هل يضلُّ الإنسان نفسه أم يُكتب عليه الضلال جبراً!؟
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
لطالما كان اختيار الإنسان لطريق الهداية أو الضلال معضلةً طرحت الكثير من التساؤلات عن مدى مسؤولية الإنسان نفسه عن ذلك الاختيار في ظل الإيمان بعقيدة القضاء والقدر، وكيف يمكن التوفيق بين مسؤولية الإنسان عن هداه وضلاله، وبين الإرادة والقدرة الإلهية وما يترتب عليها من حدود لحرية الإرادة التي منحها الله للإنسان لكي يكون مسؤولاً عن معتقداته وتصرفاته.
ولكي نفهم أبعاد تلك المسألة بالمنهج السليم في ضوء العقيدة الإسلامية الصحيحة المستندة على القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا بد من فهم معنى الضلال أولاً. فالضلال: ضد الهدى، ويقال: ضللت بعيري: إذا كان معقولاً فلم تهتد لمكانه، وضل عني: ضاع، وضللته: أنسيته. ويقال لكل عدول عن المنهج عمداً، أو سهواً، يسيراً كان أو كثيراً: ضلال، فإن الطريق المستقيم الذي هو المرتضى صعب جداً، وإضلال الله للإنسان على وجهين:
إحداهما: أن يكون سببه هو أن يضل الإنسان، فيحكم الله عليه بذلك في الدنيا، ويعدل به عن طريق الجنة إلى النار في الآخرة.
الثاني: من إضلال الله: وهو أن الله تعالى وضع جبلة الإنسان على هيئة تجعله إذا راعى طريقاً محموداً كان أو مذموماً ألفه واستطابه، وتعسر عليه صرفه وانصرافه .
وإن المقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه وعدم توفيقه وإعانته وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية، والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار.
ومن رحمة الله بعباده، أن ما يفعله الله عز وجل من إضلال بعض عباده بالطبع والغشاوة والختم وغير ذلك، لا يفعله بالعبد لأول وهلة حين يأمره بالإيمان ويبينه له، وإنما يفعله به بعد تكرار الدعوة له، والتأكيد في البيان والإرشاد وتكرار الإعراض منه، والمبالغة في الكفر والعناد، فحينئذ يطبع الله على قلوب هؤلاء العباد، ويختم عليهم، فلا يقبل الهدى بعد ذلك، والإعراض والكفر الأول لم يكن معه ختم وطبع، بل كان اختياراً، فلما تكرر منهم صار طبيعة وسجية. فتأمل هذا المعنى في قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ" (البقرة : 6 ـ 7).
إن المقصود بإضلال الله للعبد هو خذلانه وعدم توفيقه وإعانته وعدم خلق المشيئة المستلزمة للهداية، والله سبحانه وتعالى يجعل ذلك في عباده ويخلقه فيهم بأسباب تكون من قبلهم، فهم إذا سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختياراً، سده عليهم اضطراراً، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوا، فيكون ذلك عقوبة لهم، كما يعاقبهم في الآخرة بدخولهم النار.حرية العبد في اختياره الهدى والضلال:
الأعمال التي يقوم بها الإنسان وفقاً لإرادته الحرة، واختياره، ورضاه، فالإنسان كائن عاقل مُدرك مُفكر، ويتميز عن غيره من المخلوقات بحرية الاختيار، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء" (الحج : 18) .
فهذه الكائنات جميعها لا حرية لها ولا اختيار، بينما الإنسان الذي يعمل بمحض إرادته الحرة ومشيئته المختارة، قد يطيع، وقد يعصي، وأكد القرآن أن الإنسان الذي تحمَّل الأمانة والتكليف، زوده الله بقِوى، وملكات، واستعدادات لتحقيق تلك الخلافة، ولأداء الأمانة، فخلق لديه الاستعداد للخير والشر، وللتقوى والفجور، والهدى والضلال، ومَنحه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والخير والشر، ووهبه القدرة التي لا يمكن عن طريقها أن يحق الحق ويبطل الباطل، أن يأتي الخير، ويدع الشر، وأنزل الله الكتب، وأرسل الرسل لهداية الإنسان، وإرشاده لمنهج الحق والخير، وجعل في الإنسان قوة ذاتية واعية مدركة يمكن أن يستخدمها في تزكية النفس وتطهيرها، وتنمية إستعداد الخير فيها وتغليبه على استعداد الشر، فيفلح الإنسان بهذا. وقد يظلم هذه القوة، ويغطيها، ويضعفها، فيخيب، قال تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس : 9 ـ 10).
