لجريدة عمان:
2025-12-08@03:20:08 GMT

السلطان قابوس وتفاصيله

تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT

بزغ فجر 23 يوليو 1970 وبزغ معه فجر جديد على عُمان ونهضت فيه عُمان قاطبة بتولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، فكان يوم النهضة بامتياز، اليوم الذي «تحطمت فيه أصفاد وأزيح ظلام بل ظلمات وتهادت ألوان المجد فيه، صافحنا الفجر بأجفان ورفعنا الأعناق صعادا - قابوس للمجد تبادى فابنوا معه الأمجادا يا أبناء عمان الأجواد».

كما جاء في نشيد صوت النهضة للمرحوم عبدالله الطائي.

«رحم الله السلطان قابوس كان على حق» عبارة يرددها العمانيون عندما تلوح في الأفق مناسبة أو حدث كان للسلطان الراحل رأي فيه. عندما أستمع لتلك العبارة أسترجع عبارة أخرى قالها السلطان الراحل وظلت حاضرة بقوة تؤرق ذاكرتي وكنت أرددها على لساني حتى دون وعي بدلالتها.

كان ذلك في بداية السبعينيات وكنت صغيرا، عندما سمعت السلطان يقول (إن الأيام في حياة شعبنا لا تقاس بوحدات الزمن). في الحقيقة سمعتها أول مرة في الإذاعة العُمانية وعلى ما أعتقد كانت تستخدم كمقدمة لبرنامج كان يذاع. ظل السؤال عالقا في ذهني، أريد أن أعرف حكاية وحدات الزمن وما هي القياسات التي أرادها السلطان قابوس لقياس الأيام في حياة الشعب العُماني؟ أهي أرقام كالتي نتعلمها في المدارس أم هي معادلات رقمية أو عمليات حسابية؟ وكانت الإجابة على هذا السؤال تأخذني إلى أقاصي ومتاهات وأروقة بعيدة، لا أدري أبعد فلسفي يكمن خلف تلك الكلمات أم شيء آخر. لاحقا عرفت، كان ذلك في 18 نوفمبر 1974 والعبارة وردت في خطاب جلالته في العيد الوطني الرابع. وأدركت ساعتها أن وحدات الزمن التي يقصدها السلطان هي مقاسات وأوزان وضعها السلطان ببعده الفلسفي ويعني بها تلك الآفاق التي تُفتح والأفكار الملهمة التي تحول الآمال إلى واقع حي ليأخذ الشعب العُماني مكانه بين طلائع الشعوب السائرة من أجل التقدم والسلام والرخاء.

لا تزال صورة ذلك الشاب الثلاثيني يجوب ببدلته العسكرية سهول عُمان، تشاهده مرة على قمة جبل أو يقود سيارته في أحد البراري أو تراه في حضرة مجموعة من المواطنين أو يفاجئ بدخوله إحدى المؤسسات، شاب مفعم بالنشاط يتدفق حيوية وطموحا. وكان ذلك في بداية السبعينيات وهو في خضم معركة البناء يجوب أرض عُمان، أراد أن يبني وفق أساس قوي ومتين، وكان ذلك الأساس كما ورد في خطابه «كان إلزامًا علينا أن نبتدئ من الأساس ومن واقعنا» وكان يقصد بالأساس هو الشعب العُماني وقد اختار أن يسلك أصعب السبل ليُخرج ذلك الشعب من عزلته ويأخذ بيده إلى طريق العزة والكرامة، كما قال، وفي الوقت نفسه تحمَّلنا مسؤولية حمايته من التمزّق، والضياع، وإحياء حضارته، واستعادة أمجاده، وربطه ربطًا وثيقًا بالأرض ليشعر بعمق الوطنية، ومدى التجاذب بين الإنسان العُماني وأرض عُمان الطيبة. لا أجد في ذلك غرابة أو تعجب، فقد كانت للسلطان ميزات وصفات تتحلى بها شخصيته.

جانب آخر من شخصية السلطان قابوس. يُعرف عن السلطان بأنه ملهم في التفاصيل الصغيرة ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وتوقف عندها. كان سلطان وملك التفاصيل بامتياز. ربما كان حدسه قاده إلى أن الكثير من الأشياء كانت آيلة للزوال والاندثار والضياع، فعمل جاهدا على بث الروح فيها من جديد. أحيا أشياء كثيرة وأعاد لها رونقها وتجليها. فعملية البناء التي قادها وكانت عمان ليست «على الصفر» كما يقال، بل كانت «على السالب» فلم يشغله بناء عمان وإقامة صرحها ونظر إلى كل الأمور عظيمها وصغيرها. التفاصيل الصغيرة التي آمن بأهميتها وقوتها ومقدرتها على نسف والإطاحة بالأشياء الكبيرة فإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر فإن ذلك الشرر الصغير هو ما ينبغي الالتفات له والالتفاف عليه حتى لا يستفحل ويأخذ مداه في اتساع الخرق. وما كان ينبغي لها أن تترك.

