إن حتى الفضاء السياسي الذي يصر على احتقاب نظرة متعالية ضد كل ما هو شرق، وبالتالي عربي هو الآخر فضاء يقوم على بنية معرفية أهم ملامحها الخديعة بوجود تفوق وامتياز غربي مطلق كونه عقلاني النزعة، ضد تخبط وتراجع مستمر لشرق عاطفي التوجه، والدعوة هنا أن نبنى فضاءً تداولياً بين المعرفي في الغرب والشرق، لا أن نكتفي بالصدى دون فهم حقيقي لجذور الوعي الغربي، حينها فقط ستكون أشغالنا مستقلة وليست مجرد ردود أفعال مكتومة.
غسان علي عثمان كاتب سوداني