لجريدة عمان:
2024-09-08@15:07:25 GMT

البحث عن الفقه.. وسط الفورة السلفية

تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT

منذ حوالي ربع قرن.. كنت في مكة المكرمة لأداء العمرة، ومن عادتي كلما ذهبت إلى مكة أزور مكتباتها، فذهبت إلى العزيزية بعد صلاة العصر، باحثا عن بعض الكتب التي تشغل اهتمامي، وبينما أتصفح أرفف إحدى المكتبات وجدت كتيبا شد انتباهي؛ بعنوان «مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية» لمحمد سليمان الأشقر.

رجعت إلى المسجد الحرام، فصلّينا المغرب، ثم قرأت الكتيب، الذي لم يستغرق سوى نصف ساعة، فأبهرني طرحه، وقلت: هذا ما نحتاج له في هذه الفورة السلفية التي تجتاح المسلمين.

لقد كان الكتيب ذو المائة صفحة رسالة جليلة القدر، وضعت منهجية للتعامل مع الروايات المنسوبة إلى النبي الخاتم فيما يتعلق بالقضايا الطبية، وهي فوق ذلك؛ تؤسس لتفكير موضوعي في سائر القضايا التي تستند إلى الروايات. وكنت حينها أقدم دروسًا في الفقه والحديث في مسجد حارة خليفة ببَهلا، وكان شغلي الشاغل تدريس طلابي التعامل مع الرواية بروح الفقه وأدواته، فرأيت هذه الرسالة مفيدة لطلبتي ولغيرهم، فقررت أن أرجع إلى المكتبة لأشتري مجموعة منها، ففوجئت بأنه لا توجد سوى ثلاث نسخ فاشتريتها، ثم وزعتها على بعض الأصدقاء.

ولأهمية الرسالة، وما يمكن أن تحدثه من وعي في التعامل مع الروايات المنسوبة إلى النبي، سعيت للحصول عليها من معرض مسقط الدولي للكتاب، وكان من حُسن الحظ أن ابن أخ المؤلف يشارك بمكتبته في المعرض، فسألته عن الرسالة، فقال: نعم توجد لدينا، لكن لم تجد هذا الاهتمام الذي توليه إياها، فلم أحضرها معي. فقلت له: هذه الرسالة مهمة لكسر حدة الاندفاع إلى الرواية من دون فقه، فأرجو أن تحضر لي منها أكثر عدد من النسخ في الدورة القادمة للمعرض، فأحضر لي منها حوالي مائتي نسخة، ثم أحضر في الدورة اللاحقة ما بقي لديه من نسخ، كل ذلك من دون مقابل، فجزاه الله خيرا. فوزعتها على المهتمين بهذا الجانب من الدراسات الفقهية.

ما القدر العلمي لرسالة «مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية» الذي جعلها تحوز مني كل هذا الاهتمام؟

بدايةً؛ من المهم أن أضع القارئ في الأجواء الفكرية التي صدرت فيها الرسالة، لنعرف بعد ذلك أهميتها حينذاك. الرسالة.. صدرت عن دار النفائس للنشر والتوزيع بالعاصمة الأردنية عمّان عام 1993م، وفي مقدمتها يقول المؤلف الأشقر: (فهذا بحث ينتمي إلى علم أصول الفقه، قدمته في مؤتمر الطب الإسلامي الذي انعقد في كراتشي بالباكستان سنة 1988م، ثم تابعته بالتصحيح والتحرير، والتقويم والتعديل، حتى استقام على الوجه الذي يراه القارئ).

فالرسالة.. وضعها الأشقر عام 1988م، ثم عمل على ضبطها حتى نشرها عام 1993م، وفي هذه المدة يأتي أوج الصعود السلفي؛ القائم على الرجوع إلى الرواية، والحرص على تمثلها خارج مقررات علم أصول الفقه، مما أدى إلى انحسار الرؤية الفقهية. ورغم أن مجمع الفقه الإسلامي ينعقد سنويا؛ فإن غالب بحوثه تظل رهينة أدراجه، فطغت على الاجتماع الإسلامي الرواية؛ التي قُدِّمت بأنها هي الدين.. بل صدرت حينذاك دعوات تنادي بتقديم الرواية على القرآن، واستدعيت عبارة قديمة نشأت في عصر الصراع بين الرواية والفقه؛ تقول: (لا خير في قرآن بلا سنة، ولا خير في سنة بلا أقوال السلف)، وهم يقصدون بالسنة الرواية، إذ لا يفرقون بينهما، ولمعرفة الفرق بينهما، وما ترتب عليه؛ أقترح الرجوع إلى كتابنا «السنة.. الوحي والحكمة» الذي اشتركتُ في تأليفه مع زكريا المحرمي وخالد الوهيبي. في فورة السلفية.. غابت الرؤية القرآنية واستبعد التأصيل الفقهي، وجرى التعويل على الرواية؛ دون العمل على نقد متنها، وأكتُفي بتصحيحها سندا وفق منهج أهل الحديث، وهو منهج غير موضوعي، فقد اقتصر على رجال الرواية الذين اعتمدهم أصحاب هذه المدرسة، وأقصي كثير غيرهم؛ بعضهم من أئمة أهل السنة كأبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت:150هـ)، فضلاً عن سواهم من فقهاء المذاهب الأخرى.

