ترجمة: أحمد شافعي -

تخيلوا شيخا جالسا لوحده في مطعم كئيب يفتح أبوابه طيلة الليل في وسط مدينة واشنطن، مولّيا ظهره إلى النافذة، منحني الكتفين، شأن ذلك الرجل في لوحة (نايت هوكس) الشهيرة لإدوارد هوبر. يبدو جو ـ وهذا هو اسم الشيخ ـ منهكا وحزينا. لعله يفكر فيما كان، أو ربما ما كان يمكن أن يكون. إنه يعيش كابوسا.

لكن حتى لو أن ذلك الشيخ كان الرئيس، وحتى لو أن الخدمة السرية الكريهة سمحت له بلحظة خصوصية خيالية، لا ينبغي أن يشعر جو بالحزن أو بالوحدة. ذلك أن ستة أشهر لا تزال متبقية له في الحكم. وهو نظريا لا يزال أقوى رجل في العالم. وليس له الآن أن يساوره القلق بشأن إعادة الانتخاب، والأصوات، والاقتراع، والمناظرات التلفزيونية. ومن ذا الذي يكترث الآن بما يقوله الخبراء؟

هو الآن ينعم بحرية لم يَعرف لها مثيلا منذ أن التحق بالحياة العامة قبل أكثر من خمسين عاما. ملعونُ الجمهوريين. وملعون الكونجرس. بوسعه الآن، إلى حد معين، أن يفعل ما يحلو له. وبدلا من أن يختفي في الظلام، موصوما بخيال المآتة، بوسع بايدن الآن أن يكون صاحب القول الفصل، ويكون هو الذي يضحك أخيرا، ويمضي في ذلك إلى أقصى الحدود. فيلتقي «تانجو واشنطن الأخير» بنبيذ الصيف الأخير.

في نوفمبر من عام 1992، وبعد الخسارة أمام بيل كلينتون، وجد جورج بوش الأب نفسه في موقف مماثل، برغم أنه لم يكن متبقيا له في الحكم إلا شهران. وشأن بايدن، كان بوش داهية في السياسة الخارجية، والرئيس لا الكونجرس هو الذي يوجه السياسة الخارجية. وهكذا، لأنه رأى أن ما يعتزمه الصواب، ولأنه في المقام الأكبر كان قادرا على أن ينفذ ما يعتزم، فقد قام بوش، وسط دهشة عظيمة، بغزو الصومال.

والحق أنه لم يحقق نجاحا عظيما. فقد أدى تدخل أمريكا العسكري دعما للأمم المتحدة في الإغاثة من المجاعة وبناء البلد بتأجيج الحرب الأهلية الصومالية، وأدى إلى معركة مقديشو وإلى أكبر مذلة عسكرية للولايات المتحدة منذ فيتنام. فتخلفت عن ذلك مشكلة جسيمة لكلينتون. لكن بوش أوضح رأيه. ومن يتعجل استبعاد رئيس إنما يخاطر.

وبرغم أنه بدا مستنفد الطاقة في ظهور شبه غافل في المكتب البيضاوي الأسبوع الماضي، لا يزال لدى بايدن الوقت ليستغل سلطاته في وضع إطار لمستقبل أمريكا، ومستقبل العالم بدرجة ما. سوف تنشأ أزمات غير متوقعة، مطالبة بإجراءات. وقد ترغم قرارات سياسية من يأتي بعده، سواء أكان كمالا هاريس أم دونالد ترامب، ويتغير مسار التاريخ. فهو شهر عسل معكوس.

فهل ينتهز بايدن الفرصة ليزيد وضوح بصمته وحجم إرثه؟ لقد وعد في خطابه المتلفز بالمضي قدما في أجندته الداخلية: وهي عبارة عن اقتصاد أقوى، وتكاليف معايشة أقل، وحقوق مدنية. وأكد على «إنقاذ الديمقراطية» من تهديد ترامب. وقال إن «فكرة أمريكا أمانة في أيدينا. علينا أن نبقى على إيماننا...ونتذكر من نحن».

غير أن الزيارة التي قام بها خلال الأسبوع الماضي بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل كانت تذكرة قسرية بأن بايدن لم يكمل عمله في الشرق الأوسط. جاءت الزيارة وسط مذبحة مستمرة للمدنيين الفلسطينيين في غزة وأعقبت حكما تاريخيا من محكمة العدل الدولية بأن احتلال إسرائيل ومصادرتها للأراضي الفلسطينية أمر غير قانوني ويجب أن ينتهي.

