لجريدة عمان:
2024-12-18@07:43:18 GMT

العشاء الأخير ونهاية الغرب

تاريخ النشر: 30th, July 2024 GMT

حرارةُ القيظ، وحُمّى كون سائر إلى فسادٍ، وقيم إنسانيّة تتهاوى وتتساقطُ، وعالمٌ يخطو إلى الفساد والانحلال، وأخلاقٌ قالت فيها الأديان وبَنَت صروحَها الفلسفاتُ، وتسمّت، واتُّفق على حدودها الإنسانيّة، فهَوت كما لم تكن.

عالمٌ يسود فيه الغباءُ وحبُّ البقاء لأشلاءِ البشر، عالمٌ فَقَد الرّوحَ والضمير، سقطت فيه الإنسانيّة وتحوّل إلى إظهار وجهه العنصريّ المادّي الفجّ.

أيُّ أدبٍ يصلح في ظلّ هذا الجحيم النفسيّ الذي يعيشه الوعيُ الإنسانيّ، أيّ عالمٍ حُلمٍ ما زال يُراودنا حتّى نُضحّي بالنّفس والنفيس لبنيانه؟ حُرمنا الحُلم الذي عشناه مع أجيالٍ سابقةٍ بقَت حالمة وهي في أواخر العمر، فقدنا حلمنا بكونٍ عادلٍ، يكون فيه الإنسان. كم كُنت أتمنّى أن يعي الفكرُ العربيّ هذه اللّحظة الفارقة في تاريخ البشريّة وأن يُوجِد لنفسه محلًا غير محلَّ المُتابع التابع، أن يتعقّل هذا التحوّل نحو فقدان الحُلم، أبناؤنا يفقدون الحلم بوظيفةٍ، بعالمٍ عادلٍ، بأدبٍ نافعٍ بعلمٍ صالحٍ للبشريّة، نحن أيضا فقدنا كلّ ما توهّمناه عالما صالحا، كيف لي اليوم أن أقف أمام طلبتي وأحدّثهم عن الأمم المتّحدة ودورها في إقامة العدل الكونيّ؟ كيف يُمكن أن أحدّثهم عن جمعيّات إنسانيّة، وعن حماية حقوق الحيوان، وعن حقوقٍ للمرأة وجب أن تُعدَّل، وعن إنسانٍ صالحٍ، سويٍّ، وهم يرون تصنيفا لقضايا غير عادلة، يرون تصنيفا للبشر، عربٌ ومسلمون التصقت بهم علامةٌ مميَّزة، «ليسوا بشرا» يُقتَّل الأطفال في غزّة، وغدا في كلّ مناطق العرب، ولا حسيب ولا نصيرَ، أطفالُ غزّة مختلفون عن أطفالِ أوكرانيا، وبشر غزّة مختلفون عن أطفال أوكرانيا، وأبناؤنا الموجودون في الغرب يضعونهم في الدرجة الثالثة من المواطنة؟

بعيدا عن هذا وقريبا منه، لوحةُ «العشاء الأخير»، هل تكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير؟ ما بشّر به إيمانويل تود في كتابه «نهاية الغرب» (وهو كتابٌ وددتُ لو أنّ العرب تنبّهوا له وأسرعوا بالتعهّد بنقْله إلى اللّغة العربيّة)، الذي أثار فيه سقوط الغرب وبلوغه درجة الصفر عقديّا وأخلاقيّا واقتصاديّا، نظرًا في عوامل عديدة يسّرت هذا السقوط، لعلّ أهمّها التخلّي عن الأرضيّة الدينيّة نهائيّا، والإفراط في الإعلاء من قضايا جانبيّة، هامشيّة، تُصبح - بفعل أثر الغرب - قضايا أساسيّة، ومحدّدة للذات البشريّة، مثل النسويّة والمثليّة والتحوّل الجنسي.

