هناك بعض القضايا الحيّة المتعلّقة بالوطن أو مجموعة من الأفراد يغلب عليها التّكهن؛ لعدم اتّضاح الرّؤية، ولعدم وجود أدلّة واضحة، ولطول زمنيّة التّكتيم، لهذا يبني الباحث أو المحلّل على ما لديه من بيانات فرديّة، أو نتيجة شيوعها في المجتمع، أو حديثها المتناقل في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وقد تكون بعضها متناقضة ومتضاربة.

كما أنّ هناك اجتهادات فرديّة من قبل الباحثين أو الدّارسين، في بعض القضايا المحليّة أو الاجتماعيّة، بناء على اجتهادات شخصيّة، أو إحصاءات ليست دقيقة، فيدخل في دائرة التّعميم، أو يخرج بنتائج ليست سليمة في الجملة، ولكن يبقى اجتهادا يشكر عليه.

ولأنّ المجتمعات البشريّة اليوم منفتحة على بعضها، فما يحدث في أقصى الأرض نجد ما يماثله في بلدنا بعد حين، ولأنّ الإعلام أصبح فرديّا لا قدرة للرّقيب في التّدخل فيه، فأصبح له تأثيره الأقوى، وله تنوعه ومشاربه، منه ما يتوافق معنا، ومنه ما يتناقض، ثمّ لم يعد المستقبِل مشاهدا أو مستمعا أو قارئا فقط؛ بل أصبح متفاعلا معه أيضا، وأصبح الّذي يخشى الرّهاب الاجتماعيّ يستخدم معرّفات وهميّة ليتفاعل مع من يميل إليه فكرا أو سلوكا، ومنهم من تجاوز الرّهاب ليعيش واقعه بفردانيّته المطلقة.

لهذا لم يعد المجتمع محصورا في هويّة وصورة واحدة، فأنت تعيش ساعات من يومك في عوالم افتراضيّة متباينة، تجد لمّا تتأمل ما يماثلها أو يماثل بعضها في واقعك الحقيقيّ، منها ما تراه حسنا، ومنها ما تراه سيئا، ومع هذا، هناك واقع لا بدّ من التّعامل معه كواقع، وعدم تجاهله بدعوى الهويّة الواحدة.

وفي المقابل لا ينبغي تسطيح هذا الواقع وفق قراءات علويّة أو انطباعيّة أو أبويّة مطلقة، بل نحن -في نظري- بحاجة إلى مؤسّسة بحثيّة تعنى بهذه القضايا الحيّة، يتفرغ لها باحثون خصوصا ممّن لهم تخصّصات في علوم الاجتماع والنّفس والتّربية والإعلام والاقتصاد، وما له علاقة بالواقع الفكريّ والاجتماعيّ، بحيث تقرأ الواقع عن عمق، كما لها قدرة في الحصول على بيانات وإحصاءات من الجهات المختصّة.

هذه الجهة أو المؤسّسة بلا شك سوف ترفد المجتمع بعد حين بقراءات عميقة، كما ستكون لها القدرة في تفكيك البنية الفكريّة والاجتماعيّة، هذا إذا توفر لها أربعة عوامل: الأول: وجود باحثين أكفاء يفرغون للعمل البحثيّ، وقراءة الواقع بعمق، والثّاني وجود مساحة واسعة من الحريّة في الحصول على بيانات كافية، وفي طرح نتائج العمل البحثي والنّقديّ مع الاستقلاليّة كباحث مستقل غير موجه ولا مؤدلج، غايته الإنسان والوطن والمعرفة، والثّالث وجود دعم ماديّ يتناسب مع عملهم البحثيّ، والرّابع وجود رؤية واضحة ودقيقة للمؤسّسة من جهة، وللعمل البحثيّ من جهة ثانية، وللمحاسبة والرّقابة من جهة ثالثة، حتّى لا تتحوّل ذاتها إلى بطالة مقنعة لا ثمرة لها.