ومن تلك الأشياء التي التفت إليها السلطان قابوس ودافع عنها بكل قوة هي الهُوية العمانية وكيف استطاع أن يرسخ مفهومها وخصوصيتها ومميزاتها وتمكن وبجدارة أن يغرس في نفوس العمانيين ليس حب الوطن فقط، ولكن حب تلك التفاصيل الصغيرة التي أماط اللثام عنها. تجلى ذلك من خلال العديد من مظاهر حفظ الهوية ومنها المحافظة على الزي الوطني والخنجر العماني وألزم الموظفين بزي وطني «دشداشة بيضاء اللون وعمامة»، في المناسبات خنجر وبشت. وأوجد بروتوكولات خاصة يطلق عليها البروتوكولات السلطانية ورسخها وضبط إيقاعها وأصبحت هوية سلطانية خاصة يمتاز بها السلاطين ومؤسسة الحكم. وكان محبا للموسيقى والفنون فأنشأ دار الأوبرا السلطانية وهي أول دار أوبرا في الخليج العربي وإذاعة خاصة تبث موسيقى كلاسيكية تعمل على مدار الساعة، واهتم بالتراث وأنشأ أول وزارة تعنى بالتراث فأسدى توجيهاته في وضع خطط استراتيجية بالنهوض بالتراث والثقافة العُمانية فعمل على طباعة الكتب والمخطوطات العمانية والاهتمام بالمباني الأثرية كالقلاع والحصون، وفي هذه المناسبة أتذكر كيف جالت فرق في بداية السبعينيات أرجاء عُمان بحثا عن المخطوطات والكتب والكنوز العُمانية. وكان مولعا بالبيئة والمحافظة عليها، وأنشأ جائزة السلطان قابوس لصون البيئة، وأطلق محمية جدة الحراسيس لحفظ حيوان المها العربي. كان همه عُمان وإعادة أمجادها وكانت له وقفات مهمة ومثرية في تفاصيل صغيرة جدا ربما لا تخطر على بال الإنسان العادي فما بالك بحاكم.

السمت العُماني من الأشياء التي حافظ عليها السلطان ورسخها وهي منظومة من الأخلاق والعادات والتقاليد المتوارثة والتي لا يحيل عنها العُمانيون ويحرصون عليها، وهي جزء من الهوية المترسخة الجذور. تحلى السلطان بهيبة عسكرية وقوة ضبط وربط، فقد كان الرجل عسكريا بمعنى الكلمة، تشرّب أبجدياتها، ملهمًا بتفاصيلها، جادًا، حازمًا وانعكست حتى على حياته الخاصة، يتجلى ذلك في طريقته في الكلام وحديثه مع زواره وابتسامته وإنصاته باهتمام لمحدثيه، وتلك الكاريزما والجلادة والصبر وقوة الشكيمة. لكن أشد ما يميزه تلك الجلسة التي يتفرد بها، وهنا أستذكر ما قاله الدكتور صالح الفهدي بأنه سأل ذات يوم أحد المسؤولين السابقين عن سر تلك الجلسة التي تميز بها السلطان إذ إن لديه القدرة على الجلوس بوضعية واحدة دون أن يغيرها ولا يستطيع أحد مجاراته في ذلك، وينقل الدكتور صالح عن ذلك المسؤول قوله «بأنه سأل السيدة ميزون والدة السلطان الراحل -طيب الله ثراهما ورحمهما- فقالت له «كان والده السلطان سعيد بن تيمور يعوّده على ذلك ورباه على الجلادة والتّحمّل، إذ كان يجلسه وهو طفل على أرضية القصر لساعات طويلة دون أن يسمح له بتغيير جلسته، وكان أيضًا يرسله إلى مجالس التقاضي ويجلس هناك لساعات دون أن يتكلم، فقط ليتعوّد على الجلسة وآدابها». ما يدهشني في شخصية السلطان هو قراءته الواقع والمشهد بشكل مغاير ومختلف ولديه حصافة في استشراف المستقبل وبعد نظر، ما يذهلك في الرجل الذي رحل في العاشر من يناير 2020م هو ذكاؤه والحذاقة التي تميزه، وقدرته على ضبط إيقاع السياسة ودوزنة أوتارها، لديه ملكة عجيبة في الوصول بالأشياء إلى حافة الهاوية، لا يتدخل إلا بعد أن تصل الأشياء إلى مداها ورمقها الأخير ساعتها فقط تجده وقد وقف وغيّر الاتجاه كما ربان السفينة الماهر يقود سفينته في خضم تضارب الأمواج والعواصف وبكل أريحية وهدوء يوصلها إلى بر الأمان. تثبت بعض الحوادث عمق نظرة السلطان ومواقفه وقراراته بشأنها، وقد نتعجب من تلك الصلابة في الموقف وكأنه يرى ما لا يراه الآخرون، بل يبدو أمامه ماثلا قريبا. كان بحق سيد الحياد، يقف بين بين، لا يتأذى من موقفه أحد، وكأن نهجه في ذلك الحفاظ على شعرة معاوية. رحل السلطان قابوس الذي مرت قبل أيام ذكرى توليه مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو ولكن تفاصيله الصغيرة والمحببة ما زالت باقية ولا ترحل.

