ترجمة ـ قاسم مكي -
في بلدان الديمقراطيات الغنية تثير الهجرة ردَّ فعلٍ شديدَ العداء. ذلك ليس مفاجئا. ففي حين يصرُّ قليلون في هذه البلدان على أن أي واحد له الحق في مشاطرتهم ازدهار بلدانهم إلا أن العديدين من مواطنيهم يعتبرون أولئك الذين يسعون للقدوم إليها أشبه بالغزاة.
على نحو مماثل، تتجاهل نظرة الاقتصاديين «الحميدة» للاقتصاد حقيقة أن المهاجرين أناس ربما سيقيم أبناؤهم وأحفادهم في مهاجرهم بصفة دائمة.
الهجرة إذن تتعلق بالهوية الوطنية. لقد أدّت المواقف تجاه المهاجرين في الانتخابات الأوروبية الأخيرة دورا مهما في دعم الأحزاب القومية. وفي الولايات المتحدة ظلت الحملة الشرسة التي يشنها دونالد ترامب ضد المهاجرين الذين يتدفقون عبر الحدود الجنوبية مصدرا قويا لجاذبيتها. ففي خطابه في مؤتمر الجمهوريين زعم لمستمعيه أن «مجرمي العالم يأتون إلى هنا. إلى بلدة قريبة منكم. وحكوماتهم هي التي ترسلهم».
في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا تكشف استطلاعات الرأي العام أن الهجرة قضية بارزة وخلافية. وترامب يعرف تماما ما الذي يفعله ولماذا.
مع ذلك يحاجج لانت بريتشيت وهو أحد مفكري العالم في التنمية الاقتصادية في مقال حول «القبول السياسي لانتقال العمالة المحدَّد زمنيا» أن التغيرات السُّكّانية في الغرب قد تفرض فتحَ مجال في نافذة أوفرتون لما يمكن مناقشته بشأن الهجرة. (نافذة أوفرتون مصطلح يعني السياسات التي تُعد محترمة من قبل الرأي العام. يُنسب هذا المصطلح إلى عالم السياسة جوزيف أوفرتون الذي يعتقد أن القيمة السياسية لفكرة ما تعتمد على وجودها ضمن الحَيِّز العام للأفكار المقبولة. ويقصد الكاتب مارتن وولف بفتح مجال في نافذة أوفرتون توسيع نطاق القضايا التي من المقبول سياسيا إدارة حوار حولها لكي تشمل الهجرة- المترجم).
ربما سيتوجب على البلدان ذات الدخل المرتفع التخلّي عن النظرة الثنائية (المانويّة) للخيارات والمتمثلة في إمَّا استبعاد المهاجرين أو إيجاد مسار لهم للحصول على المواطنة وتبنِّي مقاربة تخدم مصلحة هذه البلدان نفسها ومصلحة البلدان النامية.
لنبدأ بهذه الأخيرة. الفجوة في متوسط الأجور بين البلدان الغنية والفقيرة مذهلة. ففي عام 2021 حسب منظمة العمل الدولية كانت القوة الشرائية لمتوسط الدخل الشهري في إثيوبيا تساوي 5% مقارنة بنظيرتها في ألمانيا. بل حتى في الهند تعادل 15% فقط.
مثل هذه الفجوات توجد أكبر فرصة مراجَحة على ظهر الكوكب واحتمال تحقيق مكاسب رفاه ضخمة (بالنسبة للمهاجرين من البلدان الفقيرة ستتمثل هذه الفرصة في الاستفادة من التفاوتات في الدخل بين بلدانهم والبلدان الغنية- المترجم).
وفقا لبريتشيت، بافتراض السماح لحوالي 1.1 بليون نسمة بالهجرة وحصول كل منهم على زيادة سنوية في دخله تبلغ في المتوسط 15 ألف دولار على أساس القوة الشرائية سيكون إجمالي ما يكسبونه من الهجرة 16.5 تريليون دولار. هذا المبلغ في اعتقاد بريتشيت يزيد على مائة ضعف كل المساعدات الإنمائية التي تحصل عليها البلدان النامية.
مع ذلك وفي حين تُوجِد مثل هذه الفجوات في الدخول حافزا اقتصاديا ضخما للفقراء كي يهاجروا إلى البلدان الغنية ولو مؤقتا إلا أن عددا قليلا نسبيا يفعل ذلك. فضوابط الهجرة صارمة والتكاليف باهظة والمخاطر عظيمة. لكن بريتشيت يرى أن ذلك قد يتغير.
أولا، اقتران الشيخوخة بالتدني التاريخي للخصوبة (الإنجاب) ستترتب عنه زيادات كبيرة في معدل كبار السن إلى من هم في سنِّ العمل بحيث لن يكون الدعم اللازم للمُسِنِّين متاحا من دون الهجرة. في إسبانيا على سبيل المثال سيتدنى هذا المعدل من 2.45 في عام 2020 إلى واحد في عام 2050.
ثانيا، بعض الأعمال الضرورية لا تحتاج إلى مهارة. لكن يجب أن يقوم بها عاملون. أحد أمثلتها رعاية المسنِّين.
ثالثا، سيبدأ الناس في البلدان الغنية بإدراك أن هنالك خيارا آخر وهو العمل التعاقدي المؤقت من دون التحاق العائلة أو احتمال الحصول على المواطنة.
