لا يمكن تصور إمكانية قيام أية حضارة من دون تحقق للوعي البشري؛ فمن دون هذا الوعي يصبح الوجود الإنساني أشبه بالوجود الحيواني أو أقرب إليه، أعني يصبح وجودًا يحيا على مستوى قضاء الحاجات الغريزية ومتطلبات الحياة الضرورية للعيش والبقاء. ولأن الحضارة هي تجلٍ للوعي، فإن تطور الحضارة هو تطور للوعي الإنساني، وتجلياتها عبر التاريخ هي تجليات لهذا الوعي؛ ولهذا ذهب هيجل إلى القول بأن العالم لا يتغير بذاته، وإنما الوعي هو الذي يغير هذا العالم.
الحضارة إذن هي تجليات للوعي. وقد قلت مرارًا أن تجليات الوعي تتبدى على أنحاء شتى: كما في الوعي العلمي والديني والأخلاقي والسياسي والتاريخي والفني أو الجمالي، دون أن يعني ذلك تجزئة الوعي؛ فالوعي يظل دائمًا وعيًا كليًّا، أي شاملًا، ونحن نشاهد وحدة الوعي وكليته على مستوى الدولة وعلى مستوى الفرد أيضًا: فالدول المتطورة علميًّا على سبيل المثال، نجدها متطورة أيضًا على مستوى الإبداع في الفنون. كما أننا نلاحظ من خلال الخبرة أن المرء الذي يكون عالمًا حقًّا، يتميز أيضًا بدرجة ما من الوعي الفني والجمالي، بل قد يكون ممارسًا لفن ما من الفنون، كالموسيقى أو التصوير على سبيل المثال. ولكن السؤال هو: هل هناك أولويات في تجليات الوعي لدى الشعوب في عملية تطورها الحضاري؟ ذلك سؤال عويص، سنحاول الإجابة عنه فيما يلي:
يمكن القول إن أولويات تجليات الوعي تختلف من دولة أو أمة إلى أخرى بحسب إرثها ووضعها وسياقها التاريخي. وفي هذا الصدد أظن أن الوعي الديني تظل له أولويته بالنسبة إلى السياق الراهن الذي تحيا فيه الأمة العربية عمومًا، دون أن يعني ذلك- بطبيعة الحال- إغفال أهمية تجليات الوعي الأخرى. ذلك أن هشاشة، بل ضلال الوعي الديني في عالمنا العربي يظل عائقًا أمام تطور الوعي العلمي والوعي الفني أو الجمالي، بل الوعي التاريخي نفسه.
الأمر المؤكد أن الدين كان حاضرًا دائمًا في بنية الحضارة العربية التي تُسمى أيضًا بالحضارة الإسلامية، وهي الحضارة التي تألقت في العصور الوسطى، وهي تلك العصور التي تخلفت فيها أوروبا حتى إنها كانت تسمى بالعصور المظلمة. ولعلنا نلاحظ أن الدين كان حاضرًا في الحالتين: أعني في حالة تألق الحضارة الإسلامية وحالة أفول الحضارة الأوروبية، وفي ذلك مفارقة تستدعي التأمل؛ لأننا بذلك القول نجعل الدين عنصرًا أساسيًّا في التحضر والتخلف في الوقت ذاته! وهذا هو بالضبط ما نسعى إلى التأكيد عليه في هذا المقال!
