«فيلم الجليسة».. صراع بين امرأتين في إطار دراما نفسية وشكل مسرحي
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
مما لا شك فيه أن تطور الفن السينمائي ووصوله إلى العصر الرقمي وعصر الذكاء الاصطناعي قد رافقه تفاعل مشهود مع الأنواع الفنية والابداعية الأخرى مرورا بالأدب والفلسفة وعلم الجمال، فضلا عن التوأمة مع فن المسرح والموسيقى والفن التشكيلي والتفاعل الخلاق معها جميعا، وعلى هذا بقيت خصائص تلك الأنواع الإبداعية حاضرة في الأعمال السينمائية وعززت البناء الفكري والجمالي، كما عززت القصة السينمائية التي هي الركيزة الأساسية لما هو مروي إلى الجمهور العريض.
وعلى ذلك تفاوتت التجارب السينمائية لذلك التوظيف الإبداعي لخواص وعناصر الأنواع الإبداعية وطريقة تقديمها إلى الشاشة، لاسيما وأن ركيزة الفيلم هي الصورة وهو ما لا يسمح بأن تطغى أدوات أخرى على الإبداع في استخدام الصورة بكل غزارتها التعبيرية بوصفها ركيزة أساسية.
من هنا يمكن النظر إلى هذا الفيلم للمخرج الأرجنتيني اريل لوكو - وهو فيلمه الروائي الطويل الرابع في مساره السينمائي وفيلمه الأول الذي يخرجه تحت سقف هوليوود ويتم عرضه في صالات العرض في الولايات المتحدة - إذ يعمد المخرج إلى تقديم قصة سينمائية ساهم في كتابة السيناريو فيها إلى جانب ماريانا فريس، وخلال ذلك يعيدنا إلى ذلك النوع من الأفلام التي تنهل بغزارة من فن المسرح، وكان علامة ذلك في هذا الفيلم هو استخدام الحوار كركيزة مهمة في موازاة الصورة مع الاقتصاد في اختيار الأماكن وبما يقربنا من الشكل المكاني المسرحي فضلا عن اختيار شخصيات محدودة العدد وأقل من أصابع اليد الواحد لتقدم الأحداث الرئيسية في هذا الفيلم.
ها نحن مع إيما الممثلة كلارا كوفشيش وقد عانت من ظروف عائلية لتبحث عن عمل مناسب فتعثر على وظيفة الجليسة أو المساعدة الاجتماعية لما يفترض أنها امرأة كبيرة في السن وتعاني من اضطرابات في الذاكرة تقرّبها من الزهايمر، ولا يمضي كثير من الوقت في ذلك التمهيد حتى تجد إيما نفسها في منزل واسع وقديم ومتعدد الطبقات، وليس سواها وتلك المرأة المتجهمة السيدة بيلوف الممثلة فيرجينيا لومباردو، وسرعان ما تتكشف لها أنها شخصية صعبة وغريبة الأطوار.
وهكذا سوف تدور أغلب المساحة الزمنية للفيلم في دائرة الحياة اليومية للشخصيتين، وتعزيزا لذلك يحيلنا المخرج إلى التتابع اليومي وظهور التواريخ وتتابع الأيام؛ للتأكيد على مرور الزمن وعلى أننا في الولايات المتحدة في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينيات، وبالطبع لن يكون هنالك اختلاف كبير فيما إذا وقعت الأحداث في أي زمن ماعدا الإشارة إلى سقوط حائط برلين في العام 1989 ومراقبة المرأة العجوز بيلوف أخبار ذلك الحدث بنوع من الانزعاج الذي لا يقدم له المخرج -لاحقا- تبريرا فيما إذا كانت بيلوف ألمانية الأصل أو لا.
