لجريدة عمان:
2025-03-03@20:05:12 GMT

شأن بايدن من قبل.. لا مهرب لكمالا هاريس من غزة

تاريخ النشر: 31st, July 2024 GMT

ترجمة: أحمد شافعي -

كانت المرة الأخيرة التي تحدث فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اجتماع مشترك للكونجرس في عام 2015، وكانت بدعوة من رئيس مجلس النواب جون بوينر وزعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، عندما كانا يقودان الحزب الجمهوري في الكونجرس. وكان القصد من ذلك، صراحة، هو تقويض جهود إدارة أوباما للتوصل إلى اتفاق مع إيران يحد من برنامج طهران النووي في مقابل تخفيف العقوبات الأمريكية والدولية.

ثارت ثائرة الديمقراطيين من مشهد الجمهوريين في الكونجرس إذ يعملون من حكومة أجنبية على تقويض سياسة الرئيس الخارجية. فتغيب قرابة ستين ديمقراطيا، منهم نائب الرئيس جو بايدن، عن الخطاب. ووصفته نانسي بيلوسي، زعيمة الأقلية في مجلس النواب، بأنه «إهانة لذكاء الولايات المتحدة».

وفي الأسبوع الماضي، عاد نتنياهو ليقف أمام الكونجرس للمرة الأولى منذ ذلك الحين، بدعوة من الحزبين، نظمها الجمهوري مايك جونسون، رئيس مجلس النواب، ووافق عليها الديمقراطي تشاك شومر، زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ.

قال رئيس الوزراء «نعرف أنا والرئيس بايدن أحدنا الآخر منذ أكثر من أربعين عاما. وإنني أود أن أشكره على نصف قرن من الصداقة لإسرائيل وعلى كونه، على حد قوله، «صهيونيا فخورا بصهيونيته». ودعا نتنياهو الكونجرس إلى تسريع المساعدات العسكرية، قائلا «أسرعوا في منحنا الأدوات، لنسرع في إنهاء المهمة».

لو أنكم كنتم إلى قاعة مجلس النواب خلال الخطاب، لرأيتم أن قرابة مائة وثلاثين ديمقراطيا من مجلسي النواب والشيوخ قد تغيبوا - وذلك أكثر من ضعف عدد الغائبين في عام 2015، وكانت القضية أخلاقية ومعنوية أكثر من كونها حزبية، فهي قضية التأثير الكارثي لحرب غزة على المدنيين الفلسطينيين.

إذ يقول مسؤولو الصحة في غزة إن حرب إسرائيل قتلت أكثر من تسعة وثلاثين ألف شخص، معظمهم من المدنيين، ودفعت جزءا كبيرا من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة إلى النزوح من منازلهم. ودمرت أغلب القطاع. وفي نهاية هذا الأسبوع فقط، ضربت غارة جوية إسرائيلية مدرسة للبنات تؤوي آلاف النازحين في وسط غزة، مما أسفر عن مقتل ثلاثين شخصا على الأقل.

وأعرب بايدن بضع مرات عن قلقه بشأن الخسائر المدنية، كما اعترف بمدى قتل القنابل الأمريكية للمدنيين الفلسطينيين. لكن لم يحدث مطلقا أن أعاد بايدن النظر في دعمه غير المشروط عمليا لحرب إسرائيل على غزة.

ربما أوقف مؤقتا تسليم ثلاثة آلاف وخمسمائة قنبلة، في محاولة حظيت بتغطية إعلامية كبيرة من البيت الأبيض للضغط على نتنياهو منعا لغزو مدينة رفح بريا، فكان ذلك أمرا ضئيلا بالمقارنة مع قرابة ثلاثين ألفا من القنابل والذخيرة سلمتها الولايات المتحدة إلى إسرائيل منذ أكتوبر من العام الماضي ـ وكان منها أربعة عشر ألفا من القنابل شديدة التدمير التي يبلغ وزن إحداها ألفي رطل والتي ندد بها بايدن.

