يقترن مرور اللحظات السريعة، أو كما يُشاع قوله "طيران الوقت" حينما تُمضى أوقات المرح واللهو عادةً. وأما في اللحظات المملّة، لا سيما تلك التي تتعلّق بالدراسة أو إنجاز المهام الرتيبة، فإنّ الوقت يسير على ظهر سلحفاة إن صح التعبير، على الرغم من أن معدّل مرور الوقت ثابت على سطح الأرض بالنسبة لجميع عقارب الساعة، ولا توجد أي فروقات على الإطلاق.
وهذا ما يفسّره العلماء بأنّ إدراك الإنسان للوقت كقيمة خارجية مرتبط ارتباطا وثيقا بالإنجازات والأحداث التي تؤثر عليه ويؤثر عليها، وعلى عكس المعتقد السائد، لا تتزامن أدمغة البشر مع دقات الساعات الاعتيادية الإلكترونية فلا يكون هناك معنى للساعات والدقائق.
بل أنّ الدراسة الرائدة -التي نُشِرت في "كرنت بيولوجي" مؤخرا- أشارت إلى أن إدراك مرور الوقت لا يتعلّق بالساعة الداخلية (الساعة البيولوجية) وإنما بطبيعة الأحداث والوقائع نفسها التي يدركها الدماغ، وذلك بعد تحليل التغيرات الطارئة في أنماط النشاط الدماغي خلال تجربة علمية.
اعتمد الباحثون في دراستهم على تحليل النشاط الحاصل في "القشرة الحزامية الأمامية" وهي جزء من الدماغ مهم لمراقبة النشاط الدماغي. وقد كُلّفت مجموعة من الفئران على الاستجابة لـ200 أمر باستخدام أنوفها. ولاحظوا أنّه مع مرور الوقت تحدث تغيرات في نشاط الدماغ، وذلك بغض النظر عن سرعة الاستجابة.
وكانت هذه الأنماط متناسقة حينما طبّق الباحثون نموذجا رياضيا قائما على التعلم الآلي للتنبؤ بتدفق نشاط الدماغ، ولاحظوا أنّ التجارب المختلفة هي المحدد الأساسي، وليس الوقت، في إحداث التغييرات في أنماط نشاط الخلايا العصبية.
وفي تجربة جانبية، طُلِب من عاملين في أحد المصانع صنع 100 قطعة خلال فترة عملهم، وقد أنجز أحدهما المهمة في غضون 30 دقيقة، في حين أنجز الآخر المهمة في 90 دقيقة. ولدى انتهائهما، وجدوا أنّ أنماط النشاط في الدماغين كانت متشابهة إلى حد كبير دون أن يكون للوقت تأثير حقيقي على ذلك.
وتعمل خلايا الدماغ لإنجاز مجموعة من المهام التي تتعلّق بأيّ نشاط، إذ تتولى الخلية الأولى أداء مهمة معينة، وتتولى خلية أخرى مهمة أخرى. وعن طريق إنشاء سلسلة من المهام بواسطة الخلايا، يبدأ الدماغ بتقدير الوقت وفقا للمهام التي أُنجِزت.
وعلى سبيل المثال، الأمر يشبه محادثة أجريت بين شخصين حول موضوع ما، ففي حين يُصعب تذكر جميع الجمل بصياغاتها، فإنّه من الممكن تذكر تسلسل مواضيع المحادثة، فربّما ابتدأ الحوار بمخططات الصيف، ثم انتقل إلى أزمة المرور، وأخيرا انتهى الحديث عند غلاء الأسعار، وبهذه الطريقة يمكن للدماغ أن ينظّم تدفق الوقت بناءً على الأحداث المنفصلة وليست اللحظات بحد ذاتها.
القشرة الحزامية الأماميةويُشار إلى هذه الدراسة بأنّها من ضمن أولى الدراسات التي تتعامل مع المقاييس الزمانية السلوكية بهذا الجزء المحدد من الدماغ (القشرة الحزامية الأمامية) والذي يرتبط وجودها بمعرفة السلوك والعواطف معًا لدى الإنسان.
وترتبط القشرة الحزامية الأمامية كذلك بالاضطرابات النفسية وأمراض التنكس العصبي، وهي منطقة تتركّز فيها اضطرابات المزاج واضطراب ما بعد الصدمة، والإدمان، والقلق. وتعد كذلك مركزا للعديد من أنواع الخرف بما في ذلك مرض ألزهايمر المرتبط أيضا بتشوهات في الوقت والذاكرة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات نشاط الدماغ
إقرأ أيضاً:
علماء يكتشفون كيفية وقوع الدماغ في الوهم
يعد "الثقب المتوسع" وهم بصري شهير تظهر فيه بقعة سوداء وكأنها تتوسع، إلا أنها ليست إلا رسمة ثابتة تماما.