«لوحة العشاء الأخير» الساخرة التي عرضتها فرقةٌ في افتتاح الألعاب الأولمبيّة في باريس، هي تجسيدٌ لهذا السقوط الغربي المدوّي، يظهر ذلك في أنّها تسهم في إثارة ثلاثة مسائل رئيسة، الأولى: أنّ الهامشيّ، الثانويّ يُصبح أساسيّا ومُحدّدا، ففي السنوات الأخيرة صارت قضايا المثليّة والجنوسة والجندرة والتحوّل الجنسي والهويّة الأجناسيّة، قضايا أساسيّة والحال أنّها قضايا وهْميّة، تُخرج الإنسانية عن سياقها. رأيي الذي أحافظ عليه وأدافع عنه أنّ الغرب يُحدّد لنا دومًا مسار مباحثنا وقضايانا، والحال أنّه آن الأوان لنحدّد سبيلنا ونضبط رهاناتنا الأصليّة، التي حتمًا ليست ماثلة في إحلال العدل في إسناد ضميرٍ لا يُميّز بين المرأة والرجل والبين بين، وليست حتمًا، في تقبّل المتحوّل الجنسي، وليست حتمًا في التعامل مع المثليين بقداسةٍ، فأنا أنكر فعل التحوّل الجنسي، وألفظ وأرفض المثليّة، وأحافظ على الضمائر المشيرة إلى المرأة، والضمائر المشيرة إلى الرجل، ولا أرى فيها تمييزا عنصريّا كامنًا في اللّغة، ولا ينبغي أن تُوجِد اللّغة للمتحوّل ضميرا يجمعني به، فهو نشازٌ، شاذٌّ، لا يُقبَر، ولا يُقتَّل، ولكن لا أطوِّع اللّغة له، ولا يُقاسُ عليه، مثله مثل كلّ الظواهر الشاذّة في الكون. المسألة الثانية، تتمثّل في أنّ إعطاء مساحة للشاذّ ليكون في افتتاح تظاهرة عالميّة، هو فعلٌ خارجٌ عن السِّياق، ففي العادة، هذه المناسبة تُبرز ثقافة البلد المنظّم، وأصولها، وتحتفي بالإنسانيّة، وتدعو إلى التسامح، وإلى الحلم بعالمٍ أجمل. فهل أنّ ثقافة البلد وأصولها ماثلة في عصابةٍ من المثليين والمتحوّلين، يأخذون مشهد الافتتاح، ويتصدّرون لتقديم رسالةٍ إلى العالم، مفادها، نحن هنا، ونحن صورة البلد ومثال الرياضي؟، أيُصبح الفعل الخلل، الخارج عن الطبيعة، الاستثناء، الهامشي، هو الأصلُ؟ وما هي الرسالة التي قدّمها هؤلاء؟ وبأيّ حقّ تُفْرَضُ على الوجود البشريّ إلزاما وإكراهًا مشاهد وآراءُ الشواذّ؟ ألم يجد منظّمو الألعاب الأولمبيّة (الذين اعتذروا من بعد ذلك على اللوحة) في فقْد الإنسان لمعنى وجوده، في قتْل الأطفال في العالم، في عمالة الأطفال في دول شرق آسيا، في انتشار الجوع، في هيمنة تجارة القتْل، معنى يُمكن أن يكون فاتحةَ رسالة لعالمٍ يفقد قيمه؟ المسألة الثالثة قيميّة، أخلاقيّة، ذلك أنّ لوحة «العشاء الأخير» حاملة لرمزيتين، رمزيّة فنيّة، إذ هي من أشهر الجداريّة في الكون، وقد رسمها الإيطاليّ ليوناردو دافنشي ما بين 1495 و1498، فاللّوحة لها رمزيّة فنيّة تاريخيّة، وقد أسهمت في بعْث أعمالٍ روائيّة، لعلّ أشهرها رواية «شفرة دافينشي» لدان براون، والفلم الحامل لنفس العنوان الناتج عنها.

والسخريّة من الأعمال الفنيّة التاريخيّة ممكنة ومشروعة، ولكن ما الرسالة؟ إضافةً إلى منزلة المشهد دينيّا، وما يُعبّر عنه «العشاء الأخير» من رمزية مسيحيّة، فيه يكون لقاء السيّد المسيح برُسله وإعلانه أنّ أحدًا منهم سيخونه، فإعادة تجسيد هذا المشهد المسيحيّ الاعتقادي من قِبَل شواذّ، ساخرون، هو انحطاطٌ أخلاقي، فيه عدم تقدير وفلّة الاحترام للدين. ولقد تعلّمنا نحن المسلمين، أنّ نُجلّ كلّ صاحب عقيدة، وإن كان مختلفا عنّا. الإشكالُ الحاصلُ اليوم، والذي يهرب من مواجهته مثقّفونا مخافة الإقصاء أو الاتّهام بالعصبيّة الدينيّة، أنّ العالم يسعى إلى تغليب فكر الشواذّ، ويجعل تقديرهم واحترامهم والإعلاء من شأنهم مسألة مقدّسة، فتحوّلنا إلى إرهاب الأقليّات، وإن صدحت بمثل هذا الموقف كنت رجعيّا غير مدنيّ، كنت متعصِّبا، قادما من عصور الظلام! أنا ضدّ استبداد قضايا الأقليّات، ومع حقوقهم في الحياة، بالنسبة إليّ، النسويّة هي إعادة الاعتبار للمرأة، رفع المظالم التاريخيّة عنها، إحلالها منزلتها الطبيعيّة في الوجود، وما أحوج المرأة العربيّة إلى هذه الحرب، قضايا العنصريّة اللونيّة، ولا يجب أن يكون هنالك تمايز لونيّ أو عرقي أو عنصري، هذا فكري واعتقادي، ولكن ما صار غالبا اليوم من قضايا جندرية وجنوسيّة ومن إرهابٍ للأقليّات الجنسيّة المختلفة، حبلٌ يمدّه الغرب ليختنق به، ولا يجب أن نختنق به، مع الأسف نحن ضالّون، مضِلّون، أجرينا رؤيةَ الغرب على التمايز الجنسيّ و الأجناسيّ، وأخذنا الحداثة دون مراجعةٍ، حداثة الغرب، سمٌّ في عسل.

