معتصم أقرع: السيد المسيح في نادي باريس
تاريخ النشر: 29th, July 2024 GMT
السيد المسيح في نادي باريس:
معتصم أقرع
في ثلاثية رائعة (الثالث في الطريق) صدر منها “انهيار العصور القديمة”، و”أعفو لهم ديونهم”، يتناول الأقتصادي الماركسي الكبير مايكل هدسون تاريخ الديون منذ أيام حضارات الشرق الأدني الاشورية والفينيقية والبابلية وغيرها إلي الحضارة اليونانية والرومانية والمسيحية.
تنبع أهمية الثلاثية – إضافة إلي أهمية كل ما يكتب مايكل – من أن الديون قضية مركزية أثقلت كاهل الدول النامية منذ سبعينات القرن الماضي وأضعفت فرص نموها.
وكلنا يتذكر كيف تم خنق الفترة الإنتقالية وترويض حكومتها بحبل من ديون فاسدة وكان في ذلك عقوبة لقوي الثورة أسهم في إضعاف الفترة الانتقالية التي أنتهت بحرب ضروس بعد شراكة أطلقوا عليها زورا صفة “مثالية متناغمة” .
تراكمت ديون السودان في عصر نميري، لا في عهد ديمقراطية 1986-89 ولا في عهد حكم البشير. وكان أكثر من أربعة أخماس عبء الدين عبارة عن فوائد وغرامات تاخير، أي أن السودان صرف أقل من عشرين سنت من كل دولار ديون.
وايضا تعاني الشقيقة مصر من مشكلة ديون تستهلك جل موازنة الدولة وتطغي علي كل فضاء الأقتصاد وتقلص من حيز السياسات المالية المتاح للحكومة. ولكن هذه المشكلة لا تخص مصر وحدها، فمعظم الدول النامية تعاني من أزمة ديون طاحنة تضعف من قدرتها علي تقديم الخدمات الأساسية ومواصلة دعم السلع ذات الحساسية السياسية العالية. ويدفع ملايين البشر في الجنوب الكوني ثمنا فادحا نتيجة لديون في بعض الأحيان لم يصلهم منها فلسا واحدا ولم تتم استشارتهم في اقتراضها .
يصف مايكل هدسون في ثلاثيته كيف “أدت ديناميكيات الديون ذات الفائدة إلى صعود الأوليغارشيات الريعية في اليونان وروما الكلاسيكية، مما تسبب في استقطاب اقتصادي، وتقشف واسع النطاق، ومهد ذلك إلي ثورات، وحروب، وفي النهاية انهيار روما إلي العبودية والإقطاع. وترك هذا الانهيار للحضارة الغربية اللاحقة فلسفة قانونية مؤيدة للدائنين أدت إلى الأوليغارشيات الدائنة اليوم.”
يكشف مايكل هدسون في روايته عن انهيار الحضارات القديمة عن أوجه شبه مع أقتصاد عالم اليوم الذي يعاني من فرط الأمولة والذي يلعب فيه الدين دورا محوريا داخل الدول وبينها. كما يوضح جذور “عبودية الديون” داخل الدول وبينها. وكما دمر جشع الدائنين الحضارات القديمة فانه يدمر اقتصادات دول الجنوب الكوني اليوم ولكن أوليغارشيات الدول الغنية الدائنة ستدفع الثمن أيضا ولو بعد حين بعد أن بدات طبقاتها الأضعف في دفع الثمن.
كما يشير مايكل أيضا إلي مشكلة المركزية الأوروبية التي تدعي أن الحضارة الحديثة بدات مع روما واليونان القديمة رغم أن حضارات الشرق الأدني سبقتها وكانت أكثر استنارة منها في جوانب كثيرة، من أهمها كيفية التعامل مع الديون.
كان الفلاحون الفقراء في الشرق الأدني يدخلون في ديون لاسباب شخصية أو بسبب انكشافهم لتقلبات الزراعة المعروفة. وفي حالة عجز الفلاح عن السداد يصادر الدائن الثري أرضه ويفرض عليه السخرة بان يعمل لصالحه بلا مقابل سوي ما يسد رمقه.
وكان الملوك ومن يقوم مقامهم من الزعماء في ذلك الوقت حكماء ويدركون أن ممارسات طبقة الأثرياء لو تجاوزت خطا أحمرا تدمر المجتمع. فمع زيادة عدد الفلاحين الذين يتم تحويلهم إلي أقنان بعد مصادرة أراضيهم بسبب الديون يزداد الغضب ويضطر الكثير منهم إلي الهروب إلي أقاليم أخري فرارا من عبودية الدين. وأدرك الملوك أن ذلك الفرار خسارة ديمغرافية تضعف المجتمع وتقلل من عدد الجنود المتوفرين للملك وتمحق العائد الخراجي/الضريبي الذي يحصل عليه. ومن لا يهرب من الفلاحين قد يشعلها ثورة شعواء تحرق الملك وطبقة الأثرياء معا.
لذلك كان الملك يتدخل لحماية مصالحه ومصالح المجتمع باصدار أوامر بإلغاء كل الديون علي فترات متقطعة – ويسمي هذا جوبيلييه. لذلك كانت كلمة ملك ذات مدلول إيجابي فهو الحكيم الذي يعيد توازن المجتمع بمنع الطبقة المهيمنة من الإسراف في إستغلال الضعفاء لان ذلك يقود إلي إنفجارات حتما. في هذه الرواية فان من مهام الملك حماية الفلاحين من الطبقة الأوليغارشية لان في ذلك مصلحته أيضا. ومن هذا سمي السيد المسيح بملك اليهود عند ظهوره لانه دعا إلي العدالة الأجتماعية والتوازن بما في ذلك إلغاء ديون الفقراء.
وكانت دعوة السيد المسيح إلي إلغاء الديون، إضافة إلي دعواته الأخري، مصدر قلق لمراكز القوة التي ابتدع كهنتها شرطا جديدا في عقود الدين يقول أنه في حال صدور أمر بإعفاء الديون فان الموقع علي العقد يوافق علي أن الإعفاء لا يشمله. ولم يكن هذا كافية لإخماد جذوة ثورة السيد المسيح فقررت مراكز القوة إغتياله . وفعلا تم إغتياله ولكن دعوته أستمرت كما جاء في سفر متا (ماثيو) عن الديون.
وكان موقف السيد المسيح إمتدادا لتراث حضارات الشرق الأدني في الشام والعراق الأكثر استنارة من توجهات روما واليونان التي كانت تصر علي أن أي دين يجب سداده لاخر مليم ولا يهم ما يحدث للمدين أو المجتمع في عمومه وقد ساهم هذا التعصب المالي في إنهيار هذه الحضارات.
تبنت الأمبراطورية الرومانية المسيحية كدين رسمي بعد ثلثمائة سنة من من تاريخ ذلك الدين الفلسطيني. يقول مايكل هدسون أن الأمبراطورية حينها واجهت معضلة دعوة السيد المسيح المدافعة عن المدينين الفقراء والذي يقف فيها المسيح ضد جشع الأغنياء بما في ذلك ضرورة إعفاء الديون صعبة السداد والتي ترهق الفقراء وتدمر المجتمع.
يقول مايكل هدسون أن الأمبراطورية الرومانية تجاوزت مشكلة السيد المسيح – أي صلبته مرة أخري علي قول باربرا ايرنرآيتش في مرحلتين. المرحلة الأولي نفذها القديس الداعشى سيريل الذي عاش في الأسكندرية ونفذ جنجويده إغتيال عالمة الرياضيات والفيزياء والفلسفة . وقد صور مشهد الإغتيال البربري لهيباتيا وسياقه يوسف زيدان في رواية عزازيل الرائعة.
أدعي سيريل الأسكندراني أن المسيح هو الله أو أبن الله وانه لا فرق بين الأب والإبن والروح القدس فكل ذلك الثالوث هو السيد المسيح. وهكذا بضربة واحدة حول القديس سيريل السيد المسيح من مصلح سياسي قاد ثورة إجتماعية ذات مخالب طبقية حادة إلي إله متعالي يترفع عن الدخول في وحل ومستنقعات الصراع الأجتماعي في قضايا تافهة مثل الديون – مع أنه واصل إهتمامه بما يحدث في غرف النوم وبالحياة الإنجابية للمؤمنين.
واكتمل إنقلاب الكنيسة ضد السيد المسيح مع جاء به القديس أوغسطين (وهو من الجزائر)، أحد أهم فلاسفة المسيحية – مع توما الإيغويني. فقد أفتي أوغسطين بان السيد المسيح قصد مساعدة الفقراء ليس بإعفاء الديون وإنما بالتبرع للكنيسة، بالذات الكنيسة التي تتفق معه وان كل من خالف ذلك يجب أن يقتل. وربما وضع القديس أوغسطين هنا بذور محاكم التفتيش.
واضاف القديس أوغسطين إن موعظة السيد المسيح على الجبل، المشورة، وعن الديون كانت تدعو أن يعفو الرب خطايانا لا أن يعفي الأثرياء ديونهم علينا. وأن ديوننا هي خطايانا في حق الرب وبالذات ما تعلق منها بغرف النوم. وهذه هي الديون الحقيقية التي قصدها السيد المسيح وليس ديوننا لجماعات نادي باريس.
هكذا أكتمل الإلتفاف علي المسيحية الأصلية المبكرة وإفراغها من الطاقة الثورية. كما تم تغيير معنى العبادة والتدين من موقف طبقي، إقتصادي، إجتماعي علي سنة سيدنا المسيح عليه السلام إلي قضية خلاص فردي وعتق من النار تدور دراماته ووساويسه داخل سجن الأنا النرجسي المهموم بقصوره الفردي – بالذات في بعده الإنجابي- وتجاوزاته الصغيرة حتي لو لم تضر إنسانا ولا حيوانا ولا شجرا.
توضح كتابات هدسون وقبله ديفيد غريبر الذي مات في ريعان شبابه – آليات صعود الأوليغارشيات الريعية منذ الحضارات القديمة إلي يومنا هذا وكيف أدي شرك الديون إلى تدمير الفلاحين والدول والحضارات قبل أن يخنق ثورة ديسمبر السودانية ويذهب بسيادة دول الجنوب الكوني. وابان مايكل أن إلغاء الديون التعسفية الصعبة بين حين واخر ضرورة تتجاوز البعد الأخلاقي إذ أن في ذلك شرط للحفاظ علي الحضارة والدولة وتوازن المجتمع وان جشع الأوليغارشيات الريعية مهدد وجودي للإنسانية.
كما تشرح أعمال هدسون كيف هيمنت الأيديولوجية المؤيدة للدائنين علي تنظير علوم الأقتصاد الرسمي بنفس الطريقة التي حرفت بها اللاهوت وأعادت إختراع السيد المسيح إلي أن تبناه الحزب الجمهوري الترمبى رسميا في أحد أكبر السرقات في التاريخ.
وقد أدرك هذا التحول المسيحي كورنيل ويست الذي يقول دائما بوجود مسيحية نبوية علي راسها عيسي عليه السلام وهناك مسيحية الأباطرة والمحاربين الإمبرياليين.
والعاقل يميز.
معتصم أقرع
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: السید المسیح فی ذلک
إقرأ أيضاً:
بسبب مشاكل الديون.. إدارة أولمبيك ليون تخطط لبيع بن رحمة
ستلجأ إدارة نادي أولمبيك ليون، إلى خطوة لتخفيف الديون التي أثقلت كاهلها مؤخراً، بعد أن أعلنت رابطة الدوري الفرنسي، الجمعة الماضي، بهبوط النادي مؤقتا إلى دوري الدرجة الثانية، بسبب مشاكل مالية.
وحسب ما كشفته صحيفة “ليكيب” الفرنسية، اليوم الخميس، فإن إدارة النادي أمام حتمية بيع العديد من اللاعبين خلال الميركاتو الشتوي القادم، وتقليص تعداد النادي من 29 لاعبا إلى 24.
وأوضح المصدر، أنه تم وضع قائمة باللاعبين القابلين للاستغناء عنهم أبرزهم: جيفت أوربان، وويلفريد زها، وسعيد بن رحمة، وإرنست نواماه، وماكسينس كاكيريه.
كما تأمل إدارة ليون في الاحتفاظ باثنين من لاعبيها الأغلى قسمة تسويقية وهما ماليك فوفانا وريان شرقي.
إضغط على الصورة لتحميل تطبيق النهار للإطلاع على كل الآخبار على البلاي ستور