عبدالله مكاوي
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
اصدق تعبير عن ما يمر به شعبنا المنكوب، من محنة تشيب من هولها الولدان، هو (كفي)، كما عبرت مسؤولة اممية تستشعر المسؤولية وتؤرقها المحنة المحزنة. خاصة بعد ان بلغ السيل الزبي والروح الحلقوم من شدة المعاناة والرعب والدمار والخراب، الذي احال بلادنا الي الي العصر الحجري وقانون الغاب.
وبناء علي ما سلف، تعتبر دعوة التفاوض في سويسرا منتصف اغسطس القادم قد تاخرت لمدة عام كامل، ناهيك ان يتم رفضها او اعادة اسلوب المماحكة الذي يتلطي خلفه قادة الجيش لاسباب واهية، لا تتلاءم مع ما يتعرض له المواطنون من كرب عظيم، والدولة من انتقاص متتالٍ لوجودها، جراء هذه الحرب الكارثية. خاصة وان هنالك شبه اجماع هذه المرة، ان هذه الدعوة قد تكون الفرصة الاخيرة، لايقاف هذه الحرب المهلكة. ومن بعدها الدخول في غياهب المجهول، بكلفة باهظة يعجز الجميع عن دفعها. عطفا علي ان هذه الحرب اثبتت حتي الآن، عجز الجيش ليس عن تحقيق انتصار حاسم كما ظل يبشرنا اللايفيتة المضللون وحلفاؤهم من كارهي تقدم، وشرذمة الكيزان متعهدي الاستثمار في المصائب والتكسب من النكبات (ولا الحرب بقرة حلب كما عبر حميد)، ولكن عن مجرد الحفاظ علي حامياته والولايات الاستراتيجية.
اما في جانب مليشيا الجنجويد، فقد اثبتت هذه الحرب ان اي انتصارات تحققها (اغلبها مجانية، اما انسحابات او ضرب متحركات يعلمون سلفا خط سيرها!!)، هي خصم عليها، ووبيل علي المناطق والمجتمعات التي يسيطرون عليها، وغالبا يستعرضون فيها آخر فنون الوحشية والهمجية والدناءة والنهب والسلب. وبصفة عامة الخروج من الحالة الانسانية وقيم المروءة بغير عودة، وتاليا عواقبها خسران مبين اجتماعيا وسياسيا ومستقبليا.
وما يؤسف له، ان كل هذه الانتهاكات الموثقة وطوفان النزوح والتشرد ونذر المجاعة وبواد فشل الدولة وتفككها، تقابلها حالة عجز اممي ممضة، حتي من مجرد توفير حد ادني من الحماية للمواطنين في اماكن سيطرة المليشيا الهمجية (تهديد فعلي لقادتها ومستشاريها وداعميها وقطع امددات السلاح عنها). وكذلك توفير الحماية للنشطاء السياسيين والمدنيين في اماكن سيطرة الجيش (فرض عقوبات رادعة علي قادة الجيش وداعميهم، بما فيها الحرمان من السفر وتجميد الحسابات وارجاع اسرهم الي السودان).
والحال انها انتهاكات لابسط حقوق المواطنين واستباحة كاملة لمواطن سكنهم وذكرياتهم وممتلكاتهم، ومن شدة تجاهلها والتعامل معها ببرود ومجرد مناشدات من منظمات لا حول لها ولا قوة، تشعر وكأننا اصبحنا فلم مأساوي يتسلي بمشاهدته العالم المرفه حتي لا يشعر بالملل! او مجرد حشرات او طفيليات او كلاب ضالة يجري التخلص منها كيفما اتفق! لازاحة اي عقبات امام السيطرة علي البلاد ومواردها، كغاية للاقوياء لاشباع نهم سيطرتهم الذي لا يشبع. وعليه، ألا لعنة الله علي الثروة وكل ما يؤدي الي القوة العارية، التي بطبيعتها تقود للطغيان، الذي يفسد حياة الغالبية لمجرد ارضاء نزوات منحرفة للطغاة. وعموما ما يحدث في السودان ويتعرض له شعبه الاعزل من قتل وتشريد ونهب وتجويع تحت بصر الجميع، لهو طعنة في ضمير الانسانية، وكل ما راكمته ما انجازات في مضمار صيانة حقوق الانسان، قبل ان يكون سُبة ابد الدهر في جبين المليشيا الهمجية المجردة من الرجولة والحياء، وقادة الجيش الجبناء، والكيزان السفلة والمعتوه بن زايد.
