أنت لا تعجبني.. اسكُت!!
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
معاوية الرواحي
فكرة الكلام والرقابة على ما يُقال وما يُكتب ليست فكرة جديدة. منذ الأزل، والمجتمعات والدول والأديان والمذاهب، بل وحتى المؤسسات الصغيرة والكبيرة، كلها لديها ضوابط تُحدِّد ماهية المسموح والممنوع من الكلام. قد يحدث ذلك على هيئة نظام يُحدِّد هُوية شركة، أو متحدث رسمي باسم منظمة سياسية، أو مواطن في دولة.
شهدتْ ساحات التعبير عن الرأي في عُمان تحسُّنا هائلا في آخر أربعة أعوام، تغيرت خارطة الكلام واكتسبت شعوراً حقيقيا بالثقة، وضبط قانون الجزاء العُماني، وقانون الجرائم الإلكترونية الوضع العام في الكتابة العمومية بشكل واضح. طمأنينة تجاه التعبير في الرأي صنعت علاقةً من الثقة في التعبير عن الرأي المكفول بنص صريح في النظام الأساسي للدولة. ليت هذا الكلام ينطبق على ما يحدث في الرقابة الإعلامية، ولا على ما يفعله الرقيب الإعلامي في مناطق صلاحياته! وأيضا لست بصدد تفنيد مزاجية، أو تناقض الرقيب الإعلامي، فقد قيل ما قيل في مقارباته، ويكفي أنَّ سقف القانون أعلى بكثير من سقف الرقيب الإعلامي المزاجي، والمتناقض، وفي الوقت نفسه الذي لا يمشي على منطق واضح.
ثمَّة جدال يتخلَّق في الساحة العُمانية تجاهَ الساحة الرقمية وتأثيرها في المحيط الإعلامي والثقافي، جدالٌ متعدد الأبعاد. ثمَّة روح من التأجيج، والتأليب على ما يسمى بظاهرة المشاهير، وفي الوقت نفسه ثمَّة روح أخرى مندسة تستهدف المثقفين، وتحدد قائمة مرتجلة للمثقف الجيد، قائمة أخرى لمن يسمى "المثقف السيء" سلوكٌ لا أعرف من الذي يقوده أو يوجهه، ولا أعرف إن كان يتخلق تلقائيا ضمن مساحات التعبير العفوية، أم أنَّ أجندةً ما إعلامية أو غير إعلامية تقود هذا التوجه بتقصد تام.
يدُور هذا الجدال حول الرأي العام العُماني، وما الذي يحدث في هذا الرأي العام؟ إنه في مجمله الكبير رقمي، يحدث في المؤسسات التعويضية التي اكتسبت أهمية من انجذاب الناس لها نتيجة التقصير المؤسسي في صناعة المنتج الإعلامي والثقافي الذي يروي ظمأ الجموع الهائلة لمنتج إعلامي يحترم عقل المتلقى، ويحترم صناعة الإعلام الذي ينشر الحقيقة، ويتفاعل مع الناس وهمومها. حكايةٌ ينطبق عليها وصف "المعلوم من عُمان بالضرورة"، والجدال مشتدُّ ومحتد بين الذين ينادون بتمكين الرقيب الإعلامي لتمتد أطراف مقصِّه الحادة حتى إلى المنصات الرقمية، والطرف الآخر الذي يقول إنَّ المساحات الفردية تبقى فردية، وأن حلول الرقيب عليها يعني بالضرورة عدم تحول أي مشروع فردي إلى مؤسسة لها ضوابط؛ وبالتالي فإن هذا ما سيصنع عائقا يؤدي لبقاء صاحب المنصة الرقمي عالقا في دائرة لا نهاية لها من الإنتاج الشخصي، بلغة أوضح سيتم عرقلته وبالتالي هذه النية التي يزعمها البعض أنه جاء من أجل الضبط النوعي ستتحول إلى نتيجة أخرى معاكسة.
