الخليج العربي.. مُلْهِم «أدب الرحلات»
تاريخ النشر: 1st, August 2024 GMT
إيهاب الملاح
«عمّ تبحث أيها الرحالة؟ أيُّ العواطف يجيش بها صدرك؟ كيف تسوس غرائزك وشطحاتك؟ لِمَ تقهقه ضاحكاً كالفرسان؟ ولِمَ تذرف الدمع كالأطفال؟»
(افتتاحية رواية «رحلة ابن فطومة» لنجيب محفوظ، ص1، دار الشروق، القاهرة)
بعض النصوص العربية يمثل «النص المركزي» في تراث الإنسانية فيما يعرف الآن بسرديات «أدب الرحلات».
(1)
عبر ما يقرب من القرون العشرة، لم يخل تراثنا السردي (الأدبي، القصصي) من نصوص ملهمة في أدب الرحلة والرحلات، سواء منها ما ابتغى الوصف والدراسة والتحليل (وصف الأرض ورسم الخرائط وتحديد المواقع)، أو ما أطلق لخياله العنان، وتحرر من أي قيد أو تقييد وأبدع في تخيل فضاءات وعجائب وغرائب، وما لم يتسن الحصول عليه بالمشاهدة والمعاينة والرصد والتوصيف، يمكن الحصول عليه من خلال الوهم والتوهم والتخيل والتخييل!
طاقة إبداع عجيبة ومدهشة أتاحت لنا نصوصاً لا مثيل لها في جمالها ووقعها وأثرها، بل إن بعض هذه النصوص قد أصبح يمثل «النص المركزي» في تراث الإنسانية فيما يعرف الآن بسرديات «الرحلة» و«أدب الرحلات» وفانتازيا العجائب والغرائب!
فمن يملك «ألف ليلة وليلة»، ورحلات السندباد البحري، وكتب غرائب المخلوقات وعجائب الموجودات، ورحلات البغدادي، وابن جبير، وابن فضلان، وابن بطوطة، والنابلسي.. إلخ، وكتب تدوين رحلات الحج والارتحال في طلب العلم، فضلاً على نصوص كتب عجائب الهند والصين.. إلخ، وكتب البلاذري وياقوت الحموي والبيروني والمسعودي وأضرابهم في كل قرن هجري، أقول إن من يملك هذا الرصيد الوافر من النصوص المدهشة حري به أن يتصدر قائمة أكثر الأمم إبداعاً وخيالاً وانطلاقاً وليس العكس!
(2)
تراث زاخر من القصص والحكايات في تراثنا العربي، الرسمي والشعبي، المدون والشفاهي على السواء، التي تمحورت حول «الرحلة»، و«الارتحال»، والسعي وراء المجهول، والبحث عن «غرائب المخلوقات وعجائب الموجودات» (إذا استعرنا عنوان كتاب القزويني الشهير)..
و«الرحلة» هنا، و«الارتحال» بالمعنى الحقيقي والمجازي على السواء، وقد توفر على درس هذه التراث ووصفه وترسيم حدوده باحثون كثيرون في العالم العربي، بل وفي أوروبا وأميركا أيضاً (ثمة كتب مهمة باللغة العربية عرضت للرحلة وأدب الرحلة والرحلات، لا يتسع المجال للوقوف عندها تفصيلاً، لكن تكفي الإشارة إلى كتاب المرحوم سيد حامد النساج «مشوار كتب الرحلة قديماً وحديثاً»، وهو كتاب تعليمي بامتياز، ومثله كتاب المرحوم الدكتور شوقي ضيف «الرحلات»، وأخيراً كتاب الدكتور حسين نصار عن «أدب الرحلة»، هذه مجرد نماذج وعينات، والحديث يطول حول ما أنجز من كتب ودراسات حول الرحلة وأدب الرحلات).
أشكال وألوان من الرحلة والرحلات، منها: «الرحلة البرية»، و«الرحلة البحرية»، ومنها «الرحلة للحج»، و«طلب العلم»، و«مجاورة البيت»، ومنها «الرحلة في سبيل البحث واكتشاف المجهول، ومنها«الرحلة الواقعية»، و«الرحلة الخيالية».. إلخ.