وهذا الدعم «الصارم» الذي يقدمه بايدن لإسرائيل يعني أن الديمقراطيين الذين تغيبوا عن الخطاب لم يقاطعوا نتنياهو فحسب. إنما كانوا يوجهون رسالة إلى الإدارة أيضا. وهي لا تختلف كثيرا عن الرسالة التي وجهها مئات آلاف الناخبين الديمقراطيين الذين صوتوا بـ«عدم الالتزام» [أي رفض المرشحين جميعا] على بطاقات اقتراعهم خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية.

القصة السياسية البارزة في الوقت الحالي هي تغيير الحرس في الحزب الديمقراطي بعد أن رفض بايدن مواصلة محاولته لولاية ثانية بسبب مخاوف بشأن عمره وقدرته على منع دونالد ترامب من العودة إلى البيت الأبيض. ولكن رد الفعل الديمقراطي على خطاب نتنياهو أمام الكونجرس يرمز إلى قصة لا تقل أهمية ــ ولعلها أكثر دلالة، وهي التحول السريع في موقف الحزب الديمقراطي تجاه إسرائيل، بدافع من التعاطف الشعبي العميق مع الفلسطينيين.

من الواضح أنه يصعب فصل القصتين. برغم أن شعبية بايدن بين الديمقراطيين كانت في انحدار قبل الهجوم الذي قادته حماس في السابع من أكتوبر وأسفر عن مقتل قرابة ألف ومئتي شخص، فإن رد إسرائيل العسكري اللاحق في غزة، ورفض الرئيس في بداية الأمر التشكيك علنا في سلوك الحكومة الإسرائيلية مع اتضاح طبيعة الحرب، كشف عن تحول كبير داخل الائتلاف الديمقراطي. جاء الناخبون الشباب في مقدمة ذلك، ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئا. في عام 2022، انتهى مركز بيو للأبحاث إلى أن أصغر الراشدين هم أصحاب أدفأ الرؤى للفلسطينيين. بشكل عام، كان 61٪ ممن تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشرة والتاسعة والعشرين يتبنون رؤية إيجابية للفلسطينيين وأن 55٪ ممن بين الثلاثين والتاسعة والأربعين يماثلونهم.

بحلول ديسمبر، أبدى نحو نصف الديمقراطيين الشباب عدم موافقتهم على موقف إدارة بايدن من الحرب بين إسرائيل وحماس.

كما احتشدت دوائر ديمقراطية أخرى في المعارضة. ونشرت مجموعة من رجال الدين السود إعلانا في هذه الصحيفة [أي نيويورك تايمز] يدعو إلى وقف إطلاق نار ثنائي. وبدأت النقابات العمالية، بضغط العديد من أعضائها، في توجيه دعوات مماثلة. وبعد أن أصبح بايدن أول رئيس في السلطة يتحدث من منبر كنيسة الأم إيمانويل الأسقفية الميثودية الإفريقية في تشارلستون، بساوث كارولينا، دعا الزعماء الوطنيون للكنيسة الأسقفية الميثودية الإفريقية الرئيس إلى إنهاء المساعدات المالية الأمريكية لإسرائيل، وأدانوا حملة الحكومة الإسرائيلية في غزة باعتبارها «إبادة جماعية». وفي ميشيجن، حذر الديمقراطيون العرب الأمريكيون بايدن وبقية الحزب من أن الولاية معرضة لخطر التحول إلى ترامب في الانتخابات العامة إذا لم يغير الرئيس مساره.

ومع تصاعد الاحتجاجات، ابتعدت قاعدة الديمقراطيين أكثر فأكثر عن الرئيس بشأن هذه القضية. وبحلول شهر مارس، أبدى 75% من الديمقراطيين استياءهم من العمل العسكري الإسرائيلي في غزة، وأعرب أغلب الديمقراطيين عن رغبتهم في قصر المساعدات لإسرائيل على المساعدات الإنسانية.

ولكن موقف بايدن، عديم الشعبية، لم يفسر مجمل مشاكله مع الديمقراطيين الشباب وغيرهم من الناخبين. لكن دعمه الثابت للحكومة الإسرائيلية في مواجهة أزمة إنسانية واضحة في غزة أسهم في خلق جو من السخط العميق على رئاسته ـ أو ما يمكنكم وصفه بالمشاعر السيئة.

ومن الواضح أن المشاعر تغيرت. فقد خرج بايدن وأصبحت كمالا هاريس، نائبة الرئيس، حاملة لواء الحزب الجديدة.

