من يقف وراء تعكير أجواء أولمبياد باريس2024؟
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
علي الرغم من الاستعدادات الكبيرة التي قامت بها السلطات الفرنسية لاستضافة أولمبياد باريس ٢٠٢٤، وبالرغم من الخطة الطموحة التي كانت تعدها فرنسا من أجل إنجاح الأولمبياد، وجعلها مفتوحة لأكبر عدد من الفرنسيين والزائرين في باريس خلال افتتاح البطولة التي تمتد من ٢٦ يوليو حتي ١١ أغسطس من العام الجاري، وبسبب خوف السلطات الفرنسية من حدوث أعمال إرهابية ومخططات من شأنها تعكير الأجواء الاحتفالية بالأولمبياد لأسباب سياسية خارجية، ومنها موقف فرنسا من الحرب في غزة، ومساندتها لإسرائيل، والحرب الروسية الأوكرانية التي لم تقف فيها فرنسا علي الحياد، بل بتعاطفها مع أوكرانيا وأخذ مواقف عدائية ضد روسيا في تلك الحرب، ناهيك عن الأسباب السياسية الداخلية التي تشهد اضطرابا سياسيا وتجاذبا بين الأحزاب السياسية بعد صعود تيار اليمين المتطرف في انتخابات البرلمان الأوروبي، وأيضا في الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة التي شهدت صعود الأحزاب اليسارية ثم اليمينية المتطرفة، مع تراجع كبير لحزب النهضة "حزب الرئيس ماكرون" الذي لم يعد يملك الأغلبية البرلمانية التي كان يمكن أن تساند الرئيس ماكرون في فترة حكمه المتبقية، وما أحدثه من ارتباك في صفوف الأحزاب والكتل السياسية التي لم يعد يملك فيها أحد الأغلبية المطلقة للتمكن من تسيير شئون البلاد وسط هذا الانقسام الحاد، ما دفع السلطات الأمنية الفرنسية لنشر أكثر من ٤٥ رجل أمن، إضافة إلى الآلاف من القوات الخاصة، وقوات الجيش إضافة إلي الاستعانة بالكثير من القوات الأجنبية المتخصصة وعلى رأسها قوات من أمريكا، بريطانيا، أستراليا، ومن القوات الأمنية الإسرائيلية.
لقد جاء هذا التخوف الأمني الفرنسي لوجود بعثة الكيان الصهيوني ضمن قائمة الدول المشاركة في الأولمبياد، وهو الأمر الذي يرفضه الكثير من أبناء الشعب الفرنسي، ومن الجاليات الأجنبية، والمؤسسات الحقوقية وطلاب الجامعات والمدارس، إضافة إلي رموز وقادة الأحزاب اليسارية التي أعلن الكثير من قادتها عن دعوة السلطات الفرنسية بعدم السماح للرياضيين الإسرائيليين بالمشاركة في الأولمبياد، بسبب ما ترتكبه إسرائيل من مجازر وعنصرية وإبادة جماعية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وعلي رأسها إجرام قوات الاحتلال المتواصل في قطاع غزة، وغيرها من المدن الفلسطينية، ناهيك عن التظاهرات والاحتجاجات في باريس وسائر المدن الفرنسية التي رفعت شعارات تقاطع فيها استقبال بعثة الكيان داخل الأراضي الفرنسية، وكلها أصوات احتجاجية قوبلت بالرفض من رئيس الجمهورية والحكومة الفرنسية التي لم تستمع لصوت الشارع الفرنسي، ولا لتخوفات رجال الأمن الذين كانوا قد أقروا بتخوفاتهم من حدوث أعمال إرهابية خلال فترة إقامة الأولمبياد، ولهذا فقد رصدت فرنسا أموالاً طائلة لضمان سلامة أيام الألعاب الأولمبية في باريس والمدن الفرنسية، كما أن إسرائيل نفسها قد رفعت الميزانية المخصصة لرياضييها ووفودها المشاركين في أولمبياد باريس ٢٠٢٤، يحدث هذا في الوقت الذي دعت فيه اللجنة الأولمبية الفلسطينية رئيس اللجنة الأولمبية الدولية إلي استبعاد إسرائيل من المشاركة في الألعاب الأولمبية، أسوة بما قامت به اللجنة مع جنوب إفريقيا سابقا، ومع الرياضيين الروس بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ازدواجية المعايير التي أصبحت سمة مستخدمة للتفريق في التعامل مع الدول، ومنذ بداية أولمبياد باريس، فإن فرنسا وسلطاتها تعيش حالة الخوف والارتباك وغلق للأماكن المخصصة للاحتفال، واستبعاد الكثير من الفئات الاجتماعية ومن المهاجرين والمهمشين بدافع التخوف الأمني، وبما يتعارض مع فلسفة الألعاب الأولمبية التي تكون مفتوحة للجميع، وقد بدأ تعكير تلك الأجواء بوصول رئيس إسرائيل"إسحاق هوتسوغ" إلي مطار شارل ديجول، وتسببه في إرباك سلطات المطار، بسبب دواعٍ أمنية أدت إلي لانتظاره بالطائرة حرصا علي سلامته، كما تسبب لقاء منتخب إسرائيل ومالي في ملعب حديقة الأمراء في باريس إلي استنفار الأجهزة الأمنية الفرنسية داخل وحول الملعب الرياضي حرصا علي سلامة منتخب إسرائيل، وغيرها من الاستعدادات الأمنية بما فيها إشراك قوات أمنية خاصة من الشباك التي لم تمنع من إحداث صفارات الاستهجان بين صفوف المشجعين الذين حملوا الأعلام الفلسطينية وسط حضور وزير الداخلية الفرنسي دارمنال ورئيس الكيان الصهيوني، ومن الأمور التي عكرت صفو احتفال باريس بأولمبياتها هي الأعمال التخريبية الموسعة التي شهدتها السكك الحديدية الفرنسية وبخاصة القطار السريع، ما أدى إلي تعطيل الرحلات بين فرنسا وألمانيا وغيرها من المدن الفرنسية الواقعة غرب باريس، ما دفع برئيس السكك الحديدية الفرنسية إلي الاعتراف بأن تلك الأعمال التخريبية سوف تمتد إلي أيام إضافة إلى افسادها يوم الافتتاح الذي وافق يوم الجمعة الماضي، والإضرار الكبير بشبكات القطارات وتعطيل أحوال المسافرين، الأمر الذي تسبب في الإضرار بصورة فرنسا وسلطاتها الأمنية أمام العالم.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: أولمبیاد باریس فی باریس التی لم
إقرأ أيضاً:
كرة القدم وحروب الإبادة: النسخة الفرنسية من صناعة الهولوكوست
تضمّ فرنسا العدد الأكبر من اليهود على النطاق الأوروبي، أكثر من نصف مليون من حيث ديانة الأمّ والأب؛ وفيها يعيش 750 ألف ممّن يسري عليهم قانون «حقّ العودة» واكتساب الجنسية الإسرائيلية (جدّ واحد يهودي، على الأقلّ)؛ ومقابل كلّ 1000 مواطن فرنسي، هنالك 6.87 يهودي؛ وبذلك فإنّ فرنسا (نحو 65.300 مليون نسمة) تعدّ في المرتبة الثالثة، عالمياً، من حيث أعداد السكان اليهود.
هذه معطيات إحصائية ديموغرافية، وعلى أهمية دلالاتها فإنها غالباً غير مرشحة بالضرورة لتوفير المزيد من عناصر التأثير على حقيقة كبرى راسخة تتصل بخصوصية فرنسا البلد في الذاكرة اليهودية الحديثة والمعاصرة عموماً، من جانب أوّل؛ أو في التوظيف الصهيوني لهذه الخصوصية، من جانب ثانٍ، على مستويات سياسية واجتماعية ــ اقتصادية وعقائدية وإعلامية وثقافية، خصوصاً.
هنا، في باريس، تواترت فصول محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي ألفريد دريفوس، الذي استثار رسالة إميل زولا الشهيرة «إني أتهم!» في سنة 1898؛ بالنظر إلى براءة الرجل، وكذلك مناخات العداء للسامية التي عمّت شوارع فرنسا وشهدت على ألسنة الحشود الغفيرة ولادةَ الهتاف الشهير: «الموت لليهود!».
هنا، في باريس هذه السياقات ثانياً، كان صحافي نمساوي يهودي يدعى تيودور هرتزل يعمل مراسلاً لـ«الصحافة الحرة الجديدة» أبرز المطبوعات الليبرالية في أوروبا تلك الأيام. ورغم أنّه لن يشهد تبرئة الضابط البريء دريفوس، لأنه توفي عام 1904، فإنّ مناخات تأثيم اليهود كانت أحد أبرز حوافزه لكتابة مسرحيته «الغيتو الجديد» التي ترصد انعزال مختلف الطبقات الاجتماعية والثقافية ليهود فيينا في صيغة أقرب إلى الغيتو.
ثمّ كرّاسه الأشهر «الدولة اليهودية» الذي لم يتوّجه في موقع الأب المؤسس للحركات الصهيونية فقط، بل كان النصّ ذاته بمثابة تبشير مبكّر بفكرة يهودية دولة الاحتلال كما تعاقبت صياغاتها تباعاً.
وهنا، ثالثاً، موطن «عقدة الذنب» التي لا تُمحى عواقبها ولا يُحسم النقاش حولها، حول المسؤولية الفرنسية عن ترحيل عشرات الآلاف من اليهود إلى معسكرات الاعتقال النازية خلال فترة حكومة فيشي (1940ــ1944): هل تقع على عاتق فرنسا/ الأمّة بأسرها، كابراً عن كابر، كما ساجل يهود فرنسيون صهاينة؟ أم هي فرنسا/ الدولة، البيروقراطية الخاضعة لاحتلال نازي، حيث المؤسسات الحكومية خاضعة مأمورة؟
في الهرم الأعلى من رئاسة الجمهورية الخامسة، كان أربعة رؤساء (شارل دوغول، جورج بومبيدو، فاليري جيسكار ديستان، وفرنسوا ميتيران) قد اعتنقوا التأويل الثاني؛ وفي سنة 1995 استقرّ الرئيس جاك شيراك على التأويل الأوّل، فاعتبر أنّ حكومة فيشي كانت الدولة، وفرنسا الرسمية، وبالتالي فهي مسؤولة عن الترحيل.
لا حاجة، أغلب الظنّ، إلى أكثر من هذه السياقات الثلاثة لقراءة آخر مسرحيات النفاق الفرنسي، الحكومي والشعبي معاً، تجاه يهود فرنسا في المقام الأوّل؛ ودولة الاحتلال الإسرائيلي، في الجوهر الأهمّ والأشدّ صفاقة؛ حتى إذا اقتصر الأمر على مباراة كرة قدم بين الفريق الوطني الفرنسي والفريق الإسرائيلي، ولكن ربما تحديداً لأنه لا يقتصر على الجانب الشكلي من المسألة الأعمق.
وعند كتابة هذه السطور كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزرائه ميشيل بارنييه، وسلفه الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ورئيسة منطقة العاصمة فاليري بيكريس؛ هم السباقون إلى إعلان حضور هذه المباراة، والمتبارون في أيّهم يغطي النفاق الفاضح بالعبارة المفضوحة.
الرئاسة الفرنسية أعلنت أنّ حضور ماكرون في الملعب هو «رسالة أخوّة وتضامن بعد أعمال العداء للسامية التي أعقبت المباراة في أمستردام، ولا يمكن التسامح معها». بيكرس، من جانبها، تحضر المباراة لأنها «أُصيبت بالهلع إزاء صور أمستردام» و«الجمهورية لن تسمح لأحد باضطهادها».
وزير الداخلية برونو ريتايو، الذي أخرجه ماكرون من قبعة يمين مندحر يزعم الديغولية ولا يتمسح إلا باليمين المتطرف، صوّر المباراة وكأنها تجري بين «قِيَم» الجمهورية الخامسة وفلول البرابرة أعداء الحرية والديمقراطية. ولقد بدأ من رفض نقل المباراة إلى موقع آخر (كما فعلت بلجيكا مثلاً، حين نقلت مباراة فريقها الوطني مع الفريق الإسرائيلي من بروكسيل إلى ديبرستين في هنغاريا)؛ ثمّ ذهب أبعد حين فسّر قراره هكذا: «فرنسا لن تتراجع، لأنّ ذلك يعني الاستسلام في مواجهة تهديدات العنف ومعاداة السامية»ّ.
محافظ العاصمة أمر بنشر نحو 4.000 شرطي حول الملعب وفي داخله (وهذا ممنوع، طبقاً لتعليمات الاتحاد الدولي لكرة القدم) بالإضافة إلى 1.600 من موظفي الستاد الأصليين؛ وأمّا جمهور الكرة، بالغ التحمس عادة لفريقه الوطني الفرنسي، فلم يحجز سوى 20.000 بطاقة، من أصل 80.000، في إشارة لا تخفى نحو تأكيد خيار المقاطعة.
دافيد غيرو، النائب عن حزب «فرنسا الأبية» خاطب صنّاع مسرحية المباراة هكذا: ”لا تنسوا، وأنتم تصفقون للفريق الذي يمثّل دولة ترتكب إبادة جماعية، أنه في غزّة لم يعد هناك ملعب لكرة القدم. ومع ذلك، فإن المنتخب الإسرائيلي يطلق النار، ولكن في صدور الأطفال. لا تنسوا أنه في فلسطين، كما في لبنان، الضربات جوية وتقتل الأبرياء».
لقد أسمعَ غيرو لو نادى أحياء، ولكن أيّ حياة لمنادى مثل وزير الداخلية ريتايو ابتلع لسانه، قبل أيام قليلة فقط، حيال المشهد المهين لإقدام الشرطة الإسرائيلية على اقتحام حرم موقع إليونا الديني الواقع تحت الوصاية الدبلوماسية الفرنسية، الأمر الذي دفع وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو إلى الامتناع عن دخول المكان؛ وانتهاء المشهد باعتقال مهين لاثنين من عناصر الدرك الفرنسيين حرّاس القنصلية في القدس.
وقال غيرو، من داخل الجمعية الوطنية برلمان فرنسا: ”سيدي وزير الداخلية، أنت الذي عادة ما تكون سريعاً جداً في الحديث، لقد كنت متحفظاً للغاية عندما قامت الشرطة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة باعتقال اثنين من رجال الدرك الفرنسيين». كان صامتاً بالطبع، كما كانت حال قصر الإليزيه غير المعتاد على السكوت عن إهانة «الجمهورية»؛ وكانت حال بارو، أيضاً، الذي لاذ بالعبارة المهذبة الشهيرة «غير مقبول»…
وقد لا تكون هذه الأحوال الفرنسية بمنأى عن منزلقات سابقة ومحورية ذهب إليها الرئيس الفرنسي شخصياً، ومنذ الأيام الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، حين ارتجل مبادرة مضحكة قوامها دفع التحالف الدولي، المتواجد في المنطقة ضدّ «داعش» أساساً؛ إلى التوجه صوب القطاع، والقتال ضدّ «حماس».
صحيح أنه تراجع عنها، بين ليلة وضحاها تقريباً، في تصريحات تالية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس والملك الأردني عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ إلا أنّ جهل ماكرون وانحيازه إلى الاحتلال وحاجته إلى تعظيم ذاته، فضلاً عن خلائط جهالة أخرى متقاطعة، دأبت على إعادة إنتاج ذاتها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وحتى موعد مباراة فرنسا ودولة الاحتلال.
وليست تلك الخلائط مرشحة لمراجعات جدية أو تبدلات جوهرية، وما تكرر مع وزير الداخلية السابق جيرار دارمنان، لجهة حظر تظاهرات تأييد الفلسطينيين واضطراره إلى التراجع أمام رأي مضادّ صدر عن مجلس الدولة؛ يتكرر اليوم مع خليفته ريتايو بصدد ملفات أخرى عديدة، ليس الحماس الهستيري لتطويق مباراة كرة قدم سوى الأحدث فقط في فصولها.
وثمة في العمق نسخة من صناعة الهولوكوست فُصّلت على مقاييس فرنسا تحديداً؛ لا تُستعاد خلالها قضية دريفوس بقلم إميل زولا، بل بلسان مجرم حرب مثل بنيامين نتنياهو؛ وتتساوى في أخلاقياتها ملاعب كرة القدم مع ساحات القتل والإبادة والتجويع والتهجير، في قطاع غزة.
القدس العربي