والمساحة تضيق عن الوقوف تفصيلاً عند كل هذه الأشكال والألوان من الرحلة والرحلات، كما تضيق عن السرد التاريخي ومراعاة الترتيب الزمني، فذلك يستدعي دراسة تفيض مادتها عن حيزنا هذا، فليكن الانتقاء والتحديد سبيلنا إلى التركيز وتسليط الضوء على عينة شائقة من هذه الذخيرة الوافرة!
نقف أمام عينة دالة من أدب الرحلة تقع على التخوم بين الواقعي والخيالي، وتمثل الحد الفاصل بين البري والبحري، وتمزج ببراعة بين الوصف والتعيين والتخيل والتوهم وإبداع لا يحد.. إذن نحن بصدد الحديث عن «الرحلة عبر البحار»، أو أدب الرحلة البحرية أو القصص البحري..
(3)
وإذا كانت الراحلة الدكتورة سهير القلماوي، رائدة دراسات الليالي، وأول من يتوفر على درس حكايات وقصص «ألف ليلة وليلة» وتحليل موضوعاتها، فإنها لم تهمل الوقوف عند ذلك اللون من القصص الذي تمحور حول «الرحلة» و«الارتحال»، وبخاصة تلك التي تجوب البحار وتواجه الأهوال وترى العجائب والغرائب، ونتج عن ذلك ما عرف بالقصص البحري، والحكايات التي تمحورت حول البحر، وبخاصة في الليالي، حتى وإن لم تفرد لها باباً بذاتها في أطروحتها التأسيسية الشهير حول «ألف ليلة وليلة».
ذلك أنها وبعد سنوات من إتمام أطروحتها استكملت جانباً أو أكثر من جوانب الدرس والتحليل في قصص (الليالي)، ومنها قصص الرحلة البحرية في التراث الشعبي عموماً، وليس في«ألف ليلة وليلة فقط، وذلك في مقالة مهمة نشرتها في الستينيات من القرن الماضي، لكنها احتوت على إشارات وأفكار في غاية الأهمية، خاصة فيما يتصل برصد واستخلاص سمات وخصائص الرحلات البحرية والقصص البحري والحكايات البحرية في التراث الشعبي.
وكانت«البحار» مهاد أحداث يمكن أن تجمع في يسر طرافة الموجودات وشذوذ الأحداث وتلاطمها واصطخابها، فالبحر «يُعرف أوله ولا يُعرف آخره، يُرى سطحه ولا يُعرف ماذا في قاعه، وهو في بعده وعمقه وتلاطم أمواجه وعواصفه حقيق بأن يوحي بالغموض والإبهام، وبضعف الإنسان لولا رحمة الخالق، وهو حريّ بالتأمل المؤدي إلى الاعتراف بعظمة الكون»،
لذلك وجد القاص الشعبي -في الشرق والغرب- مادة وفيرة لمناظر القصص وحوادثها وأبطالها في هذه البحار، وصراع الإنسان مع البحر، وتأمله لعظمته وضياعه في تيهه، كانت موضوعات قصص شعبي وغير شعبي على مدى العصور وفي مختلف البلاد.
(4)
وتسلط القلماوي أضواء معرفتها المنهجية لتكشف طبيعة العلاقة بين الموتيف البحري الشهير المتمثل في «ينزل البطل إلى البحر وسرعان ما تعصف به الرياح، فإذا هو ضال على شفا الموت يكاد يموت ويفنى ولا يدري به أحد لولا ما تعلق به من بقايا مركب»، وإذا قدرات الإنسان كلها في حالة طوارئ قصوى، يعمل قوته البدنية والعقلية ليجد الخلاص، والبحر يمده بالأمل حيناً، وباليأس أحياناً ولكنه يصارع»، وبين رؤية القاص الشعبي أو الخيال الشعبي لطبيعة هذا الصراع..
فالقاص الشعبي -وفق الدكتورة القلماوي- لا يعنيه هذا الصراع مهما تفنن فيه بما شاء، صراع مع البحر أو حيوانات البحر، أو في سبيل لقمة العيش..