بدر الشيدي قاص وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السلطان قابوس الع مانی کان ذلک ذلک فی

إقرأ أيضاً:

أزرق المايا: لغز الصبغة التي أُعيد ابتكارها بعد قرنين من ضياعها

دزان-المكسيك – محاطًا بغابة كثيفة وتحت ظلال متداخلة لأشجار شاهقة، يشق لويس ماي كو، البالغ من العمر 49 عامًا، طريقه بصعوبة عبر شجيرات تصل إلى ارتفاع الكتف بحثًا عن نبتة نادرة. حرارة الـ40 درجة المئوية الخانقة تضعف الحواس، والهواء المشبع بالرطوبة يلتصق بجلدنا، فتتشكل حبات العرق وتتساقط.

بعد تمشيط الأحراش، يعثر ماي، وهو خزّاف من السكان الأصليين للمايا، على شجيرة تشبه في شكلها وملمسها شجيرات أخرى حوله، لكنه يصر على أن هذه الشجيرة مميزة. يلمس الأوراق الناعمة المترامية الأطراف ويخبرني أنها "تشوج" البرية (ch’oj، "نبتة النيلة" بلغة المايا، وanil بالإسبانية) -أو Indigofera suffruticosa- وهي مكون أساسي لابتكار صبغة "أزرق المايا" المبجلة.

يقول ماي بنظرة تأملية، وهو يرفع قبعته المصنوعة من سعف نخيل "اللوانو" المتشابك ليمسح جبينه بظهر يده: "لقد استغرق الأمر سنوات قبل أن أجدها (النيلة) وكان معظم الناس من يوكاتان يعتقدون أنها انقرضت في شبه الجزيرة".

أقول له بلغتي المايانية المحدودة ونحن نقرفص خلف شجيرة "تشوج" التي يبلغ ارتفاعها مترا ونصف المتر هربًا من الشمس الحارقة التي لا هوادة فيها: "تشوكوج (حار)". يلتفت إليّ بعينين طيبتين ويقدم لي الماء من زجاجته.

يقول: "إن شبه جزيرة يوكاتان تمر بأسوأ موجة جفاف منذ عقود. فلنرتح، وسأخبرك كيف أعدت ابتكار أزرق المايا".

بئر الماء المقدس في تشيتشن إيتزا، يوكاتان يستخدمها المايا في الاحتفالات الدينية من ضمنها التضحيات البشرية (غيتي)أزرق المايا: لون الطقوس

يشبه لون الصبغة الأيقونية سماءً زرقاء صافية أو لون الفيروز في البحر الكاريبي القريب. كان يُستخدم في طلاء الفخار والمنحوتات والجداريات والمجوهرات والملابس والمذابح، وبشكل تقشعر له الأبدان، البشر الذين قدمهم المايا القدماء لآلهتهم طلبًا لرضاهم. وفقًا للراهب الفرنسيسكاني الإسباني دييغو دي لاندا كالديرون -الذي اشتهر بحماسته في تدمير مخطوطات المايا- كان المايا يطلون البشر قبل إجبارهم على مذبح وقطع قلوبهم النابضة.

إعلان

الضحايا الآخرون، الذين أُلقي بهم في "سينوتي تشينكو" أو "البئر المقدس" (السينوتي هي كهوف جيرية مترابطة ومغمورة بالمياه) في تشيتشن إيتزا، كانوا مغطين باللون الأزرق بالمثل. كانت السماء الصافية أثناء الجفاف إشارة للكهنة لاختيار ضحيتهم التالية وطلائها باللون نفسه للتضحية بها لإله المطر "تشاك"، الذي يُعتقد أنه يعيش في "شيبالبا" (العالم السفلي للمايا) تحت "السينوتي". كان الكهنة يأملون أن يجلب ذلك المطر ليضمنوا حصادًا وفيرًا لمحاصيلهم.