وقد نطق القرآن الكريم، بإسناد الفعل إلى العبد في الكثير من آياته، مثل قوله تعالى: "جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأحقاف : 14) . قال تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ" (فصلت : 46) . وقال تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر : 38) .
وأثبت القرآن الكريم للعبد في آياته مشيئة الاختيار، فقال تعالى: "إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" (الإنسان : 3). وهكذا، فإن الإنسان حرٌ، ولقد زوده الله بالعقل والإرادة، يختار ما يراه من حق أو باطل، ويفعل ما يروق له من خير أو شر، فهو مزود بوسائل الإدراك، يدرك ما في الأشياء من قيم ويحكم عليها ويختار، وهو بالخيار أن يسلك طريق الحق والخير فيكون شاكراً، أو يعوج في طريقه فيجنح نحو الشر والباطل، فيكون كفوراً. فالإنسان حر في دائرة أعماله الإختيارية والمرتبطة بالتكليف والمسئولية، وهذه الحرية يؤكدها ما يلي:
أ ـ واقع حياة الإنسان، الذي يشعر بالفرق الواضح بين الأعمال الاختيارية، وبين الأعمال التي تقع عليه اِضطراراً.
ب ـ كما يؤكدها العقل الذي يقضي بأن المسئولية والتكليف لا بد أن تكون منوطة باستطاعة الإنسان على الفعل أو الترك، لأن من لا يملك هذه الاستطاعة، فلا يصح عقلاً أن تتوجه إليه المسئولية أصلاً.
ج ـ إضافة إلى ذلك لو لم يكن الإنسان مختاراً، لما كان ثمة فرق بين المحسن والمسئ، إذ أن كلاً منهما مجبر على ما قاله، ولبطل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فلا فائدة لهما، حيث أن الإنسان مسلوب الإرادة، ولما كان ثمة معنى لتكليف الله للعباد؛ لأن تكليفه إياهم مع سلب اختيارهم يتنافى مع العدل الإلهي الذي أثبته لنفسه، بل لو كان الإنسان مجبراً على أفعاله، لضاعت فائدة القوانين، ولبطل معنى الجزاء من الثواب والعقاب.
د ـ قبل هذا كله، جاءت النصوص الشرعية تنسب العمل والاختيار إلى الإنسان، وما يكتسبه نتيجة لجهده، وثبت الجزاء بالجنة لمن أطاع، والنار لمن عصى. قال تعالى: "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ" (الشورى: 30). وقال تعالى: "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" (الروم: 41). وقال تعالى: " وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ" (الكهف: 29) . وقال تعالى: " لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ" (التكوير: 28).
ولكن هذه المشيئة الإنسانية محدودة مرتبطة بمشيئة الله المطلقة، وتابعة لها، إذ أن الإنسان يعمل أعماله الاختيارية، ويمارس حريته في العمل داخل دائرة صغرى تقع ضمن دائرة كبرى، وهي نطاق النظام الكوني العام، إذ أن أعماله مهما كانت، واختياره مهما كان خيراً أم شراً حقاً أم باطلاً، لن يخرج في أدائه الأخير عن السنن الكونية التي وضعها الله في الكون، وتقوم عليها قوانين الحياة البشرية "لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ" (التكوير : 28 - 29). فمشيئة الناس ليست منفصلة عن مشيئة الله تعالى، ولا مستقلة عنها، بل إن الله قد شاء للإنسان أن يختار أحد الطريقين: طريق الهداية، وطريق الضلال، فإن اختار الطريق الأول، ففي نطاق المشيئة الإلهية، وإذا اختار الثاني ففي نطاقها أيضاً .
