عبد الله علي إبراهيم
.17 فبراير 2021

(نشر حسن محمود الريح مقالة عن انقلاب 19 يوليو. وكنت علقت على كتابه "عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل" طعنت في تأهيله لكتابة التاريخ إلا مكاء وتصدية. فغالط الكتاب حتى عنوانه كما سنرى)

لو لم يصدر كتاب “عبد الخالق محجوب: الوعي وأزهار القناديل” لحسن محمود الريح عن انقلاب ١٩ يوليو وذيوله لما افتقده أحد.

فعاد بنا بلا حاجة إلى “يومية التحري” في دراسة الانقلاب. وهي التفتيش الممل عمن فعله بعد ٥٠ عاماً من وقوعه. وكنت قلت في كتابي “انقلاب ١٩ يوليو: من يومية التحري إلى رحاب التاريخ” إن فهم المسائل التي أثارها الانقلاب لن تقع لنا إلا إذا احلناه إلى رحاب التاريخ. ولم يخرج “الوعي وأزهار القناديل” بنا من يومية التحري إلى رحاب التاريخ. وزاد الأمر سوء لأنه حالة خاصة من الكتابة بإهمال.
فليس حتى هو مما نقول عنه الكتاب من عنوانه. فقارئ عنوان الكتاب يظن أن للكاتب رأياً حسناً في أستاذنا عبد الخالق محجوب كرجل حمل الوعي إلى الناس فأزهرت القناديل وسطهم. ولكن للكاتب رأي غير ما في العنوان. فعبد الخالق، ولو ملك الوعي كما يصفه الكاتب، فوعيه كاسد السوق. فلم يتحسب بوعيه الموصوف لانقلاب، في قول الكاتب، خرج أنصاره القلة “أزهار القناديل أفتكر” بشعارات حمراء صارخة لتفتك بهم جموع شعب مسلم تقليدي تقوده طائفية إسلامية وصوفية متجذرة في نسيجه الاجتماعي. فمن القول المرسل اعتقاد الكاتب أن أستاذنا صاحب وعي معدي بينما رأيه أن عقيدته نفسها لا مكان لها من الإعراب في السودان وأزهاره سفهاء أحلام.
ومن الجانب الآخر، فالكاتب صريح الاعتقاد في أن عبد الخالق متآمر خائن أمانة. فلم يخطط للانقلاب حتى ساعة الصفر مع الضباط الشيوعيين فحسب، بل أخفى ذلك عن مؤسسة الحزب. ولما قام الانقلاب استدعى هاشم العطا، قائد الانقلاب، إلى اجتماع لمركزية الحزب لتسأله عن تكتيكه الانقلابي الذي أربك حساباتهم في حضور عبد الخالق الذي خطط للانقلاب أول مرة. فلو امتلك أستاذنا الشجاعة لكفى هاشم هذه المؤاخذة واعترف بجرمه. ومن جهة ثالثة، فعبد الخالق إما أهبل أو مخبر. ففي رواية جاء بها المؤلف قالت إنه “فت” كل شيء عن الانقلاب في لقائه مع نميري بعد اعتقاله. ف”عبد الخالق وضح كل شيء. تفاصيل التفاصيل وأسماء المشاركين . . . وبناء عليه في ناس كتار كانوا ما معتقلين تم اعتقالهم”. ولا أعرف كيف يستقيم هذا مع رجل وصفه المؤلف بالوعي تراه يبيع أزهار قناديله في سوق محاكمات الشجرة
