بزغ فجر 23 يوليو 1970 وبزغ معه فجر جديد على عُمان ونهضت فيه عُمان قاطبة بتولي السلطان قابوس -طيب الله ثراه- مقاليد الحكم، فكان يوم النهضة بامتياز، اليوم الذي «تحطمت فيه أصفاد وأزيح ظلام بل ظلمات وتهادت ألوان المجد فيه، صافحنا الفجر بأجفان ورفعنا الأعناق صعادا - قابوس للمجد تبادى فابنوا معه الأمجادا يا أبناء عمان الأجواد».
«رحم الله السلطان قابوس كان على حق» عبارة يرددها العمانيون عندما تلوح في الأفق مناسبة أو حدث كان للسلطان الراحل رأي فيه. عندما أستمع لتلك العبارة أسترجع عبارة أخرى قالها السلطان الراحل وظلت حاضرة بقوة تؤرق ذاكرتي وكنت أرددها على لساني حتى دون وعي بدلالتها.
كان ذلك في بداية السبعينيات وكنت صغيرا، عندما سمعت السلطان يقول (إن الأيام في حياة شعبنا لا تقاس بوحدات الزمن). في الحقيقة سمعتها أول مرة في الإذاعة العُمانية وعلى ما أعتقد كانت تستخدم كمقدمة لبرنامج كان يذاع. ظل السؤال عالقا في ذهني، أريد أن أعرف حكاية وحدات الزمن وما هي القياسات التي أرادها السلطان قابوس لقياس الأيام في حياة الشعب العُماني؟ أهي أرقام كالتي نتعلمها في المدارس أم هي معادلات رقمية أو عمليات حسابية؟ وكانت الإجابة على هذا السؤال تأخذني إلى أقاصي ومتاهات وأروقة بعيدة، لا أدري أبعد فلسفي يكمن خلف تلك الكلمات أم شيء آخر. لاحقا عرفت، كان ذلك في 18 نوفمبر 1974 والعبارة وردت في خطاب جلالته في العيد الوطني الرابع. وأدركت ساعتها أن وحدات الزمن التي يقصدها السلطان هي مقاسات وأوزان وضعها السلطان ببعده الفلسفي ويعني بها تلك الآفاق التي تُفتح والأفكار الملهمة التي تحول الآمال إلى واقع حي ليأخذ الشعب العُماني مكانه بين طلائع الشعوب السائرة من أجل التقدم والسلام والرخاء.
لا تزال صورة ذلك الشاب الثلاثيني يجوب ببدلته العسكرية سهول عُمان، تشاهده مرة على قمة جبل أو يقود سيارته في أحد البراري أو تراه في حضرة مجموعة من المواطنين أو يفاجئ بدخوله إحدى المؤسسات، شاب مفعم بالنشاط يتدفق حيوية وطموحا. وكان ذلك في بداية السبعينيات وهو في خضم معركة البناء يجوب أرض عُمان، أراد أن يبني وفق أساس قوي ومتين، وكان ذلك الأساس كما ورد في خطابه «كان إلزامًا علينا أن نبتدئ من الأساس ومن واقعنا» وكان يقصد بالأساس هو الشعب العُماني وقد اختار أن يسلك أصعب السبل ليُخرج ذلك الشعب من عزلته ويأخذ بيده إلى طريق العزة والكرامة، كما قال، وفي الوقت نفسه تحمَّلنا مسؤولية حمايته من التمزّق، والضياع، وإحياء حضارته، واستعادة أمجاده، وربطه ربطًا وثيقًا بالأرض ليشعر بعمق الوطنية، ومدى التجاذب بين الإنسان العُماني وأرض عُمان الطيبة. لا أجد في ذلك غرابة أو تعجب، فقد كانت للسلطان ميزات وصفات تتحلى بها شخصيته.
جانب آخر من شخصية السلطان قابوس. يُعرف عن السلطان بأنه ملهم في التفاصيل الصغيرة ولا يترك شاردة ولا واردة إلا وتوقف عندها. كان سلطان وملك التفاصيل بامتياز. ربما كان حدسه قاده إلى أن الكثير من الأشياء كانت آيلة للزوال والاندثار والضياع، فعمل جاهدا على بث الروح فيها من جديد. أحيا أشياء كثيرة وأعاد لها رونقها وتجليها. فعملية البناء التي قادها وكانت عمان ليست «على الصفر» كما يقال، بل كانت «على السالب» فلم يشغله بناء عمان وإقامة صرحها ونظر إلى كل الأمور عظيمها وصغيرها. التفاصيل الصغيرة التي آمن بأهميتها وقوتها ومقدرتها على نسف والإطاحة بالأشياء الكبيرة فإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر فإن ذلك الشرر الصغير هو ما ينبغي الالتفات له والالتفاف عليه حتى لا يستفحل ويأخذ مداه في اتساع الخرق. وما كان ينبغي لها أن تترك.
