لجريدة عمان:
2024-09-08@19:39:34 GMT

العودة للجذور

تاريخ النشر: 30th, July 2024 GMT

عندما يأتي الحديث عن الابتكار والإبداع فإن الأنظار تتوجه تلقائيًا نحو الممارسات الرائدة عالميًا، وهذا أمرُ بديهي؛ فهناك الكثير من الدروس المفيدة في تعلم واستنساخ هذه التجارب، ومع ذلك فإن هناك مصادر أخرى غير تقليدية لاستلهام الابتكار مثل القيم المجتمعية العريقة التي يُنظر إليها غالبًا بأنها جزء من التاريخ، وهي فقط للاطلاع والمعرفة العامة، ولكنها في الواقع قد صارت محل اهتمام الباحثين والمفكرين وفلاسفة العلوم، لأنها جذور الابتكار، فإلى أي مدى يمكن جلب القيم والثقافات المجتمعية إلى التطوير من خلال عدسة الابتكار؟

في البدء تعالوا نسأل أنفسنا سؤالًا مهمًا؛ هل فكرنا يومًا بأن القيم والتقاليد المجتمعية تنطوي على ثراء معرفي يمكن منها توليد الابتكار والإبداع؟ وهنا تكمن العلامة الفارقة بين صناعة الابتكار الحقيقي والأصيل، وبين تكرار الابتكارات السابقة ولكن في سياقات مختلفة، فعلى الرغم من أهمية مواكبة الاتجاهات العالمية في التطوير التكنولوجي والابتكار إلا أن تضمين المصادر الأخرى يُعد من أساسيات النهج الابتكاري والتجديدي، والتحدي الرئيسي ليس في صعوبة الوصول لمصادر الابتكار غير المعيارية، ولكن في كونها مألوفة جدًا ومعتادة للحد الذي لا يلتفت إليها المبتكرون، وبذلك نلاحظ أن معيار الأصالة النوعية في الابتكارات لم يعد كالسابق، فقد زاد التماثل الكبير في مجالات الابتكار في مختلف دول العالم، وأصبحت تنشأ على هيئة موجات متشابهة في جوهرها وإن تباينت في الظاهر، وهذا يقودنا لأشهر الأمثلة عن عناصر الابتكار في بيئات غير تقليدية والتي يتم تداولها حاليًا في أروقة المنتديات والمؤتمرات العالمية كتجربة نموذجية، ففي ندوة أجريت مؤخرًا عبر الإنترنت، ناقش الأكاديميون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا مخرجات بحوثهم عن أوجه التوازي بين تقاليد وقيم مجتمعات (شيروكي) وعمليات الابتكار الصناعي التصميمي المرتكز على المستهلك.

والشيروكي هم أحد السكان الأصليين في الغابات الجنوبية الشرقية بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانوا يتركزون في القرى الواقعة على طول وديان الأنهار، وهم في الأصل مجتمعات زراعية ورعوية، ولهم تقاليدهم وقيمهم المجتمعية، وقد أشارت نتائج البحوث إلى أن الجزء الأكبر من ممارسات الابتكار في التصنيع المعاصر يماثل نمط حياة وتقاليد الشيروكي التي تتضمن اثني عشر من التعاليم الأساسية المرتبطة بالتخطيط والمعيشة على أساس التقويم الزراعي، وهذه التعاليم ليس لها وجود في واقع الحياة المعاصرة، لأن المَدَنية قد واصلت زحفها منذ الثورة الصناعية الأولى، وهذه التقاليد هي الآن جزء من تاريخ هذه المجتمعات، ولكن المتأمل في الدورة التقليدية لحياة مجتمع الشيروكي يمكنه استيعاب كيف كان الابتكار متأصلًا كممارسة وثقافة وأسلوب حياة، إذ يعكس هذا الموروث المهم جميع الركائز الأساسية للابتكار، من حيث الالتزام بالتجديد، والعمل الجماعي، والبحث عن الحلول التي تعود بالنفع على المجتمع بأكمله، وضمان التوافق مع القيم الأساسية، وتتوزع قيم الشيروكي الاثنتا عشرة على الفصول الأربعة، وهي تبدأ من موسم الخريف باعتباره وقت التجديد والمراجعة، وخلال هذه الفترة، يتم عقد اجتماع كبير لقيادات مجتمع الشيروكي لاتخاذ قرارات تحسين حياتهم اقتصاديًا واجتماعيًا، ويتم توجيه عملية اتخاذ القرار عبر التوافقات المشتركة، وفي هذه المرحلة تنبع الكثير من عمليات الابتكار المدفوعة بالاحتياج لحل التحديات، أو الإجابة عن الأسئلة الكبرى، وأما في موسم الشتاء فهو وقت التفكير في القرارات التي تم ترجيحها لإعطاء الأولوية في التنفيذ، ثم يأتي موسم الربيع الذي يتيح التواصل والتنفيذ وتحفيز العمل التشاركي، وأما المرحلة الرابعة والأخيرة فهي في موسم الصيف الذي يشهد التقييم والانتقال من الأفكار والأهداف التي تم إنشاؤها في الخريف إلى حصاد النتائج على الواقع.