اما ما يختص بهذه الدعوة من جانب الجيش، وغض النظر عن الاوضاع الانسانية المأساوية والخراب الشامل الذي طال البلاد من اقصاها لادانها، بسبب هذه الحرب اللعينة. فهي من ناحية عسكرية تعتبر فرصة للجيش يقع علي عاتق قادته اهتبالها، طلما عام كامل من الحرب المدمرة، عجز فيه الجيش عن تحقيق بعض اهدافه، ناهيك عن كل اهدافه. فكيف يتسني له تحقيقها باستمرار الحرب وهو تعرض لكل هذه الخسائر والاستنزافات والمس بسمعته وهيبته؟ وصحيح ان اي تفاوض وهو بهذه الحالة المزرية، سيعني ضمن ما يعني تجريده من امتيازاته السابقة، اي بوصفه الوصي بوضع اليد وفرض الامر الاقع بالقوة العسكرية، علي كامل البلاد والمتصرف فيها كما يحلو له، او بالاصح كما تشتهي قياداته بالتواطؤ مع بقية المؤسسة. ولكن من ناحية اخري ليس هنالك ضامن، بناء علي ما سبق من اداءه المتراجع وهزائمه المتتالية وحصار المدن الاستراتيجية، طوال عام وربع. ألا يخسر المعركة وينهار وتذهب ريحه وريح البلاد من بعده، كما توقع البعض ومن ضمنها احد مراكز بحوث الامن الاوربي علي ما اعتقد. او اقلاه ليس هنالك امكانية في القريب العاجل لحسم المعركة من كلا الطرفين. وهو ما يجعل المضي قدما لهذه المفاوضات وابداء اعلي درجات المرونة والتنازلات هو فرض عين، لانقاذ ما يمكن انقاذه من كرامة وقوة الجيش او حفاظا علي بقاءه وبقاء الدولة. وهذا ليس تسبيطا او عدم وطنية او غيرها من الروادح التي تمنع ابداء الراي بصراحة، ولكنها رفضا للاستكانة للانتصارات الاعلامية الوهمية، التي لا تجد لها اسانيد وحقائق علي ارض الواقع، والتي سنكتشف خبالها بعد هلاك الشعب وضياع الوطن. والاهم انه نابع من دعم حقيقي للجيش ليس عن قناعة بادائه سواء في هذه الحرب او منذ ميلاده، ولكن للمحافظة علي ما تبقي من الدولة، حيث يتهددها خطر سيطرة مليشيا، التي هي قبل كل شئ مناقضة لوجود الدولة ذاتها، ناهيك ان تدعي ان لديها مشروع لبناء دولة مدنية!
وهنالك جزئية اخري لا ادري كيف سيتصرف حيالها الجيش، طالما لديه مسؤولية وطنية تجاه شعبه، وهي من اين له تمويل هذه الحرب المكلفة، في ظل دمار كل مصادر الدخل؟ هل سيلجأ لطباعة العملة، ومن ثمَّ زيادة التضخم وارتفاع الاسعار وانهيار العملة، وما يستببعه من انهيار الاقتصاد وفشل الدولة بصفة عامة. ولو حدث هذا، هل بعده سيكون هنالك معني للحديث عن للانتصار، حتي لو تحقق، ناهيك عن انه امر مستبعد في ظل توازن القوي المختل؟! ام سيلجأ للخارج لتمويل الحرب، وعندها سيصبح رهينة لاوامر ومصالح من يقدم الدعم؟ وبتعبير آخر، المليشيا مثلها مثل اي صعلوك ليس لها مسؤولية، لا تجاه الشعب ولا تجاه الدولة، ولذلك لا يعنيها في شئ اذا استمرار الحرب لمدة مائة عام او فناء كامل الشعب، كما ذكر مساعد قائد الجيش المليشياوي! عكس الجيش الذي معلق في رقبته كل تلك المسؤوليات، حتي لو لم يرد قادته ذلك! وطالما الحال كذلك، من باب اولي ان يكون هو الاحرص ليس علي الذهاب للتفاوض بنية سليمة وجادة لايقاف الحرب، ولكن المكافحة والاصرار من اجل انجاح هكذا تفاوض، هو بمثابة قُبلة الحياة لوطن فقد مواطنيه كل اسباب الحياة.
