لجريدة عمان:
2025-02-21@11:05:04 GMT

أسطوريات لبنانية

تاريخ النشر: 30th, July 2024 GMT

لو عدنا إلى تاريخ الأدب في العالم، لوجدنا أن الكثير من الأمكنة، غير الموجودة في الواقع، قد تحولت إلى أمكنة أسطورية، وأقصد إلى جغرافيا متخيلة، لم تكن حاضرة إلا في خيالات مبدعيها.

هكذا مثلا تأتينا «ماكوندو» جابرييل جارسيا ماركيز، التي دارت فيها أحداث واحدة من أعظم رواياته، «مائة عام من العزلة»، ليصبح المكان نقطة استدلال، ولو وهمية.

من يعرف مثلًا، أين تقع صحراء الترتار، تلك التي كتب عنها الروائي الإيطالي دينو بوتساتي روايته الكبيرة «صحراء الترتار»؟ بالتأكيد لا أحد. لأنه مكان متخيّل أيضا.

من جهتها، كانت أليس تعرف إلى أين تقودها رحلتها: إلى بلاد العجائب، أما نحن، القراء، فلا، إذ ما من خارطة تشير إليها. الحال كذلك مع غابة بروسيلياند وأفالون في «الملك آرثر». ناهيك عن كلّ تلك الأمكنة الوهمية في الأوديسية والإلياذة، إذ لا وجود حقيقيا لجُزُر كاليبسو ولوتوفاج والسيكلوب، وغيرها. وتطول اللائحة فعلًا.

ربما نعرف اليوم، في الأدب اللبناني، ظاهرة معكوسة، بمعنى أن ثمة أمكنة حقيقية، كانت موجودة، وتحولت -ربما بفعل الحروب المتعددة التي عرفتها «جمهوريتنا السعيدة»- إلى أماكن أسطورية، لأنها غابت في واقع الأمر، أي أنها أصبحت شبيهة بتلك الأمكنة التي لا نصل إليها مطلقا، ولا يعرف الجيل الشاب أين كانت تقع بالضبط، لأنها لم تعد موجودة، إلا في ذاكرة الأجيال الماضية، وهي أجيال تختفي تدريجيا، بفعل .. منطق الحياة.

لو عدنا مثلًا إلى منطقة رأس بيروت، لوجدنا أنها كانت تضم العديد من هذه الأماكن التي لا تزال عالقة في الذاكرة. لنأخذ مثلا مقهى «الهورس شو»، وبعيدا عن كونه مقهى بعض مثقفي الستينيات والسبعينيات، ثمة حدث مسرحي حصل فيه، أبقاه خالدا في الذاكرة. تقول القصة: إن «الأمن العام» منع عرض مسرحية «جحا في القرى الأمامية» على خشبة «مسرح بيروت» (الذي عرف بدوره نهضة المسرح اللبناني، وتحول إلى أسطورة من هذه الأساطير)، بسبب موضوعها السياسي، فما كان على الممثلين يومها (ومن بينهم نضال الأشقر وجلال خوري وروجيه عساف...) إلا أن أتوا وعرضوها على رصيف المقهى، ليشكل رواده والناس، حاجزا منع الشرطة من إيقافها. لكن الحرب أتت بعد سنوات، حيث دخل أحد رجال الميلشيات وأطلق النار على شخص كان هناك، فأرداه قتيلًا، ليقفل بعدها أبوابه (يروي الكاتب إلياس الديري تلك الحادثة وتفاصيل المقهى في روايته «الفارس القتيل يترجل») وتبقى الذكرى والذاكرة. «السماغلرز إن»، وهو مطعم وصالة عرض للفن التشكيلي، ينتمي بدوره إلى هذه الميثولوجيا، فمن استطاع كسب رضا جورج الزعني (صاحب المكان) كي يعرض له، فقد تحول بين ليلة وضحاها إلى فنان شهير. مقاهي «الستراند» و«الإكسبرس» و«الالدورادو» لا تشذ عن تلك الأماكن، مثلها مثل حانة «شي أندريه»، التي كان من زبائنها شارل أزنافور وداليدا وجوني هاليداي... وفي فترة لاحقة، زياد الرحباني وفرقته، حيث ولدت غالبية مسرحياته الأولى. بالأحرى، نجد أن مسرحيته «بالنسبة لبكرا شو؟» تدور في حانة، هي طبق الأصل، عن حانة «شي أندريه». و... كلّ هذه الأماكن اندثرت ولم يبق منها سوى الذكرى.

أتذكر بعض هذه الأماكن، بسبب الكتاب الصادر مؤخرا عن «دار نلسن» في بيروت بعنوان «مطعم فيصل - ذاكرة المكان» للكاتبة الصحفية إيمان عبدالله، التي تعيد فيه بناء حكاية هذا المقهى والمطعم «الخرافي» -الذي تأسس في بداية القرن العشرين- والذي شهد الكثير من نقاشات التحولات السياسية في لبنان في فترة ما قبل الحرب، وهو كان يقع بالضبط، أمام مدخل الجامعة الأمريكية في بيروت، وقد أقفل أبوابه عام 1985.

وإذ كانت تلك المقاهي التي ذكرتها، تميل أكثر إلى استقبال فنانين وكتّاب وشعراء، فإن مطعم فيصل، كان أكثر استقبالًا للمتعاطين بالشأن السياسي وفكره، حيث ولدت فيه حركة القوميين العرب، و«جمعية العروة الوثقى» وما تفرع عنهما لاحقا من أحزاب قومية عربية وقوى سياسية، كذلك بعض تنظيمات البعث، والناصريين وغيرها من حركات عرفت أوجها في بيروت الستينيات.

بهذا المعنى، شكّل مطعم فيصل ناديًا للفكر السياسي، أكثر من كونه مكانًا يقدم وجبات غذائية ممتازة، كان ملتقى جميع التيارات، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. كان مكانًا حقيقيًا للتلاقي وطرح الأفكار، حين كانت مدينة بيروت، لا تزال تشكل منارة ما، قبل أن تغرق في عتمة الزمن وأوحاله.

في واحد من مقاطع الكتاب، تميل المؤلفة إلى تشبيه «مطعم فيصل» بمقهى «كافيه دو فلور» كما بمقهى «ليه دو ماغو» وهما مكانان باريسيان، عرفا شهرة كبيرة بسبب تردد جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار إليهما، ومن لف لفيفهما من وجوديين ويساريين. لا أعتقد أنها مخطئة في ذلك، فلو عدنا فعلًا إلى شخصيات ذاك المكان الذي يبدو اليوم وكأنه كان خارج الزمن، لوجدنا أن من بينهم المؤرخ نقولا زيادة، المفكر قسطنطين زريق، المفكر منح الصلح، الكاتب سلام الراسي، معن بشور الذي كان يعتبر «مطعم فيصل» ناديًا لبنانيًا وعربيًا .. ويصفه بالقول: «كنت أعتقد أنه الجامعة الثانية أو الثالثة التي أدرس فيها، لأنني كنت أدرس في الجامعة اللبنانية والجامعة الأمريكية وفي جامعة مطعم فيصل»؛ وعلينا أن لا ننسى بالطبع الصحفي المصري الكبير أحمد بهاء الدين، الذي اعتبر الشارع الذي يقع فيه المطعم -شارع بلس- بأنه تحول إلى «الحيّ اللاتيني»، نظرًا لحيويته في شتى المجالات، واللائحة تطول وتطول فعلًا.

«مطعم فيصل» هو أيضا، «مطعم الثورا»، المكان المفضل الذي كانت تجتمع فيه المعارضات السياسية العربية التي تسكن بيروت، والتي بدأت بالمغادرة عام 1975، مع بداية الحرب الأهلية اللبنانية، لتترك فراغا في المكان، لكنها أبقت ذكريات، لا يزال البعض منا، «يحن» إليها وإلى ما كانت تمثل.