وإذا أسقطنا هذه التعاليم على دورة تطوير المنتجات نجد أن نقطة البدء في فصل الخريف تُماثل في أهدافها ومنهجياتها الطريقة التي يتم فيها تدشين مشروعات الابتكار من حيث وجود الإرادة والدعم من قبل قيادة الابتكار، وانتهاج الشراكة في التخطيط المبدئي، وتحليل الفرص، ورسم المسارات الواعدة لتطوير الفكرة الابتكارية، ثم توجيه الموارد للتنفيذ الفعلي والتجريب والتطوير المستمر، ثم تحويلها إلى منتج أو خدمة، واستكمال الخطوات الأخرى لتسويقها وإتاحة اكتساب القيمة منها، وهذا التماثل لا يختص بتعاليم شيروكي وحسب، ولكنه في الأصل أساس حياة الإنسان في مختلف المجتمعات الزراعية والرعوية من حيث هندسة الحياة حسب الموارد الطبيعية، والبحث عن حلول للمشكلات بطريقة جماعية من خلال القيم المجتمعية الداعمة مثل التآزر وروح الفريق، ولذلك فإن كل مجتمع على كوكب الأرض يمكنه استلهام الكثير من الأفكار الابتكارية بالعودة للجذور، ومحاولة فهم الأطر الثقافية والمعرفية التي شكّلت المخرجات التاريخية التي بقيت ماثلة جيلًا بعد جيل، وأما على المستوى التشغيلي فإن فرق العمل والمؤسسات يمكنها إحراز مكتسبات نوعية من استكشاف الجوانب ذات الميزة التنافسية في القيم المجتمعية، وطرق معالجتها للتحديات، وهذا لا يتعلق فقط بدعم المؤسسات على تقديم ابتكارات ذات قيمة اقتصادية، ولكنها تضيف محور الأصالة على الابتكارات التي تنشأ من المؤسسة أو فريق العمل، وهذا بحد ذاته يعد قيمة مضافة تميزها عن مثيلاتها من الابتكارات المتاحة.

إن تسخير هذه القوة التحويلية لاستلهام الأفكار الابتكارية من مصادر غير تقليدية هو مطلبٌ حتمي، ويستوجب من المؤسسات وفرق العمل إعادة صياغة الفهم السائد عن هذه المصادر، حيث إن إظهار أنظمة القيم المجتمعية، والمُثُل الفلسفية العميقة لا يتعلق فقط بالتراث أو الماضي، أو من أجل الحفاظ عليها من الاندثار، ولكن ينبغي بذل قصارى الجهد لتوظيفها من خلال عدسة الابتكار والإبداع، والبحث عن مكامن التجديد والتطوير في هذه الموروثات، فهي ليست شواهد جامدة لحياة المجتمعات في الماضي، ولكنها تحمل في طياتها الثراء الكبير في الأفكار والمفاهيم الابتكارية إذا وضعت في السياق الصحيح.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: القیم المجتمعیة الابتکار فی

إقرأ أيضاً:

نحو تعزيز الابتكار والبحث العلمى

إن تقدم وتطور أى مجتمع من المجتمعات مرهون بما لدى أفراده من أفكار إبداعية مرتبطة بالبحث العلمى، حيث تكون تلك الأفكار الإبداعية والابتكارية قادرة على إحداث طفرة ونقلة نوعية فى جميع المجالات داخل المجتمع، ومصرنا الحبيبة ليست بمعزل عن هذا كله.

