جماليات حضرية: نحو «دمقرطة» الفنون
تاريخ النشر: 8th, August 2023 GMT
نشَرَ بعض المهتمِّين العرب على صفحات التواصل الاجتماعي (Facebook) مقاطع مُمتعة ولطيفة لمجاميع من الشبَّان والشَّابات اللبنانيين الذين يفاجئون عامَّة المارَّة في الشوارع، أو المتسوِّقين في الأسواق المركزيَّة أو المسافرين والمودِّعين في المطار الدولي برقصة شَعبيَّة (دبكة). وقَدْ أعجبتني هذه الأنشطة الجماعيَّة أيَّما إعجاب؛ لِمَا تتركه من آثار في مُدُننا العربيَّة الكئيبة «المتصحِّرة» بكُتَل الكونكريت الصمَّاء وألواح الزجاج السَّاخنة وبالشوارع المُتربة والأسواق المكتظَّة.
والحقُّ، فإنَّ غياب اللون والحركة الإبداعيَّة عن مُدُننا يدعو الفنَّانين عَبْرَ عالمنا العربي (على أشكال وأجناس فنونهم) إلى تحرير الفنِّ من سجونه التقليديَّة على المسرح وفي قاعات العرض المغلقة وذلك من خلال تمريره إلى الشارع، ثمَّ إباحته وإشاعته إلى ذائقة العامَّة. هذا ما فعله الشبَّان اللبنانيون الواعدون أعلاه، ولكن هذا ليس هو كُلَّ شيء، ذلك أنَّ شبَّانًا وشابَّات واعدات من طلاب معهد وكُلِّيَّة الفنون الجميلة ببغداد قَدِ اضطلعوا بِدَوْر يستحقُّ الإطراء في هذا المجال، وهو مجال «دمقرطة» الفنون من خلال نقلها إلى الشارع والأماكن العامَّة التي تحتضن الغنيَّ والفقير، المثقَّف والجاهل، وذلك من خلال عرض مقاطع مسرحيَّة سريعة ولكن طريفة، لا تخلو من الفائدة التعليميَّة. كانت هذه محاولات مفيدة لتطوير المدينة العربيَّة وبثِّ الحياة فيها؛ لأنَّها طالما عانَتْ من غياب الجَماليَّات المدينيَّة كالحركة والموسيقى واللون. هذا ليس ببعيد المنال، ناهيك عمَّا فعله فنَّان كاظمي شابٌّ (من سكَّان مدينة الكاظميَّة ببغداد) عندما قرَّر اختيار العديد من المساحات والفضاءات القبيحة والصمَّاء (الجدران والحيطان) من أجْل أن تكُونَ لوحات فنيَّة تُبهر المارَّة والمهتمِّين بالأشكال الزهريَّة والألوان، وهكذا تحوَّلت تلك الجدران إلى رسائل جماليَّة ـ اجتماعيَّة مُوجَّهة للمارَّة، إذ إنَّها تُمثِّل حياة الأفراد وسكَّان المدينة من العاملين والكسَبة والمُعلِّمين والطلبة.
هذه أشكال من الأنشطة الفنيَّة التي لا بُدَّ أن ترعاها بلديَّات المُدُن العربيَّة وإداراتها؛ لأنَّ الجَمال لا يُمكِن أن يبقَى حكرًا على المتنزَّهات العامَّة والنافورات والبحيرات الاصطناعيَّة في مُدُن نصف صحراويَّة تعاني العطش وهي تطلُّ على الأنهار والخلجان والبحار، كما هي عليه حواضر الخليج العربي، إذ ترى رؤوسها في الصحراء بَيْنَما تغسل مياه الخليج أقدامها. إنَّها دعوة مخلِصة لتحرير الفنون المسرحيَّة وسواها من الفنون الجميلة من خلال إتاحتها وإشاعتها للجميع على نَحْوٍ ديمقراطي خالٍ من التمييز الطبقي أو الفئوي!