في هذه المرحلة من صعود السلفية وفقًا لمقررات أهل الحديث؛ تصاعد تكفير وتضليل كل من يتهم بأنه مخالف للسنة النبوية، حتى الفقيه محمد الغزالي (ت:1996م) عندما صنّف كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث» ناله قسط وافر من الهجوم العنيف عليه إلى حد تكفيره. فضلا عن موجة التكفير لأتباع المذاهب الإسلامية، وهي موجة هيمنت على الوضع حينذاك، ثم أعقبتها موجة أعنف منها من قتل المخالفَ مذهبيا، حتى وصل الأمر إلى تفجير المسلمين في مساجدهم. ولهذا السبب رأيت هذه الرسالة المختصرة تقول ما يرجوه المرء لتخفيف المأزق الفكري والسلوكي الذي أورثته الرواية والتعامل معها، واستخدامها أداة أيديولوجية في الصراع السياسي، الذي نشط في المنطقة، منذ الحقبة الشمولية كالشيوعية والقومية العربية في خمسينيات القرن الميلادي المنصرم، ولذلك؛ مساهمةً في التخفيف من هذا الغليان السلفي العنيف، ورغبةً أن يعم التفكير الفقهي أكبر شريحةٍ، قدمتُ عنها قراءة مع بداية العقد الثاني من هذا القرن، في برنامج «كتاب أعجبني» بإذاعة سلطنة عمان، في الحلقة 297 منه، وهو برنامج يقدمه الإعلامي سليمان المعمري. المؤلف محمد سليمان الأشقر.. أردني من أصل فلسطيني، ولد عام 1930م، فقيه حنبلي، انتقل إلى السعودية ثم الكويت للتدريس فيهما، أحد علماء الفقه وأصوله، ورغم أن المذهب الحنبلي هيمنت عليه حينها مدرسة أهل الحديث، إلا أن الأشقر ينتمي إلى المدرسة الفقهية في المذهب، والتي أبدت تميزا في التأصيل الفقهي المعاصر، فكان الأشقر أحد أعمدتها المعاصرين، وأبحاثه تشهد له بذلك. توفي الأشقر عام 2009م، وترك العديد من المؤلفات التي تدل على تمكنه الأصولي؛ لا سيما في مجال المعاملات المالية.

أما رسالة الأشقر «مدى الاحتجاج» فتُؤصِّل لمنهج الاحتجاج بأحاديث الرسول في الأمور الدنيوية، وقد قسّم فيها ما صدر عن النبي إلى قسمين: قسم.. على جهة التبليغ عن الله، فهو شرع واجب الأخذ به. وقسم.. يتعلق بأمور الدنيا؛ وهذا له مذهبان: مذهب يقول بأن كل ما صدر عن النبي فهو تشريع، وهو (طريقة المُحَدِثين). و(المذهب الثاني.. أنه لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا مطابقًا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلًا أو كثيرًا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وسلم). وقد نقل الأشقر أسماء مجموعة من الفقهاء على هذا المذهب؛ وهم: (القاضي عياض والقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي والشيخ ولي الله الدهلوي، ومن المعاصرين: الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبدالوهاب خلّاف والشيخ عبدالجليل عيسى والشيخ فتحي عثمان)، وقد انتصر الأشقر لهذا المذهب قائلًا: (الصحيح عندنا من هذين المذهبين المذهب القائل بأن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله في الشؤون الدنيوية ليست تشريعا)، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة؛ منها: قول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إليَّ) [الكهف:110]، وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء:93]. و(قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر من دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر) و(أنتم أعلم بدنياكم)، وعضد رأيه بأقوال بعض الفقهاء الذين وردوا أعلاه.