رابعا، سيتم حينها إيجاد صناعة (شركات) لتنظيم انتقال الناس على أساس عقود مؤقتة إلى ومن البلدان الغنية. وستتولى هذه الشركات مسؤولية استيفاء الشروط المطلوبة.
أخيرا، لا يحتاج أيٌّ من هذا إلى تغييرات جذرية في المواقف تجاه المهاجرين في البلدان الغنية.
لكن ربما سيتطلب إيجاد هويات رقمية آمنة لمختلف فئات المقيمين الشرعيين. وستكون العقوبات مشددة جدا تجاه توظيف أناس لا يملكون مثل هذه الهويات. والشركات العاملة في مجال انتقال العمال المؤقتين التي تنتهك التزاماتها القانونية بما في ذلك تجاه هؤلاء العمال يجب أن تفرض عليها عقوبات صارمة.
هنالك اعتراض بأن هذا الترتيب المقترح يرسخ التفرقة بين البشر ويصنِّفهم إلى فئتين. لكنه لن يمنع الحكومات من السماح أيضا للعمال المهاجرين بإقامة دائمة. وما هو أهم أنه سيتيح لهم فرصا أكثر وربما حتى فرصا تغيِّر من حياتهم.
حسب بريتشيت، في دورة استطلاعاتها للفترة 2009-2010 سألت شركة جالوب الناسَ حول العالم عما إذا كانوا يحبون الانتقال مؤقتا للعمل في بلد ثانِ. أجاب حوالي 1.1 بليون نسمة بالإيجاب بما في ذلك 41% من السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 24 سنة و28% من الفئة العمرية 25-44 عاما.
وعلى الرغم من أن الحل المثالي قد لا يكون متاحا الآن إلا أن ذلك لا يجب أن يمنعنا من إيجاد حلول جيدة وممكنة. (بمعنى على الرغم من أن الانتقال الحر والسهل للعمالة العالمية غير ممكن الآن، فمن الأفضل الاستفادة من الفرص المتاحة حاليا بدلا من انتظار سيناريو مثالي قد لا يتحقق أبدا- المترجم).
لكن من المرجح جدا أن يتغير هذا الوضع في المستقبل. فالناس الذين سيلتحقون بقوة العمل في عام 2050 ولدوا الآن كلهم تقريبا. وحتى إذا بدأ الناس العمل في سن 15 عاما وهذا عمر مبكر جدا لن يوجد سواهم للعمل قبل عام 2040 بخلاف المهاجرين.
وإذا أرادت هذه البلدان الحفاظ على المساومة بين الأجيال حول الرفاه الاجتماعي ولا تستطيع رفع سن التقاعد الفعلي مثلا إلى سن الخامسة والسبعين ستكون هنالك حاجة للمهاجرين المهرة وغير المهرة لسد الفجوة في القوة العاملة والحفاظ على نظام الرفاه. (المساومة بين الأجيال يُقصَد بها العقد الاجتماعي أو الاتفاق الضمني بين مختلف الأجيال في المجتمع على اقتسام الموارد والمسؤوليات والفرص- المترجم).
وإذا لم تكن لدى البلدان رغبة في فتح مسار اكتساب المواطنة الكاملة لأعداد ضخمة من المهاجرين ستُدفَع إلى خيار العقود المؤقتة. وهذا سيكون مقنعا خصوصا للبلدان التي تقترب فيها معدلات الخصوبة من طفل واحد لكل امرأة. وفي الواقع يوجد العديد منها الآن.
وإذا ظلت الهجرة الجماعية غير مقبولة لكن أصبحت ضرورية، سيلزم حينها إيجاد شيء مقبول. والحل الوحيد في الغالب هو عقود العمل المؤقتة.
سيتبنى قليلون هذا الخيار. لكنه سيكون أفضل من البدائل الأخرى. وسيأتي وقت قبوله.
مارتن وولف كبير معلقي الاقتصاد بصحيفة الفاينانشال تايمز.
الترجمة خاصة لـ عمان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البلدان الغنیة فی عام
إقرأ أيضاً:
عودة ترامب تهدد المهاجرين بفقدان الحماية المؤقتة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يواجه نحو مليون مهاجر في الولايات المتحدة الأمريكية، خطر فقدان إجراء "الحماية المؤقتة" الذي أقره الرئيس الأميركي جو بايدن، وذلك بعد أن وعد الرئيس المنتخب دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس بتنفيذ عمليات ترحيل جماعي، وألمحا إلى تقليص استخدام وضع الحماية المؤقتة الذي يشمل أكثر من مليون مهاجر، بحسب "أسوشيتد برس".
ومنذ تولي بايدن منصبه في يناير 2021، عملت إدارته على توسيع عدد المهاجرين المؤهلين للحصول على وضع الحماية المؤقتة (TPS) بشكل كبير، وهو تصنيف يمنحهم إذناً محدوداً للإقامة والعمل في الولايات المتحدة وتجنب الترحيل المحتمل.
وكانت إدارته منحت وضع الحماية المؤقتة لمواطنين من 17 دولة شهدت اضطرابات سياسية أو كوارث طبيعية، بما في ذلك هايتي وأفغانستان والسودان ولبنان مؤخراً.