والكتاب كتابة بإهمال من وجهين. فالمؤلف غير معنى بالتحقق من المعلومات التي يأتي بها. فتتعايش الروايات عنده وإن شط بها الخلاف. فقال إن عبد الخالق توجه إلى بيته بأم درمان بعد تهريبه قبل الانقلاب من معتقله في سلاح الذخيرة يحمله الشوق إلى زوجته وولديه. ولما بَلّ الشوق مضى ليختبئ في بيت أب شيبة، قائد الحرس الجمهوري وعضو مجلس انقلاب ١٩ يوليو لاحقاً، في نطاق القصر الجمهوري. ولم ينس الراوي تعطر عبد الخالق ربما برائحة الشبرويشي المفضلة لديه. وهذه الرواية على خلاف اللوحة التي رسمها المؤلف للبيوت التي غشاها عبد الخالق لتأمين نفسه بعد تحريره من الاعتقال. فقال إنه بعد التحرير جاء به أب شيبة إلى بيته بالقصر، ثم انتقل إلى بيت كمال رمضان المحامي، ثم إلى بيت ميرغني محجوب. والتقى بأسرته الصغيرة في بيت محمد النعيم مهيد بحي الجامعة ببري. ولم يتفضل المؤلف لمجرد الإشارة لهذا العوج في المعلومات المتضاربة في كتابه.
وينضح الكتاب بالخطأ في معلومات مفردة. فقال إن جوزيف قرنق، الوزير بحكومة نميري ما يزال وقتها بعد فساد ما بينها والحزب الشيوعي، كان معتقلاً حتى أفرج عنه الانقلاب بينما كان جوزيف وقتها بالمستشفى يرعى مع زوجته ابناً مريضاً. وقال إن فاطمة أحمد إبراهيم لم تحضر اجتماع اللجنة المركزية للحزب مساء ١٩ يوليو لأنها كانت في بكاء والدها. ولا أعرف تحديداً متى توفى والدها، ولكنها كانت نهار الانقلاب ومساءه بدارها في بري المحس مع زوجها الشفيع أحمد الشيخ. وروى غازي سليمان كيف ذهب إليهما بعد أن بعثه هاشم العطا إلى الشفيع ليكتب له بيان الانقلاب. وقال المؤلف إن خالد الكد هرب بعد الانقلاب إلى بلدة القرير بالشمالية واختبأ بين أهله. وتزوج منهم فاطمة التي كانت تخدمه وهو في العزلة. ومعلوم أن مخبأ خالد كان في بيت عمه الدينكاوي بقرية البار شرقي كورتي. كما قال إن أحمد فؤاد وأحمد حمروش، اللذين بعث بهما السادات ليتحسسا انقلاب السودان، كانا ممن ضمهم الحزب الشيوعي المصري (حستو) مع عبد الخالق. والحقيقة إن الذي ضمهما هو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو) المصرية. ف (حستو) هي الحروف الأولى للحركة السودانية للتحرر الوطني التي نشأت في السودان في ١٩٤٦ بزعامة الدكتور عبد الوهاب زين العابدين عبد التام. وجاء المؤلف بصورتين لم يحسن تعريف من بهما. فجاء بصورة لابن الداخلة عطبرة محمد عثمان خلف الله عمر “كرن” وقال إنها لمحمد إبراهيم نقد. وسمى من كان في صورة مع الشفيع أحمد الشيخ، رئيس اتحاد العمال، عبد الرحمن عبد الرحيم من الوسيلة، من مؤسسي الحزب الشيوعي، بينما هو الحاج عبد الرحمن نائب سكرتير اتحاد العمال.
وللمؤلف في الإنشاء جمل ملغزة مثل قوله” اتهم الشيوعي الأبروفي البارز د. عبد القادر الرفاعي العركي حمد النيل”. فلم يفصل بين “عبد القادر الرفاعي” و”العركي حمد النيل” بشيء ليعرف القارئ أن الرفاعي اتهم العركي وليس أن العركي هو جد الرفاعي. وهذا كثير.
وننظر في المرة القادمة في ضعف نهج المؤلف حتى في فتح يومية التحري في التفتيش عمن قام بانقلاب ١٩ يوليو التي رجعت بنا إلى نهج “يومية التحري” الماسخ. وكان المأمول أن نترحل عنها إلى نهج التحليل التاريخي الذي يوطن الانقلاب في التدافع السياسي والاجتماعي منذ الأربعينات.