فهل يمكن لبايدن الذي تحرر أخيرا أن يصحح أخطاء سابقة؟ لا يجب أن نغفل عن أن هاريس لم تجد غضاضة في التشدد مع نتانياهو. وإن من شأن اعتراف الولايات المتحدة بدولة فلسطينية، وهو ما تدعمه هاريس نظريا، إذا ما توازى مع وقف لإمداد إسرائيل بالأسلحة، أن يغير دينامية الشرق الأوسط كاملة.

لقد وضع خطاب نتانياهو الديماغوجي أمام الكونجرس الصراع مع حماس ضمن حرب أكبر بالوكالة مع إيران وهي «العدو الأخطر الأشد تطرفا» لأمريكا. وتلك كانت الجعجعة المعهودة. فقد حرص نتانياهو على أن يتناسى أن بايدن عند انتخابه كان يريد التعامل مع إيران.

لقد تولى السلطة في إيران هذا الشهر رئيس أشد لطفا. وبوسع بايدن إن شاء أن يجرب مرة أخرى إحياء المسار الدبلوماسي الذي أجهز عليه ترامب. ولقد اتخذت المملكة العربية السعودية وإيران بالفعل خطوات أولية. وقد يكون وقف لإطلاق النار في غزة، واتفاق سعودي إسرائيلي، وعملية دولتين تنخرط فيها فلسطين وإسرائيل، هي الجوائز المغرية.

ثمة فرصة أخيرة سانحة لبايدن أيضا لتصحيح خطأ فادح آخر هو عدم مواجهته لروسيا مواجهة فعالة مباشرة بشأن غزو أوكرانيا. ولا يطيق فلاديمير بوتين صبرا لكي يشهد عودة ترامب. فهو يتوقع من زميله المتنمر أن يتخلى عن أوكرانيا ويهبه نصرا عمليا.

وستكون هذه كارثة. من المؤكد أن هاريس سوف تدعم إجراء أشد صرامة تجاه روسيا إذا ما بدأ بايدن هذا المسار. ابتداء، عليه أن يحذر بوتين من أن الهجمات الجوية وبالمسيرات وبالصواريخ على أهداف مدنية تتجاوز الجبهات كثيرا لا بد أن تتوقف على الفور، وإن لم يحدث ذلك، فسوف تصدها القوات الجوية والبحرية الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي المنتشرة للدفاع. ولا يفوت أبدا الأوان لوضع خط أحمر.

ولسوف يرسخ إرث بايدن بوصفه مناصرا للديمقراطية والنظام الدولي القائم على القواعد رسوخا كبيرا إن هو شرع في إصلاح مجلس الأمن الأممي، ونطق باسم حقوق الإنسان، وجدَّد جهود مكافحة الانتشار النووي في العالم، في الوقت الذي لا يزال فيه قادرا على ذلك. ويجب أن يضمن بايدن صراحة الدفاع عن تايوان.

ليست الأشهر الستة بالوقت الطويل لتغيير العالم. ومن يحظى بفرصة ثانية فقد أسعده الحظ سعادة مضاعفة. وقد يجد بايدن العون في بعض الضربات السياسية الوداعية فتقل التحديات، الداخلية والخارجية، التي تنتظر الرئيسة هاريس. وقد تساعد في إحباط عودة ترامب.

ولعل الأهم في هذا الوقت الخطير المليء بالانقسامات أن بايدن قادر على ضبط النغمة. لقد تساءل وهو يستهل خطاب وداعه الطويل «هل لا نزال مؤمنين بالصدق واللياقة والاحترام والحرية والعدالة والديمقراطية؟ هل لا تزال للشخصية أهمية في الحياة العامة؟» والإجابة هي «نعم» مدوية، ولكن في غمار صخب العاصفة الانتخابية المتقدمة، يتطلب الأمر تكرارا متواترا من شخص يفرض الاحترام.

هذه رسالة إلى جو في هزيعه الأخير، وهو شاخص في مطعم إلى فنجان قهوته الباردة: لم ينته الأمر بعد. وأمريكا لا تزال بحاجة إليك.

سيمون تيسدال معلق الشؤون الخارجية في صحيفة ذي جارديان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن بایدن

إقرأ أيضاً:

ماسك: بايدن ترك رواد فضاء عالقين لأسباب سياسية

اتهم إيلون ماسك الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، بترك اثنين من رواد الفضاء عالقين على متن المحطة الفضائية الدولية "لأسباب سياسية".

