هل شعرت يوما أنك لا تتحدث إلى إنسان عبر الإنترنت أو أن الأشخاص الذين يردون على منشوراتك في وسائل التواصل الاجتماعي ليسوا من هذا العالم؟ إذا حدث هذا فاعلم بأنك لست الوحيد.
هذا ما يدعى "نظرية الإنترنت الميت" حيث يستبدل العالم الرقمي النابض بالحياة والثري -الذي نعرفه ونحبه- بالروبوتات الآلية والخوارزميات والمحتوى المتلاعب به، دون أي آثار بشرية يمكن ملاحظتها.
ظهرت النظرية لأول مرة على منصات سرية مثل "تشان 4″ (4Chan) و"ويزردشات" (Wizardchan) أوائل عام 2020، في الوقت التي كانت الخوارزميات تلعب دورا مركزيا في تنظيم المحتوى على الويب. وعام 2021 ظهر مصطلح "نظرية الإنترنت الميت" لأول مرة على العلن.
وساعد موضوع مقهى طريق أجورا ماكنتوش (Agora Road Macintosh Café) بتلخيص ما يشعر به العديد من مستخدمي الإنترنت. فقد كان يعبر عن مؤامرة هامشية على الويب تؤكد على استخدام التنظيم الخوارزمي للتلاعب بالمستخدم العام.
وبالانتقال إلى عام 2024، وموجة الذكاء الاصطناعي التي تم اطلاقها بفضل إصدارات "شات جي بي تي" (ChatGPT) مُنحت النظرية مصداقية أكبر من أي وقت مضى. ولم يقتصر الأمر على أدوات مثل جيميني (Gemini) وكوبايلوت (Copilot) التي جعلت من السهل على المستخدمين إنشاء محتوى بالذكاء الاصطناعي أكثر من أي وقت مضى فحسب. بل أدّت التكنولوجيا المتقدمة إلى حدوث ظاهرة غريبة حيث تنتج الروبوتات محتوى بشكل ذاتي على وسائل التواصل، والنتائج مريبة.
والآن، وفي الوقت الذي ينتشر فيه المحتوى المُنتج بالذكاء الاصطناعي وزيادة الروبوتات إلى حوالي نصف إجمالي حركة المرور على الإنترنت، اتخذ هذا المفهوم معنى جديدا تماما، ويرى الكثيرون أنه أصبح نبوءة تحققت بذاتها.
اعتمدت هذه النظرية على 4 أركان رئيسية كان لها دور في انتشارها وتبنيها من قبل الكثيرين، وهي كالتالي:
الروبوتاتأحد الأركان الأساسية لنظرية الإنترنت الميت هو الارتفاع الهائل للروبوتات. وتشير النظرية إلى أن جزءا كبيرا من النشاط عبر الإنترنت، بدءاً من إنشاء المحتوى وحتى التفاعلات عبر وسائل التواصل، قد يكون مدفوعا ببرامج آلية.
وانتشر استخدام الروبوتات في وقت لاحق ليصبح نقطة خلاف رئيسية خلال صفقة استحواذ إيلون ماسك على تويتر. فبعد فترة وجيزة من عرضه الأولي لمنصة تويتر، أعلن نيته إلغاء الاتفاقية بحجة أن تويتر قد خرقت اتفاقها برفضها العمل على إيقاف الروبوتات.
وشكك هذا الملياردير التكنولوجي في ادعاء تويتر بأن أقل من 5% من مستخدميهم اليوميين روبوتات، حيث وظف فريقين بحثيين وجدا أن الرقم كان أكبر ويتراوح بين 11و13.7%. والأهم من ذلك، كان مستخدمو الروبوتات هؤلاء مسؤولين عن نسبة غير متناسبة من المحتوى المنشور على المنصة.
الذكاء الاصطناعيساهم انتشار الذكاء الاصطناعي بشكل هائل في تعزيز الاعتقاد بنظرية الإنترنت الميت. ويتقدم المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي بسرعة هائلة بما في ذلك الصور ومقاطع الفيديو والنصوص. ويمكن لنماذج اللغات الكبيرة مثل "شات جي بي تي" و"جيميني" أن تتفوق على بعض المعايير البشرية.
ويعتبر العديد من المستخدمين، وخاصة كبار السن وقليلي الخبرة في مجال التكنولوجيا، غير قادرين على تحديد المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الاصطناعي. وقد أصبح هذا غير قابل للتمييز عن المحتوى الذي ينشئه الإنسان، حيث تطبق نماذج اللغات الكبيرة تقنيات التعلم العميق وتتحسن باستمرار.
وتسمح تطورات الذكاء الاصطناعي بإنشاء محتوى يبدو واقعيا، مثل الصور والفيديوهات، وحتى النصوص التي يمكن أن تقلد أساليب كتابة البشر. وهذا يثير القلق بشأن مصداقية المعلومات على الإنترنت واحتمالية استخدام التلاعب المرئي المزيف للتأثير على الرأي العام.
الاقتراحات الخوارزميةسيطرة الاقتراحات الخوارزمية تعني أن النموذج الزمني الأصلي للإنترنت قد مات، حيث كان المستخدم يرى ويتفاعل مع المشاركات بناءً على الحداثة بغض النظر عن كونها جيدة أم سيئة.