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: عبد الخالق محجوب إلى بیت

إقرأ أيضاً:

الراحل عمر محجوب التنقاري كان معلما في الزمن الجميل زانه علم وحسن حديث وأناقة في المظهر والمخبر وبراعة في طرق التدريس !!..

منذ أن عرفناه تميز الراحل عمر التنقاري بحسن الهندام سواء كان بالزي البلدي أو الافرنجي مع جودة الكلام والصوت الهادئ المقرون بالرزانة والوقار والعمق والدفيء وطيب المعاني وهذا العشق عنده للترتيب والنظام ووضع الأمور في نصابها في إتقان واتزان !!..
قبل أن يشد الرحال الي مصر المحروسة لإكمال دراسته الثانوية والدخول الي كلية دار العلوم كان له في المسلمية شأن واي شأن فقد وضعهم هو وزملاء له شيخنا العلامة الفضيل حامد النذير في طريق اللغة العربية الصحيح والدراسات الاسلامية المعمقة وهم بعد في مرحلة الوسطي في المعهد العلمي الذي كان مديره ومعه ثلة من المعلمين الاخيار المتمكنين من لغة الضاد والفقه وأصول الدين ... الشيخ الفضيل كان يواصل رسالته التعليمية من المسجد بعد الفراغ من اليوم الدراسي بالمعهد وكانت له حلقة مشهورة في داخل المسجد يغشاها الكبار والصغار وظل في هذه الحال وقد استفادت منه المسلمية كثيرا علما وتفقها الي أن تم نقله إلي مدينة ود مدني مديرا لمدرسة النيل الازرق الثانوية بعد أن ادمجت المعاهد العلمية مع مدارس التعليم العام !!..
حدثني الأستاذ كمال كوكو استاذ اللغة الإنجليزية في الكاملين الثانوية وهو من أبناء الكاملين أن الراحل عمر التنقاري إبان انتدابهم للعمل في ليبيا تعرف عليه عن قرب وأكثر شيء أعجبه في الراحل عمر هو تلك المقدرة العجيبة في ارتجال الخطاب دون ورقة أو اي عامل مساعد وهي مهمة تحتاج إلي حضور كامل وفكر حاضر وحسن تصرف وبلاغة وشجاعة وثقة كبيرة في النفس ومعرفة المرء بقدراته وملكاته الكامنة فيه ليتحف الحضور بسحر بنت عدنان وجاذبيتها التي شع نورها وغمر الأكوان !!..
كانت المسلمية تنتظره وهو يعود إليها في إجازته من القاهرة ويوم يصعد المنبر بعد صلاة الجمعة يحدث المصلين عن العلم النافع بلغة تهفو لها القلوب بما فيها من سحر البيان والكلم منه ينحدر عفو الخاطر سلسبيلا مثل الغيث الهطال !!..
وكم هي محظوظة المسلمية بأبنائها البررة الذين درسوا في جامعات مصر وازهرها الشريف ومنهم الأستاذ الراقي ابراهيم محمد حسن وكانت له أيضا صولات وجولات في المنابر وكانت الجموع تنظره بفارغ الصبر لتري البلاغة والفصاحة والنباهة تقف أمامهم علي رجليها في مسجد المسلمية العتيق وكان هنالك أيضا الأستاذ صديق ابراهيم عمر الذي عمل في معظم المدارس الثانوية في السودان وعمل في جامعة أم درمان الأهلية بكل مايحمل من علم ثر في لغة الضاد والفقه وأصول الدين .
كانت لنا مدارس ثانوية مليء السمع والبصر ومنها المدارس القومية الشهيرة وادي سيدنا وحنتوب وخور طقت وكان المعلم كالجندي جاهزا للعمل في أي بقعة ينقل إليها حتي ولو كانت منطقة شدة يمكن أن يقل فيها الماء !!..
عمل الراحل في مدرسة أم كدادة في دارفور الحبيبة ومن الطرائف التي أوردها عن فترة إقامته هنالك أن الماء يتجمد في الازيار في فصل الشتاء وان المسافرين في تلك الربوع إذا باغتتهم عاصفة باردة فليس لهم من الأمر شيء سوي شق حفرة عميقة يدخلون فيها اتقاءا لشرها حتي لا تتيبث أطرافهم ويحصل لهم ما لم يحمد عقباه .
وفي خورطقت المدرسة القومية العريقة قضي اجمل الاوقات وعندما دنا موعد النقل منها الي العاصمة الخرطوم وفي حفل الوداع ارتجل زميل له من المعلمين خريدة عصماء من الشعر الرصين يعدد فيها طيب المعشر وحسن الزمالة والبذل السخي والعطاء الثر الذي كان كان الراحل أحد فرسانه تجاه الطلاب الذين كانوا يكنون له قمة الاحترام .