عندما قام عالم الآثار الأميركي إدوارد هربرت تومسون بتجريف البئر المقدسة في أوائل القرن الـ20، تم انتشال 127 هيكلاً عظميًا، من بين أشياء أخرى. كما وجد عدة أمتار من الطمي الأزرق، الذي تشير الدراسات اللاحقة إلى أنه كان "أزرق المايا" الذي تلاشى عن الزخارف وضحايا القرابين.

لا يزال من الممكن رؤية اللون الأزرق السماوي الفاتح بين الأنقاض في الموقع الأثري المشهور عالميًا "تشيتشن إيتزا" في يوكاتان على جداريات يزيد عمرها عن 800 عام.

لم تبتكر الحضارات القديمة سوى حفنة من الأصباغ الزرقاء، مثل اللازورد أو الأزرق المصري. ومع ذلك، كانت هذه في الغالب أصباغًا أو معادن، بينما تطلب "أزرق المايا" مزيجًا كيميائيًا من مواد عضوية وغير عضوية. قبل وصول النسخ الاصطناعية من الصبغة الزرقاء خلال الثورة الصناعية، كان اللون نادرًا للغاية وغالبًا ما يكون أغلى من الذهب في أوروبا. نشأ حجر اللازورد شبه الكريم في جبال أفغانستان ولم يكن متاحًا إلا للأثرياء. لكن في العالم الجديد، كانت الصبغة الزرقاء وفيرة ومزدهرة.

عندما وصل الإسبان في القرن الـ15، استغلوا "أزرق المايا"، إلى جانب كل الكنوز التي سرقوها من حضارات أميركا الوسطى. سيطر الإسبان على الملوّن الثمين حتى أواخر القرن الـ17 إلى أوائل القرن الـ18 عندما بدأت البدائل الاصطناعية في الظهور. ثم اختفت المعرفة الشائعة بـ"أزرق المايا" حتى أعيد اكتشافها في القرن الـ20.

يضع لويس ماي كو يده الملطخة باللون الأزرق أسفل قناع وجه ثلاثي الجوانب، مزين بأوراق النخيل المجففة ومطلي باللون الأزرق الماياني الذي نحته بنفسه (الجزيرة)أعجوبة تقنية وفنية

في عام 1931، عثر عالم الآثار الأميركي إتش إي ميروين لأول مرة على "صبغة جديدة" على جداريات داخل معبد المحاربين في تشيتشن إيتزا. أُطلق عليها اسم "أزرق المايا" بعد بضع سنوات (1942) من قبل عالمي الآثار الأميركيين آر جيه غيتنز وجي إل ستاوت. توقفت الأبحاث خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يتم الكشف عن أن صبغة "أزرق المايا" قد صُنعت عن طريق خلط الطين، والباليجورسكيت (طين ليفي نادر)، والنيلة إلا في الخمسينيات من القرن الماضي من خلال تحليل حيود المسحوق. وفي عام 1993، نشر المؤرخ والكيميائي المكسيكي كونستانتينو رييس فاليريو وصفة لإعادة ابتكار اللون باستخدام الباليجورسكيت والمونتموريلونيت (طين ناعم) وأوراق النيلة.

يقدّر العلماء المعاصرون هذه الصبغة الغامضة لأن مرونتها الفريدة في مواجهة العوامل الجوية قد حافظت عليها في حالة شبه مثالية على الجداريات والتحف والمخطوطات التي تعود إلى عصور ما قبل الكولومبية، حتى بعد ألف عام.

إعلان

تقول ماريا لويزا فاسكيز دي أغريدوس-باسكوال، أستاذة تاريخ الفن في جامعة فالنسيا بإسبانيا: "لقد حظيت الصبغة باهتمام كبير بسبب طبيعتها الغريبة كمادة هجينة عضوية وغير عضوية، ولوحة ألوانها المميزة، التي تتراوح من الفيروزي الفاتح إلى الأزرق المخضر الداكن، ومقاومتها الهائلة لهجوم الأحماض والقلويات والكواشف العضوية والتدهور البيولوجي". وتقول إن الخصائص المذكورة أعلاه تجعل "أزرق المايا" أحد أهم الإنجازات التقنية والفنية لحضارة المايا.

وتضيف فاسكيز أنه رغم تحديد "أزرق المايا" كصبغة جديدة في عام 1931، فإن الأمر استغرق وقتًا طويلاً حتى فهم العلماء تركيبته، ولا تزال الدراسات مستمرة.

وتقول لي: "لم يكن الأمر سهلاً لأنه كان صبغة هجينة، بين العضوي وغير العضوي، وكشف المكونات العضوية معقد"، مشيرة إلى التحسينات في التحليل الكروماتوغرافي (فصل الألوان) وغيره من التحليلات العلمية للمكونات التي سمحت لها ولفريقها بتحديد تركيبة "أزرق المايا" بشكل أكبر. حدد بحثها أن العملية الكيميائية المعقدة لابتكار الصبغة نتج عنها لونان متميزان: "الإنديغوتين" و"الديهيدروإنديغو".