ثمَّة رقيبٌ فكري يتخلَّق في الساحة العُمانية، رقيب ضارٌ بمعنى الكلمة، وهذا ليس مثل الرقيب المؤسسي الذي لديه توجُّه واضح. مختصر هذا الرقيب هو "أنت لا تعجبني.. اسكت!" بهذه البساطة البالغة! وقد أثبتت مجموعة من الأحداث التي أثارت انتباه الرأي العام أنَّ عامل التأثر الشخصي بفلانٍ أو علَّان أصبح من المُعطيات التي يبني عليها هذا الرقيب المرتجل حكمه على من الذي يستحق الكلام، ومن الذي لا يستحق الكلام. النتيجة الحتمية لهذا السلوك الضار هي قيام مجموعة غامضة من الأسماء المستعارة بالتنمر على أشخاص يتم انتقاؤهم بين الفينة والأخرى، والمزعج في المسألة هو أن قوانين لها علاقة بالجرائم الإلكترونية تُخالف من قبل هذا القبيل من الأسماء المستعارة التي أصبحت تعيث في الساحة شكلا من أشكال البلطجة والإساءة المعنوية لأصحاب الرأي، علما بأنَّ الرأي هذا الذي لا يعجبهم لم يخالف القانون في شيء.
أنت لا تعجبني! فما الذي أفعله لكي تسكت؟ أسلط عليك مجموعة من الأسماء المستعارة التي تتولى الهجوم عليك وإقلاقك في منصاتك الرقمية! وليت الأمر يقف عند الآراء، يتجاوز الأمر هذا إلى السب، والقذف، والإساءة، بل ومخالفة القانون في حق صاحب رأي لا يعلم من أين جاءه هذا الرقيب المرتجل؟ تصرف يوغر الصدور، ولا عجبَ أن الذي يتعرض له يصل به الحال أحيانا إلى ردات فعل غير محمودة، ما النفع الاجتماعي من وراء ذلك؟ لا أحد يعرف! وكأن تمكيناً لهذه البلطجة الرقمية قد أصبح أداةً من الأدوات التي يظنها البعض نافعة للمجتمع بينما الحقيقة أنها إحدى المعضلات التي تقود إلى خسارة عقول جيدة للغاية ودخولها في معمعة خطابات الغضب، والكراهية، والإساءة المتبادلة، لقد رأينا كيف حدث ذلك في بعض الحالات المذهبية، ونرى كيف يحدث هذا الاختلاف بشكل يومي نتيجة التأليب الذي يقوده البعض سواء ضد من يسمون بالمثقفين، أو من يسمون بالمشاهير، أو من يسمون بالمتدينين، بل والمثير للأسف أن بعض الشركات بدأت تستخدم هذه الآلية أيضا للهجوم على منتجات شركات منافسة! وصفة للفوضى، وما إن تتلقف أيدي الأجيال الجديدة هذا الأداة تتحول إلى ثقافة في التعبير عن الرأي، ويحدث ما يحدث، من هجوم ومن تحريض ومن إقلاق، وتنمر، وإلغاء، وشخصنة!
إنَّ التحايل على حق التعبير عن الرأي شيء يخل بالاحترام الواجب للقانون. الرأي ما دام قانونيا فلا علاقة لصاحبه إن كان يعجبك أو لا يعجبك. الإخراس بالتنمر، والإسكات بالتأليب، والبلطجة بالأسماء المستعارة سلوكٌ قد يبدو الآن عاديا للغاية، ولكن نهاياته وخيمة، ألم يملأ الرقيب الإعلامي الساحة بالأسئلة بسبب تدخلاته الغريبة، وبسبب اندفاعه الآن إلى الساحة الرقمية! وماذا عساه أن يفعل هذا الرقيب الإعلامي في الساحة الرقمية؟ يكرر ما يفعله في الإعلام المؤسسي، وما يفعله بالإعلام المؤسسي؟ بينما تتنظر العقول قانون الإعلام ليضع النقاط على الحروف ينتظر البعض النتيجة النهائية لهذا الجدال. فكيف سيكون هذا القانون القادم؟ لا أحد يعرف، المعلوم من عمان بالضرورة أن القانون ما دام سيصدر فهو في حكم الأمر الواقع، أما الآن فثمة فرصة لإعادة النظر قبل تمكين رقيب عدواني هدفه الهدم يستخدم الانتقائية، إن ما ينتظره الإنسان من القانون هو أن يضمن حقَّه تجاه أي شكل من أشكال التعسف الرسمي، وكل ثقة أن هذا القانون سيحمل في طيَّاته ما يضمن حقوق الجميع، والمؤكد أنه لن يتناقض مع النظام الأساسي للدولة.
شاعتْ في الساحة المحلية فكرة إخراس الذي لا يعجبك، كما شاعت فكرة البلطجة الرقابية على الرأي المخالف للسائد، ظواهر كلها ستقود في النهاية إلى اختلاف اتجاه الغضب، وإلى عشوائية وبعثرة، واختصار تام إلى فوضى يصنعها الذي يظن أنها يريد منعها. العدالة، والحرية المكفولة في حدود القانون تلزمك أن تتقبل الرأي المخالف حتى من الشخص الذي تكرهه، وكلما كان هذا الشخص بغيضا إلى قلبك، ألزمك الإنصاف والاحترام للقانون أن تعطيه حقَّه، لست مطالبا بأن يروق لك كل إنسان، لكنك مطالب بأن تطبق القانون، وأن تتقبل أن العالم هذا متعدد الآراء، وهذا يشمل الرقيب، ويشمل الكاتب الذي عليه أيضا أن يتقبل أن للكلام حدود، قد يتفق مع هذا الشيء، وقد لا يتفق، لكنه مجددا حكم الأمر الواقع الذي على الرقيب والكاتب "أو المبدع بشكل عام" بما في ذلك الإعلامي، والباحث وغيرها من شؤون التعبير بالكلمة وبالصوت وبالصورة بل وحتى بلغة الإشارة. متى ما انتقل الجدال والاختلاف في الآراء من نظرية أنت لا تعجبني فاسكت، إلى (أنت لا تعجبني، أختلف معك) فهذه أول المؤشرات على تخلق ساحة عامَّة صحية، ساحة تستثمر رأس المال الفكري، وتطوره، ساحة ذات نمو، ساحة تتحول عبر السنوات إلى مشاريع ثقافية، وبحثية، وفكرية، وساحة ليست رهناً لمجموعة صغيرة من الناس تمسك بزمامها، أو رهن مجموعة صغيرة من الأشباح والأسماء المستعارة تنفذ أجندات مذهبية، أو هدَّامة، أو عدائية تجاه المجتمع، أو أحيانا تحمل ما تحمله من نفايات التطورات الجديدة في كوكب الغرب الليبرالي وجنونه المستحدث!
الرقابة المحدَّدة بقانون واضح تحفظ حق الجميع، فكما أنَّه من الخطر أن يمارس الرقيب الانتقائية والمزاجية ليصنع جوقات تلائمه وتمالئه وتوهمه أنه وصل إلى أقصى المنجزات الممكنة في الإعلام والوصول الاجتماعي والإقناع للناس، هو أيضا من الخطر أن تكون مهمة الرقابة شخصية وانتقائية وموجهة من قبل مجموعة من الأشباح تستهدف فردا ما بعينه، أو تبدأ بإثارة الغضب والكراهية ضد السلطة، أو ضد مذهب معين، أو ضد مدرسة فكرية، أو ضد مذهب، أو ضد دين، أو ضد فئة اجتماعية، نعم يجب أن يكون هناك قانون يراقب، ولكن لا يجب أن يكون هناك رقيب يضع تحيزاته موضع القانون، حق الكلام مكفول في حدود القانون للذي يعجبنا، والذي لا يعجبنا، ما دام لم يخالف القانون، فهو آمن لكي يقول أي رأي مهما كان سخيفا، أو ضحلا، بل وحتى لو كانت تافها ومليئا بالسطحية، ليست مهمة القانون أن يؤكد التحيزات الشخصية، مهمته أن يحمي الجميع، وأن يكون عادلا، وعلى الرقيب أن يعي ذلك جيدا لكي ينتمي إلى هذا العصر الذي نعيش فيه أجمعين.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب
لم يكن بن صهيون نتنياهو مجرد اسم في تاريخ عائلة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل هو شخصية تحمل بين طياتها قرنًا من الزمان مملوءًا بالأفكار والمواقف التي لا تقل تطرفًا وإثارة عن سياسات ابنه الحالية.
ويبدو أن هذه الأفكار التي صاغتها تجربة حياة مفعمة بالمواقف الصدامية مع العالم العربي قد تسربت بوضوح إلى توجهات بنيامين نتنياهو، لتشارك في تشكيل مواقفه الحادة تجاه الفلسطينيين، والتي يتضح صداها في أفعاله وكلماته حتى اليوم.
فما الذي نعرفه عن بن صهيون نتنياهو؟ وكيف أثر على مسار الحركة الصهيونية؟ ولماذا كانت رؤيته للعرب دائمًا عدائية إلى هذا الحد؟
وُلِد بن صهيون ميليكوفسكي -الذي سيُعرف لاحقا باسم نتنياهو وتعني هبة الله- في وارسو عاصمة بولندا خلال فترة تقسيمها وخضوعها للسيطرة الروسية القيصرية في عام 1910.
وكان والده ناثان ميليكوفسكي كاتبا وناشطا صهيونيا من بيلاروسيا، وقد شغل ناثان منصب حاخام، وجاب أوروبا والولايات المتحدة لإلقاء خطب تدعم الحركة الصهيونية التي آمن بها حتى النخاع.
وفي عام 1920 قرر ناثان الهجرة إلى فلسطين مصطحبا معه عائلته ضمن الموجة الكبرى للهجرة اليهودية. وبعد تنقلها بين مدينة يافا وتل أبيب وصفد، استقرت الأسرة أخيرا في القدس حيث التحق بن صهيون بمعهد ديفيد يلين للمعلمين والجامعة العبرية في القدس.
إعلانوكان من الشائع بين المهاجرين الصهاينة في تلك الفترة تبنّي أسماء عبرية، فبدأ ناثان ميليكوفسكي الأب بتوقيع بعض مقالاته باسم "نتنياهو"، وهو الصيغة العبرية لاسمه الأول، واعتمد ابنه هذا الاسم ليكون اسم العائلة.
وفي عام 1944، تزوج الابن بن صهيون نتنياهو من تسيلا سيغال التي سيصفها ابنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحقا بأنها "محور عائلتنا والسلطة النهائية فيها".
درس بن صهيون نتنياهو تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس، وفي إبان دراسته انخرط في "حركة الصهيونية التصحيحية"، وهي حركة انفصلت عن التيار الصهيوني السائد، معتقدين أن هذا التيار الغالب كان أكثر تصالحية مع السلطات البريطانية الحاكمة لفلسطين آنئذ.
في المقابل، تبنّى التصحيحيون بزعامة زئيف جابتونسكي نهجا قوميا يهوديا أكثر تشددا، مخالفا للصهيونية العمالية اليسارية التي قادت إسرائيل في سنواتها الأولى، معتقدين أن حدود إسرائيل تمتد على كامل فلسطين التاريخية والأردن معا.
ولإيمانه بالعمل الصحفي والأكاديمي، شغل بن صهيون منصب محرر مشارك في المجلة العبرية المعروفة في ذلك الوقت "بيتار" بين عامي 1933 و1934، ثم أصبح رئيس تحرير صحيفة "ها ياردن" اليومية الصهيونية التصحيحية في القدس (1934-1935)، حتى أوقفت سلطات الانتداب البريطاني صدورها بين عامي 1935 و1940.
وفي عام 1939، قرر السفر إلى نيويورك للعمل سكرتيرا لزعيم الحركة الصهيونية التصحيحية جابوتنسكي الذي كان يسعى لحشد الدعم الأميركي لحركته الصهيونية القتالية الجديدة.
ومع وفاة جابوتنسكي في العام نفسه، تولّى بن صهيون نتنياهو منصب المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا التي كانت منافسا سياسيا أكثر تشددا للمنظمة الصهيونية الأميركية المعتدلة، واستمر في هذا الدور حتى عام 1948.
كان بن صهيون مؤمنا بفكرة "إسرائيل الكبرى"، وفي سبيلها عارض بشدة أي تنازلات إقليمية أو محلية، ولهذا السبب عندما أصدرت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، كان من بين الموقعين على عريضة ترفض الخطة، وخلال تلك الفترة كان ناشطا سياسيا في واشنطن العاصمة حيث عمل على التواصل مع أعضاء الكونغرس لدعم رؤيته الصهيونية المتشددة.
إعلانوفي عام 1949، عاد إلى إسرائيل محاولا دخول الحياة السياسية، لكنه لم يحقق نجاحًا يُذكر نتيجة سيطرة الحركة الصهيونية التقليدية على مقاليد البلاد بزعامة ديفيد بن غوريون ممن كانوا يرون عصابات شتيرن والمؤمنين بأيديولوجية جابتونسكي خطرا يهدد دولتهم في ذلك الحين.
في المقابل، واصل بن صهيون نتنياهو نشاطه الأكاديمي، لكنه لم يتمكن من الانضمام إلى هيئة التدريس في الجامعة العبرية، ورغم ذلك ساعده أستاذه جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري في الحصول على منصب محرر في "الموسوعة العبرية"، وبعد وفاة كلاوسنر تولّى بن صهيون رئاسة التحرير مع آخرين.
لاحقًا عاد إلى كلية دروبسي في فيلادلفيا حيث عمل أستاذًا للغة العبرية وآدابها ورئيسًا للقسم بين عامي 1957 و1966، ثم شغل منصب أستاذ التاريخ اليهودي في العصور الوسطى والأدب العبري من عام 1966 إلى 1968، ثم انتقل إلى جامعة دنفر ليعمل أستاذًا للدراسات العبرية (1968-1971)، قبل أن يعود إلى نيويورك لتولي تحرير موسوعة يهودية.
في النهاية، التحق بجامعة كورنيل حيث شغل منصب أستاذ الدراسات اليهودية ورئيس قسم اللغات السامية وآدابها من عام 1971 إلى 1975.
وعقب مقتل ابنه يوناتان خلال عملية عنتيبي لإنقاذ الرهائن عام 1976، قرر العودة مع عائلته إلى إسرائيل منخرطا في المجال الأكاديمي.
وعند وفاته عام 2012 عن عُمر ناهز 102 عاما، كان عضوًا في أكاديمية الفنون الجميلة وأستاذًا فخريًا في جامعة كورنيل.
أُثر عن بن صهيون نتنياهو قوله في إحدى مقالاته إن "العرب واليهود مثل عنزتين التقتا على جسر ضيّق، إحداهما مضطرة إلى القفز في النهر، ولكنهما لا تريدان الموت. ولذلك فإنهما تنتطحان على الدوام، وتؤمنان بأن إحداهما ستُنهَك في نهاية المطاف وتستسلم، وعندئذ سيتقرر الأقوى الذي سيرغم الأضعف على القفز. إن القفز لليهود يعني ضياع الشعب اليهودي، أما بالنسبة إلى العرب فإن قفز عنزتهم يعني تضرر جزء يسير منهم".
إعلانيكشف هذا الاقتباس عن تأثره الكبير بزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية زئيف جابتونسكي الذي آمن به من قبل والد بن صهيون الحاخام ناتان ميلوكوفسكي ورآه رائد الحركة الصهيونية وموجّه بوصلتها نحو التعامل الجذري مع العرب.
كان يرى أن الأغلبية العظمى من العرب داخل إسرائيل سيختارون إبادة اليهود إذا سنحت لهم الفرصة. وهذا الاعتقاد دفعه منذ شبابه إلى تأييد فكرة ترحيل السكان العرب من فلسطين، وهي الفكرة التي ظل متمسكًا بها حتى أواخر حياته، إذ واصل التعبير عنها في مناسبات مختلفة.
ففي مقابلة له عام 2009 مع صحيفة معاريف الإسرائيلية، عبّر عن آرائه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بقوله إن "النزعة إلى الصراع هي جوهر فكر العرب، إنهم أعداء بطبيعتهم، فشخصيتهم لن تسمح بالتنازل، وبغض النظر عن المقاومة التي سيواجهونها أو الثمن الذي سيدفعونه، فإن وجودهم يعني حربا دائمة".
وربما هذا الموقف الجذري من بن صهيون وآرائه المتطرفة تجاه العرب جعلت العديد من المحللين يتوقعون أن ابنه بنيامين نتنياهو كان غير قادر على التوقيع على اتفاق سلام شامل مع جيران إسرائيل العرب ما دام والده كان لا يزال على قيد الحياة.
ورغم أن نتنياهو نفسه نفى هذه الفرضية بشكل قاطع واصفًا إياها بأنها "هراء"، بحسب ما نقلته صحيفة هيرالد، فإن مواقفه وسياساته على الأرض، ولا سيما في غزة، تعكس تبنيًا واضحًا للنهج المتشدد ذاته الذي اشتهر به والده.
ولكن يجب أن نعود إلى جابتونسكي لنرى كيف أقنع الثلاثي الجد والأب والحفيد من عائلة نتنياهو بهذه الأفكار التي كانت تعكس سخطه الواضح على الحركة الصهيونية التقليدية وسعيها لخداع العرب في فلسطين عبر المفاوضات وإظهار نواياها كأنها بريئة من أي نية للاستيلاء على الأرض، وضرورة التعامل بصورة جذرية عنيفة.
فقد جاءت مقالاته وأفكاره لتوضح جوهر الصراع، وكشف الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية، إذ كتب "يمكننا أن نقول للعرب ما نشاء عن براءة أهدافنا، ونتفنن في استخدام العبارات المنمقة، ونغلفها بالكلمات المعسولة لجعلها مستساغة، لكنهم يدركون تماما ما نريده، كما ندرك نحن ما لا يريدونه. إنهم يشعرون تجاه فلسطين بالحب الغريزي نفسه الذي شعر به الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة".
إعلانكان جابوتنسكي يرى أن الحركة الصهيونية تهدُر وقتها في المفاوضات، بدلا من التركيز على بناء قوة عسكرية رادعة تحمي المستوطنين. فكتب "كل الشعوب الأصلية في العالم تقاوم المستعمرين طالما بقي لديهم أدنى أمل في التخلص منهم".
وأضاف "لا يهم كيف نصوغ أهدافنا الاستعمارية، سواء كانت بعبارات هرتزل أو السير هربرت صموئيل، فالاستعمار يحمل تفسيره الوحيد الممكن، الواضح كضوء النهار، لكل يهودي بسيط ولكل عربي بسيط. فالمستعمرات لا يمكن أن يكون لها إلا هدف واحد، ولا يمكن لعرب فلسطين أن يقبلوا بهذا الهدف".
وبناء على ذلك شدد جابوتنسكي على أن نجاح المشروع الصهيوني واستقراره لن يتحقق إلا عبر إنشاء "قوة مستقلة عن السكان الأصليين، خلف جدار حديدي لا يستطيعون اختراقه. هذه هي سياستنا العربية".
وأمام هذه الأيديولوجية آمن بن صهيون نتنياهو إيمانا مطلقا بما آمن به أستاذه جابوتنسكي حول الصراع مع العرب، إذ كان جابوتنسكي يرى أن موقف العرب متصلب للغاية، ولا يمكن تسويته أو التوصل إلى اتفاق معهم، خلافا لما اعتقده التيار الصهيوني السائد، ومن ثم لم يعتمد التيار التصحيحي الدبلوماسية إلا بالقدر الذي يسمح بتمرير عمليات التهجير والقتل بحق الفلسطينيين.
وقد صرّح جابوتنسكي بأن "90% من الصهيونية تقوم على أعمال الاستيطان العنيفة من قتل وتهجير، في حين أن 10% فقط منها تتعلق بالسياسة".
وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية عام 2018 بعنوان "كيف تبنى والد نتنياهو وجهة النظر القائلة بأن العرب همج؟" استعرض فيه الكاتب المسيرة الفكرية المتطرفة لبن صهيون تجاه العرب والفلسطينيين، إذ أشار المقال إلى أن بن صهيون استلهم هذه الأفكار من المؤرخ جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري والمحرر الرئيسي للموسوعة العبرية، الذي كان مرشده الفكري.
إعلانوقد اعتنق بن صهيون بشكل كامل وجهة نظر كلاوسنر التي تصف العرب بأنهم "أمة من نصف الهمج" يجب التعامل معهم بالقوة والحسم، بحسب المقال الذي أشار إلى أن بن صهيون أعاد تبنّي هذه الأوصاف والسياسات وحولها إلى ركيزة أساسية لفكره، مما رسخ مواقفه العدائية تجاه العرب بشكل أكبر.
تتجلى هذه النظرة المتطرفة في مقالات بن صهيون التي نشرها بصحيفة ها ياردن التصحيحية التي كان يحررها حتى وفاة والده عام 1935، ففي مقال بتاريخ 6 أغسطس/آب 1934 وصف بن صهيون العرب بأنهم "همج شبه متوحشين"، قائلًا "كما كان همج جزيرة العرب يطاردون اللاجئين اليهود من إسبانيا على منحدرات الجزائر في القرن الخامس عشر، فهم الآن يطاردون اللاجئين من جحيم الشتات عند بوابات الوطن".
وفي مقال آخر بعنوان "الاستيطان الريفي والاستيطان الحضري" نُشر في ديسمبر/كانون الأول 1934، قارن بن صهيون أرض إسرائيل بأميركا، وشبّه اليهود بمواطني الولايات المتحدة، بينما قارن العرب بالهنود الحمر، وقال في مقاله "إن غزو الأرض هو أحد أول وأهم المشاريع في كل استعمار".
وأضاف بنزعة تطهير عرقي واضحة "يجب أن نعلم أن الدولة ليست مجرد مفهوم حسابي لعدد السكان، بل مفهوم جغرافي كذلك، ذلك أن أبناء العِرق الأنغلو-ساكسوني، الذي كان في صراع دائم مع الهنود الحمر، لم يكتفوا بتأسيس المدن الكبرى مثل نيويورك وسان فرانسيسكو على شواطئ المحيطين اللذين يحدان الولايات المتحدة. بل سعوا أيضا لضمان الطريق بين هاتين المدينتين.. لو تركَ غُزاة أميركا الأراضي في يد الهنود، لكان هناك الآن في أحسن الأحوال بعض المدن الأوروبية في الولايات المتحدة وكان البلد كله سيأهله ملايين من الهنود الحمر!".
يظهر تأثير بن صهيون نتنياهو في ابنه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو واضحا لا ريبة فيه، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد ما يقارب 17 عامًا من توليه رئاسة الحكومة بشكل متقطع، سيقف بنيامين أمام الشعب الإسرائيلي متفاخرا بمواقفه المتشددة تجاه القضية الفلسطينية قائلا بكل وضوح "كنت أنا العقبة أمام إقامة دولة فلسطينية"، بينما كان اليسار الإسرائيلي يسعى، بشكل أو بآخر، إلى تقديم تنازلات قد تؤدي إلى حل سياسي وإنهاء النزاع".
إعلانذلك هو بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الحالي الذي يدعو علانية إلى تطهير غزة وتهجير أهلها، والتغيير العميق في الشرق الأوسط، لا يقول صراحة إنه يؤمن بمبادئ الحركة الصهيونية التصحيحية التي آمن بها والده من قبل، ولكنه على أرض الواقع يسعى لتحقيق هذه الأحلام!