وهي مدعومة بفورة من الحماس من جميع أطياف الائتلاف الديمقراطي التي ساعدت الحزب في استعادة الأرض المفقودة في السباق الرئاسي الوطني. لكنها متورطة أيضا في سياسة الإدارة تجاه غزة وسوف يكون لزاما عليها أن تتعامل مع السياسة المتغيرة لإسرائيل داخل حزبها.

يمكنكم أن تروا بالفعل أن هاريس تحاول رسم مسارها الخاص فيما بين بايدن والقاعدة الشعبية الديمقراطية. في الوقت نفسه أدانت المتظاهرين الذين رفعوا أعلام حماس وأحرقوا العلم الأمريكي بالقرب من الكونجرس احتجاجا على خطاب نتنياهو وأكدت «التزامها الثابت» تجاه إسرائيل، كما قالت للصحفيين إن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وطريقتها في ذلك لها أهميتها»، مضيفة أن «ما حدث في غزة على مدى الأشهر التسعة الماضية مدمر» وأنه «لا يمكننا أن نغض الطرف عن هذه المآسي. ولن أصمت».

ولا شك أن التعبير عن هذا القلق الصريح بشأن حياة المدنيين الفلسطينيين يشكل انفصالا حقيقيا عن مسار الرئيس. ولكن لا يزال من غير الواضح ما يعنيه هذا الاختلاف في اللغة بالنسبة للسياسة الفعلية. فهل ستمتنع الرئيسة هاريس عن إرسال شحنات أسلحة إضافية؟ هل ستضع شروطا إنسانية للمساعدات العسكرية المستقبلية؟ هل ستوجه سفيرها لدى الأمم المتحدة إلى استخدام حق النقض ضد الطلبات الفلسطينية للحصول على العضوية الكاملة في المنظمة العالمية؟ يصعب القطع في ذلك. ووفقا لشبكة سي إن إن، يقول مساعدون وحلفاء تحدثوا مع هاريس إن «الاختلاف بينها وبين الرئيس قليل».

في غضون ثلاثة أسابيع، من المؤكد تقريبا أن يرشح الديمقراطيون هاريس لرئاسة الولايات المتحدة في مؤتمرهم الوطني في شيكاغو. ومن المغري في هذا المقام أن نعقد مقارنة مباشرة مع المؤتمر الوطني الديمقراطي لعام 1968، الذي انعقد أيضا في شيكاغو، وشهد ترشيح نائب الرئيس هوبرت همفري بعد عام متوتر ومضطرب بدأ بهجوم تيت وقرار الرئيس ليندن جونسون اللاحق بترك منصبه في نهاية ولايته. في عام 1968، هزت الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام المؤتمر، وفي 2024، سيواجه الديمقراطيون احتجاجات ضد الحرب في غزة.

ولكن في معرض بحثنا عن التماثلات والمقارنات، يجدر بنا أن نتذكر أن أصداء الماضي لا تزال محض صدى خافت للأصوات القديمة. فحرب فيتنام، التي نفذها جونسون إلى حد كبير، لا تشغل في السياسة الأمريكية مثل المساحة التي تشغلها حرب غزة. نحن حلفاء لبلد يقاتل، ولسنا مقاتلين مباشرين. ونحن نقدم المال والذخائر، وليس الجنود. وما من تجنيد، ولا يوجد تيار ثابت من الجنود الأمريكيين القتلى والمحاربين القدامى الجرحى.

في عام 1968، كان الديمقراطيون المناهضون للحرب يمثلون موجة متصاعدة من غضب الشباب الذي تعارض مع ساسة الحزب الديمقراطي وناخبيهم من الطبقة العاملة البيضاء. وأدت حرب فيتنام - ضمن أزمات وخلافات أخرى - إلى انقسام عميق داخل الائتلاف الديمقراطي، بين الناخبين الذين شعروا بالعزلة بسبب الحركة ضد الحرب والناشطين الذين شعروا بخيانة من الحرس القديم المنتمي إلى النخب الحزبية المتصلبة. وقد بلغ كل هذا ذروته في شيكاغو، مما أدى إلى تفتيت الحزب الديمقراطي على مدى جيل كامل وما بعده.

