د. صالح الفهدي
في حديثي للطلبة من سن التاسعة إلى السابعة عشرة آثرت أن أستمع منهم أكثر مما يستمعون مني، وكان قصدي من ذلك أن أقيِّم مُستواهم في التعبير، والتفكير النقدي، وتبصر المعاني في الصور، وتوصيفها، وما وصلوا إليه من مستوى لغوي، لكن الأمر هالني جدًّا!! فبغض النظر عن بعض الاستثناءات إلا أنَّ أغلبهم لا يستطيعون التوصيف، والتعبير، ولا يملكون المُفردات المناسبة للتحدث، فيصمتون، ولا تتحرك ألسنتهم، ويجدون أنهم في حرج من أمرهم عند الصمت المُطبق!
سأعود إليهم، ولكن سأنتقل إلى موقف آخر، حيث كنت على موعد للاطلاع على مشاريع طلابية في أحد المعارض، فكان أغلب الطلبة العُمانيين يفضلون شرح مشاريعهم باللغة الإنجليزية التي تميزوا في تحدثهم بها، ولو كان المستمعون من الأجانب لبررنا تحدثهم بالإنجليزية لكنَّ الزوار المستمعين كانوا عمانيين يتلقون الشرح من طلبة عمانيين باللغة الإنجليزية!
أمَّا المشهد الثالث، فهو حديث ألماني باللغة العربية إلينا، في حين تحدَّث المعلم العماني الواقف جنبه إلينا باللغة الإنجليزية، تصوَّروا الموقف: أجنبي يتحدث العربية، وعربي يتحدث الأجنبية!! وحين عُدت إلى الألماني وسألته عن سبب تحدثه باللغة العربية قال لي جملةً من أروع ما سمعت، قال: "ذلك سر إلهي أودعه الله في قلبي، ولا أملك له تفسيرا".
المشهد الرابع حين سألت طفلاً في سن الرابعة عشرة عن المواد التي يحبها، فأجاب: الرياضيات، الإنجليزية، ولم يذكر العربية، فلما استفسرت منه عن سبب عدم ذكره للعربية، قال: لقد كرهني مدرس مادة اللغة العربية! وقد يكون كلامه صحيحاً دون تعميم، إلا أنَّ السبب الأهم من وجهة نظري هو منهج اللغة العربية نفسه الذي تكتنفه تعقيدات الصرف والإعراب! تقول د. هنادا طه أستاذة اللغة العربية التي كانت تعمل خبيرةً في الأمم المتحدة: "تعلم اللغة يحتاج أن يكون مُغمَّسا بالفرح والمتعة والطفولة كما يراه الأطفال ويعيشونه وليس كما يراه الكبار ويفترضونه".
أعود إلى المشهد الأول لأقول: إننا في أزمة هُوية حقيقية؛ لأنَّ اللغة هي مفتاح الهُوية، فإن ضاع المفتاح ضاعت الهُوية، ويؤسفني القول بأنَّ الموقف الأول قد كشف عوار النظام التربوي والتعليمي لدينا، فكيف بعشرات الطلبة ما بين سن التاسعة إلى السابعة عشرة لا يستطيعون التعبير بلغة واضحة، وكيف بهم يتلعثمون في توصيفهم لمعاني صورة من الصور، وكيف بهم لا يستطيعون أن يُتِمُّوا جملةً من الجمل؟
هنا أستحضر مرة أخرى كلام الدكتورة هنادا طه بأنَّ القرآن الكريم يضم خمسين ألف لفظة، ولكن بعد أن ألغيت الكتاتيب (مدارس القرآن الكريم) بفعل مُؤامرات غربية، ضَعُف المستوى اللغوي لدى الطلاب، في حين تفوق الطالب الغربي بسبب كثرة المفردات التي خزنها، ومن المؤسف أن هناك إصراراً في التعليم عندنا على النحو والصرف والتطبيقات على حساب القراءة العامة التي تثري القاموس اللغوي للإنسان وتهذب حديثه، وتقوم لسانه، وقد اقترحت في أحد مقالاتي عدم إضاعة الوقت في النحو وأن تحل قراءة النصوص النثرية والشعرية محلها، ووجدت الدكتورة هنادا طه توافقني فتقول: "النحو العربي والتخصص به هو لذوي الاختصاص والهوى -بالألف المقصورة- فمعلم اللغة العربية لا يعقل أن لا يكون مُتعمِّقاً وعارفاً بهذه اللغة، بنحوها وصرفها وكلها، وعليه أن يستخدم لغةً صحيحةً محركةً معربة، وإنما للطلاب هو موضوع آخر"، وتؤكد على أن: "الطالب أو أي شخص غير متخصص في مجال اللغة العربية واللسانيات لا يحتاج إلا لمبادئ أساسية في النحو تعينه على التحدث والكتابة بشكل صحيح نسبياً، فليست هناك حاجة مثلًا إلى إعراب الكلمات إعراباً تاماً، وإنما يكفي أن يضبط بالشكل الصحيح أواخر الكلمات".