وليأخذ هذا الصراع دلالاته الرمزية الراقية، كما نجد في رواية حديثة مثل «العجوز والبحر» لهيمنجواي، أما القاص الشعبي فلا قبل له بكل هذا، وسرعان ما يُدخل «القدر»، أو «الصدفة» ليحل الموقف موقف الصراع، فهناك دائما «شاطئ» على البر، وهناك دائماً «جزيرة» تلوح من بعيد كسراب، ثم يصل إليها، وفي تلك «الجزيرة» يصادف البطل العجب من المرئيات والمحسوسات والعجب أيضاً من الأحداث.
وتستقصي القلماوي مفردات وتفاصيل هذه «الغرائبيات» و«العجائبيات» التي يواجهها بطل هذه الرحلات «المتخيلة»، فهو «يصادف قوماً شذاذ الخلقة يشابهون الإنسان في أشياء، ويختلفون في أشياء أكثر، يشابهون الطيور والحيوانات المعروفة ويختلفون أكثر، ويتفنن خيال القاص في التركيبات التي يخترعها من الإنسان والحيوان والطير لخلق مخلوقاتٍ لا ظل لها في الواقع، ولا وجود لها إلا في رؤاه. ولهؤلاء القوم أو الحيوانات عادات وتصرفات تدفع بالحدث نحو التوتر والقمة، وسرعان ما يجنح القاص بعد أن يستوفي حظه من الطرافة والجدة إلى أن يوصلنا إلى ختام أو شبه ختام سعيد لأهوال البحر وصراعات البقاء».
وطبقة التجار، وهم أبطال القصص وأبطال الحياة في كثير من أزمانها القديمة، عرفت البحر في أسفارها وارتحالاتها ومارست أهواله في سبيل الرزق، وشهدت كثيراً من عجائبه. لذلك فهي تحن إليه، وإلى أخباره دائماً. إنها لا تسافر فيه فحسب، ولكنها تسمع كثيراً أيضاً أخبار من سافروا، ونحن إذا ذكرنا البحر ورحلاته في الأدب الشعبي لا بد ذاكرون بطله العربي العالمي الآن وهو «السندباد البحري» الذي أصبح اسمه علماً على السفر الكثير، بل إنه صار أيقونة أدب الرحلة الخيالية ورمز «الرحَّالة» في المخيال الشعبي العربي والإنساني عموماً.
(5)
و«الرحلة البحرية»، أو «الارتحال عبر البحار» التي عرفها القصص الشعبي تمتاز كل منها عن الأخرى امتيازاً واضحاً يعود إلى طبيعتها ومكانتها من الكرة الأرضية، وكان لكل «بحر» في هذه القصص ميزة واضحة خاصة به تسيطر وحدها على سير الأحداث فيه. فلا مجال في القصص الشعبي لتزاحم الخصائص وصراع الأضداد. «البحر» كفضاء للارتحال له ميزة غالبة هي وحدها التي تكيف الجو كله، وتدير الحوادث كلها، فما يقع في «الخليج العربي» وما يطل عليه من «محيط» يختلف تماماً وكلياً عما يقع في البحر الأبيض المتوسط أو «بحر الروم» كما عرفه المؤرخون المسلمون والقصاص العرب، كل هذا أيضاً يجب أن يختلف بوضوح عما يقع في «بحر الظلمات»، وما ورائه أو المحيط الأطلنطي.
أما الخليج العربي فقد كانت له الصدارة في قصص التجار في الأدب الشعبي، والمغامرات التجارية والإنسانية عامة، وجدت فيه مصدراً خصيباً للخيال المتنوع والأحداث المختلفة المشوقة.
وتتوالى الأحداث من حب ومغامرات إلى سرقات وعصابات، كل هذا في استعراض مثير حي - يا ليت قصاصي اليوم يعرفونه ويستغلون مادته، ويستلهمونه في خلق واقعية سحرية عربية خالصة.
وتتوالى الحوادث وفيرة الخيال عجيبة التركيب، والتاجر يعود من هذه البحار والمغامرات والرحلات عادة بمادة غريبة لا يعرفها القوم الذين يصل إليهم، وقد كانت في الجزيرة التي عثر عليها فيها مادة مهملة لا ثمن لها ولا وزن، فيحمل منها ما شاء أحمالاً، حيث يوصلها ويبيعها بثمن خرافي مستغلاً القاعدة الأولية البسيطة في عالم التجارة من أن ثمن المادة يحدد بسوق العرض والطلب ومدى الحاجة إليها في مكان دون آخر، وعند قوم دون آخرين، ويعود إلى بلده آخر الأمر، قرير العين مرتاح البال مملوء الخزائن.
وسكان هذه الجزر إذا سمعوا من الخليفة البغدادي، وهو هارون الرشيد دائماً في القصص الشعبي (أو لا اسم له) وإنما يكفي أن يقال مولانا الخليفة) فإنهم يعظمونه ويبعثون إليه بهداياهم، وتحفهم ويكرمون هذا الوافد من مدينة السلام الذين يعرفونها ويعرفون قدر سكانها.
في الختام الحديث عن فضاءات وتضاريس الرحلة والارتحال بين «جغرافيا الوهم» والخيال، وبين «عين الجغرافيا المبصرة» الكاشفة يظل مفتوحاً على كثير من الرصد والقراءة والتحليل. أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: أدب الرحلات الخليج العربي التراث الرحلة البحریة ألف لیلة ولیلة الخلیج العربی أدب الرحلات لها فی
إقرأ أيضاً:
مرايا الوحي : المحاضرة الرمضانية الثانية للسيد القائد
( المحاضرة الرمضانية الثانية )
"يجلس الدكتور أحمد مع نجليه صلاح ومنير على أريكة غرفة المعيشة، يتابعون قناة المسيرة.
الدكتور أحمد، أستاذ الفقه المقارن في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، يتابع محاضرات السيد القائد منذ ثلاثة أعوام، وقد أعجب منذ العام الأول بطريقة سرد السيد القائد لقصص القرآن الكريم وربطها بواقع الأمة الحالي.
أما نجَلاه صلاح ومنير، فيدرسان في كلية الطب بالجامعة ذاتها.
وقد بدآ متابعة المحاضرات منذ العام الماضي، حيث انجذبا إليها بسبب الموقف اليمني الداعم لمظلومية أهل غزة.
يتحدث الدكتور أحمد إلى نجليه قائلًا: «أشار السيد القائد في محاضرة الأمس إلى أنه سيبدأ اليوم بسرد قصص القرآن الكريم، وكلنا شوقٌ لمعرفة القصة الأولى في سلسلة هذا العام !
انطلقت المحاضرة للتو وتسمر الثلاثة لمتابعتها بكل شغف واهتمام :-
ماذا أتى في القرآن الكريم نماذج معينة من القصص والأحداث التاريخية، وما يميِّز العرض القرآني والتقديم القرآني لما قصه من قصص عن الماضي، ونبهنا أن القرآن الكريم هو كتاب هداية، وفي الأساس ليس كتاباً تاريخياً، أو يُقدِّم العرض والسرد التاريخي كما هي الكتب التاريخية، أو يقدم القصص كذلك كما هي الكتب المتخصصة في هذا المجال، ولكنه أكبر وأهم من كل ذلك، القرآن الكريم هو كتاب هداية؛ ولذلك فما قدَّمه من نماذج متنوعة من القصص والأحداث التاريخية، قدمه كأسلوب من أساليب الهداية، ولذلك ضمَّنه الكثير من الدروس والعبر، وعرض فيه الكثير من الحقائق المهمة جداً، ولذلك فهو غنيٌ بمحتواه من الدروس، ومن العبر، ومن الحقائق، ومن المفاهيم العظيمة، التي هي كلها تندرج تحت عنوان الهداية، فيها هدايةٌ لنا نحن في واقعنا، في ظروف حياتنا، في ديننا، استلهام القيم العظيمة والأخلاق العظيمة، عندما نسمعها ونراها متجسدةً في الواقع، فيما عرضه الله لنا من النماذج الراقية من أوليائه من الأنبياء، والرسل، والمؤمنين... وهكذا.
- هل لاحظتم يا ولديّ الهدف من القصص القرآني كما اشار لهما السيد وهما :-
- الهداية والإرشاد، وليس مجرد سرد تاريخي.
- تقديم دروس وعبر تُساهم في فهم واقع الأمة واستلهام القيم.
الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قال في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء:89]، فكان من ضمن ذلك هو ما أتى به من القصص والأنباء في نماذج معينة مختارة بهداية الله، بعلمه، بحكمته، يختار لنا احسن القصص التي تتضمن دروساً مهمة نحن في أمسِّ الحاجة إليها، وتعرض لنا حقائق مهمة، وتعرض لنا السنن الالهية، وهذا من أهم ما في القصص القرآني.
أيضا هي- كما أشرنا في شهر رمضان المبارك من العام الماضي- هي من معالم الرسالة الإلهية؛ لأنها من أنباء الغيب، وأوحاها الله إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ، وهو أميٌّ في مجتمعٍ أميٍّ، لم يكن يعلم شيئاً عن ذلك؛ ولهـذا قال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49].
هي أيضاً ملهمةٌ في مقام التأسي والاهتداء، كما ذكرنا عن قصص الأنبياء والمؤمنين، وقال الله "جَلَّ شَأنُهُ": {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}[هود:120].
المميزات للقصص القرآني مميزات عظيمة ومهمة، الله "جَلَّ شَأنُهُ" قال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3]، في مقدمة هذه المميزات: أنه من الله، الذي قصَّ علينا تلك النماذج من القصص هو الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ وبالتالي فهي حقٌّ، كل ما ورد فيها من تفاصيل وحقائق، ليس فيها أي شائبة من الشوائب التي يتعرض لها الكثير من القصص التاريخية، والأحداث التاريخية، والكتب التاريخية؛ أمَّا ما قدَّمه الله لنا في القرآن الكريم فهو حقٌّ خالص، ليس فيه أي شيءٍ من الزيف، ولا من الخرافات، ولا من الأساطير، ولا من الروايات غير الصحيحة، فهو يأتي لنا بالحق في ذلك، وبالحقيقة الخالصة النقية التي لا يشوبها أي شائبة؛ ولهذا يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ}[الكهف:13].
ثم أيضاً الاختيار من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، اختار لنا؛ لأن سجل التاريخ هو سجلٌ كبيرٌ جداً، ونحن آخر الأمم، حتى على المستوى التخصصي، لا يستطيع الإنسان أن يستوعب كل الأحداث التاريخية على كثرتها، لو أمضى كل عمره، لكن الله اختار لنا بعلمه، بحكمته، وهو العليم بما نحتاج إليه أكثر شيء، وما هو الأكثر فائدةً لنا، فقدَّم لنا نماذج
- هذه نقطه غاية في الاهمية يا ابنائي وهي مميزات القصص القرآني التي اشار لها السيد عبدالملك وهي :-
- مصدرها إلهي(حقٌّ خالص منزه عن الزيف والخرافات).
- اختيار حكيم لنماذج متنوعة تتناسب مع حاجات البشر.
- عرضٌ نفسي عميق يكشف الدوافع والحالات الداخلية.
فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" باختياره لنا من سجل التاريخ الهائل نماذج معينة، تتناسب مع ظروف حياتنا، حتى لا يحتاج الإنسان أن يمضي كل عمري، ولا يصل بعد إلى استقراء الحقائق والأحداث التاريخية والقصص في التاريخ، اختار نماذج معينة، متنوعة، مهمة، مفيدة جداً، وإذا كان الاختيار هو من الله، فهل هناك أحد يمكن أن يكون أكثر دقةً وحكمةً في هذا الاختيار نفسه؟ معاذ الله!