تقول فاسكيز: "تطلب ‘أزرق المايا’ طريقة معقدة لتصنيع مزيج من مواد وعناصر مختلفة، مثل استخلاص الصبغة من نبات ‘تشوج’ قبل ترسيبها على طين خاص يسمى الباليجورسكيت". وتضيف: "يثبت ‘الإنديغوتين’ المستخرج من النيلة الذي يلتصق بالطين عن طريق تسخينه في فرن، مما ينتج لونا ثانيًا يسمى ‘الديهيدروإنديغو’، وهو ما يصنع ‘أزرق المايا'".

وفقًا لفاسكيز، يستفيد المجتمع العلمي بشكل كبير من الشعوب الأصلية التي "تحافظ على المعرفة المتوارثة عن الأجداد".

وتقول: "إنهم حراس كل هذه التقاليد المتعلقة بأسلافهم، ومن الضروري المساعدة في التطور العلمي. إنه اتصال بين الماضي والحاضر. هذه التقاليد القديمة مهمة، وآمل ألا تضيع".

يد ماي، مطلية باللون الأزرق المايا، أمام فرن النار الذي يستخدمه لتسخين التركيبة التي تنتج الصبغة (الجزيرة)"لؤلؤة الجنوب": حيث بدأت الرحلة

وُلد ماي في دزان، وهي قرية يبلغ عدد سكانها 6 آلاف نسمة في الجزء الغربي من يوكاتان على بعد حوالي 100 كيلومتر جنوب عاصمة الولاية، ميريدا. معظم شبه الجزيرة مسطح ومليء بـ "السينوتي" التي تشكلت في أعقاب النيزك الكارثي الذي قضى على الديناصورات. ومع ذلك، في بلدية تيكول، التي تضم دزان، ترتفع الأرض إلى حد ما، مما يفسح المجال لمنطقة "بوك" (التلال بلغة المايا)، التي كانت مأهولة منذ حوالي القرن السابع قبل الميلاد.

تنتشر في المنطقة العديد من مدن المايا المهمة التي تعود إلى عصور ما قبل الكولومبية، مثل موقع "أوكسمال" للتراث العالمي، وهي مدينة مايانية قديمة ذات هندسة معمارية جميلة على طراز "بوك". تتميز المباني في الأنقاض بجدران رأسية ناعمة مع سمات مثل الأعمدة، والإفريزات المتقنة، والأقنعة المزخرفة، والثعابين المنحنية، التي تمثل في الغالب إله المطر "تشاك"، وإله الثعبان ذي الريش "كوكولكان"، على التوالي.

لا تزال المنطقة مشهورة اليوم بسبب جودة الفخار والمنحوتات الطينية العالية، وخاصة مدينة تيكول، الملقبة بـ"لؤلؤة الجنوب"، على بعد 5 كيلومترات من دزان. المنطقة هي أيضًا مصدر للباليجورسكيت الموجود في الكهوف، الذي يستخدمه بعض الخزافين لطحنه وخلطه مع أنواع أخرى من الطين لجعل الفخار أكثر متانة. هنا، صقل ماي مهاراته في صناعة الخزف كطالب بين بعض أشهر الحرفيين في المكسيك، وبدأ في نهاية المطاف رحلته لإعادة ابتكار "أزرق المايا".

يقول وهو ينقر بإصبعه على صدغه: "حلمت بالعمل كما فعل أسلافي بالطين والأصباغ الطبيعية". يذكرني بأنه، مثل معظم الناس في قريته، لغته الأم هي المايا، ويؤكد أنه فخور بالعمل مثل أسلافه في ابتكار "أزرق المايا".

إعلان

كان ماي في الـ17 من عمره عندما بدأ في نحت الخشب أثناء دراسته لثقافة المايا في جامعة يوكاتان المستقلة، مستلهمًا من هندسة المايا المعمارية حول منطقته. كان شغفه هو تجسيد الوجوه ذات الملامح المايانية المميزة. بعد حوالي 20 عامًا، سار على خطى خزافي تيكول وبدأ النحت بالطين وتعلم من الخزافين الآخرين تزيين الفخار بأصباغ عضوية مثل الأحمر والأبيض.

ومع ذلك، أثار فضوله أيضًا معرفة أنهم استخدموا أصباغًا اصطناعية، مثل الأزرق. في زيارة لأطلال المايا في بونامباك، تشياباس، أسرته جداريات مطلية بلون فيروزي جميل. اكتشف ماي أن الصبغة الزرقاء السماوية كانت مقدسة لدى أسلافه وتستخدم أثناء الطقوس. بعد استجواب زملائه أكثر، علم أن المعرفة اللازمة لابتكار هذا اللون في شكله التقليدي قد فُقدت في يوكاتان، مما قاده نحو طريق إعادة اكتشاف التقنيات القديمة.