نحن بالفعل في أزمة هوية أساسها اللغة: طلاب في سن مبكرة لا يستطيعون التحدث بلغتهم العربية الأم، وطلاب على مشارف نهاية التعليم المدرسي يفضلون الحديث باللغة الإنجليزية بدلاً من التحدث بلغتهم العربية، فإن تحدثوا بالعربية تلعثموا في كثير من المفردات!
هنا.. علينا أن نقف أمام هذه "الإشارة الحمراء" لنُبادر إلى إنقاذ هويتنا اللغوية من الضياع الذي نبصره عياناً ونحن نصفق له! فاختطاف اللغة يعني اختطاف العقول، وهذا يعني اختطاف الهوية!! فبعد أن تختطف اللغة تحقن بالأفكار، والتصورات، والمعتقدات حتى تذوب الهوية، وهو ما يعني اغتراب الذات واستلابها!
وما لم نبادر إلى برامج عملية، وتبني اتجاهات تُعِيد مسار الأجيال إلى هويتهم الوطنية، فإنه لا يجدر بنا أن نتحدث عن هويةً، بدا لي أنها تختطف شيئاً فشيئاً، ولنتعلم من الشعوب التي تتمسك بهويتها الوطنية، فتتحدث، وتتعلم، وتمارس كل نشاط حياتي بها، ولنتعلم من صحوة شعوب أخرى اختطفت هويتها بعد اختطاف لغتها فأصبحت تتبع أهل اللغة البديلة في تفكيرهم وثقافتهم، ولنتعلم من الشعوب التي استفاقت من الاختطاف اللغوي فانتبهت وعادت إلى العربية.
لن أتوقف عن طرق هذا الموضوع لأنه أساس هويتنا، ولأنني أدرك أن هناك عقولاً نبيهةً، وضمائر حية تتأثر به، ففي مناسبة قالت لي مشاركة في أحد البرامج: "أنا مدينة لك لمقال كتبته عن اللغة العربية والهوية منذ ثلاثة وعشرين عاماً، وكنت حينها في الصف السادس الابتدائي، فرسم ذلك المقال اتجاهي، وحدد اهتماماتي"، كانت تتحدث بلسان عربي مبين، لأجل ذلك لن أفتأ متحدثاً عن هذا الموضوع الملح الذي يفترض أن يشكل هاجساً أوليًّا لمؤسسات التربية والتعليم والثقافة والإعلام في مجتمعنا.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
جامعة الفيوم تحتفل باليوم العالمي للغة العربية.. صور
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
شهد الدكتور عرفه صبري حسن نائب رئيس جامعة الفيوم لشئون الدراسات العليا والبحوث، والمشرف على كلية دار العلوم فعاليات احتفالية "اليوم العالمي للغة العربية" والذي نظمته كلية دار العلوم بالتعاون مع اتحاد الطلاب، وأسرة طلاب من أجل مصر المركزية، تحت إشراف عاصم العيسوي نائب رئيس الجامعة لشؤون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والمشرف على قطاع التعليم والطلاب.
وحاضر خلالها الدكتور عصام عامرية وكيل كلية دار العلوم لشئون خدمة المجتمع وتنمية البيئة والخبير بمجمع اللغة العربية، الدكتور مأمون وجيه عميد كلية دار العلوم الأسبق، وعضو مجمع اللغة العربية، بحضور عدد من السادة أعضاء هيئة التدريس والطلاب، وذلك اليوم الأحد، بالمكتبة المركزية.
قال الدكتور عرفه صبري حسن، إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، مما يجعلها لغة متفردة وغنية بالمفردات وهي باقيه إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، مشيرًا إلى حديث الوليد بن المغيرة عندما طلب منه أن يسمع القرآن فجاء إلى رسولنا الكريم (ص) فقرأ عليه القرآن، فقال ابن المغيرة، وصفًا دقيقًا يشهد بفضل كلام الله وعظمته، "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه.