اما من جهة هذه المليشيا البربرية التي ابتلينا بها، والتي فاقت الكيزان كذبا ونفاقا ونهبا واجراما وفوضي، لدرجة اصبح الكيزان بعد كل كوارثهم وموبقاتهم يتجرأون علي طرح انفسهم كسبيل للخلاص منها! كما ليس هنالك ادل علي اكاذيب المليشيا من اصرارهم علي الهجوم واستهداف مواقع الجيش ومدن جديدة ومواطنين ابرياء بطريقة همجية معتادة، وهم يتحدثون بلسان ارضاء الخارج عن رغبتهم في السلام! وكذلك يهدمون الدولة الموجودة فعليا ويستبدلونها بالفوضي العارمة، ولا ينفكوا يتحدثون عن دولة لا يدرون عن معناها او مبناها شروي نقير، ولكنها مجرد سفسطة هواة، وثرثرة فارغة، لتبرير وجودهم وممارساتهم المنافية لاعراف الوطن والقانون الدولي. بدلالة هل هنالك دولة تقوم من دون اعراف وتقاليد ادارة الدولة، وقوانين ونظم وتنظيمات وقبل كل شئ من مهنيين ومختصين ومتمدنين ومؤسسات ومراكز حضرية، وكل هؤلاء وتلك، ممن يستهدفهم هؤلاء الرعاع بحقد دفين، يندي له الجبين، في الوقت الذي يحتضنون فيه اللصوص والقتلة واصحاب السوابق. اي باختصار راس مال هذه المليشيا بندقية ماجورة وبضع كلمات محفوظة تنضح حقد وغل.
لكل ذلك امام هذه المليشيا فرصة ذهبية في هذه المفاوضات اذا ما استجاب انصارها لصوت الحكمة، وهي ايقاف هذه الحرب الهمجية والاكتفاء بهذه الانتصارات السهلة، والتي كما سلف الحقت بها خسائر اسوا من الهزائم التي مُنِيّ بها الجيش! وهذه مفارقة لا يمكن ان تحدث الا في مسرح العبث الذي يديره هؤلاء القادة الارجوزات، غير المؤهلين إلا لارتكاب الجرائم والفظائع في حق شعوبهم والعمالة للخارج. بمعني عدم ايقاف الحرب والاستمرار في القتال بهذه الطريقة الهمجية، من استهداف للابرياء وتقويض لمقومات وجود الدولة، سيؤدي في خاتمة المطاف اذا حسمت المعركة لصالحها او لم تحسمها، ان لا تجد دولة تستثمر فيها هذه الانتصارات، ومن ثمَّ تتحول الي عصابات متناحرة ضد بعضها البعض او لمن يدفع لها اكثر. اي من مصلحة المليشيا وجود الجيش الذي تقاتله (تخيلو مدي العبث)، والذي يعني بقاءه بقاء ما تبقي من الدولة! ولا يغالط إلا مكابر ان مناطق سيطرة الجيش هي ما تبقي من مظاهر وجود الدولة، عكس مناطق سيطرة المليشيا التي لا يُعلم في اي خانة يتم وضعها! وهو وضع من الغرائبية والفضائحية والفوضوية والاستهتار بمكان، لدرجة ان من يسيطرون لا يعون شئ، لا عن وضعهم الحالي، ولا عن وضع الدولة التي يتشدقون بها في كافة المنابر الدعائية. اي هو وضع مجموعة من الارتكازات عندما لا تقتل او تعتقل او تهان وتذل فيها بصورة عدائية، يتم نهبك وتجريدك مما تملك؟ او وضع ما يجري في جزيرة توتي كنموذج، والتي اصبحت مثل معتقل غوانتنامو، ولمزيد من السخرية تم تعيين لاهلها عمدة! والخوف ان يكون لها شيخ غفر يتدلي من كتفه كلاش وهو يصيح ملء فيه في الفراغ، هاااا مييين هنااااااك!!
لكل ذلك من مصلحة المليشيا عمل المستحيل لانجاح هذه المفاوضات ووقف الحرب، التي ايضا خسرت فيها الكثير، إلا اذا كان من يقتلون من جانب المليشيا ليس لهم ثمن او من يبكي عليهم؟!