المراجع:
1 ـ الإيمان بالقدر، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، بيروت.
2 ـ تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ص (11/ 484) .
3 ـ الحسنة والسيئة لابن تيمية، ص 94 ـ 95.
4 ـ شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ابن القيم، ص 173، 196، 209.
5 ـ العقيدة الإسلامية، د.أحمد محمد جيلي، ص 363 ـ 365.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الضلال الانسان رأي ضلال أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وقال تعالى قال تعالى
إقرأ أيضاً:
من ضمنها ذي القعدة.. أهم 4 أعمال صالحة في الأشهر الحُرم
للأشهر الحُرم خصائص كثيرة ميزها الله عن بقية الأشهر الأخرى، ففيها يُضاعِفُ الله سُبحانه لعباده الأجرَ والثواب، كما يُضاعف الإثمَ والذنبَ، لعظمةِ وحرمة هذهِ الأشهر.
واشتملت الأشهر الحرُم على فرائضَ وعباداتٍ موسمية ليست في غيرها، واجتماع أمهات العبادات في هذه الأشهر، وهي: الحج، والليالي العشر من ذي الحجة، ويوم عرفة، وعيد الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عاشوراء، وليلة الإسراء والمعراج -على المشهور-.
ومن أفضل الأعمال في الأشهر الحُرم واللي من ضمنها شهر ذي القعدة:
1- الإكثار من العمل الصالح
2- الاجتهاد في العبادات "الصلاة على وقتها، النوافل، قيام الليل..."
3- الابتعاد عن المعاصي
4- الإكثار من الصدقات
10 كلمات فيها معجزة ترزقك بالحج والعمرة.. رددها بيقين لتكون من ضيوف الرحمن
ويحرم فى الأشهر الحُرم القتال فيها؛ قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللهِ...}. [البقرة: 217]، تشديدُ حرمةِ الظلم فيها؛ قال تعالى: {...فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُم...}. [التوبة: 36).
لماذا جاءت الأشهر الحرم منفصلة وليست متصلة ؟
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول صاحبه "لماذا جاءت الأشهر الحرم منفصلة وليست متصلة؟.
وأجاب الشيخ محمد كمال، أمين الفتوى في دار الإفتاء، أن الله تعالى تحدث عن الأشهر الحرم في القرآن الكريم، فقال الله تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ).
وأشار إلى النبي الكريم يقول في الحديث الشريف (إن الزمان قد استدار بهيئته يوم أن خلق الله السماوات والأرض، السنة اثني عشر شهرا منها أربعة حرم).
وأوضح، أن الأشهر الحرم هي: رجب، ذو القعدة ، ذو الحجة، المحرم، منوها أن الأشهر الحرم عبارة عن 3 أشهر متصلة، وشهر رجب منفصل عنهم.
وأضاف، أن العلماء قالوا عن الأشهر الحرم، إن الله حرم هذه الأشهر، الثلاثة المتواليات، فحرم الله شهرا قبل الحجة وهو شهر ذي القعدة، حتى يذهب من يرغب في تأدية مناسج الحج، وهو آمن على ماله ونفسه ومن يسير معه، وحرم شهر ذي الحجة، لأن هذا هو الشهر الذي تؤدى فيه المناسك حتى يكون الحاج آمنا وهو يؤدي المناسك، ثم قال العلماء، وحرم الله شهر المحرم حتى يعود الحاج إلى بلده آمنا ويصل إلى وطنه في أمن وأمان.
وتابع أمين الفتوى: أما بالنسبة لشهر رجب، فقد جعله الله من الأشهر الحرم، لأن العرب كانوا يذهبون فيه ليعتمروا ببيت الله الحرام، فحرم هذا الشهر من أجل ذهاب الناس إلى العمرة في أمن وأمان وسلم وسلام.