الأسر أو الوجه المخفي من جرائم الاحتلال بحق الفلسطينيين.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
الكتاب: الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي
الكاتب: ياسر أبو هلالة
الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، ط 1، بيروت لبنان 2009
عدد الصفحات: 126 صفحة.
ـ 1 ـ
يعرض كتاب "الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي" معاناة الفلسطينيين في زنزانات الاحتلال استنادا إلى التقارير الحقوقية وشهادات الأسرى.
مورست هذه الانتهاكات من قبل المحتل البريطاني. ثم تواصلت بعد النكبة. فتشير الروايات والوثائق إلى أن العصابات الصهيونية أقامت خلال حرب 1948 معسكرات اعتقال للسكان المدنين الذين يلقي عليهم القبض بعد تهجير هم من قراهم أشبه ما يكون بالمعسكرات النارية خلال الحرب العالمية الثانية، بعيدا عن كل التزام إنساني أو قانوني تمام حقوق الأسرى. وكل ما ذكرنا يعرض وفق الشهادات الموثقة أو روايات شهود العيان. وكان من ينجو من الأسرى يستغل في أعمال سخرة، ويعامل معاملة مهينة وقاسية. أما النساء فلم يكن يُنتزع منهنّ حليهن فحسب وإنما يتعرضن إلى المضايقة الجسدية بعد الاعتقال، بما في ذلك الاغتصاب.
ويستند الكتاب إلى تقرير إحصائي صادر عن وزارة الأسرى والمحررين عام 2008. فمنذ حرب 1967 حتى 2008، أي حوالي أربعين سنة، اعتقل الكيان المحتل نحو 750 ألف مواطن فلسطيني. وهو ما يمثّل ربع إجمالي سكان الضفة والقطاع. وليكشف فظاعة هذا الوجه من العدوان على الذّات الفلسطينية، يعتمد الجداول الإحصائية. وينتهي إلى أنّ الشعب الفلسطيني بأسره يظل عرضة للأسر، رجالا ونساءً وأطفالا. وينحدر هؤلاء الأسرى من مختلف الشرائح الاجتماعية فمنهم العمال والمثقفون والطلبة والنواب والوزراء. وينتهي إلى أنّ المحتلّ، فضلا عن تعمّده إذلال الذات الفلسطينية لينتزع منها الاستسلام والتفريط في الحقوق، يعتمد سياسة الاعتقال التعسفي لتعويم أي صفقة إطلاق أسرى وتحويلها إلى مجرد إجراء شكلي.
ـ 2 ـ
وحتى يكون القارئ على بيّنة من هذه الانتهاكات يذكر الكتاب بالمواثيق والقوانين الدولية. فقد حدد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 مبادئ إنسانية عامة لا يجوز انتهاكها في التعامل مع الأسرى مهما كانت الظروف. فنصّت المادة الخامسة منه على "ألا يتعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحط من الكرامة". وأكّدت المادّة السابعة أنّ " كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة من دون أية تفرقة". وأشارت المادة التاسعة إلى أنه "لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسّفاً. أما المادة العاشرة فتشدّد على أنّ "لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلاً علنيا" وتشير المادة الحادية عشر إلى أنّ "كل شخص متهّم بجريمة يعدّ بريئا إلى أن تثبت إدانته قانونا".
ومثّلت حقوق الأسرى وكيفية معاملتهم وتجريم تعذيبهم واعتقالهم تعسفيا أو أخذهم رهائن، موضوعَ العديد من الاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية الخاصة، التي تضمن حقوقهم وتكفل لهم معاملتهم معاملة كريمة في ظروف إنسانية. فتتضمن شروط الطعام، والرعاية الطبية. وأبرزها اتفاقية جنيف الثانية الخاصة بمعاملات أسرى الحرب واتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في زمن الحرب، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة ومنظومة الحدود الدنيا لإجراءات معاملة الأسرى 1955.