كما أنّ هذه المؤسّسة أيضا سوف ترفد المجتمع بعد حين بمتحدّثين وباحثين لهم كفاءتهم ورؤيتهم العميقة، خصوصا في وسائل الإعلام المحليّة والخارجيّة، لا يتوقفون عند الاجتهادات الشّخصيّة، ولا عند الانطباعات القاصرة، ولا عند المصالح الآنيّة، بل لهم عمقهم المعرفيّ، وإدراكهم العميق للواقع وتحدّياته، وقدرتهم على التّفكيك والنّقد والتّحليل.

كما سترفد المجتمع ببحوث وكتابات وإصدارات لها عمقها في قراءة الواقع، يستفيد منها المعنيون في كافة الاتّجاهات التّقنينيّة والتّشريعيّة والخطابيّة والخدميّة والإعلاميّة، لا تتوقف -كما أسلفتُ- عند الاجتهادات الشّخصيّة، بل هي رؤية بحثيّة جماعيّة لها عمقها؛ ولما تملكه من بيانات واضحة ودقيقة، لهذا تخرج بنتائج لها دقتها وواقعيّتها. وما حدث من جدل في الفترة الأخيرة حول بعض الكتّاب والمحلّلين، ففي الجملة يشكرون على اجتهادهم، وفي سدّ ثغرات كتابيّة وإعلاميّة، خصوصا في وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وفي قنوات ومواقع من في الخارج خصوصا، لما أحدثه الحدث من وقع أليم وفريد في الوقت ذاته، ولكن لا يعني عدم وجود حالات سابقة متأثرة، ولكن حتّى اليوم لا توجد دراسات بحثيّة عميقة في الموضوع وغيره من المواضيع، أغلبها لا تتعدّى الاجتهادات الشّخصيّة، والرّؤى الفرديّة، لهذا قاعدة البيانات والقراءات عندنا -للأسف- في مثل هذه الجوانب ضعيفة جدّا.

ثمّ علينا أن ننظر إلى المستقبل، فالواقع هو كائن نعايشه كواقع، له تدافعه وثقله، هذا التّدافع والثّقل لا يقابل بتأملات فرديّة، أو انطباعات قاصرة، أو قراءات محدودة، أو غايات وخطابات مؤدلجة، بل لا بدّ من الجمع بين العمق والقراءة من الدّائرة الواسعة، فهناك اقتضاءات لأيّ حدث لا بدّ من الالتفاتة إليها، وقراءتها قبل قراءة الحدث ذاته، أو قبل وقوعه، بحيث نخرج بنتائج تمنع تكرار الأحداث السّلبيّة، أو لكي لا تتحوّل -لا قدّر الله- إلى تظاهرة أوسع، ولا تتمدّد بصورة أكبر، وهذا لا يتوقف عند القراءات السّطحيّة، ولا عند محاولة نسيان هذه الأحداث؛ لأنّ الأفكار لا تموت، ولكنّها تضعف لما يحجّم اقتضاءاتها، فمثل هذه الجماعات المتطرّفة لا تشتغل على وقوع الحدث، بل تستغل اقتضاءات الواقع لتوجيهها سلبا لحدوث الحدث، لهذا في نظري وجود مؤسّسة أو جهات بحثيّة عميقة لها ضرورتها لتفكيك مثل هذه الاقتضاءات وغيرها، ومواجهة الواقع بعقلانيّة كبرى، ووفق سننيّة وأدوات الواقع ذاته.