ربما كانت الجداريات الشهيرة في بونامباك بولاية تشياباس في المكسيك هي الوصف الأكثر بلاغة ووضوحًا لطقوس المايا (غيتي)فك شفرة الأزرق

في البداية، قرأ أي كتب ومخطوطات إسبانية قديمة يمكنه العثور عليها وتعلم بعض العلوم وراء إعادة ابتكار "أزرق المايا". ومع ذلك، فإن معظم الأبحاث حول الصبغة مكتوبة باللغة الإنجليزية، التي لا يتحدثها. في عام 2018، بدأ ماي السفر في جميع أنحاء الولاية بحثًا عن معلومات، بما في ذلك الاسم الماياني للنيلة. بعد حوالي 3 سنوات، عندما كان يتحدث مع شيوخ القرية، وجد دليلا.

يقول: "كل المعرفة بنبات ‘تشوج’ قد انتقلت عبر الأجيال كنبات طبي أو لتبييض الملابس، لكن استخدامه في يوكاتان كصبغة، على ما يبدو، ضاع إلى الأبد". علم ماي من أحد كبار السن أن النيلة كانت تُترك في حوض من الماء طوال الليل، ثم تُحرّك قبل أن تُقلّب الملابس المتسخة في الماء لفترة قصيرة لتبييضها. وإذا تُركت لفترة طويلة في الخليط، فإنها تتحول إلى اللون الأزرق.

يتذكر ماي شعور "كيماك أول" (السعادة) الحقيقي عندما كشف له الشيخ أن الاسم الماياني لنبتة النيلة هو "تشوج".

سمح له ذلك بجمع معلومات من شيوخ القرية الناطقين بلغة المايا الذين يمكنهم توجيهه في الاتجاه الصحيح. اتضح أن المكون الرئيسي لـ"أزرق المايا" كان تحت أنفه تمامًا.

في ذلك الوقت، عمل ماي مدرسا في مدرسة ابتدائية في المركز الثقافي البلدي في كوبا، كوينتانا رو. تذكر أن طلابه كانوا يستخدمون الشجيرات كقوائم مرمى لألعاب كرة القدم في الحديقة الخلفية للمركز. أدرك أن تلك الشجيرات كانت نباتات النيلة.

طلب من الحارس وصديقه المقرب، دون غوستينو، مساعدته في "إنقاذ" النباتات. كان غوستينو، الذي يقول ماي إنه يستخدم أوراق النبات للطب التقليدي لعلاج آلام المعدة الشديدة، سعيدًا بتسييج الشجيرات لحمايتها.

جمع ماي بذور "تشوج" وزرعها، وزرع 30 شجيرة أخرى في قطعة أرض قريبة استعارها من المركز الثقافي. في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بمساعدة العديد من المساعدين من كوبا، أعد خليطه من "تشوج" وطين الباليجورسكيت في حوض خرساني كبير مملوء بالماء. في البداية، لم تطفُ سوى رغوة بيضاء على السطح، ولكن بعد تحريك الخليط لمدة ساعة، بدأ الماء يتحول إلى اللون الأزرق، مما أثار هتافات من المجموعة. ومع ذلك، رأى ماي أن اللون لا يزال باهتًا جدًا ويحتاج إلى مزيد من التنقية لتحقيق "أزرق المايا" الأصيل.

يقول: "في كوبا، تمكنا من استخلاص صبغة زرقاء من النبات، لكن في مختبري (غرفة احتياطية حولها لاختبار خلطاته) في منزلي في دزان وباستخدام فرن طيني بنيته، مشابه للأفران التقليدية في تيكول التي يستخدمها الخزافون، وجدت القطعة المفقودة".

"لقد جربت إضافات طبيعية مختلفة. حاولت تجميد ‘تشوج’، وتركه يتحلل. استغرق الأمر العديد من المحاولات الفاشلة قبل أن أفك الشفرة أخيرًا". ولكن بعد ذلك جاءت اللحظة التي شاهد فيها ماي اللون يتحول من الأزرق الناعم إلى الفيروزي النابض بالحياة. كرر العملية وأنتج اللون نفسه في كل مرة. لقد نجح في إعادة ابتكار اللون المراوغ.

يحمل شهر مايو/أيار المنتج النهائي المسحوق من صبغة المايا الزرقاء (الجزيرة)الاعتراف العلمي

في التاسع من يناير/كانون الأول 2023، أعلن ماي على وسائل التواصل الاجتماعي أن باحثين في إيطاليا والمكسيك قد صادقوا على تركيبته. كانت هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها العالم "أزرق المايا" المصنوع بالطرق التقليدية في يوكاتان منذ ما يقرب من قرنين.