ومن تلك الأشياء التي التفت إليها السلطان قابوس ودافع عنها بكل قوة هي الهُوية العمانية وكيف استطاع أن يرسخ مفهومها وخصوصيتها ومميزاتها وتمكن وبجدارة أن يغرس في نفوس العمانيين ليس حب الوطن فقط، ولكن حب تلك التفاصيل الصغيرة التي أماط اللثام عنها. تجلى ذلك من خلال العديد من مظاهر حفظ الهوية ومنها المحافظة على الزي الوطني والخنجر العماني وألزم الموظفين بزي وطني «دشداشة بيضاء اللون وعمامة»، في المناسبات خنجر وبشت. وأوجد بروتوكولات خاصة يطلق عليها البروتوكولات السلطانية ورسخها وضبط إيقاعها وأصبحت هوية سلطانية خاصة يمتاز بها السلاطين ومؤسسة الحكم. وكان محبا للموسيقى والفنون فأنشأ دار الأوبرا السلطانية وهي أول دار أوبرا في الخليج العربي وإذاعة خاصة تبث موسيقى كلاسيكية تعمل على مدار الساعة، واهتم بالتراث وأنشأ أول وزارة تعنى بالتراث فأسدى توجيهاته في وضع خطط استراتيجية بالنهوض بالتراث والثقافة العُمانية فعمل على طباعة الكتب والمخطوطات العمانية والاهتمام بالمباني الأثرية كالقلاع والحصون، وفي هذه المناسبة أتذكر كيف جالت فرق في بداية السبعينيات أرجاء عُمان بحثا عن المخطوطات والكتب والكنوز العُمانية. وكان مولعا بالبيئة والمحافظة عليها، وأنشأ جائزة السلطان قابوس لصون البيئة، وأطلق محمية جدة الحراسيس لحفظ حيوان المها العربي. كان همه عُمان وإعادة أمجادها وكانت له وقفات مهمة ومثرية في تفاصيل صغيرة جدا ربما لا تخطر على بال الإنسان العادي فما بالك بحاكم.
السمت العُماني من الأشياء التي حافظ عليها السلطان ورسخها وهي منظومة من الأخلاق والعادات والتقاليد المتوارثة والتي لا يحيل عنها العُمانيون ويحرصون عليها، وهي جزء من الهوية المترسخة الجذور. تحلى السلطان بهيبة عسكرية وقوة ضبط وربط، فقد كان الرجل عسكريا بمعنى الكلمة، تشرّب أبجدياتها، ملهمًا بتفاصيلها، جادًا، حازمًا وانعكست حتى على حياته الخاصة، يتجلى ذلك في طريقته في الكلام وحديثه مع زواره وابتسامته وإنصاته باهتمام لمحدثيه، وتلك الكاريزما والجلادة والصبر وقوة الشكيمة. لكن أشد ما يميزه تلك الجلسة التي يتفرد بها، وهنا أستذكر ما قاله الدكتور صالح الفهدي بأنه سأل ذات يوم أحد المسؤولين السابقين عن سر تلك الجلسة التي تميز بها السلطان إذ إن لديه القدرة على الجلوس بوضعية واحدة دون أن يغيرها ولا يستطيع أحد مجاراته في ذلك، وينقل الدكتور صالح عن ذلك المسؤول قوله «بأنه سأل السيدة ميزون والدة السلطان الراحل -طيب الله ثراهما ورحمهما- فقالت له «كان والده السلطان سعيد بن تيمور يعوّده على ذلك ورباه على الجلادة والتّحمّل، إذ كان يجلسه وهو طفل على أرضية القصر لساعات طويلة دون أن يسمح له بتغيير جلسته، وكان أيضًا يرسله إلى مجالس التقاضي ويجلس هناك لساعات دون أن يتكلم، فقط ليتعوّد على الجلسة وآدابها». ما يدهشني في شخصية السلطان هو قراءته الواقع والمشهد بشكل مغاير ومختلف ولديه حصافة في استشراف المستقبل وبعد نظر، ما يذهلك في الرجل الذي رحل في العاشر من يناير 2020م هو ذكاؤه والحذاقة التي تميزه، وقدرته على ضبط إيقاع السياسة ودوزنة أوتارها، لديه ملكة عجيبة في الوصول بالأشياء إلى حافة الهاوية، لا يتدخل إلا بعد أن تصل الأشياء إلى مداها ورمقها الأخير ساعتها فقط تجده وقد وقف وغيّر الاتجاه كما ربان السفينة الماهر يقود سفينته في خضم تضارب الأمواج والعواصف وبكل أريحية وهدوء يوصلها إلى بر الأمان. تثبت بعض الحوادث عمق نظرة السلطان ومواقفه وقراراته بشأنها، وقد نتعجب من تلك الصلابة في الموقف وكأنه يرى ما لا يراه الآخرون، بل يبدو أمامه ماثلا قريبا. كان بحق سيد الحياد، يقف بين بين، لا يتأذى من موقفه أحد، وكأن نهجه في ذلك الحفاظ على شعرة معاوية. رحل السلطان قابوس الذي مرت قبل أيام ذكرى توليه مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو ولكن تفاصيله الصغيرة والمحببة ما زالت باقية ولا ترحل.