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فردی ة بحثی ة

إقرأ أيضاً:

الحالمون بالعودة إلى العهد البائد

الغريب في أمر البلابسة أنهم يعيشون في حيز منفصل عن عالم الشهادة، يحلمون بعودة الأمور لما كانت عليه قبل الحرب، وهذا لعمري أمر مدهش، جميع حروب العالم زلزلت أرض ساكنيها وقلبتها رأساً على عقب، و(حربنا) ليست استثناء، ومن العجائب أن هؤلاء القوم البائسين علقوا أحلامهم على رقاب كتائب البراء بن مالك الداعشية، تلك المليشيا المنشدة للأهازيج والحاثة منتسبيها على البحث عن الجنان العلى، عن طريق العدوان وقتل الأبرياء والوحشية في التمثيل بجثث ضحايا الحرب، وبرغم الهزائم النكراء التي تكبدتها في مواجهة الأشاوس، إلّا أن المهووسين من جندها يعدون البلابسة بسرعة مقدمٍ الى المدن التي تركوها زحفاً تحت زخات الرصاص، لقد تحولت المدن الى هياكل واشكال تشبه مدينة هيروشيما بعد التعرض لضربة القنبلة النووية، كما قال الدكتور علي الحاج، وبعد كل هذا الواقع الخربان الذي لا يعلم أحد بمدى انقضاء أجل الأسباب التي أدت لتشكله، تجد الحالمين المعطونين داخل غرف التدفئة والمكتوين بزمهرير صحارى جزيرة العرب، يؤكدون لك أن جيشهم المهزوم على وشك القضاء على (عرب الشتات)، هذا مع العلم أنه وبعد عشرين شهراً انسدت عليه السبل المؤيدة لإحداث اختراق ينهي الحرب عبر منبر التفاوض، فتكبّر وتجبّر قادة المليشيات الاخوانية بتمزيقهم لكل الأوراق المقدمة بشأن وقف سيل الدماء، ومما هو مثير للشفقة أن المهزومين يملئون منصات الإعلام بالزعيق والتهليل والغناء، والتبشير بقرب نهاية من هم ما يزالون يضعون يدهم على أهم مقرّات ترسانات جيشهم المنهزم المنسحب، زد على ذلك وجود قيادة الجماعة المطرودة بالحدود الشرقية للبلاد، ومعلوم أن القائد المطرود من أرض معركته (القيادة العامة) هو قائد بلا شك مهزوم (ستة صفر).
إرهاصات حرب السودان ذاهبة نحو صناعة دولتين، احداها للبلابسة وحاضرتها بورتسودان، وأخرى للمعتدى عليهم وعاصمتها (العاصمة القومية)، فكيف للبلابسة الدخول لأرض الدولة التي يحكمها (عرب الشتات)؟ وكيف يحققون حلمهم بممارسة الرياضة بشارع النيل؟، والبلاد قد صارت تحت إدارة حكم لا يؤمن بالانتقام والتشفي، كما هو الحال بالنسبة لمافيا بورتسودان الحاكمة للناس بالإعدام لمجرد خلفياتهم الاجتماعية، سيضيع البلابسة وفلولهم بين حلم العودة ومرارة الواقع، فالحرب ليست نزهة كما تصوروها، وكلما طال أمدها يصبحون أكثر خسرانا وابتعاداً عن حلم الوصول، ومهما فعل الطيران الأجير الذي جلبته جوقة بورتسودان بالمدنيين، لن يقوى على إزاحة (الكابوس) من سطح الأرض، ومن اعظم الفخاخ التي وقعت فيها الجوقة إعلانها الحرب على (عرب الشتات)، دون أن تدري بأن هؤلاء الشتات أمة بحالها، والأمة لن تباد بسلاح الطيران الحربي، وإلّا لأباد صدام حسين الكرد ولأنهى انصار الرئيس الرواندي هابريامانا التوتسي، والوبال الواقع على رؤوس البورتسودانيين هو الكتل البشرية الضخمة القادمة لمناصرة الأشاوس الموصوفين بأنهم مجرد عرب شتات، فهذا