إعلان

أرسل له ديفيد بوتي، الباحث في معهد علوم التراث التابع للمجلس الوطني للبحوث في بيروجيا بإيطاليا، ورودولفو بالومينو ميرينو، أستاذ الفيزياء والرياضيات في جامعة بويبلا المستقلة في المكسيك، ملفات رقمية تحتوي على تفاصيل علمية لتحليلاتهم.

جاء عمل ميرينو أولاً في أغسطس/آب 2022، باحتمال 95% أن تركيبة ماي أصلية. في عام 2023، تحقق تحليل بوتي من أنها "أزرق المايا" بنسبة 100%. وأكدت كلتا المؤسستين الأكاديميتين أن عيناته، التي تحتوي على الباليجورسكيت وكربونات الكالسيوم والنيلة، تسببت في "تداخل بين جزيئات النيلة" -وهو تفاعل كيميائي- مما أدى إلى "أزرق المايا" أصيل.

يقول ماي: "كنت في قمة السعادة. استخدم أسلافي ‘أزرق المايا’ حصريًا في الممارسات الاحتفالية، وحتى ذلك الحين، كان بكميات محدودة. لقد كان لون الآلهة، ولم يُسمح إلا للنخبة باستخدامه".

ويضيف: "عندما كنت طفلاً، علمني أبي وجدي أن العمل الجاد والمستمر يؤتي ثماره. عدم الاستسلام أبدًا وبذل قصارى جهدك، حتى لو لم تنجح، هي قيم مايانية نموذجية".

لصنع "أزرق المايا"، يضع ماي أوراق "تشوج" في ماء قلوي باستخدام الجير أو الرماد لمدة 24 ساعة في حوض خرساني في منزله. ثم يتم تصفية الخليط ووضع طين الباليجورسكيت، الذي يتم جمعه من الكهوف القريبة، في قاع الحوض لامتصاص الصبغة. بعد خبز الطين الأزرق الناتج في فرن عند حوالي 250 درجة مئوية، يتم طحنه إلى مسحوق ناعم ووضعه داخل قنينة صغيرة، جاهزة للبيع.

في عام 2021، بدأ ماي بيع منتجه "أزرق المايا" تجاريًا للفنانين والشركات. ثم، في أواخر عام 2023، انتقل من كوبا إلى دزان ليكون أقرب إلى عائلته وحول "الميلبا" (المزرعة) العائلية إلى مزرعة أكبر لـ"تشوج". ينتج الحصاد الجيد ما يقرب من 10 كيلوغرامات من الصبغة سنويا.

يجلس ماي القرفصاء بجوار نباتات صغيرة من نبات النيلة (تشوج) في مزرعته في دزان، يوكاتان، المكسيك (الجزيرة)إلهام الأجيال القادمة

مع تلاشي شمس وقت متأخر من بعد الظهر، نسير بضع مئات من الأمتار نحو مزرعة ماي. يشير إلى 3 شبان مشغولين بقطع الأعشاب الضارة بمناجل حادة. يقول إن "تشوج" هش ويعاني من المنافسة ضد الأنواع الأخرى التي تنمو بسرعة أكبر، وتحجب ضوء الشمس وتستحوذ على معظم مياه الأمطار. لهذا السبب يخلق العمال مساحة لـ"تشوج"، التي يمكن أن يصل ارتفاعها إلى أكثر من مترين، لتنمو دون عائق، تنمو الأعشاب الضارة بسرعة في غابة يوكاتان خلال موسم الأمطار (من يونيو/حزيران حتى أواخر أكتوبر/تشرين الأول).

الطالب الجامعي بنجامين تينريرو بوت، 23 عامًا، من إل نارانخال، كوينتانا رو، هو أحد هؤلاء العمال. يقول بحماس، آخذًا استراحة ويضع منجله على ركبته: "يمثل ‘أزرق المايا’ جذوري، ويسعدني أن أشارك في مشروع يكرم تراث المايا".

كان يعاني من صعوبة في دفع تكاليف دراساته في مجال السياحة البديلة في جامعة المايا متعددة الثقافات في كوينتانا رو عندما اقترح عليه أستاذه، غييرمو تالافيرا، مشروع ماي. يبتسم بوت وهو يلتفت نحو ماي، ويقول إن هدفه بعد التخرج هو الترويج لـ"أزرق المايا". "أعتقد أنه من المهم أن يكون الناس من جميع أنحاء العالم على دراية بهذه الصبغة المذهلة وتاريخها".