لقد أدى دعم بايدن لحرب غزة إلى عزله عن أصغر مجموعات الحزب الديمقراطي، لكنه لم يقسم الائتلاف. وبعيدا عن الوقوف مع الرئيس في هذه القضية، يعارض العديد من عموم الديمقراطيين سلوك إسرائيل، وقد انتبه العديد من المشرعين الديمقراطيين إلى تحول الرأي العام أو ساعدوا في قيادته. ومن هنا جاءت ردود الفعل الرافضة المبكرة من جانب الديمقراطيين في مجلس الشيوخ لطلب بايدن بتقديم مساعدات عسكرية إضافية لإسرائيل في الخريف، والغيابات الملحوظة عن خطاب نتنياهو، التي شملت اثنين من كبار الديمقراطيين في الكونجرس هما بيلوسي وجيمس كليبرن، فضلا عن هاريس نفسها.

يمثل هذا التحول الواضح في الرأي العام ضمانا افتراضيا بأن هاريس سوف تواجه ضغوطا جدية للانفكاك عن موقف بايدن من إسرائيل. وحتى لو لم تفعل ذلك، فهناك فرصة قوية لأن يضطر الديمقراطيون المستقبليون الذين يترشحون للرئاسة إلى اتخاذ نهج تجاه إسرائيل يختلف اختلافا ملحوظا عن نهج أسلافهم.

وهذه هي النتيجة النهائية للتغيير الجذري في المواقف من إسرائيل، ودعم الفلسطينيين، بين الناخبين الديمقراطيين. وفي كل الاحتمالات، سيكون جو بايدن آخر رئيس ديمقراطي يعبر عن هذا النوع من الالتزام الكامل والثابت تجاه الحكومة الإسرائيلية الذي نشأ في وقت كان يمكن لإسرائيل فيه أن تزعم أنها المستضعفة في المنطقة. في حال فوز كمالا هاريس بالرئاسة واعتزامها الترشح لولاية ثانية، سوف يتعين عليها أن تضع آراء الديمقراطيين العاديين في الاعتبار - إذا لم تتبنّ مخاوفهم بالفعل. وفي المنافسة الحقيقية القادمة على ترشيح الحزب الديمقراطي، سيكون هناك بالتأكيد ديمقراطيون يتبنون خطا أكثر صرامة وانتقادا تجاه معاملة الحكومة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

لو أن هذا هو مستقبل سياسة إسرائيل في الحزب الديمقراطي، ففي حين أنه قد لا يكون هناك تماثل قوي يمكن رصده بشكل عام بين عامي 1968 و2024، فهناك تماثل ممكن بين جو بايدن وليندن جونسون.

فالاثنان خبيران مخضرمان في واشنطن وصلا إلى ذروة طموحاتهما ثم استخدما مهاراتهما السياسية الكبيرة لتمرير تشريعات رئيسية، بل وتاريخية في حالة جونسون. والاثنان رجلان، واثقان كل الثقة في قدرتهما على توجيه الأحداث، ثم قوضا نفسيهما ورئاستيهما من خلال التزامات عنيدة بصراعات كارثية في الخارج.

وعندما نقيم جونسون، فإننا نقيمه في سياق فيتنام. ونقيمه في سياق عشرات آلاف القتلى الأمريكيين وملايين القتلى الفيتناميين.

وعندما نقيم بايدن، فإننا نصيب إذ ننسب إليه فضل إنجازاته التشريعية وكذلك إظهاره للروح القيادية الحقيقية ممثلة في قراره بالتنحي عن المنصب لنائبة الرئيس. ولكننا سوف نحتاج أيضا إلى الموازنة بين ما هو جدير بالثناء في إرث الرئيس وبين دوره المخزي كمورد رئيسي لحملة رهيبة من الدمار المستمر والمعاناة الإنسانية التي لا يمكن حسابها.

