عندما يأتي الحديث عن الابتكار والإبداع فإن الأنظار تتوجه تلقائيًا نحو الممارسات الرائدة عالميًا، وهذا أمرُ بديهي؛ فهناك الكثير من الدروس المفيدة في تعلم واستنساخ هذه التجارب، ومع ذلك فإن هناك مصادر أخرى غير تقليدية لاستلهام الابتكار مثل القيم المجتمعية العريقة التي يُنظر إليها غالبًا بأنها جزء من التاريخ، وهي فقط للاطلاع والمعرفة العامة، ولكنها في الواقع قد صارت محل اهتمام الباحثين والمفكرين وفلاسفة العلوم، لأنها جذور الابتكار، فإلى أي مدى يمكن جلب القيم والثقافات المجتمعية إلى التطوير من خلال عدسة الابتكار؟
في البدء تعالوا نسأل أنفسنا سؤالًا مهمًا؛ هل فكرنا يومًا بأن القيم والتقاليد المجتمعية تنطوي على ثراء معرفي يمكن منها توليد الابتكار والإبداع؟ وهنا تكمن العلامة الفارقة بين صناعة الابتكار الحقيقي والأصيل، وبين تكرار الابتكارات السابقة ولكن في سياقات مختلفة، فعلى الرغم من أهمية مواكبة الاتجاهات العالمية في التطوير التكنولوجي والابتكار إلا أن تضمين المصادر الأخرى يُعد من أساسيات النهج الابتكاري والتجديدي، والتحدي الرئيسي ليس في صعوبة الوصول لمصادر الابتكار غير المعيارية، ولكن في كونها مألوفة جدًا ومعتادة للحد الذي لا يلتفت إليها المبتكرون، وبذلك نلاحظ أن معيار الأصالة النوعية في الابتكارات لم يعد كالسابق، فقد زاد التماثل الكبير في مجالات الابتكار في مختلف دول العالم، وأصبحت تنشأ على هيئة موجات متشابهة في جوهرها وإن تباينت في الظاهر، وهذا يقودنا لأشهر الأمثلة عن عناصر الابتكار في بيئات غير تقليدية والتي يتم تداولها حاليًا في أروقة المنتديات والمؤتمرات العالمية كتجربة نموذجية، ففي ندوة أجريت مؤخرًا عبر الإنترنت، ناقش الأكاديميون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مخرجات بحوثهم عن أوجه التوازي بين تقاليد وقيم مجتمعات (شيروكي) وعمليات الابتكار الصناعي التصميمي المرتكز على المستهلك.
والشيروكي هم أحد السكان الأصليين في الغابات الجنوبية الشرقية بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يتركزون في القرى الواقعة على طول وديان الأنهار، وهم في الأصل مجتمعات زراعية ورعوية، ولهم تقاليدهم وقيمهم المجتمعية، وقد أشارت نتائج البحوث إلى أن الجزء الأكبر من ممارسات الابتكار في التصنيع المعاصر يماثل نمط حياة وتقاليد الشيروكي التي تتضمن اثني عشر من التعاليم الأساسية المرتبطة بالتخطيط والمعيشة على أساس التقويم الزراعي، وهذه التعاليم ليس لها وجود في واقع الحياة المعاصرة، لأن المَدَنية قد واصلت زحفها منذ الثورة الصناعية الأولى، وهذه التقاليد هي الآن جزء من تاريخ هذه المجتمعات، ولكن المتأمل في الدورة التقليدية لحياة مجتمع الشيروكي يمكنه استيعاب كيف كان الابتكار متأصلًا كممارسة وثقافة وأسلوب حياة، إذ يعكس هذا الموروث المهم جميع الركائز الأساسية للابتكار، من حيث الالتزام بالتجديد، والعمل الجماعي، والبحث عن الحلول التي تعود بالنفع على المجتمع بأكمله، وضمان التوافق مع القيم الأساسية، وتتوزع قيم الشيروكي الاثنتا عشرة على الفصول الأربعة، وهي تبدأ من موسم الخريف باعتباره وقت التجديد والمراجعة، وخلال هذه الفترة، يتم عقد اجتماع كبير لقيادات مجتمع الشيروكي لاتخاذ قرارات تحسين حياتهم اقتصاديًا واجتماعيًا، ويتم توجيه عملية اتخاذ القرار عبر التوافقات المشتركة، وفي هذه المرحلة تنبع الكثير من عمليات الابتكار المدفوعة بالاحتياج لحل التحديات، أو الإجابة عن الأسئلة الكبرى، وأما في موسم الشتاء فهو وقت التفكير في القرارات التي تم ترجيحها لإعطاء الأولوية في التنفيذ، ثم يأتي موسم الربيع الذي يتيح التواصل والتنفيذ وتحفيز العمل التشاركي، وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي في موسم الصيف الذي يشهد التقييم والانتقال من الأفكار والأهداف التي تم إنشاؤها في الخريف إلى حصاد النتائج على الواقع.