وبديهي أن تكون إسرائيل ملزمة بجميع هذه الاتفاقيات، إما لكونها طرفاً فيها، أو لكونها مقرة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. غير أنّ القانون الإسرائيلي يخالف ذلك مخالفة صريحة. فالفقرة 21 من حكم "المقاتل غير الشرعي" الذي أقرته المحكمة الإسرائيلية في القضية HCI 3261/08 « Anonymous vs. The State of Israel ينص على التّالي : "لأجل اعتقال أي شخص عضو في تنظيم "إرهایی " (...) ليس من الضروري أن يكون هذا الشخص قد أسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الأعمال القتالية (...) وعلى هذا الأساس يتم تعريف أي شخص على أنه مقاتل غير شرعي ( ...) ويشكل إطلاق سراحه من الاعتقال خطراً على أمن الدولة، طالما لم يثبت العكس". ومن استتباعاته أن يعدّ كل الفلسطينيين "إرهابيين" يجوز اعتقالهم لهويتهم الفلسطينية لا غير.
ـ 3 ـ
من تبعات الفقرة 21 من حكم "المقاتل غير الشرعي" تحوّلُ الاعتقالِ إلى عملية تنكيل بالمواطنين الآمنين. فهو يتم وفقا لمجموعة من الأوامر العسكرية، دون مذكرات توقيف أو مبررات. فيتم التحقيق مع الفلسطيني بهدف استصدار أي اعتراف منه أو إجباره على الاعتراف بما لم يرتكب تحت الضغط والإهانات والاستفزازات والاعتداءات الجسدية المتكررة عليه وعلى أفراد أسرته. ومن الفظاعات التي يذكرها الأثر، إجبار هؤلاء المعتقلين على التعري أمام الجميع والدفع بهم معصوبي الأعين في المدرجات.
وفي حالات الاعتقال التعسفي، يتمّ أسر المواطنين عادة دون إنذار مسبق، ودون إبداء أسباب واضحة. فتداهم البيوت بعد منتصف الليل أو قبيل الفجر عادة بشكل جماعي ويقع تفتيشها بعد التنكيل بأفراد العائلة. فتتم المناداة عبر مكبرات الصوت لجميع المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 15-45 سنة. وبعد التفتيش العاري يقيد الأسرى ويمنعون من الطعام ومن دورات المياه. ويمتدّ احتجازهم لستة أشهر قابلة للتجديد دون العرض على المحكمة، بحيث يكون هدف هذه العمليات، إلى جانب الحرمان من الحرية، ترويع المزيد من الفلسطينيين الآمنين وعقابهم على نضالهم الذي تعتبره جريمة، قبل أن يتحقّق فعليا.
تجربة السجن في زنزانات المحتل الإسرائيلي طويلة وقاسية ويزيد تعذيب السجّان من وطأتها. وليس أمام الأسير الفلسطيني غير الصمود حتى يحفظ بقاءه في معركة لا مجال للاستسلام فيها. و لكن رغم صلابة الأسرى وبطولاتهم هم بشر، يتأثرون بممارسة سلطات الاحتلال بحقهم وانتهاكها للمواثيق والقوانين الدولية بما تفرضه من وحشية وسادية وقمع، خاصّة أمام الصمت العربي والعالمي الذي يصل حدّ التواطؤ.وتمنح إسرائيل هذه الانتهاكات صبغة قانونية. فالأمر العسكري الإسرائيلي رقم 1500 (الصادر في 2002/4/15) يتيح للجيش احتجاز المعتقلين طوال 18 يوما، دون السماح لهم برؤية المحامين، قبل جلبهم للمثول أمام قاض له صلاحية تجديد أمر منع مقابلة المحامين. ومن الانتهاكات التي وجدت صدى في الإعلام العالمي يورد الكاتب عناوين مثل "اعتقال 12 طفلا من طلاب المدارس والاعتداء عليهم بالضرب" أو "الزج ب 3 وزراء و44 نائبا فلسطينيا في السجون" أو "إطلاق النار باتجاه صيادي غزة ويعتقل 26 منهم" أو "قوات الاحتلال تعتقل عددا من الصرافين في الضفة الغربية وتصادر أموالهم".
وتمثّل هذه الاعتقالات أنموذجا جيّدا للعنصرية الإسرائيلية. فالقانون الإسرائيلي يسمح لأي قاض عسكري احتجاز الفلسطيني بدون محاكمة المدة 90 يوماً، وإن لم يكن ذلك بشكل متواصل، ويمكن تمديد هذه المدة لثلاثة أشهر إضافية وبالمقابل. فهو لا يسمح باعتقال المواطن الإسرائيلي الأكثر من 24 ساعة دون عرضه على قاض مثلاً ويمنع احتجازه لمدة تزيد عن 15 يوماً، يمكن تمديدها لمدة 15 يوما إضافية لا أكثر.
ـ 4 ـ
ويحال الفلسطيني على محاكم عسكرية إسرائيلية يترأسها قضاة يعيّنهم الجيش، وإن تم اعتقاله على خلفية قضايا مدنية كحوادث السير مع إسرائيليين. واللعبة بسيطة: يتعرض المعتقل إلى التعذيب الشديد في أقبية التحقيق. فإن لم يعترف بجرم ما يسلبه حريته، يتم إبلاغه بالاعتقال الإداري أو توجه إليه لائحة من التّهم، يتم إقرارها كلها بعد محاكمات صورية. ومن التهم السالبة للحرية حمل العلم الفلسطيني أو إزالة النفايات التي يضعها الاحتلال أو تقديم قهوة لشخص ينتمي إلى منظمة "غير شرعية".
ويبقى "الملف السري" الصندوق الأسود الذي يحاكم وفقه المتهم دون أن نعرف طبيعة قضيته. ومن تنقضي مدة اعتقاله يمكن أن يحوّل إلى الاعتقال الإداري. فيمدّد في حبسه خارج أي أطر. وتتمّ المحاكمات بعيدا عن معايير العدالة التي تحفظ للأسرى حقهم في المساواة أمام القانون.
ـ 5 ـ
بعد محنة المحاكمة يواجه الفلسطيني محنة الأسر. فإدارة السجون تنتهك باستمرار القوانين والمعاهدات الدولية المتعلقة بظروف الأسر. وسجون الاحتلال لا تتوفّر على أدنى الشروط الإنسانية، سواء تعلق الأمر بالأبنية ومحيطها، أو بالغرف الضيقة التي تعتقد للتهولة والنور، أو الجدران الوسخة أو الرطوبة والعفن وانعدام الشروط الصحية والنظافة، ورداءة الطعام. وفضلا عن المعاملة المتعجرفة من قبل السجانين وعن التعذيب الذي تمارس بشتى الصنوف يحرم الأسير من حقوق جوهرية، وفي طليعتها الحق في التعليم، وفي ممارسة الشعائر الدينية والتواصل مع العالم الخارجي، سواء مع المحامين أم مع عائلته بالزيارات وبالمراسلة والحق في الرعاية الصحية وتوفير الخدمات الطبية. فيتعرض إلى الإهمال الطبي المقصود الذي "وصل بسلطات الاحتلال إلى جعل بعض الأسرى حقول تجارب طبيبة".
يروي الأسير لؤي الأشقر (28) عاماً) ما تعرض له من تعذيب في السجون. الإسرائيلية، فيقول "تم وضعي على كرسي التحقيق وثني ظهري إلى الخلف حتى وصل رأسي إلى مستوى القدمين من الخلف قام ضابط المخابرات بالضغط على صدري، وفي الضغطة الثالثة كسر ظهري وشعرت بظهري أنه انتزع مني". هكذا أصبح لؤي مشلولاً، وفقد القدرة على التحكم في جزئه السفلي. ومع ذلك تم وضعه في العزل، مدة 21 يوما، وهو المشلول العاجز عن الحركة أو التبول أو المشي، وكانوا يرفضون تقديم أي مساعدة له أو أي معاون.
وانتهجت إسرائيل سياسة اعتقال النساء في الضفة الغربية وقطاع عزة منذ قيام كيانها الغاصب. ولكن فترة الانتفاضة الأولى 1987-1993 شهدت أكبر حملات الاعتقال بحق النساء الفلسطينيات. وخلافا لما نصت عليه المادة 82 من معاهدة جنيف الرابعة من ضرورة جمع أفراد العائلة الواحدة المعتقلين كلما أمكن في المبنى نفسه على أن يخصص لهم مكان إقامة منفصل عن بقية المعتقلين وتوفير التسهيلات اللازمة لهم للمعيشة في حياة عائلية، كنّ بدورهن، عرضة للانتهاكات الكثيرة التي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان، ومع كافة القوانين والأعراف الدولية، خاصة تلك التي تدعو إلى التعامل مع الأسيرات الطريقة خاصة، تنسجم مع كونهن نساء وأمهات وزوجات. فمنعت عنهنّ زيارة الأهالي أو تمّ التضييق في إجراءاتها. وحرمن من اللقاء المباشر مع أطفالهن، الذين تزيد أعمارهم عن ست سنوات، وفرض عليهنّ التحدث من خلف الحواجز . وهذا الإجراء يخلّف من ألم في نفوس الأمهات الأسيرات ما يفوق أي تصور.
ـ 6 ـ
تجربة السجن في زنزانات المحتل الإسرائيلي طويلة وقاسية ويزيد تعذيب السجّان من وطأتها. وليس أمام الأسير الفلسطيني غير الصمود حتى يحفظ بقاءه في معركة لا مجال للاستسلام فيها. و لكن رغم صلابة الأسرى وبطولاتهم هم بشر، يتأثرون بممارسة سلطات الاحتلال بحقهم وانتهاكها للمواثيق والقوانين الدولية بما تفرضه من وحشية وسادية وقمع، خاصّة أمام الصمت العربي والعالمي الذي يصل حدّ التواطؤ.
من هذا المنطلق يمثّل كتاب "الأسير الفلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي" عملا ضد الصمت بما يكشف من الجرائم التي تُرتكب بعيدا عن الأعين وعن كاميراهات المصوّرين وصرخة في وجه التاريخ حتى يحفظ هذه الجرائم فلا تسقط بالتقادم صرخة تتحدى التعتيم الإسرائيلي وتفضح جرائمه التي تنافي القوانين والأعراف والقيم لتصل إلى آذان الضمائر الحية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب الفلسطيني الاحتلال عرضة اسرى احتلال فلسطين كتاب عرض كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأسیر الفلسطینی إلى أن
إقرأ أيضاً:
عائلة غريب .. 45 عامًا من الصمود الفلسطيني في وجه الإستيطان
غزة- مراسل «عُمان» - بهاء طباسي:
تعيش عائلة سعدات غريب، من قرية بيت إجزا شمال غرب مدينة القدس المحتلة، محاصرة في منزلها الذي يتوسط مستوطنة «جفعون حداشا»، بعد انتزاع أجزاء من أراضيهم، وسط مضايقات من الاحتلال، الذي يتحكم في بوابة منزلهم عن بعد، ويراقبهم باستخدام الكاميرات المنتشرة بكثرة في محيط المنزل.
يقع البيت الموروث عن المواطن الفلسطيني صبري غريب على مساحة 100 دونم قرب جدار الفصل العنصري الذي يفصل مدينة القدس عن الضفة الغربية، وهو ما يعزل أفراد العائلة عن محيطهم الطبيعي، بما في ذلك أماكن العمل، المدارس، والمرافق الصحية.
البيت، الذي يعيش فيه سعدات وزوجته ووالدته وأولاده الأربعة، محاصر تمامًا بجدار الفصل العنصري، أسلاك شائكة، كاميرات مراقبة تعمل على مدار الساعة، وبوابات إلكترونية تخضع لسيطرة الشرطة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من المستوطنات، تعلو تلة جبلية، وتكشف ستر المنزل، وفقًا لما رصدته جريدة «عُمان».
من الناحية الاقتصادية يعاني أفراد عائلة سعدات غريب من نقص فرص العمل، بسبب القيود المفروضة على الحركة. كما أن الزراعة، التي تُعتبر مصدر رزق رئيسي للعائلة، تأثرت بشكل كبير نتيجة لمصادرة الأراضي وإعاقة الوصول إلى الحقول الزراعية.
ومنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن تقاوم عائلة غريب مساعي المستوطنين وسلطات الاحتلال الرامية لتهجيرهم من بيتهم وأرضهم، حيث باتوا رمزًا للصمود الفلسطيني في وجه الاحتلال. وسط هذه الظروف القاسية، يحكي سعدات معاناة طويلة بدأت منذ عقود مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى بلا هوادة إلى السيطرة على الأرض ومحو معالم وجود عائلته.
عرض مغرٍ ورفض حازم
يعود سعدات بذاكرته إلى عام 1979، عندما حاول المستوطنون شراء المنزل والأراضي المحيطة به، وقوبلوا برفض والده (صبري غريب): «قدموا لنا عروضًا مالية خيالية، وكانوا مستعدين لدفع أي مبلغ نطلبه مقابل الحصول على قطعة صغيرة من الأرض. لكن والدي رفض بشكل قاطع».
يقول غريب خلال حديثه لـ«عُمان»: «هذا القرار الحاسم من الوالد مثّل بداية سلسلة طويلة من المضايقات».
منذ ذلك الحين، بدأ المستوطنون، بدعم من الجيش الإسرائيلي، بمحاولات مستمرة للاستيلاء على الأرض.
يوضح غريب: «في البداية، حاولوا السيطرة على 25 دونمًا، ثم توسعت مطالبهم لتشمل 40 دونمًا، خاصة وأن الأرض تقع في منطقة مرتفعة تشرف على المناطق المحيطة، مما يجعلها ذات أهمية استراتيجية».
اعتداءات متواصلة وعقود من المضايقات
لم يتوقف الاحتلال والمستوطنون عن محاولاتهم لانتزاع الأرض طوال الفترة الممتدة من 1979 وحتى 1993، لكنهم لم ينجحوا في ذلك.
يؤكد غريب: «رغم الضغوط الهائلة، لم يتمكنوا من مصادرة أي سنتيمتر من الأرض خلال تلك الفترة، وظلت القضية التي ينظرها القضاء الإسرائيلي حبيسة الأدراج».
لكن عام 1993 كان نقطة تحول، فبعد توقيع اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، وفي العام 1995 قررت المحكمة الإسرائيلية تعليق النظر في القضية لحين تسوية ملف الأراضي في المناطق المصنفة «أ» و«ب» و«ج» بالضفة الغربية.
كان من المفترض أن يكون هذا التقسيم مؤقتًا، ويستمر لمدة 5 سنوات فقط حتى عام 1999، على أن يتم التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن القضايا العالقة (الحدود، القدس، اللاجئين).
لكن من الناحية الفعلية، استمر الاحتلال في توغلاته الاستيطانية بالأراضي الفلسطينية، بل زاد من سيطرتها على المنطقة (ج) من خلال بناء المستوطنات، هدم المنازل الفلسطينية، وفرض قيود مشددة على حركة الفلسطينيين واستخدام أراضيهم.
وبالنسبة لعائلة غريب، استغلت سلطات الاحتلال القرار، وبدأت في بناء مستوطنات على مساحة 40 دونمًا من أرض العائلة.
يقول غريب: «لم يكتفوا بذلك، بل جلبوا مستوطنين متطرفين ليسببوا لنا مشاكل يومية».
ويصيف: «لا يترددون في التعدي علينا لفظيًا وجسديًا. يسبون الدين، ويتعرون أمام النساء والأطفال، ويطلقون النيران على سيارتنا دون أي رادع».
تحول المعاناة إلى حصار كامل
في عام 2002، بدأت إسرائيل ببناء جدار الفصل العنصري، الذي أحاط منزل العائلة بالكامل. «كانوا يخططون لبناء الجدار بحرية، لذلك اعتقلوني أنا ووالدي وأخي، بينما تمكنت أمي من الهرب بصعوبة. احتجزونا حتى انتهوا من بناء الجدار»، يروي غريب.
وفي العام 2007، بعد الانتهاء من بناء الجدار العازل، نصب الاحتلال بوابة إلكترونية يتحكم في فتحها وإغلاقها مركز شرطة مستوطنة «جفعون حداشا».
يبين غريب: «لم يُسمح لأحد بالدخول سوى أبناء العائلة، الذين تظلُّ البوابة مغلقةً في وجوههم لثلاث أو أربع ساعات يوميًّا، بينما يُمنع أي أحد من زيارتهم إلا بتصريح مسبق».
«لمدة ثلاثة أشهر كاملة، استمرت سلطات الاحتلال في التحكم بالبوابة، التي لم تُفتح إلا بعد صدور قرار من محكمة إسرائيلية يؤكد أنها تخص عائلتنا ويجب أن تبقى مفتوحة على مدار الساعة»، يكمل غريب شهادته: «تلقيت عروضًا من سلطات الاحتلال بالهجرة إلى أي دولة أختارها، لكنني رفضت بكل تأكيد».
حرمان من الأرض والحرث
إلى جانب الحصار المفروض على البيت، مُنع سعدات من الوصول إلى 60 دونمًا من أرضه الواقعة خلف الجدار العنصري لمدة عامين كاملين. لكنه عندما تمكن أخيرًا من دخول الأرض في أكتوبر الماضي، فوجئ بأن الاحتلال قد أقام سياجًا على 20 دونمًا منها، لمنعه من استخدامها.
وبذلك تمكنت سلطات الاحتلال من منع عائلة غريب من ممارسة نشاط الزراعة، الذي يمثل دخلًا أساسيًا لهم.
يوضح سعدات أن «أرضه خلف جدار الفصل العنصري بحاجة للحراثة، وإذا لم يتمكن من زراعتها، ستعتبرها إسرائيل أرضًا مهجورة وتصادرها باعتبارها أملاك تخص الداخل الفلسطيني المحتل».
إحباط من السلطة الفلسطينية
المعاناة لم تكن محصورة في الاحتلال والمستوطنين، بل امتدت إلى المؤسسات الفلسطينية الرسمية.
يوضح أن لديه طلبين أساسيين؛ الأول هو «تخصيص محامٍ حكومي متخصص للدفاع عن قضية الأرض»، والثاني «هو تسهيل حراثة الأرض لمنع مصادرتها».
لكن بدلًا من الاستجابة، تعرض غريب لضغوط نفسية كبيرة، حتى اضطر إلى دخول المستشفى.
«لن نتنازل عن أرضنا»
رغم العقبات المستمرة، يصر سعدات غريب على مواصلة الدفاع عن أرضه: «هذه الأرض إرث والدي وأجدادي، ولن أسمح للاحتلال أو لأي جهة أخرى بالاستيلاء عليها. نحن هنا صامدون رغم كل شيء».
ويختتم شهادته قائلاً: «رسالتي إلى العالم وإلى كل مسؤول فلسطيني هي أن يقفوا معنا، لأن هذه القضية ليست قضية عائلة واحدة، بل قضية وطن بأكمله».