تحتفظ اختنا العزيزة صفية فضل الله عبد الرحمن قرشي حرم الراحل في ركن هاديء من ذاكرتها والي اليوم رغم تعاقب الأعوام بكافة مفردات هذه القصيدة وترتجلها بكل حماس كلما حانت ذكري مناسبتها التي جسدت قمة الوفاء بين المعلمين في ذاك الزمان الطيب لبعضهم البعض .
وصل الراحل الي مدرسة أم درمان القديمة وكيلا للناظر وكلكم يعرف أن الأستاذة فاطمة طالب الغنية عن التعريف هي التي سودنت وظيفة الناظر بها بعد حمل الاستعمار عصاه ورحل !!..
الأستاذة رشا خريجة القانون والإعلامية الضليعة خاصة في البرامج الحوارية التي تحتاج إلى ملكة في اللغةوحضور ذهني وفكر متقد وتوفر في المعلومة وثقة بالنفس وشجاعة أدبية بلا حدود وهي ابنة الراحل كانت من ضمن طالبات المدرسة إبان تقلد والدها منصب الوكيل وقد عرف عنها وهي طالبة بعد فن القيادة وجودة الخطابة مثل والدها تماما الذي أخذت منه الكثير .
يذكر للراحل مساهماته الكريمة في تأسيس الفصول المسائية للذين لم يجدوا حظهم في الالتحاق بالفصول الصباحية وكانت إدارة هذه الفصول تتعامل معهم علي قدم المساواة برصفايهم النظاميين والرسوم كانت رمزية لا عنت ولا مشقة في تسديدها وقد نجحت هذه الفصول بسبب تفاني وهمة المعلمين الذين كانوا يؤدون هذه الرسالة في تجرد ونكران ذات سائلين الله سبحانه وتعالى أن يمدهم بعون من عنده سبحانه وتعالي .
وكان الراحل من المشرفين علي رحلات المعلمين لمصر وقد استفدت شخصيا من هذه الرحلات وحسنا فعل مستشفي المعلمين هنالك بتوفير الخدمة العلاجية لنا بأسعار رمزية أسوة بأهل البلاد من قبيلة المعلمين ولك أن تتصور أن مقابلة الاخصائيي ويكون غالبا من الأسماء المعروفة بواحد ريال فقط أي عشرة قروش كما أن الرحلة علي متن ناقلنا الوطني الخطوط الجوية السودانية المعروفة بسفريات الشمس المشرقة كانت ذهابا وإيابا الي القاهرة بخمسين جنيه فقط لا غير .
رحم الله سبحانه وتعالى الراحل المقيم عمر محجوب التنقاري وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا والبركة إن شاء الله سبحانه وتعالى في أبنائه دكتور خالد اخصائي الدوبلار والموجات الصوتية والأستاذ الجامعي ، الدكتور محمد نابغة الرياضيات والاستاذ الجامعي أيضا وأحمد ومحمود الذين نشطا في مجال التجارة والاقتصاد ورشا التي تفوقت في مجال الإعلام وتركت بصمتها علي الشاشة وعلي المايكروفون.
البركة إن شاءالله في حرم الراحل صفية فضل الله عبد الرحمن قرشي وقد تحملت العبيء الكبير بعد رحيل زوجها وشمرت عن ساعدها ولم تدخر وسعا في أن تري أبنائها أسماء في حياتنا ولم يخذلوها وقد كانوا عند حسن الظن حفظهم الله سبحانه وتعالى وسدد خطاهم في طريق الخير والصلاح الذي مشي فيه الراحل والدهم عمر محجوب التنقاري.

حمد النيل فضل المولي عبد الرحمن قرشي .
معلم مخضرم .

ghamedalneil@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • بين الثورات الزلاقة والفوضى الخلاقة
  • «الويلية» الإماراتي.. فن الشجن والعاطفة
  • من القمح إلى البطاطا.. ثلث إنتاج الغذاء العالمي في مهب الريح
  • حزب الوعي يصدر بيانا بشأن انسحاب الأهلي.. ويطالب بإصلاح المنظومة الرياضية
  • محمد أنور لحسن عسيري: هو إيه ده.. تقدر تقولي يعني إيه رخوي| فيديو
  • بين دفتين كتاب المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة..
  • الراحل عمر محجوب التنقاري كان معلما في الزمن الجميل زانه علم وحسن حديث وأناقة في المظهر والمخبر وبراعة في طرق التدريس !!..
  • السيسي: هذه المرحلة تتطلب الوعي والإدراك بجميع القضايا والموضوعات التي تطرأ على الساحة
  • رئيس الوزراء: 3 يوليو المقبل افتتاح المتحف المصري الكبير
  • محلل سياسي: اعتماد أوروبا على التكنولوجيا الأمريكية يضع مصيرها في مهب الريح