يمكننا التأكيد ابتداءً على أهمية الدين في بنية أية حضارة. هذا ما أكد عليه فلاسفة التاريخ العظام من أمثال اشبنجلر ومن بعده توينبي. فقد نظر هؤلاء الفلاسفة إلى الدين باعتباره قوة روحية تنبع منها القيم الأخلاقية، وحينما تفتقر الحضارة إلى القيم الروحية والأخلاقية؛ فإنها تفقد روحها بحيث تُقَاس قوة كل شيء فيها بالقوة المادية. ومن هنا يمكن أن نفهم رؤية اشبنجلر التي عبر عنها في كتابه «أفول الغرب»، والتي يتنبأ فيها بمصير الحضارة الغربية. حضور الدين إذن أمر جوهري في بنية أية حضارة، ولكن الكيفية التي يكون بها الدين حاضرًا هو الأمر الحاسم هنا: فالحضارة الأوروبية قد آلت إلى الأفول في العصر الوسيط حينما تحول الدين إلى سلطة قمعية على العلم والفكر والفن، بعدما كان الدين مندمجًا في عالم القدماء، أعني في دنياهم وحياتهم الاجتماعية وفي فنهم وأساطيرهم. وهذا هو بالضبط ما تحررت منه الحضارة الإسلامية، فكان هذا التحرر هو مبعث نهضتها وتألقها؛ إذ كان الدين حاضرًا باعتباره قوة روحية دافعة على العلم وعلى إعمار الحياة: فلم تكن المساجد مجرد دور للعبادة، بل كانت مراكز للتعلم والبحث، بما في ذلك البحث في أمور العلم والفقه والفلسفة وعلوم الكلام. ولقد تبدت حالة التحرر من سلطة الدين في تعايش الديني مع الفلسفي والجمالي، فكانت هناك إبداعات فكرية فلسفية وشعرية تتجاوز ما يمكن أن يُقَال في يومنا هذا؛ فكل هذا كان يمكن أن يُقال في نوع من التسامح الديني الذي لم يعد مسموحًا به في يومنا هذا، ومنذ أن فارقنا هذه الحضارة، أعني منذ أكثر من سبعة قرون، اللهم باستثناء لحظات مضيئة كنا نحاول فيها استعادة هذه الروح الحضارية.
روح التسامح الديني كانت تتبدى أيضًا في العديد من المستويات الأخرى، إذ ساهم في صنع هذه الحضارة الاستعانة بالعلماء والمفكرين على اختلاف دينهم وقومياتهم، فبرزت أسماء عديدة من الفرس والسريان من المترجمين والفلاسفة والعلماء، كما سُمِح بتولي بعض المسيحيين مراكز مهمة في السلطة. وفضلًا عن ذلك، فإن الدين لم يكن في حالة عداء مع الفن، بل كان متعايشًا معه، وذلك- في رأيي- خصيصة رئيسة شاهدة على أية حضارة. هذه الخصيصة تتمثل إذن في حالة التعايش، بل الانسجام، بين الديني والجمالي أو بين المقدس والجميل في عمومه. ويمكن أن نلحظ ذلك بوضوح في كل تلك اللحظات المضيئة في تاريخ الحضارات، وهو ما يصدق أيضًا على لحظات التنوير القصيرة نسبيًّا في الحضارة العربية المعاصرة التي تم وأدها.
د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: على مستوى یمکن أن حاضر ا
إقرأ أيضاً:
أمين عام الناتو: تسريع تبني التكنولوجيا الحيوية العسكرية يمثل أولوية إستراتيجية للحلف
أكد أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مارك روته، أن تطوير وتبني التقنيات الحيوية في المجال الدفاعي يمثل أولوية استراتيجية للحلف، محذرًا من أن الصين وروسيا تعملان بسرعة لتعزيز قدراتهما في هذا المجال، ولا يمكن السماح لهما بتولي زمام المبادرة.
جاء ذلك في كلمة ألقاها روته، اليوم الثلاثاء، خلال افتتاح المؤتمر الأول لمجتمع التكنولوجيا الحيوية في الناتو، الذي استضافته الأكاديمية العسكرية الملكية في بروكسل، بحضور رئيس وزراء بلجيكا بارت دي ويفر، وعدد من المسؤولين العسكريين والعلماء وقادة الصناعة.