على أننا بعد ذلك الشكل المسرحي الذي أشرنا إليه، والذي يعتمد على حوارات مقتضبة بين الشخصيتين والدوران في حيز مكاني واحد، سوف نجد أنفسنا أمام دراما نفسية متصاعدة، فهذه المرأة العجوز لم تكن قط عاجزة ولا مصابة بالخرف بل إنها ند قوي لمن حولها، وأن عندها نوايا مبيتة عدوانية تجاه الآخرين، وهو ما سوف يتضح لاحقا في تصاعد أحداث الفيلم إلى منطقة الجريمة، ولأن مهمة تلك المرأة استدراج الفتيات الشابات والاعتداء عليهن واحتجازهن، ومنهن من تجد نفسها حاملا بعد عملية تخدير تقوم بها العجوز مع حارس مفتول العضلات.
هذه السوداوية سوف تطبق على الفيلم وتجد إيما نفسها محاصرة من كل جانب وأنها قد تم الإيقاع بها، وقد عزز ذلك استخدام المخرج ما درجنا على مشاهدته في أفلام الرعب من استخدامات للأماكن الواسعة متعددة الطبقات للمنازل القديمة، واستخدام الإضاءة والأصوات، وهو ما كانت إيما تراقبه وهي تدرك بالتدريج أن في هذا البيت أناس آخرون وليست كما ظنت أو قيل لها أنها تعيش مع العجوز لوحدها.
من هنا يتشعب البناء السردي من حوارات هي أقرب إلى الحوارات المسرحية القصيرة والمقتضبة إلى الانكفاء في حيز مكاني ضيق باتجاه دراما نفسية تختلط بالجريمة، وهو ما سوف يتصاعد لاحقا مع اكتشاف إيما ضحية أخرى وهي فتاة قد تم احتجازها وتكبيلها بالسلاسل، وهو ما يفاقم حالة الهلع التي تعيشها، وكونها مستهدفة من تلك العجوز بشكل خاص وبمعنى أنها تجهز على ضحاياها تباعا.
وأما إذا انتقلنا إلى الجانب الآخر المهم في هذه الدراما الفيلمية، وهو الذي يرتبط بأداء الممثل في مثل هذه الأحداث والمواقف، فغالبا ما كنا نشاهد كيف تستخدم الشخصية ذكاءها في التخلص ممن يقوم بأسرها، وهو ما يحصل مع كلارا التي أصبحت أسيرة تلك العجوز الشريرة، وكانت في كثير من المواقف بيدها زمام الأمر، وبإمكانها أن تستخدم ما هو شائع من مطاردة القط والفأر؛ مما يدهشنا من ابتكار حيل تجعل من الشخصية الإيجابية الرئيسة تحرك الأحداث وتوجهها وتتقدم بالتدريج نحو التخلص من المأزق الذي وجدت نفسها فيه، إلا أننا في هذه الدراما الفيلمية سوف نفتقد هذا الركن المهم ولا ندري ما سبب بناء الشخصية الرئيسة بهذا الشكل؛ فهي امرأة مستسلمة، مقاومتها ضعيفة لسجانتها، وحيلها ومخادعتها لا تكاد تذكر، لكنها في المقابل تنتقم من الحارس مع أن موته بطعنة واحدة كان مبالغ فيه، وكذلك توجيه ضربة للعجوز لكنها تنهض بعدها وكأنها لم تصب بشيء.
لعل هذه الخطوط الرئيسة في البناء الفيلمي عززت كون الفيلم من ذلك النوع من الأفلام قليلة التكلفة إنتاجيا؛ فالأحداث تقع في حيز داخلي هو ذلك المنزل الكبير، ولا توجد أحداث تقع في الخارج إلا مشهدا واحدا أو مشهدين وما عدا ذلك فسوف نجد انفسنا وكأننا على خشبة المسرح وننتقل من منظر إلى آخر وهو الحل الإخراجي الذي اعتمده المخرج ورسخه بتتابع الأحداث.
بالطبع فقد حشد المخرج خلال ذلك أدواته التعبيرية من الإضاءة وحركات الكاميرا والمونتاج لتعزيز البنية الدرامية في هذا الفيلم، فاستخدم مستويات الإضاءة الواطئة لإضفاء المزيد من الغموض على ما يجري من أحداث، وكذلك التوظيف المتنوع للإضاءة حسب مسارات الأحداث، ومن ثم استخدام حركات الكاميرا بما يتناسب مع المواجهات التي تقع بين الشخصيتين.