وإذا أسقطنا هذه التعاليم على دورة تطوير المنتجات نجد أن نقطة البدء في فصل الخريف تُماثل في أهدافها ومنهجياتها الطريقة التي يتم فيها تدشين مشروعات الابتكار من حيث وجود الإرادة والدعم من قبل قيادة الابتكار، وانتهاج الشراكة في التخطيط المبدئي، وتحليل الفرص، ورسم المسارات الواعدة لتطوير الفكرة الابتكارية، ثم توجيه الموارد للتنفيذ الفعلي والتجريب والتطوير المستمر، ثم تحويلها إلى منتج أو خدمة، واستكمال الخطوات الأخرى لتسويقها وإتاحة اكتساب القيمة منها، وهذا التماثل لا يختص بتعاليم شيروكي وحسب، ولكنه في الأصل أساس حياة الإنسان في مختلف المجتمعات الزراعية والرعوية من حيث هندسة الحياة حسب الموارد الطبيعية، والبحث عن حلول للمشكلات بطريقة جماعية من خلال القيم المجتمعية الداعمة مثل التآزر وروح الفريق، ولذلك فإن كل مجتمع على كوكب الأرض يمكنه استلهام الكثير من الأفكار الابتكارية بالعودة للجذور، ومحاولة فهم الأطر الثقافية والمعرفية التي شكّلت المخرجات التاريخية التي بقيت ماثلة جيلًا بعد جيل، وأما على المستوى التشغيلي فإن فرق العمل والمؤسسات يمكنها إحراز مكتسبات نوعية من استكشاف الجوانب ذات الميزة التنافسية في القيم المجتمعية، وطرق معالجتها للتحديات، وهذا لا يتعلق فقط بدعم المؤسسات على تقديم ابتكارات ذات قيمة اقتصادية، ولكنها تضيف محور الأصالة على الابتكارات التي تنشأ من المؤسسة أو فريق العمل، وهذا بحد ذاته يعد قيمة مضافة تميزها عن مثيلاتها من الابتكارات المتاحة.
إن تسخير هذه القوة التحويلية لاستلهام الأفكار الابتكارية من مصادر غير تقليدية هو مطلبٌ حتمي، ويستوجب من المؤسسات وفرق العمل إعادة صياغة الفهم السائد عن هذه المصادر، حيث إن إظهار أنظمة القيم المجتمعية، والمُثُل الفلسفية العميقة لا يتعلق فقط بالتراث أو الماضي، أو من أجل الحفاظ عليها من الاندثار، ولكن ينبغي بذل قصارى الجهد لتوظيفها من خلال عدسة الابتكار والإبداع، والبحث عن مكامن التجديد والتطوير في هذه الموروثات، فهي ليست شواهد جامدة لحياة المجتمعات في الماضي، ولكنها تحمل في طياتها الثراء الكبير في الأفكار والمفاهيم الابتكارية إذا وضعت في السياق الصحيح.
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القیم المجتمعیة الابتکار فی
إقرأ أيضاً:
دائرة الأراضي: لا ارتفاع على القيم الإدارية والاعتراض متاح
#سواليف
أكدت #دائرة_الأراضي والمساحة، الاثنين، أنها سعت من خلال نظام #القيمة_الإدارية إلى وضع قيمة عادلة للعقار تُحاكي الواقع، مشددة على أنه لا يوجد ارتفاع في القيم الإدارية المقدرة عن واقع #العقار.
وقال مدير شؤون الأشخاص الحكميين وغير الأردنيين، الناطق الإعلامي باسم دائرة الأراضي والمساحة، طلال الزبن، إن كل من يشعر بأن القيمة غير عادلة يستطيع التقدم باعتراض عليها، ليُنظر فيه من خلال اللجان المنصوص عليها في أحكام النظام.
وأشار إلى أن إنجاز نظام القيمة الإدارية كان نتاج عمل تشاركي جماعي، بعد إشراك القطاع الخاص وجميع المعنيين بعملية التقدير، من خلال لجان محلية شكلت في مديريات ومكاتب التسجيل، وفق أفضل الممارسات العالمية في عملية التقدير.
مقالات ذات صلة الضمان الاجتماعي توضح شروط تقاعد الشيخوخة وآلية تقديم الطلب إلكترونيًا 2025/04/28وأوضح الزبن للمملكة أن #القيمة_الإدارية للعقارات جاءت بموجب أحكام النظام، وتم نشرها في الجريدة الرسمية، وفتح باب الاعتراض عليها، وهي قيمة ملزمة بعد أن استكملت جميع مراحلها القانونية.
ولفت إلى أنه من أجل توفير الوقت والجهد على المواطنين، عملت الدائرة، بإشراف مباشر من مديرها العام أحمد العموش، على استحداث نافذة إلكترونية لتقديم الاعتراض على القيم الإدارية للعقارات، بحيث يستطيع مالك العقار أو وكيله القانوني تقديم الاعتراض من أي مكان وفي أي وقت، من خلال الدخول إلى الموقع الإلكتروني للدائرة.