وأشاد الأمين العام بجهود بلجيكا في تعزيز الإنفاق الدفاعي، مشيرًا إلى أن البلاد خصصت هذا العام 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، وتسير نحو تحقيق 3.5% خلال السنوات المقبلة، مؤكدًا أن ذلك "مهم لبلجيكا ومهم للناتو على حد سواء".
وأعرب عن شكره لوزارة الدفاع البلجيكية والأكاديمية العسكرية الملكية على استضافة المؤتمر، مؤكدًا أن تنظيم أول مؤتمر من نوعه للتكنولوجيا الحيوية في تاريخ الناتو يعد حدثًا تاريخيًا يعكس تزايد أهمية الابتكار الدفاعي داخل الحلف.
وأضاف: "إن أمننا يعتمد على قدرتنا على الابتكار ودمج التقنيات الجديدة في منظوماتنا الدفاعية، والتكنولوجيا الحيوية تقع في صدارة هذه الأولويات"، موضحًا أن التقدم في هذا المجال سيمنح القوات الحليفة قدرات أفضل وأكثر تطورًا في الميدان.
وأشار إلى أن قادة الناتو اتخذوا، خلال قمة لاهاي في يونيو الماضي، قرارات قوية لتعزيز الردع والدفاع في عالم أكثر خطورة، من بينها زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي وتسريع الإنتاج الدفاعي والابتكار الصناعي.
وفي السياق ذاته، أوضح أمين عام حلف الناتو أن استراتيجية الحلف للتكنولوجيا الحيوية وتعزيز القدرات البشرية التي تم اعتمادها العام الماضي دخلت بالفعل مرحلة التنفيذ، مشيرًا إلى أن مسرّع الابتكار الدفاعي لمنطقة شمال الأطلسي (DIANA) قام بتمويل ، منذ العام الماضي، 28 شركة مبتكرة في مجال التكنولوجيا الحيوية لتطوير تقنيات مزدوجة الاستخدام.
وفي إشارة إلى التحديات الجيوسياسية، قال مارك روته إن الصين تعتبر التكنولوجيا الحيوية قطاعًا ذا أولوية استراتيجية، حيث خصصت أكثر من 3 مليارات دولار عام 2023 لتمويل أبحاثها في مجالات مثل تحرير الجينات والبيولوجيا الاصطناعية ذات الاستخدامات العسكرية، كما تسعى إلى الهيمنة على سلاسل الإمداد العالمية في هذا القطاع، وأن روسيا بدورها تستغل خبراتها لإجراء أبحاث بيولوجية سرية وتطوير برامج أسلحة بيولوجية يمكن استخدامها ضد خصومها.
وشدد الأمين العام على أن الناتو يجب أن يبقى في طليعة الابتكار الدفاعي، مؤكدًا أن الاستثمار في التكنولوجيا الحيوية "لا يقل أهمية عن امتلاك الدبابات والطائرات والسفن والطائرات المسيّرة"، لأنها عنصر أساسي لضمان تفوق الحلف وقدرته على حماية شعوبه.
وأشار إلى أن بعض التطبيقات الحيوية الدفاعية أصبحت بالفعل قيد الاستخدام، مثل الطب عن بُعد وأنظمة الدم المحمولة والملابس المزودة بحساسات بيولوجية لمراقبة التعب أو الإصابات لدى الجنود، مؤكداً أن مثل هذه الابتكارات "تحسّن القدرات الجسدية والمعرفية وتزيد من الفاعلية والجاهزية".
وفي ختام كلمته، دعا روته الدول الأعضاء في الناتو إلى تكثيف الجهود لضمان البقاء في صدارة الثورة الحيوية، قائلاً: "لدينا ما يلزم لتشكيل المستقبل: بنية تحتية متميزة، وعمالة ماهرة، وقدرات بحث وتطوير قوية. ولكن النجاح يعتمد على تعاوننا المشترك. فمعًا، نستطيع أن نطور التكنولوجيا الحيوية التي نحتاجها للدفاع عن الحلف وأمن شعوبه".