جريدة الرؤية العمانية:
2024-09-08@10:18:18 GMT

ثقافة الإنصاف.. أين نحن؟ (2-2)

تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT

ثقافة الإنصاف.. أين نحن؟ (2-2)

 

 

محمد بن حمود الصواعي

ثقافة الإنصاف أن يحرص المسلم على العدل مع نفسه أولاً قبل الآخرين لأنَّ الله عز وجل حرم الظلم على نفسه: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ" (يونس:44). فمن باب أولى أن يحكم الفرد نفسه وضميره بإنصاف؛ فلا ينشغل بعيوب الآخرين ويهمل نفسه المليئة بالمساوئ حيث يقول الإمام الشافعي:

لِسَانُكَ لاَ تَذْكُرْ بِهِ عَوْرَةَ امْرِئٍ

فَكُلُّكَ عَوْرَاتٌ وَلِلنَّاسِ أَلْسُنُ

وَعَيْنَاكَ إنْ أَبْدَتْ إِلَيْكَ مَعَايِباً

فَدَعْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُنُ

فينبغي على المسلم أن يُحاكم ويُحاسب نفسه حتى وإن نظر إلى سلوكيات البشر فيتخذ من عيوبهم درسا كي يتجنب ما يؤذي الناس ويضرهم، فهنا ينبغي على المرء أن يطرح التساؤلات الآتية على سبيل المثال:

- هل أنا ملتزم بالورد اليومي من أذكار الصباح والمساء؟

- هل أنا رغم أنني شخص مقتدر حريص على توزيع الصدقات عبر التبرع للجمعيات الخيرية أو توزيع المؤن الغذائية للفقراء والمحتاجين؟

- هل أنا ممن يشكرون نعم الله عزوجل بالأقوال والأفعال أم أنني مستمر في ظلم نفسي عبر ارتكاب المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات؟

- هل أنا مواظب على تلاوة القرآن الكريم والمحافظة على الصلوات؟

- ما المعوقات التي وقفت حجر عثرة أمام الالتزام بتلاوة القرآن والمحافظة على الصلوات:

* اللعب واللهو على حساب طاعة الله عزوجل

* اتباع الشهوات بمختلف أنواعها

* الغفلة عن مجالس الذكر وحلقات التلاوة

* افتقاد الأبناء الاهتمام والمُتابعة

- هل صلاتي عن حب وقوة علاقة مع الله عزوجل أم فقط اتخاذ من العبادة عادات يومية؟

- هل حريص بيني وبين نفسي في وقت الخلوة على طاعة الله وتجنب مختلف المعاصي المُحرمات؟

هكذا يكون ميزان الإنصاف ومحاكمة الإنسان نفسه بالوقوف والحديث بينه وبين نفسه ليكتشف محامد أفعاله، فيحمد الله ويشكره ويكتشف مكامن السوء فيصلح نفسه ويهذبها بالحوار والنقاش والتأديب كالصيام مثلا ليردعها عن فعل الرذائل وترك المعاصي.

ليصدح قول الله عزوجل ليحسم قضية ظلم الإنسان لنفسه وعدم إنصافها بشكل واضح؛ حيث يقول: "مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ".

ثقافة الإنصاف تُحتِّم علينا استخدام المصطلحات اللفظية والأفعال في المكان الصحيح وما أكثر الغوغائيين وممن يحرفون الكلم عن مواضعه فيقلبون كل باطل إلى حق وكل رذيلة إلى فضيلة وكل فساد إلى صلاح وما أروع قول أمير الشعراء أحمد شوقي، حينما وصف حال النَّاس وتبديلهم للقيم والمبادئ ونسفهم للأخلاق والفضائل بمصطلحات براقة ومُسميات منمقة:

ما كان في ماضي الزَّمانِ مُحَرَّمًا

لِلنَّاسِ في هذا الزَّمَانِ مُبَاحُ

صاغوا نُعُوتَ فضائلٍ لِعُيُوبِهِم

فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ والإِصلاَحُ

فالفَتْكُ فَنٌّ وَالخِداعُ سياسَةٌ

وغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعةٌ ونجاحُ

والعُرْيُ ظُرْفٌ والفسادُ تَمَدُّنٌ

والكِذبُ لُطْفٌ وَالرِّيَاءُ صَلاَحُ

هنا.. نلاحظ قلب المصطلحات مستمر وواقع نعيشه ونعينه فمثلاً خذ مجموعة من المواقف التي نعيشها يوميا ويتم تلميعها وتنميقها بمصطلحات وألفاظ مختلفة:

- شارب الخمر المسكر يطلق عليه "روحانيات"