اما من يرفض وجود المليشيا في المشهد القادم بسبب جرائمها، وبذلك يتحجج برفض التفاوض معها. فهو امر محير، لان هذه المليشيا لاتطلب اعترافا من احد، او هنالك امكانية لاجبارها علي ترك جرائمها، لانها ببساطة تفرض وجودها بقوة السلاح، اي كامر واقع (عاقبة اللعب بالامن القومي!). وطالما الشئ بالشئ يذكر، من كان يرغب في وجود الانقاذ او لا يعلم احد جرائمها، او لا يتمني زوالها من ظهر الارض غير ماسوف عليها، ولكنها كامر واقع كان الجميع سواء في الداخل او الخارج مجبر علي التعامل معها.
لذلك بدل المطالبة بالمستحيل وتاليا تضييع الفرصة التي لن تعوض، وما يستتبعها من توسع في جرائمها من دون رادع. فالافضل مقاربة معالجة واقعية تقلل من اضرارها وتكبح جماح شرورها راهنا (كسبها في جانب التفاوض ومكاسبه)، والعمل علي الخلاص منها مستقبلا بعد استيفاء كل شروط الخلاص الآمنة، اي التي تقنع اصحابها بتفكيكها سلميا بعد فك ارتباطها بالارتزاق والخارج.
اما الاسلامويون الذين يناوئون التفاوض، ويبشعون بالمليشيا التي افرزها مشروعهم الارهابي الفاسد كمبرر للرفض، فهو يخفي اصرارهم علي البقاء في المشهد السلطوي بكل غرور وانتهازية مهما كلف الامر. لكل ذلك يجب ان يظل واضح ان كل ما نعانيه الآن من حرب همجية بكل تبعاتها، وقبلها من تدهور مطرد في كافة اوجه الحياة ومصادرة لحقوق وخيارات السودانيين، منذ انقلاب 89م المشؤوم، يتحمل وزرها الاسلامويون بشكل كامل. ونفس الاسباب التي دفعت الاسلامويين للانقلاب علي الديمقراطية والسطو علي السلطة، والتعامل مع الدولة كمزرعة خاصة عاثوا فيها فسادا. هي ما تدفعهم الآن اما لرفض التفاوض الذي يخصم من طموحاتهم السلطوية، او القبول بالتفاوض اذا ما تمت تلبية مطامعهم وهدهدة مخاوفهم. وهي اسباب سلف ان ذكرناها كثيرا، تتعلق بتكوينهم السلطوي الذي يضعهم سادة علي الآخرين. وما يدعو للاسف ان ما يتسلط عليهم هو اسوأ انواع السلطات. اي التي تعالج للبعض عقد نقص مزمنة وللبعض الآخر مركبات تفوق متوهمة، وما يفرزه ذلك من استعدادات للاستبداد والفساد والحاق الاذي بالخصوم والاذلال لكافة المواطنين، وفوق ذلك توظيف الدولة ومؤسساتها ومواردها لاشباع شبق السلطة (بدل ان يخضعوا للقوانين واللوائح والاعراف المجتمعية المنظمة للعمل والحياة، تخضع هي لهم وتصبح رهن خدمتهم).
ولذلك علي الاسلامويين ان لا يقفوا هذه المرة ضد تيار التفاوض او التصدي لمخرجاته باثارة الفتن والقلاقل او ان يتلاعبوا بقيادة العسكر ويوجهونهم وجهة تخدم اغراض الاسلامويين غض النظر عن المصلحة العامة. لان ما يترتب علي ضياع هذه الفرصة، هو اشتداد اوار الحرب وتعاظم خسائرها وانفراط عقد البلاد، وسيكون الاسلامويون علي راس من يتحمل المسؤولية ويدفع الثمن. خاصة وان واحدة من مبررات المليشيا لهذه الحرب هو الخلاص من الفلول. اي كما استغل الفلول انتهاكات المليشيا للعودة للمشهد، ستستغل المليشيا القضاء علي الفلول المكروهين، كوسيلة دعائية لمشروعها الوهمي. او قد يغدر بهم قادة الجيش في اي محطة تتعارض مصلحتهم مع الفلول. اي ليس هنالك ضمانات لنجاة الاسلامويين من مصيرهم المظلم سواء في حالة استمرت الحرب او خسرها الجيش، عكس الحلول التفاوضية التي تجعل لهم هامش للمناورة اذا ما احسنوا استثماره دون مكر.