وقد أدركت القيادة السياسية فى مصر ضرورة تبنى الابتكار والبحث العلمى وجعل ذلك ضرورة قومية فعملت على توفير الدعم المطلوب لتطوير تلك المنظومة المهمة من خلال المراكز البحثية والمؤسسات الجامعية وتوفير كل السبل لتواصل كافة المراكز والمؤسسات بقواعد البيانات الرقمية وغيرها، وجعل الدولة المصرية تأخذ على عاتقها تشجيع الابتكار والبحث العلمى بطرق شتى مثل إحداث شراكة بين المؤسسات الجامعية والمؤسسات الإنتاجية والخدمية وتشجيع المؤسسات الجامعية على إنشاء معامل بحثية متقدمة ومتكاملة وتوظيف التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعى فى حل مشكلات المجتمع.

إن أى بحث علمى أو ابتكار لابد أن يكون متصلا ومرتبطا باحتياجات المجتمع حيث تلعب الأبحاث العلمية دورا محوريا ومهما فى تحفيز وتشجيع القطاعات الإنتاجية والاقتصادية فى مختلف قطاعات المجتمع من خلال تقديم حلول واقعية منجزة لمختلف المشكلات التى تقابلها، لأن سر تطور وتقدم أى حضارة أو مجتمع وتجدد الحياة داخله لا يمكن أن يتم إلا من خلال الابتكار والبحث العلمى.

وجملة القول: إن الابتكار والبحث العلمى لم يعد ترف حياة بل أصبح ضرورة حياتية ملحة لمواكبة المتغيرات المتسارعة التى تجتاح العالم ولذا وجب على المجتمع المدنى تشجيع الابتكار والبحث العلمى بشتى الطرق، كما أن الطريق المألوفة والتقليدية فى مواجهة التحديات والمشكلات الحالية بل والمستقبلية لن تكون كافية ولن تكون قادرة وحدها بل لابد من تبنى طرق جديدة ولن يتأتى ذلك إلا من خلال الابتكار والبحث العلمي.

حفظ الله مصرنا الحبيبة من كل سوء وتحيا مصر.

مقالات مشابهة

  • «الهوية»: المخالفون المغادرون بعد تعديل أوضاعهم يمكنهم العودة إلى الإمارات دون قيود
  • مؤسسة سيجنيفاي للتنمية المجتمعية تتعاون مع مصر الخير في مبادرة "طاقة نور"
  • وردنا من صنعاء| وزير الدفاع يكشف عن 9 ثوابت يتم العمل عليها.. وهذا ما سيحدث خلال الفترة القادمة
  • محمد ثروت يكشف كواليس فيلم "موسم حصاد الكاكا": مواقف كوميدية وأجواء مليئة بالتفاهم
  • عضو بـ«الحوار الوطني»: إخلاء سبيل المحبوسين احتياطيا يعزز المصالحة المجتمعية
  • شيخ الأزهر يؤكد ضرورة رفع الوعي العام بالقضايا المجتمعية المعاصرة
  • نحو تعزيز الابتكار والبحث العلمى
  • اللجنة المجتمعية لتأهيل الطرق الداخلية وردم البرك بالنهود تواصل اعمالها
  • مديرية الشباب والرياضة بالجيزة تطلق مبادرة حكاية وصورة لغرس القيم الوطنية
  • ذكرى مئوية فؤاد المهندس..أبرز الافلام التي قدمها في مسيرته