شهدت فرنسا مساء الجمعة الماضي حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، ورغم الإعداد الضخم لهذا الحفل الذي يقام خارج أسوار الملعب لأول مرة في التاريخ، وما تضمنه من إضاءات، بمشاركة حوالي 10500 رياضي من أكثر من 200 دولة في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية الحديث. إضاءات حفل الافتتاح تجاوزت الفضاء الجماهيري المفتوح على ضفاف نهر السين وقوارب الفرق المشاركة، شخصية الفارس الغامض حامل الشعلة؛ حيث عبرت هذه الشخصية المقنعة الغامضة من أوسترليتز إلى برج إيفل وقفزت من سطح إلى سطح والشعلة الأولمبية في يدها، لتنسج خيطا بين المشاهد المختلفة التي اختارها المنظمون لرواية قصة التاريخ والثقافة الفرنسية، الفارس الذي أنجز مهمته أمام مدرجات تروكاديرو بتسليم الشعلة إلى أسطورة كرة القدم الفرنسية زين الدين زيدان أمام الرياضيين ورؤساء الدول، ثم اختفى إلى الأبد وبقيت هويته سرية حتى النهاية؛ رسالة مضمونها يتجاوز فكرة النجاح المبني على الفرد إلى النجاح الجماعي القائم على التتابع والتكامل بغض النظر عن شخوصه وهوياتهم حتى في تسليمها إلى الفرنسي من أصل عربي زين الدين زيدان في رسالة (قد لا تكون مقصودة) مضمونها أن النجاح الحقيقي يبنى على تقبل الآخر والقدرة على إدماجه لتحقيق نجاح مضاعف، وليس في إقصائه وتهميشه عبر إعلاء الذات الفردية ووهم فوقيتها.
العرض الضوئي المذهل على برج إيفل، وعودة سيلين ديون المطربة التي تعد واحدة من أشهر أيقونات العقود الماضية عبر «نشيد الحب» بعد أربع سنوات من الغياب؛ إذ تعاني سيلين ديون من متلازمة الشخص المتصلب، وهي حالة عصبية نادرة تسبب تشنجات وتيبس العضلات وحساسية متزايدة للمثيرات، مثل الصوت والأضواء، لكن باريس تعيدها بضوء مضاعف.
لم تكن تحديات حفل الافتتاح التاريخي متمثلة في خلل حركة القطارات فجر الجمعة ولا في خذلان توقعات الطقس مساءها وحسب، رغم أنه «حفل الافتتاح الأكثر رطوبة في تاريخ الألعاب الأولمبية الحديثة» فقنوات النقل التي فوجئت بحضور المطر لمساء الافتتاح ارتبكت رغم انقطاع المطر جزئيا بعد نصف ساعة من بداية الفقرات، لم تكن التحديات كذلك في علم الأولمبياد المقلوب ( كخطأ فادح) حسب توصيف بعض متابعي ونقاد تنظيم الحفل، لأن خطأ فادحا آخر غطّى على العلم المقلوب وشغل العالم بردود فعل عالمية كانت متحمسة لحفل الافتتاح التاريخي دون أن تضع في حسبانها مشهد عرض الافتتاح المتضمن محاكاة ساخرة للوحة «العشاء الأخير» للفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي، اللوحة الأشهر لشخصية نبي الله عيسى عليه السلام مع حواريه تحولت إلى مشهد غريب لمجموعة من الشواذ والأدهى أنها تتضمن طفلة في إشارة إلى البيدوفيليا في المشهد الساخر المستفز.
موجة من الغضب انتشرت في أنحاء كثيرة شملت المحافظين واليمينيين وحتى اليساريين الذين وجدوا في تلك اللوحة استفزازا لمشاعر المؤمنين حتى وإن كانوا هم أنفسهم ضد الكنيسة، نجد ذلك في تعليق النائبة في البرلمان الأوروبي الفرنسية اليمينية ماريون مارشال عبر حسابها على منصة إكس قائلة: «إلى جميع المسيحيين في العالم الذين يشاهدون حفل باريس 2024 وشعروا بالإهانة من محاكاة ساخرة، اعلموا أن فرنسا ليست هي التي تتحدث، لكن أقلية يسارية مستعدة لأي استفزاز» المبرر غير مقبول من ناحية تنظيمية احترافية، خاصة من فرنسا التي تدعي صدارتها في حقوق الإنسان وحماية المعتقد، الدولة التي ترعى حقوق الأقليات -زعما- وتنتصر للمهمشين أولى بحماية حق الاعتقاد والفكر للجميع خاصة في فعالية عالمية، جمهورها العالم بأكمله وليس فرنسا وحدها.
شن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، السبت، هجوما لاذعا جديدا انتقد فيه «ضعف الغرب وتفككه» كما قال أوربان «إنهم يتخلون تدريجياً عن الروابط الروحية والفكرية مع الخالق والوطن والأسرة، مما أدى إلى تدهور القيم الأخلاقية العامة في المجتمع، كما رأيتم إذا شاهدتم حفل افتتاح الأولمبياد أمس الجمعة»
حتى اليسار الفرنسي نفسه انتقد المشهد فالصحفي والسياسي اليساري الفرنسي جون لوك ميلانشون قال في مدونته «لم يعجبني الاستهزاء بقضية العشاء الأخير للمسيح وتلامذته، والتي تمثل أساس العبادة المسيحية، ولا أقصد هنا طبعا انتقاد من هم ضد الدين، هذا لا يهم الجميع، لكني أتساءل: ما فائدة جرح مشاعر المؤمنين؟ حتى إذا كنا ضد الكنيسة، فقد كان يجب الانتباه إلى أننا كنا نتحدث إلى العالم أجمع ذلك المساء».
حتى مع محاولة التبرير من قبل المنظمين بعد نشر حساب أولمبياد باريس على منصة إكس أن «العرض كان تفسيرا للإله اليوناني ديونيسوس، لجعلنا ندرك عبثية العنف بين البشر» فالهجوم على تنظيم حفل الافتتاح بتضمين هذا المشهد لم يهدأ بما تضمنه من دعوات لمقاطعة الأولمبياد، وسحب التغطيات الإعلامية مما دفع باللجنة المنظمة إلى سحب العرض الكامل لحفل الافتتاح (ربما في محاولة لحذف المشهد المستفز من الحفل لاحقا قبل توثيق الحفل).
ختاما: ما كان أحرى باريس العاصمة الفرنسية حاملة لواء الجمال والموضة والحريات أن تسمو بحفل الأولمبياد عن السخرية من المعتقد ومحاولة استفزاز الجموع المحافظة وليس المسيحيين فقط، فقد تصدى كثير من المسلمين وغيرهم لمشهد نبي الله عيسى عليه السلام مع حواريه، إذ لا يكتمل إيمان المسلم ما لم يؤمن بالرسل جميعهم، ما كان أحراها بتجاوز وهم الانتصار للشاذ المختلف في تطرف أعماها عن رؤية حقيقة إقصاء العام المختلف كذلك، ولن تؤتى العدالة ولا الحرية انتصارا لطرف بتهميش الآخرين والنيل من معتقداتهم وأفكارهم وإيمانهم، ولو أنها قصدت ذلك لما أغفلت صراعا مسلحا وقتلا واضحا وتهجيرا متعمدا دون حتى مجرد الإشارة إليه واحتفت بما تراه وحدها أولية ينبغي للعالم الانشغال بها، لا نملك هنا إلا استحضار بيت المتنبي:
ولم أر في عيوب الناس شيئا
كنقص القادرين على التمام
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حفل الافتتاح
إقرأ أيضاً:
المشهد السوري اليوم!
سند الصيادي
سألت صديق سوري عن ما يحدث في محافظات الساحل السوري، فأجابني بغصة كبيرة بالقول: خدعوك فقالوا عنهم فلول نظام بائد تمردوا على النظام الجديد، إنهم مدنيون يشكلون مكوناً أصيلاً من شعب يتعرض للانتهاكات والاستهداف والحقد الممنهج، كانوا قد خرجوا فرحًا واستبشاراً بسقوط النظام السابق كما غيرهم من بقية مكونات المجتمع السوري، وتفاءلوا خيرًا بالنظام الجديد، غير أنهم أخطأوا التقدير، فالنظام الجديد ليس إلَّا جماعة دموية مشحونة بالتعصب الطائفي والعِرقي، مدربة على القتل والإذلال والامتهان، حرص الإعلام أن يجمل صورهم على الشاشات، فيما عصاباتهم ترك لها العقال لتعبث في نسيج هذا الشعب المسالم، لم يكن قرار العفو والتسامح إلَّا إيذانًا ببدء التصفيات وغطاء لما يرتكب من جرائم حرصت العدسات أَلَّا تسلط الضوء عليها، كما قال صديقي الإعلامي السوري.
المشهد الحاصل في سوريا اليوم، احتلال صهيوني يتوسع وَعدوان جوي مفتوح بنك أهدافه حيثما وَوقتما أراد أن يقصف ويدمّـر وَيقوض ما بقي لهذه الدولة من مقومات، ونظام نال اعتراف العالم يقدم خطاباً لينًا تجاه ما يجري من عدوان واحتلال، تجده مشغولاً بقطع أرزاق جزء كبير من شعبه، والتحريض عليهم والتنكيل بهم بأدوات من مختلف مسوخ وأجناس الأرض، الضحايا بالآلاف والقائمة لا تزال مفتوحة، في ظل هالة إعلامية متوازية مع هذا الواقع تصف الضحايا بكونهم مجرمين يستحقون القتل.. بل ويُنادى على المآذن للجهاد عليهم دون سواهم!
سيلعن الله والتاريخ كُـلّ قلم ومنبر ديني أَو إعلامي عربي إسلامي أخفى أَو تغاضى عمدًا بدوافع وأحقاد، عَمَّا يحدث من جرائمَ مشهودة بحق الإنسانية -أيًّا كان لونها أَو عرقها أَو نهجها- في أي بلد من بلدان الأُمَّــة.
نحن في زمن مخيف باتت فيه الضمائر محيدة وميتة بفعل النزوات والمناكفات، هذا الصراع غيب المبادئ والأخلاقيات لدى الكثير، وتجلت فيه سنن الله في الأرض، كأَسَاس للتمحيص والتمييز.
أما نحن في الحالة اليمنية، إذَا لم نع لحجم الخطر الذي يتربص بنا وعززنا عوامل قوتنا وطاعاتنا وتسليمنا لقيادتنا الحكيمة، سنجد أنفسنا ذات يوم رهينة لمسوخ بشرية يركبون على ظهورنا ويجبرونا على ممارسة العواء كالكلاب، قبل أن يمطروا أجسادنا بالرصاص فرادى وجماعات، كما يحدث الآن في سورية.
لن نترك السلاح.. حتى لا نسبى كالأنعام، جعل الله رمضان رحمة ومغفرة ونصراً مؤزراً..