لا أريد هنا أن أستعرض الرسالة، فقراءتها أولى من تلخيصها، وهي موجودة يمكن الرجوع إليها، وإنما اكتفيت ببيان أنه رغم الظاهرية التي استندت إلى الرواية عن النبي، والتي صاحبها صعود العنف في زماننا، كانت هناك أقلام متزنة تعالج الوضع بتعقل، وتكتب لأجل التسامح بمنهج فقهي رصين، وهذا ما كنت أبحث عنه حينها.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم

إقرأ أيضاً:

ربيع الأنوار.. كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي يومه؟

بدأ شهر ربيع الأول يوم الأربعاء 4 سبتمبر، وهو ربيع الأنوار حيث ميلاد الحبيب المصطفى، وسيوافق موعد المولد النبوي الشريف 2024، يوم الإثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق 12 ربيع الأول 1446 هـ، فكيف كان يقضى قدوتنا وسبيلنا إلى الله عز وجل يومه الشريف؟

موعد مولد النبي 2024 وميلاد هلال ربيع الأول الجمعة الأولى من ربيع الأنوار.. الطلاق مقصد الشيطان الأعظم كيف كان النبي ﷺ يقضي يومه ؟



نشر مجمع البحوث الإسلامية عبر صفحته الرسمية على الموقع الإلكتروني الفيسبوك شرحًا مبسطًا حول كيفية قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه الشريف، فوضحت النقاط التالية:
 


 كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح يومه بذكر الله والصلاة والدعاء والاجتهاد في العبادة.
كان النبي  يقوم على خدمة أهله ونفسه.
كان حضرة النبي يقضي وقتا كبيرًا في الدعوة والنصح والتوجيه والتشريع.
كان صلى الله عليه وسلم  يتفقد أحوال الناس في معاشهم وتعاملاتهم وأسواقهم.
كان سيد الخلق يجالس الناس، ويسأل عنهم، ويزور المريض.
كان نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يجيب الداعي، ويمشي في حاجة الضعيف والمسكين.

حكم التهنئة بالمولد النبوي الشريف

أكدت دار الإفتاء المصرية أن الاحتفالُ بِمولدِ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم مِن أفضل الأعمال وأعظم القربات؛ لأنه تعبير عن الفرح والحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أصل من أصول الإيمان؛ فقد صح عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا يُؤمِنُ أَحَدُكم حتى أَكُونَ أَحَبَّ إليه مِن والِدِه ووَلَدِه والنَّاسِ أَجمَعِينَ» رواه البخاري، كما أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد سنَّ لنا جنس الشُكرِ لله تعالى على مِيلاده الشريف؛ فكان يَصومُ يومَ الإثنينِ ويقول: «ذلكَ يَومٌ وُلِدتُ فيه» رواه مسلم.


وكذلك يَجُوزُ الاحتفالَ بموالدِ آل البيتِ وأولياء الله الصالحين وإحياءُ ذكراهم؛ لما في ذلك من التأسي بهم والسير على طريقهم، ولورود الأمر الشرعي بتذكُّر الصالحين؛ فقال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ﴾ [مريم: 16]، ومريم عليها السلام صِدِّيقةٌ لا نبية، وكذلك ورد الأمر بالتذكير بأيام الله تعالى في قوله سبحانه: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ﴾ [إبراهيم: 5]، ومِن أيام الله تعالى أيامُ الميلاد لأنه حصلت فيه نعمةُ الإيجاد، وهي سبب لحصول كل نعمة تنال الإنسان بعد ذلك، فكان تذكره والتذكير به بابًا لشُكر نعم الله تعالى على الناس.

من المتوقع ترحيل الإجازة، ليتم ضمها مع الإجازات الأسبوعية، وبذلك يكون موعد إجازة المولد النبوي الشريف يوم الخميس 19 سبتمبر 2024

مقالات مشابهة

  • وزير الإعلام في ندوة لمؤسسة الثورة: نحن بحاجة للرسول كقدوة خصوصاً في المعركة ضدَّ أمريكا و”إسرائيل” وبريطانيا
  • أنوار الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • عضو كنيست لمعاريف: نعرف مكان نصر الله وربما نقضي عليه
  • من الذي سمى الرسول باسم "محمد"؟
  • لبنان يردّ على الرسالة الإسرائيلية بشأن القرار 1701 واسرائيل ترفض ربط الجنوب بهدنة غزة
  • الصدق في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • المولد النبوي: تعرف على مقتنيات رسول الله صلى الله عليه وسلم
  • ربيع الأنوار.. كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي يومه؟
  • التسامح في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
  • معاني الرحمة في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم