لجريدة عمان:
2025-04-29@17:58:50 GMT

البحث عن الفقه.. وسط الفورة السلفية

تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT

منذ حوالي ربع قرن.. كنت في مكة المكرمة لأداء العمرة، ومن عادتي كلما ذهبت إلى مكة أزور مكتباتها، فذهبت إلى العزيزية بعد صلاة العصر، باحثا عن بعض الكتب التي تشغل اهتمامي، وبينما أتصفح أرفف إحدى المكتبات وجدت كتيبا شد انتباهي؛ بعنوان «مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية» لمحمد سليمان الأشقر.

رجعت إلى المسجد الحرام، فصلّينا المغرب، ثم قرأت الكتيب، الذي لم يستغرق سوى نصف ساعة، فأبهرني طرحه، وقلت: هذا ما نحتاج له في هذه الفورة السلفية التي تجتاح المسلمين.

لقد كان الكتيب ذو المائة صفحة رسالة جليلة القدر، وضعت منهجية للتعامل مع الروايات المنسوبة إلى النبي الخاتم فيما يتعلق بالقضايا الطبية، وهي فوق ذلك؛ تؤسس لتفكير موضوعي في سائر القضايا التي تستند إلى الروايات. وكنت حينها أقدم دروسًا في الفقه والحديث في مسجد حارة خليفة ببَهلا، وكان شغلي الشاغل تدريس طلابي التعامل مع الرواية بروح الفقه وأدواته، فرأيت هذه الرسالة مفيدة لطلبتي ولغيرهم، فقررت أن أرجع إلى المكتبة لأشتري مجموعة منها، ففوجئت بأنه لا توجد سوى ثلاث نسخ فاشتريتها، ثم وزعتها على بعض الأصدقاء.

ولأهمية الرسالة، وما يمكن أن تحدثه من وعي في التعامل مع الروايات المنسوبة إلى النبي، سعيت للحصول عليها من معرض مسقط الدولي للكتاب، وكان من حُسن الحظ أن ابن أخ المؤلف يشارك بمكتبته في المعرض، فسألته عن الرسالة، فقال: نعم توجد لدينا، لكن لم تجد هذا الاهتمام الذي توليه إياها، فلم أحضرها معي. فقلت له: هذه الرسالة مهمة لكسر حدة الاندفاع إلى الرواية من دون فقه، فأرجو أن تحضر لي منها أكثر عدد من النسخ في الدورة القادمة للمعرض، فأحضر لي منها حوالي مائتي نسخة، ثم أحضر في الدورة اللاحقة ما بقي لديه من نسخ، كل ذلك من دون مقابل، فجزاه الله خيرا. فوزعتها على المهتمين بهذا الجانب من الدراسات الفقهية.

ما القدر العلمي لرسالة «مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية في الشؤون الطبية والعلاجية» الذي جعلها تحوز مني كل هذا الاهتمام؟

بدايةً؛ من المهم أن أضع القارئ في الأجواء الفكرية التي صدرت فيها الرسالة، لنعرف بعد ذلك أهميتها حينذاك. الرسالة.. صدرت عن دار النفائس للنشر والتوزيع بالعاصمة الأردنية عمّان عام 1993م، وفي مقدمتها يقول المؤلف الأشقر: (فهذا بحث ينتمي إلى علم أصول الفقه، قدمته في مؤتمر الطب الإسلامي الذي انعقد في كراتشي بالباكستان سنة 1988م، ثم تابعته بالتصحيح والتحرير، والتقويم والتعديل، حتى استقام على الوجه الذي يراه القارئ).

فالرسالة.. وضعها الأشقر عام 1988م، ثم عمل على ضبطها حتى نشرها عام 1993م، وفي هذه المدة يأتي أوج الصعود السلفي؛ القائم على الرجوع إلى الرواية، والحرص على تمثلها خارج مقررات علم أصول الفقه، مما أدى إلى انحسار الرؤية الفقهية. ورغم أن مجمع الفقه الإسلامي ينعقد سنويا؛ فإن غالب بحوثه تظل رهينة أدراجه، فطغت على الاجتماع الإسلامي الرواية؛ التي قُدِّمت بأنها هي الدين.. بل صدرت حينذاك دعوات تنادي بتقديم الرواية على القرآن، واستدعيت عبارة قديمة نشأت في عصر الصراع بين الرواية والفقه؛ تقول: (لا خير في قرآن بلا سنة، ولا خير في سنة بلا أقوال السلف)، وهم يقصدون بالسنة الرواية، إذ لا يفرقون بينهما، ولمعرفة الفرق بينهما، وما ترتب عليه؛ أقترح الرجوع إلى كتابنا «السنة.. الوحي والحكمة» الذي اشتركتُ في تأليفه مع زكريا المحرمي وخالد الوهيبي. في فورة السلفية.. غابت الرؤية القرآنية واستبعد التأصيل الفقهي، وجرى التعويل على الرواية؛ دون العمل على نقد متنها، وأكتُفي بتصحيحها سندا وفق منهج أهل الحديث، وهو منهج غير موضوعي، فقد اقتصر على رجال الرواية الذين اعتمدهم أصحاب هذه المدرسة، وأقصي كثير غيرهم؛ بعضهم من أئمة أهل السنة كأبي حنيفة النعمان بن ثابت (ت:150هـ)، فضلاً عن سواهم من فقهاء المذاهب الأخرى.

في هذه المرحلة من صعود السلفية وفقًا لمقررات أهل الحديث؛ تصاعد تكفير وتضليل كل من يتهم بأنه مخالف للسنة النبوية، حتى الفقيه محمد الغزالي (ت:1996م) عندما صنّف كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث» ناله قسط وافر من الهجوم العنيف عليه إلى حد تكفيره. فضلا عن موجة التكفير لأتباع المذاهب الإسلامية، وهي موجة هيمنت على الوضع حينذاك، ثم أعقبتها موجة أعنف منها من قتل المخالفَ مذهبيا، حتى وصل الأمر إلى تفجير المسلمين في مساجدهم. ولهذا السبب رأيت هذه الرسالة المختصرة تقول ما يرجوه المرء لتخفيف المأزق الفكري والسلوكي الذي أورثته الرواية والتعامل معها، واستخدامها أداة أيديولوجية في الصراع السياسي، الذي نشط في المنطقة، منذ الحقبة الشمولية كالشيوعية والقومية العربية في خمسينيات القرن الميلادي المنصرم، ولذلك؛ مساهمةً في التخفيف من هذا الغليان السلفي العنيف، ورغبةً أن يعم التفكير الفقهي أكبر شريحةٍ، قدمتُ عنها قراءة مع بداية العقد الثاني من هذا القرن، في برنامج «كتاب أعجبني» بإذاعة سلطنة عمان، في الحلقة 297 منه، وهو برنامج يقدمه الإعلامي سليمان المعمري. المؤلف محمد سليمان الأشقر.. أردني من أصل فلسطيني، ولد عام 1930م، فقيه حنبلي، انتقل إلى السعودية ثم الكويت للتدريس فيهما، أحد علماء الفقه وأصوله، ورغم أن المذهب الحنبلي هيمنت عليه حينها مدرسة أهل الحديث، إلا أن الأشقر ينتمي إلى المدرسة الفقهية في المذهب، والتي أبدت تميزا في التأصيل الفقهي المعاصر، فكان الأشقر أحد أعمدتها المعاصرين، وأبحاثه تشهد له بذلك. توفي الأشقر عام 2009م، وترك العديد من المؤلفات التي تدل على تمكنه الأصولي؛ لا سيما في مجال المعاملات المالية.