ويبدو أن النموذج الأقدم يوفر مجالا أكثر تكافؤا لمنشئي المحتوى. فقد كان لأي شخص -نشر موقع ويب أو شارك بمناقشات عبر الشبكة الدولية- فرصٌ متساوية نسبيا بأن يراها الآخرون.
واليوم، تمتلك غرف الصدى الخوارزمية القدرة على إيجاد شعور بالإجماع الزائف، حيث يرى المستخدمون فقط المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية وتثبط وجهات نظر التحدي.
التطرف الخوارزميالتطرف الخوارزمي هو العملية التي تقوم فيها الخوارزميات الموجودة، على مواقع التواصل مثل يوتيوب وفيسبوك، بتوجيه المستخدمين نحو محتوى أكثر تطرفا وبشكل تدريجي، مما قد يؤدي بهم إلى تبني آراء متطرفة ونهج مختلف.
ونهاية المطاف، يتم إنشاء الخوارزميات لغاية نهائية هي توفير المحتوى للمستخدم الذي يبقيه على الموقع أطول فترة ممكنة، وبالتالي رؤية المزيد من الإعلانات وتحقيق المزيد من الإيرادات.
وتقول نظرية الإنترنت الميت إن المعالجة الخوارزمية أصبحت قوية جدا لدرجة أن التبادل المفتوح للأفكار على الشبكة العنكبوتية قد مات، وحل محله كل ما يحفز مشاركة المستخدم، بما في ذلك المحتوى المتطرف.
يختلف ظهور أمثلة الإنترنت الميت من مستخدم لآخر. وقد لوحظ ارتفاع كبير في المنشورات الغريبة التي أنشأها الذكاء الاصطناعي على فيسبوك مع عشرات الآلاف من الإعجابات وعدد مشابه من التعليقات.
وأحد أبرز الأمثلة صورة ظهرت مؤخرا هي "شرمب جيسوس" (Shrimp Jesus) تصور يسوع المسيح (عيسى بن مريم عليهما السلام) في عمق المحيط محاطا بعدد كبير من القريدس البحري. وقد حصدت هذه الصورة بشكل غامض آلاف الإعجابات على المنصة، وتركت المزيد من المستخدمين العاديين في حيرة من أمرهم.
كما ظهرت صورة مشهورة أخرى عن سيدنا عسى يكون فيها على كرسي متحرك ويحيط به جنود أميركيون وبيده لوحة كتب عليها "اليوم عيد ميلادي".
وفي 26 أبريل/نيسان هذا العام، ظهر منشور يحتوي على 279 ألف تفاعل و5.3 آلاف تعليق، معظمها يقول "عيد ميلاد سعيد" وأغلبها على ما يبدو حسابات روبوتات رغم وجود حسابات بشرية حقيقية هناك بلا شك.
وكان أحد أفضل المصادر لأمثلة نظرية الإنترنت الميت هو حساب (@DeadTheory__) على منصة إكس، الذي ينشر بانتظام اللحظات التي تفشل فيها حسابات الروبوت المرتبطة بأدوات الذكاء الاصطناعي في العمل، مما يكشف أنها مجرد ذكاء اصطناعي.
وهناك مثال آخر هو السيدة العجوز التي تحتفل بعيد ميلادها 108 سنوات وقد ظهرت على فيسبوك أيضا، حيث كُتب وصف للصورة المنشأة بالذكاء الاصطناعي على المنشور "مرحبا بالجميع، عمري 108 أعوام، لقد صنعت كعكة عيد ميلادي الخاصة وما إلى هذا. ومرة أخرى مع عشرات الآلاف من الردود، كلها تقول "عيد ميلاد سعيد" أو شيئا مشابها.
وقد حُذفت أغلب هذه المنشورات عن منصة فيسبوك في وقت لاحق، لكن مُتبنّي نظرية الإنترنت الميت احتفظوا بها ونشروها على منصة إكس لتعزيز نظريتهم.
هل مات الإنترنت حقا؟كشف تقرير التهديدات الأمنية لشركة إمبيرفا (Imperva) لعام 2024 أن ما يقرب من 50% من إجمالي حركة الإنترنت يأتي من مصادر غير بشرية. وعلاوة على ذلك، فإن الروبوتات الضارة تشكل الآن قرابة ثلث حركة الإنترنت. نعم، هناك روبوتات جيدة وأخرى ضارة. وهذا رقم كبير يشي بأن مواقع الإنترنت والخدمات تتجه نحو مسار واحد.
إن الإنترنت نفسه لم يمت، فمن الناحية الهيكلية هو قوي كما كان دائما. ومع ذلك، فإن نظرية الإنترنت الميت توضح أين يتجه الويب: مشهد يهيمن عليه التفاعل المستمر والتعرض المفرط للمحتوى واستجابات البحث التي تعتمد على تحسين محركات البحث وتهيمن عليها خوارزميات لا تقدم الواقع الذي يريده الإنسان العادي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.
كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟
لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.
كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.
ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.
المنافع المتوقعة
إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،
ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.
الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية
عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.
عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.
نظرة مستقبلية مشرقة
تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.
كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني