صيفنا في بلدنا أحلى (2-2)
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
خالد بن خميس المويتي
صلالة، وما أدراك ما صلالة، إنَّها مكامن العز، والنبل، والجمال، والأصالة، إنها قطعة من الجنة، يا صلالة، المكث فيك لا يُمل، والتنقل بين جبالك، والسهول لا يحويه وصف، ولا ينهض له نعت، شطآنك تسحر الناظرين، ووديانك منتهى عشق الزائرين، وإنني- والله- مذ نزلت فيك نهاية الأسبوع المنصرم، وهاتفي لا يكاد يتوقف سيل رسائله!؛ فكل المحبين عزمه، ونيته زيارة عروس بحر العرب، يانعة ثمارها، ويسلب اللب بارد رذاذها، صيفها بارد، والفكر في حسنها شارد.
إنَّ مُجمل رسائل المحبين تتمثل في الآتي: كيف هي الأجواء؟، كيف هي الخدمات؟، كيف هي الأسعار لبيوت الإيجار، وأماكن الترفيه الخاصة بالأطفال؟.. وكلها أسئلة دقيقة وحصيفة؛ فأما السائلون عن الأجواء، فالشمس لم نرها طيلة هذه الفترة إلا مرة، أو مرتين، والرذاذ المنعش حط عصا ترحاله في هذه المدينة الساحرة، والعيون رقراقة مياهها، دفاقة شلالاتها، ودرجات الحرارة ملاصقة للعشرينات، لا تفارقها، وشوامخ الجبال أسكنت الغيم في سهولها.
أمَّا السائلون عن الخدمات، فحدِّث ولا حرج عن توافرها، ونظافتها؛ فبيوت الخدمات الخاصة (دورات المياه) في كل سهل، وجبل، يقوم بخدمتها عمال على مدار الساعة، وعمال النظافة يذرعون الأرض ذرعا: نظافة، وتجميلاً، والعتب كل العتب، على من زار معلماً من المعالم، واستجمع فيه، واستراح، ثم رحل مخلفاً فضلاته متناثرة في الأرجاء، وحديث نفسه العمال يملؤون المكان، وهذا عملهم، عملهم نعم، ولكن أين رقي أخلاقك، وحسن خصالك، ولا أحسب أنك ترجو أن تصل إلى هذا المكان، فتجده كما خلفته أنت لغيرك، وليكن شعارنا: "لنترك المكان خيرا مما كان".
ومن كان يسأل عن الأسعار؛ فأماكن الترفيه للصغار والكبار متوفرة منظمة، أسعارها في متناول الجميع، ومناشطها متنوعة، وأما الإيجار اليومي ففيه مغالاة ما بعدها مغالاة، والعذر أن الخريف موسم، أيامه معدودة، وفرصة الربح فيه محدودة، وهذا ليس عذرا البتة، فقد ذكرت في المقال السابق أن معظم الزائرين هم إما مواطنون، وإما أهل، وأشقاء من دول المجلس، وبهم -فيما أحسب- تنتعش السياحة، وتزدان، فإن وجدوا أسعاراً جاذبة سيتضاعف عددهم، وهذا هو المرجو، والمأمول.
من جهتي، أضع هذا الأمر على طاولة الجهات المعنية، وأقول: كبريات الدول السياحية تقوم بعمل جرد، ومسح سنوي لعدد الدور، والفنادق، والمنتجعات المخصصة للإيجار اليومي، ومن خلال ذلك المسح، وهذا التقييم يظهر مدى صلاحية المكان للسكنى، ومدى توفر الخدمات به، فهي تؤجر مؤثثة، حيث يتم تصنيفها بالنجوم ذات المعايير العالمية، دون محاباة، ولا علاقات، وبناء عليه تحدد الأسعار في شتى المواسم المختلفة، وإن حدث ثم أمر بين المؤجر، والزائر تكون أرقام جهات الاختصاص حاضرة، وفرق التدخل جاهزة، فهم الفيصل في الموضوع، وما بني على قاعدة واضحة لا خلاف عليه، ولا اختلاف.
وكلمة أخرى أخصُّ بها القائمين على تجمع مقاهي المشروبات الباردة، والساخنة، ومقاهي الوجبات السريعة، حيث توجد في منتصف كل تجمع جهة تصنع نوعا من الترفيه، لكن الأصوات المرتفعة التي يستخدمونها تنفر الزائرين؛ الأمر ينطبق كذلك على المسارح؛ فالجمهور لصيق بالمسرح، لكن الأصوات تكاد تسمع من خارج التجمع، وفي ذلك تنفير كذلك؛ فما كان التوسط في شيء إلا حسّنه، وجمّله، وزينه.
وختاما.. ما سطَّرتُ الذي تقدَّم من سطور إلا حبًّا لهذا الوطن، وهياماً بهذه المحافظة البديعة، ولا يصدقك إلا محبك، وأتمني في قادم المواسم أن يكون لما كتبت الأثر البين في اتساع رقعة الزائرين؛ فالسياحة تثري، والسياحة الداخلية أقل ثمناً، وأكثر استجماماً، ونفعاً، وصيفنا في بلدنا أحلى، ولا أرتاح أبدا لأصحاب المقارنات العقيمة بين السياحة الداخلية، والخارجية.
إقامة موفقة.. ووقت كريم لأهلنا ولكل الزائرين، مرحبا بكم في صلالة بلد السحر، والجمال، والأصالة.. ودمتم بود.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مخاطر الذكاء الاصطناعي على التعليم والبحث العلمي
يحظى موضوع الذكاء الاصطناعي باهتمام واسع عبر العالم في المناقشات والمنتديات والمجادلات حول الموضوع. ولقد سبق أن تناولت هذا الموضوع في مقالين بهذه الجريدة الرصينة: أحدهما عن الذكاء الاصطناعي والإبداع، والآخر عن الذكاء الاصطناعي والترجمة. ولكن هذا الموضوع يحتمل المزيد من التأملات دائمًا، إذ إن له أبعادًا كثيرةً لا حصر لها؛ ولذلك فإنني أريد في هذا المقال التنويه إلى تأثير الذكاء الاصطناعي على العملية التعليمية والبحث العلمي.
وقد يبدو أن استخدام كلمة «تأثير» أفضل من استخدام كلمة «مخاطر» الواردة في عنوان هذا المقال؛ لأن هذه الكلمة الأخيرة قد لا تبدو محايدة، وإنما تنطوي على حكم مسبق يتخذ موقفًا متحيزًا ضد تقنيات الذكاء الاصطناعي. وهذا تفسير غير صحيح؛ لأن كلمة «مخاطر» تعني أن هناك طريقًا نسير عليه -أو ينبغي أن نسير فيه- ولكنه يكون محفوفًا بالمخاطر التي ينبغي أن ندركها لكي يمكن اجتنابها. فلا مراء في أن الذكاء الاصطناعي يمثل ثورة كبرى في المعرفة البشرية.
هذه الثورة المعرفية تتمثل في القدرة الهائلة للآلة على توفير بيانات ضخمة في أي مجال معرفي، بل يمكن لبرامج هذه الآلة أن تؤلف نصوصًا أو موضوعات بحثية أو تصمم ابتكارات ومخترعات باستخدام هذه البيانات.
ولقد أثمرت هذه الثورة المعرفية بوجه خاص في مجال تطبيقات العلوم الدقيقة، وعلى رأسها الرياضيات البحتة التي تمتد جذورها في النهاية في المنطق الرياضي، كما لاحظ ذلك برتراند رسل بشكل مدهش في مرحلة مبكرة للغاية في كتابه أصول الرياضيات!
ولا شك أيضًا في أن الذكاء الاصطناعي له استخدامات مثمرة في مجال العملية التعليمية، إذ إنه يسهِّل على المعلم والطالب معًا بلوغ المعلومات المهمة والحديثة في مجال الدراسة، ويقدِّم المعلومات للطلبة بطريقة شيقة ويشجعهم على البحث والاستكشاف بأنفسهم.
وهنا على وجه التحديد مكمن المشكلة، فعندما نقول: «إن الذكاء الاصطناعي يشجع الطلبة على البحث والاستكشاف بأنفسهم»، فإننا ينبغي أن نأخذ هذه العبارة بمعناها الدقيق، وهو أن الذكاء الاصطناعي هو ذكاء الآلة، والآلة دائمًا هي أداة للاستخدام، وبالتالي فإنها لا يمكن أن تكون بديلًا لدور المستخدِم الذي يجب أن يقوم بنفسه بالبحث والاستكشاف. وهذا يعني أن سوء استخدام الذكاء الاصطناعي والتعويل عليه في عملية التعلم، سيؤدي إلى القضاء على روح المبادرة والاكتشاف، وسيحول دون تعلم مهارات التفكير الناقد critical thinking وتنميتها من خلال عملية التفاعل المباشر بين الطلبة والمعلم. وتلك كلها مخاطر حقيقية على التعليم.
ولا تقل عن ذلك مخاطر الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي الذي يصبح تكريسًا لسوء استخدام هذا الذكاء في مراحل التعليم المختلفة. بل إن المخاطر هنا تصبح أشد وأكثر ضررًا؛ لأنها تتعلق بتكوين باحثين وأساتذة يُرَاد لهم أو يُرجى منهم أن يكونوا علماء حقيقيين في مجالاتهم البحثية المتنوعة. ولعل أشد هذه المخاطر هو شيوع السرقات العلمية من خلال برامج الذكاء الاصطناعي التي تقوم بعملية التأليف من خلال كتابات ودراسات وبحوث منشورة؛ وهو ما قد يشجع الباحث على استخدام المادة المُقدّمة له باعتبارها من تأليفه ودون ذكر للمصادر الأصلية التي استُمدت منها هذه المادة.
حقًّا أن الذكاء الاصطناعي نفسه قد ابتكر برامج لاكتشاف السرقات العلمية (لعل أشهرها برنامج Turnitin)؛ ولكن هذا لا يمنع الباحثين الذين يفتقرون إلى أخلاقيات البحث العلمي من التحايل على مثل هذه البرامج من خلال التمويه، وذلك بتطعيم البحث بمادة موثقة من مصادرها، بحيث يبدو البحث مقبولًا في الحد الأدنى من نسبة الاقتباسات المشروعة! وهذا أمر لا ينتمي إلى البحث العلمي ولا إلى الإبداع والابتكار.
وبصرف النظر عن مسألة السرقات العلمية، فإن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي له مخاطر أخرى تتمثل في أن المادة المقتبَسة كثيرًا ما تكون مشوهة أو غير دقيقة، وهذا يتبدى -على سبيل المثال- في حالة النصوص المقتبسة المترجَمة التي تقع في أخطاء فادحة وتقدم نصًا مشوهًا لا يفهم مقاصد المؤلف الأصلي، وهذا ما فصلت القول فيه في مقال سابق. وفضلًا عن ذلك، فإن برامج الذكاء الاصطناعي لا تخلو من التحيز (بما في ذلك التحيز السياسي)؛ ببساطة لأنها مبرمَجة من خلال البشر الذين لا يخلون من التحيز في معتقداتهم، وهذا ما يُعرف باسم «الخوارزميات المتحيزة» biased algorithms.
ما يُستفاد من هذا كله هو أن الذكاء الاصطناعي ينبغي الاستعانة به في إطار الوعي بمخاطره؛ ومن ثم بما ينبغي اجتنابه، ولعل هذا ما يمكن تسميته «بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي»، وهي أخلاقيات ينبغي أن تَحكم برامج هذا الذكاء مثلما تَحكم المستخدم نفسه.