جميل بوي كاتب مقال رأي في جريدة نيويورك تايمز

خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحکومة الإسرائیلیة الحزب الدیمقراطی مجلس النواب أکثر من فی مجلس فی غزة فی عام

إقرأ أيضاً:

مستقبل حزب الله

“بيننا وبينكم الجنازات” عبارة منسوبة تاريخيا للإمام أحمد بن حنبل، كان الفقيه المرموق إمام أهل السنة في زمانه، ويروى أنه ذكر العبارة المعنية في ذروة تحديه لأهل البدع، والمثير على اختلاف القرون، أن حكم إمام السنة صدق في حق أعظم زعماء الشيعة العرب في عصرنا السيد حسن نصر الله، ليس لأنه فقيه أو مرجع ديني، بل لأنه كان إماما لسنة المقاومة وأهلها على مدى أربع عقود خلت، فقد شارك في تشييع نصر الله عدد هائل من الناس يقارب عددهم المليون، وفي تقديرات متحفظة مدققة، جاوز العدد ثلاثة أرباع المليون، وهو حشد أسطورى بالقياس إلى ظروف يوم التشييع المتأخر كثيرا عن صدمة يوم استشهاده، وبالقياس إلى ظروف طقس معاكسة، سادته البرودة الشديدة وهطول الثلوج بغزارة، وبالقياس إلى حجم سكان بلده الصغير، لبنان، فهذه أكبر جنازة لزعيم لبناني بإطلاق، بل إنها واحدة من أكبر الجنازات الأسطورية في التاريخ الإنساني كله، وعلى رأسها جنازات الزعيم جمال عبد الناصر والإمام الخميني وكوكب الشرق أم كلثوم والأميرة ديانا والبابا يوحنا بولس السادس.

وقد اختلفت الآراء والمقاربات القارئة ليوم تشييع نصر الله، حسب توزع المواقع السياسية غالبا، فكل جماعات إسرائيل في لبنان والمنطقة العربية عموما، اعتبرت دفن نصر الله دفنا للمقاومة، وبعض ضحايا أخطاء وخطايا الرجل وحزبه في سوريا بالذات، لم يتخلفوا عن مواكب الشماتة فيه، وفي قتله على يد كيان الاحتلال “الإسرائيلي” وطائراته وقنابله الأمريكية الضخمة.