- التاجر المتلاعب في الأسعار والميزان يسمى "براعة وشطارة"

- رشوة الموظف عبر دعوته لوليمة خاصة مقابل تخليص معاملة متأخرة جدا أو مخالفة للقوانين يطلق على هذا النوع من الرشوة أنه "هدية"

- السماح للطلاب بالغش في الامتحانات يطلق عليه اسم (مساعدة):

* هل هكذا أفعال وتسميات هو من العدل والإنصاف التي يدعو إليها الإسلام؟

* هل أصحاب هذه المصطلحات مستعدون أن يدخلوا في حوار عقلاني هادىء خالٍ من الغضب والتشنج؟

* هل هم فعلا رواد الحقيقة وروح العدالة أينما وجدت فعلا؟

أحياناً النظر إلى الأمور بعين الإنصاف يتعذَّر بسبب تشابك الأحداث واختلاف الأهواء والمصالح.. وهنا يجب تحكيم العقل والضمير مع الفطنة هنا يحتاج الإنسان إلى البحث عن الحقيقة والمعرفة والسعي الدؤوب نحو الحقيقة المنشودة؛ ومثال على ذلك:

"ثورات الربيع العربي" وهي من المصطلحات التي أثارت الكثير من النقاشات والدراسات بين مؤيد ومعارض، ولكن هذا المصطلح في مجمله يحمل معالم ثوب الحرية ورداء العيش الكريم وعباءة العدالة الإنسانية ومحاربة الطغيان ونير الاستبداد ولكن باطنها يحمل قنابل موقوتة ولغم مدسوسة من قبل مخابرات (CLA) والموساد ومخططات غربية لاستهداف (س) أو (ص) من بلدان الوطن العربي استغلالا لمطالب الشعوب في التخلص من ظلم الحكام واستبدادهم خدمة لأجندات غربية تتمثل في نهب الثروات وأضعاف الدول تحت أتون الحرب الأهلية واكتواء جحيم التقسيم إلى دويلات وكانتونات متنازعة (سوريا وليبيا أنموذجا).

هذا المثال نموذج استشهدت به لأحداث يومية استمرت طوال 10 سنوات، وهو بالأساس مصطلح استخدمته الدول الأوروبية برئاسة بريطانيا لأول مرة في مؤتمر فيينا سنة 1848م ضد نابليون بونابرت كما ذكر المؤرخ البريطاني هبسباون كما نشر البروفسور الأمريكي مارك لينش من جامعة واشنطن في 6 يناير 2011م مقالا في مجلة فورين بولسي بعنوان "ربيع أوباما".

هذه الإشارات وغيرها هي ومضات سريعة لضرب مثال حول آلية البحث والتأني في الحكم والغوص في أعماق الحقيقة.

ثقافة الإنصاف أن يتوسط الوسيط بين المتخاصمين ويحتكم بالعدل وفق من صاحب الحق ومن هو الأجدر وفق كفاءات ومنجزات دون إدخال العاطفة بسبب قرب في النسب أو صداقة في العمل أو شراكة في المال والجاه أو ترجيح كفته بسبب علو في المنصب وارتفاع في المنزلة. قال تعالى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِين الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء:47).

هنا.. تأكيد على أهمية العدالة وعظمها عند الله عز وجل وأي جرم يرتكب فيمن يظلم مهما كان حجم الظلم حتى لو كان الظلم هو مقدار حبوب شجرة الخردل وهنا يكشف لنا دقة التعبير القرأني أنه سيحاسب كل ظالم يوم القيامة فاستخدم حبوب شجرة الخردل وهي أخف الأشياء وأصغرها وأقلها وزنا.

ثم عندما نستعرض الآيات البينات من الذكر الحكيم: "وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ" (سورة ص: 21-23).

ثم بعد هذه الآيات السابقة ننظر ونتدبر كيف خاطب الله عزوجل سيدنا داود عليه السلام رغم أنه نبي مرسل من عند الله عزوجل إلا أنه حذره من أتباع الهوى فيضل عن سبيل الله عزوجل وأن يحكم بالحق مذكرا أنه من يظلم حقوق الناس لهم عذاب شديد: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص:26).

نعم.. الله عزوجل يرفض ظلم حقوق العباد وهضمها حتى لو كان نبيًّا مرسلًا؛ فجميع الناس سواسية أمام محكمة العدل الإلهي، هكذا ثقافة الإنصاف يجب أن يفهمها العبد المسلم، ويتعامل بها مع أفراد مجتمعه والمجتمعات الأخرى من الديانات المختلفة.

يعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مثالا في تطبيق العدل، حيث جاء إليه رجلان من الأنصار يختصمان إليه، ويطلبان منه أن يحكم بينهما، فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ يأخذ حق أخيه، فإنما يأخذ قطعة من النار، فبكي الرجلان وتنازل كل واحد منهما عن حقه لأخيه.

وفي سيرة العدل بين الخصوم لنا عبق الذاكرة وهدى المتقين وسراج المصلحين؛ ومن ذلك ما يروى عن الإمام الوارث بن كعب الخروصي (رحمه الله) في سنة 192هجري أنه عند هطول الأمطار الغزيرة وجريان الشعب والأدوية في وادي كلبوه بنزوى؛ حيث إن هناك سجنًا يسجن فيه الإمام بعض المجرمين والظالمين هنا خشي الإمام أن يحاسبه الله عزوجل يوم القيامة عن مسؤوليته حول هلاك هذه الأرواح فأنبرى بكل صدق وأمانة وعدل وإنصاف وقرر أن يرمي نفسه في الوادي لإنقاذ هذه الأرواح فاستشهد غريقا في سبيل الله لإنقاذ تلك الأرواح.

وأخيرا.. فقد برهنت الحضارة الإسلامية تكرسيها قيم العدالة والمساواة بين المسلمين وغير المسلمين جميعا؛ فالتشريعات الربانية جاءت واضحة وضوح الشمس فقد حفظت حق اليهود والنصارى من حيث الأمان والاستقرار والمعاملة في البيع والشراء والبناء فهم سواسية في المعاملة مع المسلمين دون تمييز أو انتقاص كذلك تمثلت روح الإنصاف في منحهم حرية ممارسة الشعائر الدينية وحفظ كنائسهم من الهدم والدمار ومن أجمل قصص العدل والأنصاف ما حدث في عهد السلطان العثماني مراد الأول عندما لجأ صهر ملك صربيا فوك برانكوفيتش إلى السلطان مراد وجيش الدولة العثمانية حيث كشف لهم خطة ملك صربيا لازار وتقسيمات جيشه في معركة كوسوفو سنة 1389م فاندهش السلطان مراد ومستشاريه أنك نصراني ونحن مسلمون كيف تضع يدك بيدنا ضد جماعتك ومن هم في ديانتك النصرانية فأجاب فوك برانكوفيتش وهم أعداء الإسلام وألد الخصوم قائلا: "لأنكم قوم عادلون ولأننا أمة مقهورة ومظلومة ولقد ظلمنا كثيرا في عهد لازار ونطمع أن نعيش بين ظهرانيكم في عدلكم الذي هو أساس دينكم وعقيدتكم فنحن نعلم جيدا أن الإسلام هو الدين الأكثر نورا في أكثر فترات العالم".

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

صباح يشرق كالأمس.. قصص بنكهة الواقعية السحرية

القاهرة "العُمانية": يتناول الكاتب المصري ناصر كمال بخيت في مجموعته القصصية "صباح يشرق كالأمس" قضايا الزمن وتداخلاته البنيوية، والوجود ومعانيه الفلسفية، والواقع وهمومه الإنسانية، بأسلوب يتجاوز السرد التقليدي؛ مما يجعل القصص تندرج ضمن تيار الواقعية السحرية.

الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار البديع العربي يصطحب القارئَ في رحلة بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويطرح تساؤلات ملحّة حول الصراع بين تدفق الزمن الحتمي والأحلام المؤجلة، مستخدمًا توليفة فريدة تجمع بين الفانتازيا والواقع اليومي، حين يصبح الصباح رمزًا للتأمل في الحاضر وتداخل الأزمنة.

وتقدم المجموعة صورة معقّدة للإنسان المعاصر الذي يجد نفسه ممزقًا بين رغبته في العودة إلى الماضي الجميل الذي لا يبقى منه سوى الصور المثالية في عقله، وحلمه بتحقيق المستقبل الذي يمتلئ بالتحديات، وكل هذا في إطار من السرد الأدبي الذي يمزج بين البساطة والتعقيد.

ووفقًا للمؤلف، فإن القصص في هذه المجموعة ليست مجرد سرد لأحداث واقعية أو خيالية، بل هي انعكاس عميق للتجربة الإنسانية الحديثة. إذ يجد القارئ نفسه في أجواء تتداخل فيها الحدود بين الواقع والحلم، بين الممكن والمستحيل؛ مما يعزز شعوره بأن الحياة نفسها قد تكون مجرد وهم أو حلم مستمر.