وتعد الأوهام البصرية صورا أو مشاهد تخدع أعيننا وتجعلنا نرى أشياء غير موجودة أو نشعر بالحركة في صور ثابتة. وتحدث هذه الظاهرة لأن الدماغ لا يعالج المعلومات البصرية كما هي، بل يفسرها بناءً على التوقعات والتجارب السابقة.
وتعتمد الأوهام البصرية على تأثيرات بصرية وحسية تجعل الدماغ يخطئ في تفسير ما يراه، وتحدث عادة بسبب التباين في الألوان، أو الظلال أو الأشكال الهندسية.
ومؤخرا، طور العلماء في جامعة فلندرز الأسترالية نموذجًا حسابيًا يشرح سبب رؤيتنا لوهم الحركة في الصور الثابتة، وخاصة وهم الثقب المتوسع، حيث يكشف هذا النموذج عن الكيفية التي تعالج أعيننا ودماغنا بها التباين بين الألوان لاختلاق وهم الحركة، وكيف يمكن لهذه المعرفة تحسين الذكاء الاصطناعي والتصوير الطبي وأنظمة الأمان.
وتوصل الباحثون إلى أن هذا الوهم يحدث بسبب كيفية عمل شبكية العين والقشرة المخية معًا، ويبدأ الأمر من العصبونات الشبكية، وهي خلايا عصبية موجودة في شبكية العين، وظيفتها نقل المعلومات البصرية من العين إلى الدماغ عبر العصب البصري. وتعمل هذه الخلايا مرشحات ذكية، حيث تلتقط التباين والحركة والألوان ثم ترسل الإشارات إلى الدماغ ليترجمها إلى صورة مفهومة.
لكن عند النظر إلى صورة عالية التباين مثل وهم الثقب المتوسع، وجد الباحثون أن هذه الخلايا تخطئ في إدراك التباين وتقدمه على أنه نوع من الحركة، وترسل إشارة إلى الدماغ بذلك.
إعلانأما القشرة المخية، فهدفها تفسير المعلومات المرئية وإضافة المعنى لها، بمعنى أنك لا تدرك أنك ترى صديقك إلا بعد أن تقوم القشرة المخية بتفسير الصورة وإعطائها معنى يقول إن هذا هو صديقك، وفي بعض الحالات الطبية التي تصاب خلالها مناطق محددة بالقشرة المخية، فإن المرضى يرون الأشياء بوضوح تام ولا توجد أي مشكلة في عيونهم، لكنهم لا يفهمون ما يرون.
ولأن إشارات التباين والحركة التي أصدرت من شبكية العين كانت مغلوطة بسبب شدة التباين، فإن القشرة المخية تفسر ما تره بناء على هذه البيانات، مما يجعلنا ندرك ثقبًا متوسعًا بدلاً من صورة ثابتة.
آمال مستقبليةوقد قام الباحثون بدراسة هذا التفاعل بين شبكة العين والقشرة المخية في صورة إحصائية، وسط آمال بأن يساعد هذا النموذج في فهم كيفية عمل الرؤية البشرية.
وفي نفس الوقت، يمكن أن تساعد تلك النتائج في تحسين أنظمة الرؤية الاصطناعية، وبشكل خاص يمكن أن يساعد النموذج الذي طوره الباحثون الذكاء الاصطناعي على اكتشاف الحواف والقوام والحركة، مما يجعله يعالج الصور بشكل أشبه بالبشر.
ويعتقد الباحثون أن هذا النموذج يمكن كذلك أن يكون مفيدا في معالجة الصور الطبية، حيث يمكن استخدامه لتحسين وضوح التصوير بالرنين المغناطيسي والتصوير المقطعي المحوسب وفحوصات الأشعة السينية من خلال محاكاة اكتشاف الحافة في النظام البصري البشري.
وإلى جانب ذلك، يمكن لهذا النموذج تحسين أجهزة التعويض البصري للمكفوفين، حيث يتم زرع شريحة إلكترونية في شبكية العين أو العصب البصري مع وجود كاميرا صغيرة مثبتة في نظارات ذكية تلتقط الصور، ثم تقوم الشريحة بتحويل الصور إلى إشارات كهربائية يفسرها الدماغ كصور مرئية.