لكل ما سلف ليس هنالك من مخرج سوي الذهاب باخلاص للتفاوض في سويسرا لغرض ايجاد حلول لمعضلة الحرب الملعونة التي خسر وسيخسر من استمرارها الجميع. وليس هنالك من امكانية لنجاح التفاوض الذي اجتمعت له كل عوامل النجاح سواء من جهة الزخم الخارجي او المعاناة والخسائر الداخلية، إلا باستعداد كل من الجيش والدعم السريع علي التركيز علي ما يوقف الحرب ويحافظ علي بقاء الدولة وحياة المواطنين والمشتركات بين جميع السودانيين، وتاليا تقديم اكبر قدر من التنازلات وليس النظر للمكاسب من زاوية ضيقة. ولحسن الحظ هنالك تجارب شبيهة بهذا الصراع يمكن استصحاب معالجاتها، فقط كل المطلوب صدق النوايا والجدية والاحساس بالمسؤولية. ولو سُمح لي بتقديم اقتراح لهذه المفاوضات المرتقبة، لكان هو وضع صورة الطفل فارس الي وثقتها قناة الحدث، كخلفية لقاعة/ات التفاوض. والذي فقد يده ورجله بسبب شظية وما زالت براءة الاطفال تشع من عينيه. فوضع هكذا مشهد بقدر ما فيه من مأساوية بقدر ما فيه انتصار لبراءة الحياة، قد يشكل اكبر حافز لايقاف هذه الحرب البشعة الي يدفع ثمنها من لا ناقة له فيها ولا جمل.
وعلي احسن الفروض اذا ما ساعدنا الحظ المعاند مرة، وتم التفاوض، ونجح في الوصل لحلول مرتجاة لمعالجة هذه الكارثة الماثلة. او اقلاه وضع الخطوط العريضة للخروج منها بصورة آمنة. فقد علمتنا التجربة منذ الاستقلال ان الثقة في وعود وعهود العسكر محض سذاجة، والرهان علي نضوج الطبقة السياسية رهان خاسر من كافة الوجوه، بل حتي الثورات رغم ما فيها من نبل للنوايا وما تقدمه من تضحيات جسام، إلا انها عاجزة عن احداث اختراق سياسي ينقل البلاد الي ما ظللنا نحلم به من دولة مدنية وحياة ديمقراطية وعدالة اجتماعية، ان لم يكن العكس هو نصيبنا دائما من الثورات، بعد ان يعقبها انقلاب اكثر بؤس وشراسة من سابقه. وكل ذلك يدفعنا للعض بالنواجذ علي مبادرة سودان بكرة وغيرها من الدعوات التي تدعو لتدخل الامم المتحدة، او اقلاه ان يكون لها دور فاعل في معالجة كارثة الحرب وقيادة المرحلة القادمة. اما تكييف هذا الدور وكيفية التدخل وطبيعة المساهمة، فهذا ما يحتاج ان نعصف اذهاننا ونتكاتف ولو لمرة واحدة لانجازه. اي كهدف مركزي ظل يتشظي علي الدوام، لطبيعة التنافر والتنافس الصفري بين المكونات السياسية والاجتماعية وضغط الانظمة الانقلابية التي تتعيش من سياسة فرق تسد.
وما يهم ان التدخل الدولي الحميد او المطلوب، غير انه يشكل ضامن لاي اتفاق غير مضمون مع العسكر، إلا انه في امكانه التعجيل باعادة البناء وترميم الكيان المادي المهدم، والاهم العلاقات الاجتماعية المتصدعة، والتي غذتها هذه الحرب الانتقامية، ونفخ في كيرها المناصرون من كلا الطرفين المتقاتلين. كما ان اهمية التدخل الدولي تكمن في ان المصيبة هذه المرة، اكبر من قدرات وامكانات السودانيين علي علاجها، لانها تتعدي صراع السلطة الي بقاء الدولة ذاتها، خاصة بعد دخول مليشيا الدعم السريع كجزء من المشكلة. وهذا غير ان وجود كيان دولي له خبراته (التي تشمل اخفاقاته ونجاحاته) يحمل عبء التاسيس والادارة والدعم المادي والفني للفترة الانتقالية، يتيح المجال للقوي السياسية ان تلتفت لمعالجة قصورها وبناء قدراتها الذاتية، وللقوات المسلحة الاهتمام بمهامها الاحترافية، وللمواطنين السعي للعمل والانتاج. بدل صرف كل الجهود في صراع السلطة العقيم، الذي لم يوردنا غير المهالك والفشل وسوء المنقلب.