كذلك العرض القرآني عرض راقٍ جداً، على مستوى الأسلوب، والتعبير، والطريقة، وعرض فيه هداية بكل ما تعنيه الكلمة، وسليم من كل المؤثرات السلبية، يعني: حتى عندما يعرض حقائق فيها جوانب سلبية كحقائق، كوقائع حصلت، هو يُقدِّمها بشكلٍ يبعدها عن التأثير السلبي، وأنت تسمعها، أو تتلوها في القرآن الكريم، فأنت لا تتأثر سلباً؛ وإنما يقدمها بطريقة راقية جداً، وذكرنا أمثلة لذلك في العام الماضي، ونذكر- إن شاء الله- أمثلة لذلك في هذه المحاضرات إن شاء الله.
كذلك في غناها بالدروس والعبر، في عرض الحقائق، في عرض المفاهيم، في تصحيح التصورات، في الجانب التربوي لها، في جوانب كثيرة ومهمة في بيان السنن الإلهية، ولـذلك يقول الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى": {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}[يوسف:111]، لـذلك فمسألة أن مسألة التركيز على موطن العبرة من القصة هي مسألة أساسية في العرض القرآني؛ لأنه- كما قلنا- كتاب هداية.
التنوع في القصص القرآني هو كذلك مهمٌ، وغنيٌ، ومفيدٌ جداً، نماذج من قصص الأنبياء، مجموعة كبيرة من أنبياء الله ورسله، وكذلك حتى هذا الجانب في قصص الأنبياء، فيه أيضاً نماذج لظروف مختلفة، وأحوال مختلفة، ومقامات متنوعة:
نماذج من قصص النساء، على مستوى الجانب الإيماني: مثلما في قصة الصديقة الطاهرة مريم ابنت عمران، وباسمها سورة في القرآن الكريم، وتحدث القرآن عنها في مواضع متعددة، وكذلك عن غيرها.
نماذج عن الأقوام والأمم: قوم نوح، عاد، ثمود، قوم فرعون... وغيرهم.
نماذج عن التجار.
نماذج عن المزارعين.
نماذج عن العلماء.
نماذج عن الملوك... وهكذا.
- تنوع الموضوعات في القصص القرآنية قصص الأنبياء، المؤمنين، الأمم، التجار، الملوك، وغيرهم.
في هذا الشهر المبارك، نبدأ مشوارنا مع القصص القرآني، مع نبي عظيمٍ من أبرز رسل الله وأنبيائه، ورد ذكره في القرآن الكريم تسعاً وستين مرة، وتحدث القرآن الكريم عنه في خمسٍ وعشرين سورة في قصصٍ عنه، وحقائق مهمة تتعلق به، منها سورةٌ باسمه في القرآن الكريم، (سورة إبراهيم).
الحديث عن نبي الله ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام، فيما قصه القرآن الكريم عنه، متنوعٌ تنوعاً مفيداً، في أحوالٍ وظروفٍ متنوعة، ومقاماتٍ متعددة، وكلها غنيةٌ بالدروس والعِبر، ومسيرة حياته مدرسةٌ متكاملة في الهداية، في الأخلاق، في القيم، في الحكمة، في الرشد، في العلاقة مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"... في جوانب كثيرة، نتحدث عن الكثير منها إن شاء الله، بقدر ما يوفقنا الله له.
إبراهيم عليه السلام منحه الله الوسام الرفيع، والحديث عنه في القرآن الكريم يبيِّن لنا عظيم مقامه، ورفيع منزلته ودرجته العالية، الله قال عنه: واتخذ الله إبراهيم خليلاً، هذا وسام رفيع جداً من أعلى وأعظم الأوسمة، التي تبيِّن منزلته الرفيعة عند الله "جَلَّ شَأنُهُ".