وكل ذلك مفهوم وله العذر أحيانا، وإن كان النقاش في جوهره ليس محصورا في التشفي بالرجل، بل بالتساؤل عن مستقبل حزبه “حزب الله” بعد رحيله، وهو القائد الأبرز في سيرة الحزب وإن لم يكن القائد المؤسس، فقد قضى في قيادة الحزب أكثر من ثلاثة عقود، صنع فيها وهج الحزب لبنانيا وعربيا وعالميا، وبنى مؤسساته المتشعبة متينة التكوين، وجعله أكبر أحزاب لبنان والمشرق العربي كله، وكان شخصية كاريزمية جامعة، قادت “حزب الله” ومقاومته إلى انتصارات كبرى، أبرزها تحرير الجنوب اللبناني أواخر مايو 2000، ومن دون أن يتورط في توقيع اتفاق استسلام، ولا صك تطبيع مع العدو، ثم كان خوضه معركة كبرى مع جيش العدو طوال يوليو 2006، وصولا إلى مبادرته بخوض حرب إسناد للمقاومة الفلسطينية مع عملية “طوفان الأقصى”، التي تبعتها حرب الإبادة الجماعية في غزة، وإلى أن تطورت الدراما الحربية غير المسبوقة، وقرر العدو “الإسرائيلي” الأمريكي، أن يخوض حرب إبادة “حزب الله” نفسه مع مقتل حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024، ومن قبله هجوم “البيجر” و”اللاسلكي” والاغتيالات المتتابعة لعدد كبير من قادة الصف الأمامي لحزب الله، و في المقتلة “الكربلائية” الدامية وبعدها، بانت مخاطر خروق أمنية واسعة تعرض لها الحزب، جاءت غالبا نتيجة توسع عمله في بيئات وساحات هشة مليئة بالمتربصين والجواسيس، من إيران إلى لبنان مرورا بالعراق وسوريا بالذات، فيما بدا من خطايا نصر الله بشخصه وسياسته، غير أن حسنات الرجل وأفضاله راحت ترأب الصدوع، على نحو ما بدا في المقدرة اللافتة المعجزة للحزب، على استعادة تنظيمه الدقيق في نحو عشرة أيام لا غير، وبالذات في التنظيم العسكري للحزب، الذي أفادته ميزة الإحلال التلقائي للقيادات والاستعداد المسبق بتجهيز البدائل، وبما مكنه من القتال الأسطوري الكفء طوال أكثر من شهرين، وضد خمس فرق من جيش العدو، لم تستطع التقدم بريا إلى عمق الجنوب اللبناني، وظلت عند قرى الحافة الجنوبية الحدودية، بما دفع العدو إلى طلب اتفاق لوقف النار، كان تكرارا في نصوصه الأساسية للقرار الأممي 1701 الصادر عقب حرب 2006، وهو الاتفاق الذي تلكأت “إسرائيل” في تنفيذه، وانتهكته مئات المرات قبل وبعد مد وقت مهلة انسحاب العدو إلى 21 يوما إضافية بعد شهري وقف النار، وظلت “إسرائيل” تحتفظ باحتلال خمس تلال استراتيجية على الحدود، وهو ما يمنح “حزب الله” مبررا لبنانيا إضافيا لاستئناف المقاومة المسلحة، مع تغير الظروف، ومن دون إغفال مصاعب كثيرة مضافة يواجهها “حزب الله” على طريق استعادة حضوره، بينها المساعي الأمريكية “الإسرائيلية” الضاغطة في الداخل اللبناني، وتحفز جماعات “إسرائيل” اللبنانية للسعي إلى نزع سلاح “حزب الله”، حتى لو كان الثمن إشعال حرب أهلية لبنانية جديدة، لا يحول دونها سوى تفوق القوة العسكرية والسياسية لحزب الله، وقوة واتساع تنظيمه، على نحو ما بدا في يوم تشييع زعيمه التاريخي حسن نصر الله، الذي لم يخف يوما طبيعة علاقة حزبه بالقيادة الإيرانية، وقال ذات مرة بوضوح قاطع “سلاحنا وأكلنا وشربنا يأتي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، وفيما تعرف جماعات “إسرائيل” اللبنانية، أن أي مواجهة لها مع “حزب الله” ستكون خاسرة بالتأكيد، وتسعى لاستجلاب المدد من العدو “الإسرائيلي” الأمريكي نفسه، وتريد أن يدمر لها العدو “حزب الله”، كما قتل زعيمه الأشهر بمئة طن متفجرات، بينما أثبتت تجربة قتل “نصر الله”، أنها لا تؤدي بالضرورة إلى قتل الحزب، الذي لا يزال يحتفظ بأغلب مقدراته الصاروخية وطائراته المسيرة المتطورة، وبمصانع سلاحه تحت الأرض، وحتى بأنفاقه وسلاحه ومقاتليه في الجنوب اللبناني نفسه، ويحظى بالتأييد الجارف عند قواعده الاجتماعية الكبرى، ويبتكر الحيل والطرق لفك الحصار، ويطور أساليب التواصل مع الداعم الإيراني الرئيسي، ويجري مناورات سياسة مع حلف الخصوم في الداخل اللبناني، ويعد لصيغ مقاومة تخفف دواعي الصدام مع الدولة والجيش اللبناني، ومن دون استهانة بالأثر الخانق لأحداث وتبدلات سوريا الجديدة، التي قطعت شريان الاتصال البري الميسر مع إمدادات السلاح الإيراني، وإن كانت الفوضى المتصلة في الداخل السوري مما قد يخدم “حزب الله”، وعناصر التفكيك في سوريا متفاقمة الأثر، وقد تدفع الوضع السوري إلى مخاطر التقسيم ومضاعفة ثقل النفوذ الخارجي، فقد أخرجت إيران من سوريا، وحل محلها نفوذ تركي مرئي، مع استمرار النفوذ الأمريكي بقواعده العسكرية في شمال شرق سوريا بالذات، والأخطر ما تترى حوادثه من نفوذ كيان الاحتلال “الإسرائيلي” الذي دمر بالكامل كل مقدرات الجيش السوري، الذي جرى حله مع سقوط طغمة بشار الأسد، ولم يعد لسوريا جيش رغم إعلانات متكررة عن السعي لبناء جيش جديد، والحد من توسع انتشار جماعات مسلحة على أسس عرقية وطائفية، لا تخفي “إسرائيل” نيتها لاستثمارها لتقسيم سوريا، من وراء دعم عناوين “اللامركزية” و”الفيدرالية” وغيرها، وحديث حكومة بنيامين نتنياهو، عن استعدادها لبسط حمايتها على جماعات مثل “الدروز” وغيرهم، ثم إعلانها عن “نزع سلاح” ثلاث محافظات في الجنوب السوري، إضافة لاحتلالها الدائم لهضبة الجولان، ثم شفعها لإنذار نزع السلاح بهجمات جوية وبرية طالت محافظات القنيطرة ودرعا وصولا إلى ريف دمشق.
تواجه الحزب تحديات صعبة لكنه يبقى كيانا أصيلا راسخ الجذور
ومن شأن هذه التطورات ولواحقها المنتظرة، أن تؤدي في المستقبل القريب والأبعد إلى مشهد أخطر، تسعى فيه “إسرائيل” بتفويض أمريكي إلى صنع خرائط جديدة، تلحق فيها سوريا بغالب مناطقها باحتلال “إسرائيلي” مباشر وغير مباشر، يستفز قواعد الشعب السوري، وقد يدفعها لدعم نشوء حركات مقاومة مسلحة، قد يجد فيها “حزب الله” سندا لفك الاختناق اللوجيستي من الجهة السورية.