بدأب وبحث معمق وعمل أرشيفي فعلي، تعود بنا الكاتبة إلى أجواء ذاك المكان منذ نشأته ولغاية إقفاله، لتمر على غالبية التفاصيل التي شكلت روحه وروح رواده، الذين أضفوا حيواتهم على المكان.

ربما الأمر الوحيد الناقص في هذا الكتاب الذي لم تمر عليه المؤلفة، هو دور مطعم فيصل في الرواية اللبنانية، على الأقل تمر ببالي في هذه اللحظة، رواية «لا تنبت جذور في السماء» ليوسف حبشي الأشقر (وهو بالنسبة إليّ أب الرواية اللبنانية الحديثة) حيث كان بطلها من المياومين هناك، كما رواية «شاي أسود» لربيع جابر، الذي نجد أن بطلها كان يمشي في شوارع بيروت، بحثا عن تلك الأمكنة التي اختفت في الحرب، ومن بينها «مطعم فيصل»، وغيرها.

كتاب إيمان عبدالله، ليس سيرة مكان فقط، بل ذاكرة عصر وبلد اعتقد أنه نجح في بناء جمهورية خرافية حصينة، لكنه لم يفعل شيئا سوى توليد حروب ودمار لا يريدان أن ينتهيا. كأننا كلنا أصبحنا من هذه الكائنات الأسطورية.

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مکان ا

إقرأ أيضاً:

كشف السر.. لماذا بقيت إسرائيل داخل 5 نقاط لبنانية؟

نشرت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية تقريراً جديداً تحدثت فيه عن إنسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان يوم الثلاثاء الماضي، بعد مرور 4 أشهر ونصف على شن غزوها البريّ الذي طال جنوب لبنان في الأول من تشرين الأول 2024".   وتحدث التقرير الذي ترجمهُ "لبنان24" عن بقاء الجيش الإسرائيلي خلال الوقت الرّاهن داخل المناطق الـ5 الإستراتيجية في جنوب لبنان، حيث تم بناء مواقع استيطانية جديدة، وأضاف: "إن المدة التي سوف يستغرقها بقاء الجيش الإسرائيلي داخل لبنان سوف تعتمد على الأخير وعلى الدرجة التي سوف يتحرك بها الجيش اللبناني ضد حزب الله ويمنعه من تحويل القرى الجنوبية اللبنانية مرة أخرى إلى تحصينات مسلحة متخفية في زي مدني، تضم أسلحة ثقيلة وتستضيف مسلحين مستعدين لمهاجمة إسرائيل".   التقرير يقول إنه "يمكن لإسرائيل أن تفكر بالإنسحاب الكامل إلى ما وراء الحدود الدولية وفقاً لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان وذلك في حال ضمان انسحاب مُقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني وتفكيك البنية التحتية العسكرية للحزب في جنوب لبنان ونشر الجيش اللبناني على طول الحدود"، وأضاف: "قبل كل ذلك، لن يحصل أي انسحاب إسرائيل. لقد خاضت إسرائيل تجربة مؤسفة في مجال انسحاب القوات من لبنان، فقد أقدمت على ذلك في مناسبتين منفصلتين. الأولى كانت على عجل وبطريقة فوضوية في أيار 2000، والثانية في عام 2006 تحت رعاية قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 الذي وضع حداً لحرب لبنان الثانية آنذاك. ولكن في النهاية، تبين أن كلا الأمرين كانا كارثيين، فقد ملأ حزب الله، بمساعدة سخية من إيران، الفراغ الذي خلفته إسرائيل بسرعة، وحوّل المنطقة إلى منصة لإطلاق هجمات مستقبلية".   وتابع: "لقد حدث هذا لأسباب عدة، أبرزها تردد إسرائيل، بعد الانسحاب، في اتخاذ خطوات مهمة لمنع حزب الله من الاستيلاء على السلطة، وعدم رغبتها في الانجرار مرة أخرى إلى المستنقع اللبناني. لقد كان هذا صحيحاً بشكل خاص في أعقاب حرب لبنان الثانية، فقد دعا قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 صراحة إلى تحرك حزب الله شمال الليطاني ونزع سلاحه، ولكن لم يتم تنفيذ أي من هذه الشروط. لقد تم تجاهل القرار علناً وبشكل صارخ، لكن إسرائيل لم تفعل شيئاً. وبدلاً من ذلك، وقفت متفرجة بينما كانت قوات حزب الله تتقدم إلى القرى الواقعة على مسافة يمكن رمي الحجارة عليها باتجاه التجمعات الحدودية الإسرائيلية. كذلك، راقبت تل أبيب ترسانة حزب الله من الصواريخ والقذائف تتضاعف عشرة أضعاف من نحو 15 ألف صاروخ قبل حرب 2006 إلى ما يقدر بنحو 150 ألف صاروخ في بداية الجولة الأخيرة من القتال".   وأكمل: "إذا كان لهذا النمط من الانسحابات الفاشلة أن يتغير، فلا بد وأن تكون الأمور مختلفة جذرياً هذه المرة. والواقع أن القرار بإبقاء المواقع العسكرية الإسرائيلية الخمسة داخل لبنان إلى أن يفي اللبنانيون بالتزاماتهم بموجب الاتفاق يشير إلى أن إسرائيل استوعبت هذا الدرس".   واعتبر التقرير أن العمل الجاد من قبل إسرائيل سيمنع تكرار الأخطاء الماضية التي حصلت عند الحدود بين لبنان وإسرائيل، وأضاف: "حتى الآن، كانت العلامات مشجعة. فوفقاً لتقرير بثته إذاعة الجيش الإسرائيلي يوم الثلاثاء، حددت إسرائيل نحو 230 انتهاكاً منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. لقد تعامل الجيش اللبناني مع الغالبية العظمى من هذه الانتهاكات بعد أن تقدمت إسرائيل بشكوى إلى آلية التنفيذ التي ترأستها الولايات المتحدة والتي أنشئت بموجب اتفاق وقف إطلاق النار. أما الانتهاكات التي لم يتعامل معها الجيش اللبناني، فقد تولت إسرائيل معالجتها بنفسها".   وختم: "إن التصميم الذي تظهره إسرائيل هنا سوف يخلف تأثيرات متوالية في أماكن أخرى. فإذا أثبتت أنها سوف تطبق الاتفاقات حرفياً، فإن الرسالة سوف تكون واضحة ليس فقط للبنان، بل ولحماس أيضاً ومفادها إنَّ إسرائيل لن تسمح بتكرار الأخطاء السابقة، وسوف يتم التعامل مع أي انتهاك للاتفاق الذي تم التوصل إليه من شأنه أن يهدد أمن إسرائيل على الفور وبقوة مميتة". المصدر: ترجمة "لبنان 24"

مقالات مشابهة

  • قصة منازل لبنانية دخلها إسرائيليّون.. مشاهد مأسوية!
  • السعودية.. فيديو شخص يشتم امرأة في مطعم يشعل تفاعلا والأمن يرد
  • مطعم تركي يخلط لحم الخنزير مع الكباب
  • دوريات الأمن بالرياض تباشر دخول شخص مطعم والتلفظ على امرأة بعبارات خادشة
  • شاهد | ذاكرة المكان … حين تسبق العبرات العبارات
  • كشف السر.. لماذا بقيت إسرائيل داخل 5 نقاط لبنانية؟
  • مسلسلات رمضان 2025.. طرح البوسترات التشويقية لـ «80 باكو»
  • بوتين: المحادثات الروسية الأمريكية التي انعقدت في العاصمة السعودية الرياض كانت “إيجابية”.. ويسعدني لقاء ترامب
  • الجزيرة ترافق عائلات لبنانية في عودتهم لبلدة كفركلا بعد انسحاب إسرائيل
  • أمين الفتوى بدار الإفتاء: الأفضل أن تكون العقيقة في المكان الذي يعيش به صاحبها