مقامه أيضاً بين الأنبياء والرسل، هو من أرفعهم مقاماً، ومن أفضلهم، ومن أعلاهم منزلة، فمنزلته بينهم هم كأنبياء ورسل منزلة عالية جداً؛ لأن مقامات وفضل الأنبياء يتفاوت في مستوى منزلتهم، وكمالهم، وأدوارهم، كما قال الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" في القرآن الكريم: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[البقرة : 253]، وكما قال "جَلَّ شَأنُهُ": {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ}[الإسراء:55]،
- - لاحظوا كيف قدم السيد عبدالملك قصة نبي الله ابراهيم وركز عليها كبداية القصص لهذا العام باعتباره خليل الله وإمام الناس ورمزيته العالمية
كان أُمَّةً في دوره العظيم، الذي قام به في إرساء دعائم الحق والخير والهدى، وفي تصديه للطغيان والضلال، وما بذله من جهدٍ في ذلك، بالرغم من أنه بدأ بمفرده، لكنَّ حجم هذا الدور الذي نهض به بما تنهض به أُمَّة، إلى هذا المستوى
قَانِتًا لِلَّهِ}، هذه مواصفات مهمة، مجموعة من المواصفات تندرج تحت عنوان (قَانِتاً لِلَّهِ)، كان خاضعا لله، مطيعاً له؛ ولـذلك ففي قوله "جَلَّ شَأنُهُ": {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا} كم يجتمع لنا؟ يجتمع لنا أنه كان نموذجاً عظيماً في المحبة لله تعالى، والإخلاص له، والاستقامة على نهجه، وفي الخضوع التام لله، وفي الخشوع لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وفي الثبات على نهج الله، كل هذه العناوين تجتمع تحت قوله تعالى: {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِفًا}،
عرض القرآن الكريم عنه أيضاً أنه كان رمزاً عظيماً في التسليم لله تعالى والإسلام له: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة:131]، في القصص عنه سيأتي نماذج في واقعه العملي عن هذا الإسلام، والتسليم لله "جَلَّ شَأنُهُ":
قدَّمه على أنه نموذج راقٍ في المصداقية، {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}[مريم: 41]، (صِدِّيقًا): مصدقاً بكلمات الله تعالى، وكانت مصداقيته في أقواله، في انتمائه، في أعماله، تامة وراقية جداً.
نموذج في اليقين، وسيأتي الحديث عن ذلك.
في الشكر: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ}[النحل:121]، يُقدِّر نعم الله عليه، ويُعظِّم نعم الله عليه، ويشكر الله على نعمه في أقواله، في أفعاله، وفي أعماله، بقلبه وسلوكه، وسيأتي أيضاً تفاصيل عن هذا الموضوع، وهذا العنوان.
في الرشد، والعلم، والحجة، والحكمة، والبصيرة كذلك: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51]، كان راشداً، حكيماً، على بصيرة، على معرفة، على علم، {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ}[ص:45]، فهو من المتمسكين، والمقدمين، والمسهمين، في إقامة الحق، وفي مسيرة النبوة والرسالة أعطى دفعاً كبيراً للحق والهدى، استمر لأجيالٍ طويلة، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ}[الأنعام:83].
في الحلم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114]، وفي آيةٍ أخرى: {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75]، فهو من ذوي الحلم، ونموذج في الحلم، وستأتي التفاصيل، وتعريف هذا العنوان ودلالاته.
- لقد اشار السيد عبدالملك لصفات إبراهيم عليه السلام وهي :
- القنوت لله خضوعٌ تام وطاعة مطلقة.
- الحلم والأوَّاهية: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114].
- التسليم المطلق أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 131].
- **الشكر**: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل: 121].
العناوين كثيرة، والتفاصيل كثيرة، وكثيراً من العناوين نأتي اليها مع المفاهيم، مع الحقائق، مع الدروس، مع العبر، في سياق القَصَص الذي قصه الله عنه، وقدَّم في ذلك القصص- كما قلنا- نماذج من ظروف متنوعة، وشؤون مختلفة، وأحوال متعددة.
- انتهت المحاضرة وبدأ الدكتور احمد بالحديث لولديه قائلا : تعلمنا من محاصرة السيد عبدالملك ان قصة إبراهيم تُظهر عمقَ الرؤية القرآنية في ربط العقيدة بالواقع، خاصةً في ظل التحديات التي تواجه الأمة اليوم. اختيار الله له كخليل يؤكد أن القرب الإلهي يُكتسب بالإخلاص والعمل لا بالادعاء .