على أننا سوف نواجه إشكالية جديدة تتعلق بظهور ابنة العجوز بشكل مفاجئ لتدخل طرفا في ذلك الصراع في الدقائق الأخيرة من الفيلم، وكنوع من الحبكة الثانوية لكن ظهور الفتاة لم يغير كثيرا من مسار الأحداث سوى التأكيد بشكل ما أن تلك الفتاة شريكة لأمها في جرائمها، وهو ما سوف تسلط الشرطة الضوء عليه عن طريق تقارير تلفزيونية تشاهدها كلارا التي فتحت الأبواب للشرطة، فيما بقيت متوارية عن الأنظار لا أحد يعرف عنها شيئا.
إخراج / أريل لوكو
سيناريو/ أريل لوكو وماريانا فريس
تمثيل/ ايما كلارا كوفشيش ، السيدة بيلوف فيرجنيا لومباردو، الكسندر نيكولا كينت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذا الفیلم وهو ما فی هذا
إقرأ أيضاً:
الدراما السعودية والتحولات الاجتماعية
نجد أن تأثير الدراما من مسلسلات وأفلام، كبير على المتلقي. ولديها قدرة على إثارة المشاعر والانفعالات لدى الجمهور بشكل كبير. ونجد أن المتلقي يعيش القصة من خلال شخصياتها والحوار المتبادل بين شخصيات العمل؛ وذلك مايخلق قاسماً مشتركاً للقضايا الاجتماعية المطروحة في الأعمال الفنية ويعزِّز الوعي الإجتماعي .
ومن خلال الدراما، يتم طرح المواضيع المسكوت عنها ،ويتم معالجتها من خلال سيناريوهات معينة تكون فعالةً ومؤثرةً إذا نوقشت بشكل سليم ومؤثر. ونجد مؤخراً أن الدراما السعودية اتجهت لتصوير حقبة السبعينات وإبراز المرحلة الزمنية التاريخية والاهتمام بتفاصيل الديكور والمكان، ممّا جعل العمل الدرامي ليس مجرد سردً ترفيهياً، بل رصد للتاريخ والتحولات المجتمعية .ولكن بعض الأعمال الدرامية رغم نجاحها بالغت باتخاذ حالات فردية، وجعلها ظاهرةً اجتماعيةً، وهذا مناف للواقع والحقيقة التي يعرفها كل من عاش في تلك الحقبة الزمنية.
ولا ننسى أن المتلقي لديه القدرة على النقد، وتفكيك العمل الفني، واستخراج الأخطاء اللغوية، وتقديم أحداث غير منطقية، ويستحيل حدوثها في تلك الفترة الزمنية السابقة ؛ ممّا يفقد العمل مصداقيته رغم ضخامة إنتاجه. والواقع أن هذه الأحداث التي وقعت في مرحلة زمنية بعيدة ومختلفة؛ يحمل الكاتب والمخرج مسؤولية الفارق في الأحداث والحقائق وانسجامها الفكري، ولا يجعل منها مسألةً بدهيةً في تلك الحقبة الزمنية. والثابت الوحيد هو الطابع العام للمسلسل والتصوير الفني .
وبالعودة لتفاصيل الأحداث، نجد أن العمل يعبر عن جيل يتيم عاطفياً. يبحث عن مشاعر طائشة ومزيفة وتطلعات لا منطقية ومايتخلله من تراكمات كلامية فضفاضة إلى مستوى تدويني مكتوب، جعلت الحلم يتحول إلى الألم؛ مستخدماً آليات عقابية من الأهل قد تبدو من الوهلة الأولى آليات قمعية وإقصائية، ولكنها منطقيةً في تلك الفترة الزمنية، كون العقوبة وظيفةً اجتماعيةً معقدةً تخضع لتجليات الفرد وعقليته وثقافته وبيئته الاجتماعية .
وقد ركز ت الأعمال الدرامية على إبراز اللهجات المحلية النجدية والبدوية بشكل كبير؛ كون اللهجة تعزز واقعية العمل، وقد نجح بعض الممثلين في إتقانها وفشل البعض الآخر.