وقال ماسك أثناء جلوسه بجانب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خلال مقابلة مشتركة مع قناة "فوكس نيوز"، مساء الثلاثاء: "لقد تركوا هناك لأسباب سياسية، وهذا ليس أمراً  جيداً"، وفق ما نقلته مجلة "نيويورك بوست" الأمريكية.

Elon Musk says stranded astronauts were ‘left up there for political reasons’ by Biden https://t.co/S1SWeOyoki pic.twitter.com/edM6RemhWr

— New York Post (@nypost) February 19, 2025

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، أطلقت شركة "سبيس إكس" التابعة لماسك كبسولة "كرو دراغون" لإنقاذ الرائدين، وقد نجحت في الالتحام بالمحطة الفضائية، ولكن  وكالة ناسا قررت تأجيل عودتهما إلى الأرض.

ونقلت "نيويورك بوست"، عن ماسك قوله إن "الكبسولة ستعود إلى الأرض "في غضون 4 أسابيع"، بعد تأجيل الخطط السابقة إلى درجة سخيفة نوعاً ما".

وأضاف: "بناء على طلب الرئيس ترامب وتعليماته، فإننا نعمل على تسريع  عودة رواد الفضاء".

وتابع قائلاً لقد سبق و أعدنا رواد فضاء من المحطة الفضائية عدة مرات من قبل، وكلها كانت ناجحة"، مؤكداً أن فريقه سيظل "حذراً للغاية".

ومن جهته، قال ترامب: "لم يكن لديهم الضوء الأخضر مع بايدن كان سيتركهم في الفضاء. أعتقد أنه كان سيتركهم في الفضاء... لم يكن يريد الدعاية".

وكان ترامب، قد اتهم بايدن في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، الشهر الماضي،  بأنه "تخلى" عن الرائدين بوتش ويلمور وسوني ويليامز، مما دفع الرائدين إلى نفي هذه الاتهامات.

.@elonmusk: "At the President's instruction, we are accelerating the return of the [NASA] astronauts [stranded on the International Space Station]."@POTUS: "They didn't have the go-ahead with Biden. He was going to leave them in space!" pic.twitter.com/aTZ2zRTfDW

— Rapid Response 47 (@RapidResponse47) February 19, 2025

وقال ويلمور لشبكة "سي إن إن" الأمريكية: "نحن لا نشعر بأنه تم التخلى عنا، ولا نشعر بأننا عالقون أو متروكون. أفهم لماذا قد يعتقد الآخرون ذلك".

من جانبها، قالت ويليامز: "كانت الإقامة أطول قليلاً مما توقعنا، لكننا استغللنا الوقت بشكل جيد".

يذكر  أن الرائدان ويلمور وويليامز، قد علقا في الفضاء في يونيو (حزيران) الماضي بعد اكتشاف مشكلة في كبسولة "ستارلاينر" التابعة لشركة بوينغ، والتي عادت إلى الأرض بدونهما، وبدلاً من البقاء على المحطة لمدة 8 أيام فقط، يقيمان هناك منذ 258 يوماً.

وفي ديسمبر (كانون الثاني) الماضي، أعلنت وكالة ناسا أن الرائدين سيضطران إلى الانتظار حتى وصول مركبة إنقاذ أخرى من "سبيس إكس" مع طاقم بديل "في موعد لا يتجاوز أواخر مارس (آذار)"، ثم سيخضعان لفترة تسليم غير محددة قبل المغادرة أخيراً. 

مقالات مشابهة

  • ترامب: كل شيء وقع عليه بايدن لم يكن جيدا وقد قمت بإنهائه
  • فيديو.. ترامب: استمرار بايدن كان يعني حرباً عالمية ثالثة
  • من التهجير إلى التطهير.. في التغريبة الفلسطينية ترامب لن يكون الأخير
  • اتهمه بإهدار الأموال.. ترامب يشن هجوما لاذعا على بايدن
  • ارسلان: الدور الذي تقوم به السعودية في استضافة المباحثات بين واشنطن وموسكو يبعث الأمل
  • ناشط سابق في حزب ترامب..نتانياهو يعين مستشاراً مقرباً منه لقيادة مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق غزة
  • لم يكن الأول ولن يكون الأخير.. هجوم ترامب على زيلينسكي
  • ماسك: بايدن ترك رواد فضاء عالقين لأسباب سياسية
  • ترامب يقيل جميع المدّعين العامّين الفدراليين من عهد بايدن.. كم عددهم؟
  • ترامب يقيل المدّعين الفيدراليين المتبقّين من عهد بايدن