المصطلح قد لعب دوراً للفت انتباه أمم كثيرة من حولنا ودفعها لكي لتشد رحلها الى ارض النيلين، مناصرة لآصرة الرحم المستهدفة بالاستئصال، وهذا الزخم الاجتماعي الكبير سيسهم في عدم تحقق حلم البلابسة، لقد حاول بعض النابهين من قيادة كيزان بورتسودان تدارك الموقف، بشق صف هذه الأمة (المزعجة) الى كردفانيين ودارفوريين، لكنهم كعادتهم أخفقوا إخفاقاً عظيما في قصم ظهر هذا المجتمع الأمة، الذي يدين بالولاء التلقائي لقائد الركب، وبدلاً من الانشقاق حدث الترابط والتكاتف الذي لم يسبق له مثيل بين مكونات المجتمعات المستهدفة بالطرد والقتل والإفناء.
لقد فرّط "الكرتيون" في الاستمساك بشعرة معاوية، التي كانت وعلى أقل تقدير قادرة على الحفاظ على أرواح الملايين من المدنيين والعسكريين، ماذا يضير المترفون حال بقوا داخل القاعة (المكيّفة) المخصصة للبت في بنود اتفاق الإطار المتعلق بهيكلة الجيش، لماذا اتبعوا الشيطان "الأكرت" الذي زيّن لهم حب الشهوات؟، لو فعلوا ذلك كانوا حافظوا على حياتهم وحياة الآخرين، فما أجمل الحوار بالكلمات، لكنه الصلف والغرور غير المسنود بواقع يعضده، الغرور الذي يشبه اغترار البلابسة بعودة عهد الظلام، ذلك العهد الذي ذهب أدراج الرياح، وغادر أرض السودان لجهة غير معلومة، وإلى غير رجعة، فحلم الجوعان قطعة من خبز، وفيما نرى ان البائسين هؤلاء لن يجدوا ما يسد رمقهم، وسيصطدمون بمصدات الواقع المرير في القريب العاجل، حين يتكسر حلمهم على رايات (الشتات) الصفراء المرتكزة على سارية كل بيت، فالبلابسة قلوبهم غلف، لا يرون ولا يسمعون إلّا من يدغدغ احلامهم الطفولية الساذجة، لذلك أطلق عليهم المستنيرون اسم (المعلوفون) الذين يمدون أعناقهم طويلة لالتهام أي حزمة علف يقدمها "الكرتيون" و"البراؤون"، فالبلوبسي يلتهم العلف دون أن يتذوقه، لذلك صدمته ستكون مؤكدة في مقبل الأيام، لأن أعلاف الختام ستكون مرّة مرارة الحنظل، فسيلفظها حال حدوث الصدمة، ومن لا يقيم وزناً لمن سبقونا بذات التجربة ويقتفي أثرهم مات ميتة الجهل، والذي هو مصير من أسلم رقبته للذين تلاعبوا بمقدرات الدولة لأكثر من ثلاثين سنة.

إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com  

مقالات مشابهة

  • الحكومة: إنشاء مراكز لوجستية بإفريقيا يديرها القطاع الخاص لهذا السبب
  • انهيار عقار وتصدع آخر في الإسكندرية وقرار عاجل من الحي
  • الحكومة توافق على إنشاء مؤسسة الجامعات الأوربية في مصر
  • المنشاوى: تمويل 21 مشروع بحثي ضمن برنامج التمويل الداخلي للمشروعات البحثية بجامعة أسيوط
  • الزراعة: تعاون بحثي مع اليونان لتعزيز الصحة النباتية في منطقة المتوسط
  • "القمة الثلاثية بين مصر واليونان وقبرص" تعزيز التعاون في القضايا الإقليمية والاقتصادية
  • البحوث الإسلامية: الاستفادة من القدرات العلمية للباحثين في التعامل مع القضايا
  • الحالمون بالعودة إلى العهد البائد
  • الواقع والجمهورية في اليمن.. قراءة في كتاب عبدالله البردوني
  • أسامة عبد الحي يعتذر للأطباء على تأجيل الجمعية العمومية