أما رسالة الأشقر «مدى الاحتجاج» فتُؤصِّل لمنهج الاحتجاج بأحاديث الرسول في الأمور الدنيوية، وقد قسّم فيها ما صدر عن النبي إلى قسمين: قسم.. على جهة التبليغ عن الله، فهو شرع واجب الأخذ به. وقسم.. يتعلق بأمور الدنيا؛ وهذا له مذهبان: مذهب يقول بأن كل ما صدر عن النبي فهو تشريع، وهو (طريقة المُحَدِثين). و(المذهب الثاني.. أنه لا يجب أن يكون اعتقاده صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا مطابقًا للواقع، بل قد يقع الخطأ في ذلك الاعتقاد قليلًا أو كثيرًا، بل قد يصيب غيره حيث يخطئ هو صلى الله عليه وسلم). وقد نقل الأشقر أسماء مجموعة من الفقهاء على هذا المذهب؛ وهم: (القاضي عياض والقاضي عبدالجبار الهمداني المعتزلي والشيخ ولي الله الدهلوي، ومن المعاصرين: الشيخ محمد أبو زهرة والشيخ عبدالوهاب خلّاف والشيخ عبدالجليل عيسى والشيخ فتحي عثمان)، وقد انتصر الأشقر لهذا المذهب قائلًا: (الصحيح عندنا من هذين المذهبين المذهب القائل بأن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله في الشؤون الدنيوية ليست تشريعا)، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة؛ منها: قول الله: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إليَّ) [الكهف:110]، وقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء:93]. و(قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر من دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر) و(أنتم أعلم بدنياكم)، وعضد رأيه بأقوال بعض الفقهاء الذين وردوا أعلاه.

لا أريد هنا أن أستعرض الرسالة، فقراءتها أولى من تلخيصها، وهي موجودة يمكن الرجوع إليها، وإنما اكتفيت ببيان أنه رغم الظاهرية التي استندت إلى الرواية عن النبي، والتي صاحبها صعود العنف في زماننا، كانت هناك أقلام متزنة تعالج الوضع بتعقل، وتكتب لأجل التسامح بمنهج فقهي رصين، وهذا ما كنت أبحث عنه حينها.

خميس العدوي كاتب عماني مهتم بقضايا الفكر والتاريخ ومؤلف كتاب «السياسة بالدين»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم

إقرأ أيضاً:

أمير مكة: الدعم السخي الذي يلقاه القطاع غير الربحي من القيادة يؤكد حرصها على تلمّس حاجات المواطن وتوفير متطلباته

جدة – واس

 قدّم صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن فيصل بن عبدالعزيز مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، باسمه ونيابة عن أهالي المنطقة، شكره لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء- حفظه الله- على تبرعه السخي بمبلغ مليار ريال على نفقة سموّه الخاصة لمؤسسة الإسكان التنموي الأهلية (سكن)، ممثلة بـ”جود الإسكان”؛ بهدف دعم تمليك الإسكان للمُستفيدين والأسر المستحقة.

 ونوه سموّه بالدعم السخي الذي يلقاه القطاع غير الربحي من لدن القيادة الرشيدة- أيدها الله- ما يؤكد حرصها على تلمّس حاجات المواطن وتوفير متطلباته وتعزيز مبادئ التكافل، ويؤكد ريادة هذه البلاد في العمل الخيري.

 وسأل أمير منطقة مكة المكرمة الله -سبحانه- أن يحفظ لهذه البلاد ولاة أمرها، وأن يديم عليها نعمة الأمن والرخاء والازدهار.

مقالات مشابهة

  • هنا الزاهد تثير تفاعل الجمهور بإطلالة جديدة بشعر أشقر
  • أفضل الصدقة التي أخبر عنها النبي .. اغتنمها
  • تسجيل صوتي مسيء لمقام النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يُفجّر اشتباكات مسلحة بـ”جرمانا” السورية
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • أمير مكة: الدعم السخي الذي يلقاه القطاع غير الربحي من القيادة يؤكد حرصها على تلمّس حاجات المواطن وتوفير متطلباته
  • دعاء الذي يقال عند بلوغ سن الاربعين
  • دعاء زوال الفقر وقلة الرزق.. احفظه وداوم عليه يوميا
  • أدب الأسرى بمؤتمر لرابطة الكتاب الأردنيين.. الرواية تقود المشهد وقصائد مسكونة بالهوية والحرية
  • احذروا القوي السياسية التي تعبث بالأمن
  • الصرخةُ.. سلاحُ الوعيِ الذي أرعبَ الأساطيلَ