بدر الشيدي قاص وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السلطان قابوس الع مانی کان ذلک ذلک فی
إقرأ أيضاً:
حكمة قائد تُتوَّج بوسام الأمير نايف للأمن العربي
مصطفى بن مبارك القاسمي
في لحظة تاريخية تجسد مكانة سلطنة عُمان الرفيعة في العالم العربي، تم منح مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- أرفع وسام أمني عربي، "وسام الأمير نايف للأمن العربي" من الدرجة الممتازة.
وهذا التكريم الرفيع هو إشادة بمسيرة قائد حكيم وملهم استثنائي أرسى دعائم الأمن والسلام برؤية متزنة وحكمة بالغة.
لقد استطاع مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- منذ توليه مقاليد الحكم، أن يرسخ مكانة سلطنة عُمان كأنموذج يحتذى به في الاستقرار الإقليمي والعالمي. فمن خلال سياساته المتزنة والمبنية على الاحترام المتبادل والحوار البناء، أصبحت سلطنة عُمان منارة للسلام ومركزًا للتفاهم بين الشعوب. إن هذه السياسة التي انتهجها جلالته -حفظه الله ورعاه- لم تكن مجرد خيار، بل كانت انعكاسًا لرؤية قائد حكيم وملهم فذ يدرك أن الأمن الحقيقي ينبع من الاستقرار الداخلي والتعاون الإقليمي المبني على الثقة والمصداقية المتبادلة.
وقيادة مولانا جلالة السلطان المفدى -أيده الله- تتميز بسمات قيادية فريدة، فهو القائد الحكيم والملهم الذي جمع بين الطموح لتحقيق التنمية والحرص على المحافظة على هوية الأمة وثقافتها. إن منهج جلالته -حفظه الله ورعاه- في إدارة شؤون الدولة يعكس إدراكًا عميقًا لمتطلبات العصر مع الالتزام بالثوابت الوطنية والقومية. كما أن رؤيته المستقبلية "رؤية عُمان 2040"، التي تركز على التنمية المستدامة، والتعليم، والصحة، والابتكار، والحوكمة وضعت السلطنة على مسار التقدم بخطوات واثقة وثبات نحو التقدم والازدهار.
إن منح وسام الأمير نايف للأمن العربي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق-حفظه الله ورعاه- هو اعتراف مستحق بدور قيادي فذ وملهم أسهم في تعزيز الأمن العربي الشامل.
هذا الوسام هو تقدير لقائد جعل من سلطنة عُمان واحة للأمان وبلدًا يرتكز على قيم العدل والسلام. وقيادة جلالته -حفظه الله ورعاه- هي تجسيد للقيم النبيلة التي تقوم على التسامح والاعتدال، وهي القيم التي جعلت من سلطنة عُمان شريكًا أساسيًا في الجهود العربية الرامية إلى إحلال السلام وحماية المجتمعات من التحديات.
إن مسيرة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- حافلة بالعطاء، قائمة على بناء وطن متماسك يزدهر بالأمن والاستقرار.
وفي ظل قيادته الرشيدة، استطاعت عُمان أن تتبوأ مكانة مرموقة في المحافل الإقليمية والدولية، بفضل رؤية واضحة وأسلوب قيادي حكيم يضع مصلحة الوطن والمواطن في مقدمة الأولويات. فقيادة جلالته -حفظه الله ورعاه- تنطلق من رؤية شاملة "رؤية عُمان 2040"، التي تجعل من الإنسان محور التنمية وهدفها الأسمى، وتضمن للأجيال القادمة مستقبلًا مشرقًا قائمًا على أساسات راسخة من القيم والإنجازات.
لقد رسخ مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مفهوم الأمن الشامل الذي لا يقتصر على الجوانب الأمنية التقليدية فحسب، بل يشمل أيضًا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذه الرؤية المتكاملة جعلت سلطنة عُمان نموذجًا رائدًا في تحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي.
إن وسام الأمير نايف للأمن العربي الذي تم منحه لمولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- هو شهادة عربية بأن سلطنة عُمان، بقيادة مولانا السلطان المفدى، كانت ولا تزال منارة للحكمة، وركيزة للاستقرار في العالم، وجسرًا للتواصل بين الشعوب.
التاريخ يكتب بأحرف من ذهب عندما يقوده رجال بحكمة السلطان هيثم، الذين يسيرون بأوطانهم إلى بر الأمان في عالم مليء بالتحديات.