في ظلّ هذا الجدل المحتدم على الصعيد الثقافي الذي ساد هذا الأسبوع كنت أمنع نفسي من قطْعِ سلسة مقالاتي عن أوّل القصص، ونأيتُ بنفسي عن الدخول في اللّغو الدائر حول الرواية الجزائريّة «هوّاريّة» للباحثة والجامعيّة والروائيّة إنعام بيّوض، فإذا بالعالم يهتزّ لمشهد لوحة «العشاء الأخير»، فقطعتُ سلسلة مقالاتي، وقلتُ، يا ربّ نظلّ في مثل هذا الجدل «المتخلّف» الذي يُنكر فيه البعض رواية لأنّها مسّت بطهريّة مدينة أو بلد أو أوهمت بإحالةٍ إلى واقع، فأنا لا أقدر أن تُقْصى كتاباتي لأنّي قلتُ «هو» أو «هي»، وسأحافظ على تخلّفي وإن كره العالم الغربيّ ذلك.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العشاء الأخیر ل الجنسی

إقرأ أيضاً:

إسعاد يونس تنعى نبيل الحلفاوي وتعزي أسرته برسالة مؤثرة

نعت الفنانة إسعاد يونس، الفنان القدير الراحل نبيل الحلفاوي الذي توفي منذ قليل بعد تعرضه لوعكة صحية.

وكتبت إسعاد يونس على “إنستجرام”: “في أمان الله يا قبطان تعازي الحارة للأحباب الأساتذة خالد الحلفاوي ووليد الحلفاوي وجميع الأسرة اللهم أنعم عليه بسكنى الجنة العامرة بالأحباب السابقين وأنعم علينا جميعا بالصبر والقبول”.

وتوفى قبل قليل الفنان الكبير نبيل الحلفاوى عن عمر ناهز 77 عامًا، وذلك بعد تعرضه لوعكة صحية وسيتم تشييع الجثمان بعد صلاة العشاء بمسجد الشرطة بالشيخ زايد.

وكتب حساب نبيل الحلفاوي: «مش القبطان اللي كاتب التويته ديه للأسف.. إحنا ولاده وليد وخالد الحلفاوي.. الوالد ربنا استجاب لدعاه ولم يمر بعذاب طويل مع مرض وألم طويل، كان دائما بيدعي بكده  وربنا ما خذلوش.. شكرا على كل الحب والدعاء، وصلاة الجنازة اليوم الأحد 15 ديسمبر بمسجد الشرطة زايد بعد صلاة العشاء». 

آخر منشور لنبيل الحلفاوي قبل وفاته بأيام على «إكس»ترك بصمة لا تُنسى.. شوبير ينعى الحلفاوي بكلمات مؤثرة

مقالات مشابهة

  • مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 18-12-2024
  • بالقاهرة والمحافظات.. مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 18-12-2024
  • خبيرة تغذية تقدم “دايت نباتي” لإنقاص 10 كيلو في شهرين
  • اتهامات جديدة للدعم السريع بممارسة الاغتصاب والاستعباد الجنسي
  • هل أمر النبي بتأخير صلاة العشاء؟.. انتبه لـ7 حقائق ينبغي معرفتها
  • فتيات من أمام الكاميرات إلى خلف الأسوار .. حكايات البلوجرات ونهاية المشاهدات
  • ماذا كان يفعل الرسول بعد صلاة العشاء؟.. 3 سُنن مهجورة فضلها عظيم
  • عاجل العميل الإيراني رقم إثنين .. الهدف القادم الذي ينوي الغرب والعرب استهدافه واقتلاعه.. ثلاث خيارات عسكرية ضاربة تنتظرهم
  • إسعاد يونس تنعى نبيل الحلفاوي وتعزي أسرته برسالة مؤثرة
  • آخر منشور لنبيل الحلفاوي قبل وفاته بأيام على «إكس»