وبالجملة، قد لا يبدو مستقبل “حزب الله” رهينا بتمنيات الخصوم أو الأصدقاء، والقدر المتيقن منه موضوعيا، إن الحزب واجه ويواجه تحديات صعبة، إضافة لتلقي ضربات موجعة، لكنه يبقى كيانا أصيلا راسخ الجذور، وليس شجرة “لبلاب” تميل مع الريح، فقاعدته الاجتماعية واسعة، ومؤسساته راقية التنظيم، والحاجة إليه لبنانيا وعربيا لا تنفد في المدى العاجل والآجل، وإلهام زعيمه التاريخى غاية في التأثير، بل تبدو المفارقة الظاهرة، أن “إسرائيل” ذاتها تلعب دورا ملحوظا في تجديد دور “حزب الله”، فما من تراجع وارد في عدوانية ووحشية كيان الاحتلال، لا في فلسطين ولا في لبنان ولا في سوريا، وطغيان الاحتلال يؤدي إلى تحفيز خط المقاومة لا العكس، و”حزب الله” مدرسة مقاومة، بنيت على أساس روح استشهادية، لا تؤثر فيها الخسائر البشرية ولا المادية، ولا الدمار الشامل، فالمقاومة تنهض دائما من رماد، وتجربة “حزب الله” جمعت الحس الاستشهادي المبارك إلى تطوير التكنولوجيا الحربية المتحدية، ونشأت أجيال قادرة على استيعاب دروس المواجهات الأخيرة، التي لم تنهزم فيها المقاومة الجديدة، وإن كان الطريق إلى النصر الكامل لا يزال شاقا، ويمضى عليه الحزب الذي بناه حسن نصر الله، ولا يموت بموته الجليل.

مقالات مشابهة

  • الحزب المصري الديمقراطي يستنكر جرائم الاحتلال بحق شعب غزة ويدعو لتحرك دولي فوري
  • السوداني: مكانة المرأة العراقية عالية ومتقدمة في عراقنا الديمقراطي
  • الجيل الديمقراطي يطالب بفرض عقوبات دولية على إسرائيل لوقف انتهاكاتها ضد المدنيين
  • كاكه حمه: الديمقراطي والاتحاد قريبان من تشكيل حكومة الإقليم ونأمل الإفراج عن أوجلان
  • نائب رئيس المصري الديمقراطي يشارك في احتفال سفارة بلغاريا بالعيد القومي
  • دعوة السلام والمجتمع الديمقراطي
  • مسيرات ضخمة لتأييد ومعارضة عزل الرئيس الكوري الجنوبي في شوارع العاصمة
  • واشنطن بوست: إدارة بايدن تراجعت في آخر لحظة عن معاقبة إسرائيل
  • إذا قصفت إسرائيل إيران... هكذا سيكون ردّ حزب الله
  • مستقبل حزب الله