وأضاف أن اللغة العربية هي لغة القوة والنصر والثقافة التي استمرت لعصور طويلة، ولأهميتها اعتمدت من الجمعية العامة للأمم المتحدة لتكون من اللغات الأساسية يوم ١٨ ديسمبر عام ١٩٧٣ وأصبح ذلك التاريخ اليوم العالمي للغة العربية تعبيرًا عن أهمية لغتنا العظيمة والتي يتحدث بلسانها أكثر من ٥٥٠ مليون نسمة حول العالم.
وشدد على ضرورة دراسة اللغة العربية والتعمق فيها لاكتشاف قواعدها وجماليات مفرداتها، مشيرًا إلى أن اللغة العربية تمتاز بقدرتها على التعبير عن الأفكار وكانت ولا زالت هي لغة العلم والأدب والفن وأثرت بشكل كبير في الحضارات الأخرى عبر التاريخ، كما أشاد سيادته بجهود الجامعة في تعزيز قيم اللغة العربية وقواعدها من خلال الكليات التي تدرس اللغة العربية.
وفي كلمته أكد الدكتور عصام عامريه، أن اللغة هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الأمم لأن الهوية واللغة بينهم مكونات تؤثر كل منهما على الآخر، فإذا قويت الهوية قويت معها اللغة لأنها انعكاس لها في الواقع، وأضاف أن اللغة ليست وظيفتها التواصل بين أفراد المجتمع فحسب بل تؤثر في نشاطه وحياته ووعيه فالإنسان لا يرى إلا ما تريه لغته فانظروا للعالم من خلال لغتكم.
وأشار إلى أن اللغة العربية تختلف عن كافة اللغات لما فيها من أسرار التعبير والبيان وحملت ثقافتنا للعالم أجمع ولم يستطع الاستعمار طمسها وفرض لغات أخرى عبر العصور لأنها لغة القرآن الكريم، وكانت لغة شعائر كنسية ويهودية في العصور الوسطى.
كما أوضح أن اللغة العربية تتعرض لكثير من التحديات خلال هذه الفترة مع استبدال مفرداتها أو تعلم لغات أخرى وتركها لذا فهي في تراجع مستمر من قبل أبنائها، واللغات تتجمد بجمود أصحابها وغاب عن كثير منا أن اللغة تتطور ولا تتغير وعلينا الحفاظ عليها لأنها تعبر عن هويتنا وثقافتنا، داعيًا إلى تعزيز استخدام العربية الفصحى في الحياة اليومية.
ومن جانبه أكد الدكتور مأمون وجيه قيمة اللغة العربية ومكانتها وإرثها وحضارتها التى علمت العالم أجمع، معربًا عن أسفه لما تشهده اللغة العربية من عدم استخدام لأنها أصبحت لغة لا يتقنها إلا المتخصصون فيها، فهؤلاء يدرسون في منابر العلم أما اللغة فهي وطن وحال نعيش فيه ولها قيمة يعرفها الناس في شتى بقاع الأرض وأقيمت لها المجامع والمؤسسات.
واصفًا اللغة في كلمات بسيطة هي الفكر ذاته وليست وعاء الفكر، أوعية الفكر هي الكتب أما التفكير هو اللغة وتكمن اللغة في قيمتها كركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي في المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج لأن أمن المجتمعات يحتاج إلى الوحدة، واللغة هي الجامع الذي يوحد الخطاب وهي خط الدفاع ضد التطرف الفكري لأنها أداة فهم النصوص والتي يختلف على تفسيرها كثيرًا لعدم التمكن من اللغة والفهم الصحيح لمقاصد القرآن والسنة.
وأشار إلى وضع سياسات حاكمة لتعدد اللغات التي إن تُركت انهارت المجتمعات، ضاربًا المثل بأوروبا التى كانت تتحدث لغة واحدة وهي اللغة اللاتينية، وفي كل منطقة طغت لهجة دارجة ومفردات مختلفة لكل مجتمع فتولدت منها لغات عديدة وكانت في البداية لغة واحدة.
وأوضح أن اللغة العربية كانت جسرًا لنقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوروبا مما ساهم في تطور الحضارة الإنسانية لذلك يجب أن يتقن الناس اللغة العربية الفصحى ولا نحصرها داخل منابر العلم ونعزلها عن الحياة اليومية.
وفي ختام الندوة قام الدكتور عرفه صبري حسن والحضور بتسليم شهادات التقدير للطلاب المتميزين في الأنشطة الطلابية.