كما ان هذه الفترة لابد وان تكون طويلة نسبيا، ويجري فيها حوار مجتمعي وعسكري مدني وشراكات وتسويات ناضجة ومصالحات وتعويضات. وفي هذا السياق تجدني اشد المختلفين مع من يصف الشراكة مع العسكر بانها كانت خيار خاطئ، بل علي المستوي الشخصي اعتقد انها كانت اقصر مما يجب، كما انها أُديرت بصورة خرقاء من كلا الجانبين، وهذا هو سبب تصدعها. والسبب ان الغرض من الشراكة هو التخلص من جريمة الانقلاب التي يلجأ لها العسكر وداعميهم في كل مرة، للسيطرة علي السلطة التي يعتبرونها ملكهم، مستغلين في ذلك امتياز السلاح. وطالما ان العسكر موجودون في السلطة فعلي ماذا ينقلبون؟! ولكن مجرد حرمانهم منها، دون الوصول لمرحلة تخليهم عنها طوعيا، عبر الحوار المستمر والجاد والمثمر، والاحترام المتبادل، واعتراف وتقدير كل طرف لمهنة ودور الآخر، وتضمين كل ذلك في دستور متوافق عليه. فمؤكد ان ميزان القوي سيميل لكفة العسكر ولن تخرج السلطة من قبضتهم (إلا مؤقتا) ولو ثار كل سكان العالم وليس ثوار السودان فقط. واذا لم تعلمنا ثلاث ثوارت فاشلة، فماذا سيعلمنا اذن؟
واخيرا
ما ندعو له ليس استسلام ولكن محاولة للتحرر من الطموحات الكبيرة والشعارات الجميلة والاعتقاد المضلل بانه يمكن القفز مرة واحدة من حال الي حال. وهو امر يكاد يستحيل في الحياة الاجتماعية، التي طابعها التغير البطء، لصعوبة التغيير نفسه، لانه مقاومة لفعل العادة المستحكمة كقيود السلاسل، وهو ما يستدعي ليس التدرج في الطرح وترشيد الطموح وتقييم الاستجابة العملية فحسب، ولكن لانه اقل كلفة واكثر ديمومة. والاهم من كل ذلك انه يجنبنا المغامرة غير مضمونة العواقب، ومن ثمَّ دفع اكلاف باهظة وحصاد الهشيم. ودمتم في رعاية الله.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: هذه المفاوضات هذه الملیشیا هذه الحرب لیس هنالک ان یکون ما فیه کل ذلک اذا ما ان هذه علی ما
إقرأ أيضاً:
"المجاهدين": إقالة غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه
صفا
أكدت حركة المجاهدين الفلسطينية، أن إقالة وزير الجيش غالانت لن تمحو العار والهزيمة التي تلاحقه، ولن تعفيه من مسئوليته المباشرة مع نتنياهو ومجرمي الحرب الإسرائيليين عن قتل عشرات الآلاف من الأبرياء من الشعب الفلسطيني واللبناني.
وأضافت "المجاهدين" في بيان لها، يوم الثلاثاء، أن "إقالة المجرم غالانت اليوم ما هو إلا تعبيرا عن مدى التخبط والفشل والأزمة العميقة التي تعاني منها مؤسسات الكيان الصهيوني، وهو إصرار من نتنياهو للمضي في عدوانه على شعبنا من خلال تبديل وتدوير الوجوه الإجرامية والتهرب من استحقاقات أي صفقة للأسرى".
وشدد على أن هذه الإقالة لأحد أكابر المجرمين وركائز حرب الإبادة على غزة تأتي مجدداً لتظهر بشكل واضح فشل أهداف الحرب الإسرائيلية ضد غزة ومقاومتها والذي جاء نتيجة صمود وتضحيات شعبنا الباسل وثبات وإبداعات مقاومتنا الأبية.