بل إنَّ هناك من الفنَّانين الذين لَمْ يكتفوا بذلك، فحاولوا أن يخرجوا الفنون الشَّائعة في المُدُن نَحْوَ الأرياف والقرى على سبيل توسيع مدارك أبناء الريف والمحرومين من فنون المُدُن؛ كَيْ لا تكُونَ هذه الفنون الجميلة قصرًا وحكرًا على سكَّان الحواضر الكبيرة فقط!
أ.د. محمد الدعمي
كاتب وباحث أكاديمي عراقي
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: من خلال
إقرأ أيضاً:
منسوجات مذهّبة تتألق في قسم “المنورة” ببينالي الفنون الإسلامية
المناطق_واس
يشكّل بينالي الفنون الإسلامية 2025، الذي تنظمه مؤسسة بينالي الدرعية تحت شعار “وما بينهما”، ويُقام في صالة الحجاج الغربية بمطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة حتى 25 مايو المقبل، حدثًا ثقافيًا بارزًا يستقطب عشاق الفن الإسلامي من جميع أنحاء العالم، مقدمًا لهم رحلة فريدة في عوالم الإبداع الإسلامي المتنوع.
ويبرز قسم “المنورة” بصفته نافذة مشرقة تستعرض الإرث الثقافي والروحي للمدينة المنورة، حيث يجمع بين أجواء روحانية دافئة وتصميم معماري مستلهم من عبق المكان وجلاله.
أخبار قد تهمك الإعلان عن المديرين الفنيين لبينالي الدرعية 2026 6 مارس 2025 - 2:24 صباحًا بينالي الدرعية للفن المعاصر يعلن اختتام النسخة الأولى من فعالياته 12 مارس 2022 - 10:47 صباحًاويتألق هذا القسم بعرض منسوجات خضراء مذهّبة، تروي بخيوطها الذهبية تفاصيل من العظمة والإجلال للمسجد النبوي الشريف، مطرزة بدقة تُبرز إبداع الفن الإسلامي على مر العصور.
وعلى مدى أكثر من 1200 عام، شكّلت هذه المنسوجات رمزًا للتقدير والإجلال في المسجد النبوي الشريف، ولم تقتصر وظيفتها على الحماية من الغبار والأتربة، بل جسدت روح التقدير والإجلال التي حملها القادة والعلماء عبر التاريخ.
ومنذ أن كسَت الخيزران بنت عطاء، زوجة الخليفة العباسي المهدي، جدار الحجرة النبوية الشريفة بالحرير المشبك عام 173هـ/789م، أصبح إرسال الأكسية تقليدًا يعبر عن مكانة هذا المكان.
وواصل سلاطين المماليك والعثمانيون هذا التقليد، فأضافوا لمساتهم على المسجد النبوي من خلال إرسال الأكسية للمحاريب والمآذن والروضة الشريفة ومقام جبريل عليه السلام وحجرة السيدة فاطمة رضي الله عنها.
وقد وثّق المؤرخون هذه التقاليد التي تُنفذ بدقة وروحانية بالغة، وكانت الأكسية تبدل من قِبل الأغوات المعروفين بصلاحهم وزهدهم، فيما تُرسل الأكسية القديمة إلى إسطنبول أو تُوزّع على الحجاج كتذكار.
ومن أبرز القطع المعروضة في قسم “المنورة” تلك الستارة الخضراء المذهّبة التي أوقفها السلطان محمود الثاني عام 1231هـ/1816م على المسجد النبوي الشريف، وتتميز بتطريزها الحريري والمعدني المذهّب بأبعاد (291 × 230) سنتيمترًا، وتحفظ حاليًا في مجمع الملك عبدالعزيز للمكتبات الوقفية بالمدينة المنورة، شاهدة على براعة الحرفيين ودقة العمل الفني الإسلامي.
ويُعد قسم “المنورة” في بينالي الفنون الإسلامية تجربة مميزة تجمع بين التراث العريق والفن المعاصر، مقدمةً للزوار فرصة استثنائية للتأمل في روعة المنسوجات المذهّبة واكتشاف قصصها العريقة، مما يجسد رحلة ثقافية وفنية تربط بين الماضي والحاضر بروحانية متجددة.