يحاول ماي إخفاء فخره، قائلاً إن هدفه هو إلهام الأجيال الشابة للحفاظ على تراث المايا.

يقف ماي بجانب نباتات تشوج البرية الناضجة التي اكتشفها قرب مزرعته في دزان (الجزيرة)الفخر الثقافي للمايا

عندما نعود إلى دزان في وقت لاحق من اليوم، يتوقف ماي في متجر صغير لزيارة صديقة للعائلة، كاتالينا كانكوب هاب، التي نحت وجهها في عام 2018 باستخدام صبغة "أزرق المايا".

أنحني برأسي لأدخل من باب صغير، وتقترب منا امرأة ترتدي "هويبل" (لباس تقليدي أبيض مطرز بتصميم زهري ملون). يطلب ماي رؤية التمثال الذي صنعه لها. تشير إلى ما فوق خزانة ملابس، قائلة بنبرة اعتذار إنها تحتفظ به هناك بعيدًا عن متناول أحفادها. ينزله ماي. هناك تشابه قوي بين التمثال ومضيفتنا.

تقول كاتالينا كانكوب هاب بابتسامة محببة: "إنه يرفع معنوياتي عندما أنظر إليه. ‘أزرق المايا’ لون جميل، ومن الرائع أن لويس تمكن من إعادة اكتشافه".

على رغم اكتشافه المهم، لا يزال عمل ماي مشروعًا فرديًا، دون انتماء أو تمويل من السلطات الوطنية، كانت مساعدته المالية الوحيدة منحة لمدة عام واحد في عام 2021 من مركز سانتو دومينغو للتميز لأبحاث أميركا اللاتينية التابع للمتحف البريطاني في لندن. يختار عدم تسجيل براءة اختراع لوصفته لأن ذلك سيتطلب نشر تركيبته الفريدة، وقد يستخدمها أشخاص أو شركات لإنشاء نسخ أخرى. ومع ذلك، فإن اكتشاف ماي محمي من قبل المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) وإعلان الأمم المتحدة بشأن حقوق الشعوب الأصلية.

يقول: "سأكون سعيدًا بمشاركة تركيبتي لو تلقيت دعمًا كافيًا من السلطات المكسيكية". ولكن بعد ذلك تهبط كتفاه وهو يشرح أن الحكومة المكسيكية استخدمته كدعاية أثناء بناء "قطار المايا": وهو خط سكة حديد بين المدن يبلغ طوله 1554 كيلومترًا في المكسيك يجتاز شبه جزيرة يوكاتان.

كاتالينا كانكوب هاب، 85 عامًا، خياطة من دزان، تقف بجانب التمثال الذي صنعته لها ماي. التمثال مزين بطلاء أزرق مايا (الجزيرة)

عندما نشر ماي نتائج تركيبته على وسائل التواصل الاجتماعي، أقنعه المسؤولون الحكوميون بالمشاركة في فيديو ترويجي لـ"قطار المايا". كما حضر جلسة تصوير مع العديد من العلماء من جامعة ميريدا المستقلة، ووُعد بمساعدة مالية لدعم مشروعه. ومع ذلك، يدعي أنه لم يتلق أي تمويل من أي شخص على المستوى الوطني.

يقول ماي: "البيروقراطية المكسيكية تجعل من الصعب جدًا على أشخاص مثلي أن ينجحوا، ومع ذلك فهي تأخذ قطعة من نجاحي مع كل خطوة أتخذها".

"آمل أن يفهم الناس أنني قد رعيت هذا المشروع بعرقي ودمي وأفضل أن يظل ‘أزرق المايا’ في أيدي السكان الأصليين للمايا".

مقالات مشابهة

  • نتنياهو يتحدث عن العراق: استهدفنا الميليشيات التي تحركت ضدنا
  • أزرق المايا: لغز الصبغة التي أُعيد ابتكارها بعد قرنين من ضياعها
  • وزارة الدفاع وقوات السلطان المسلحة تحتفي بيوم المتقاعدين
  • تفشي فيروس «نورو» بين ركاب سفينة ألمانية.. ما هي أعراض المرض وتفاصيله؟
  • جلالة السلطان يصدر مرسوما ساميا
  • السيد شهاب: فوز نادي السيب بكأس جلالة السلطان للشباب تتويج لمسيرة طويلة من العمل
  • وزارة الدفاع تحصد جائزة أفضل تواصل استراتيجي بقمة ICON 2025
  • السيد شهاب بن طارق: الفوز بكأس جلالة السلطان للشباب تتويج المسيرة الطويلة من العمل والتخطيط
  • 3 مواجهات في الجولة السابعة لدوري القدم الشاطئية.. غدا
  • مدرسة السلطان قابوس بطل دوري المدارس للبراعم في ظفار