في هذا السياق، تبدو فكرة "الصباح" في المجموعة أبعد من المفهوم المتداول بأنه بدايةٌ جديدة ليوم آخر، فهي تمثل لحظةً من التفكير في الحياة والقرارات والوجود ذاته. إنه صباح مملوء بالتأملات والأسئلة التي تلاحق الشخصيات عبر النصوص، وهو تذكير مستمر للإنسان بأنه يعيش في دائرة من الزمن لا نهاية لها، حيث تتداخل الأحلام مع الواقع، وتتشابك الأيام لتترك في النهاية أسئلة لا تجد إجاباتها إلا في تلك اللحظات الغامضة بين النوم واليقظة، كما في قصة "أسئلة الصباح" التي تُفتتح بتساؤلات وجودية تعكس حالة الضياع التي يعيشها الفرد في العالم الحديث: "مَن أنا؟ وأين أنا؟ وماذا أفعل؟".

تتسم المجموعة بالمزج بين الواقع والأسطورة، إذ تتجاوز الشخصيات حدودَ المنطق لتغوص في عوالم موازية. في قصة "تمثال الحرية" على سبيل المثال، ينتقل البطل من قريته الصغيرة إلى مدينة نيويورك بعد أن يتم اختياره في قريته كقربان من أجل ضمان استمرار الحياة بها، فإذا به يجد نفسه أمام تمثال الحرية الشهير، محاطًا بحضارة أخرى متقدمة بالنسبة لتجربته القروية وكأنه انتقل للمستقبل، لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، إذ يعكس سيرُ الأحداث التساؤلَ الدائم الذي يسيطر على المجموعة: أهذا حاضر أم مستقبل أم ماضٍ سحيق؟ تشتمل المجموعة أيضًا على تجارب قصصية تُظهر معضلة الإنسان المعاصر الذي يجد نفسه محاصرًا بين رغبته في العودة إلى الماضي ومواجهة تحديات المستقبل. يتجلى ذلك في النصوص التي تعرض شخصيات تبحث عن ذاتها في إطار من النوستالجيا والذكريات، كما نجد في العديد من القصص إشارة إلى "الدفاتر القديمة" و"الذكريات الضائعة"، حيث يحاول الأبطال استعادة ما فات من حياتهم أو استكشاف ما فاتهم فهمه أو تحقيقه في الماضي.

وخلال ذلك، يُظهر الكاتب قدرتَه على التعامل مع التناقض بين الماضي والمستقبل، كما يظهر في مجموعة القصص التي تتناول الصباح كحالة شعورية ترتبط بأسئلة لا تجد إجابات مباشرة لها.

ويظهر واضحًا الصراعُ الداخلي لدى شخوص القصص، ليدفع القارئ إلى إعادة التفكير في مفاهيم الوجود والهُويّة. نرى هذا في قصة "أرواح سجينة"، حيث ينقل الكاتب معاناة بطلها، وهو شاعر ومثقف يعيش في صراع بين الالتزام الأدبي والمادي وبين أحلامه السامية ورغباته المكبوتة، ثم يبدأ تمردًا داخليًا ضد ما تفرضه عليه الحياة الاجتماعية والاقتصادية، حيث يجد نفسه غارقًا في الحرمان بينما يلاحق عالمًا آخر ساحرًا من الأدب والشعر. هذه التناقضات تجعل الشخصية مثارًا للتأمل والتعاطف من القارئ، لكنها في الوقت نفسه تمثّل انعكاسًا لأزمة الإنسان في العصر الحديث، إذ يتجلى الفارق الرهيب بين احتياجات الروح والجسد، وبين ما يقدمه الواقع وما يرغب فيه المرء من حياته.

وفي قصة "تصويب"، يعيش بطل القصة تجربة يتنقل فيها بين الماضي والمستقبل، حيث يتلاعب الزمن به لينقله من نقطة إلى أخرى بلا أيّ سيطرة منه. كل يوم جديد بالنسبة له يشكل تحديًا لفهم ما إذا كان في حلم أم في واقع جديد. الزمن في هذه القصة ليس خطّيًا كما نعرفه، بل هو سلسلة من الأحداث التي تتشابك وتتداخل لتَظهر كأنها نسيجٌ معقّدٌ من المشاعر والتجارب الإنسانية. هذه التقنية الأدبية تمنح القصة طابعًا سرياليًّا، لكنها في الوقت نفسه تجعل القارئ يعيد التفكير في طبيعة الزمن وتأثيره على الحياة.

ونجد في هذه المجموعة تركيزًا على قضايا الحرية والاختيار، ليس فقط من خلال التفاعل مع الزمن، بل أيضًا من خلال القضايا الأخلاقية والفلسفية التي تطرحها القصص. وقصة "المنحة" تعكس هذا الصراع بشكل خاص، حيث يعيش البطل حالة من القلق والترقب بشأن مستقبله المهني والشخصي؛ فبينما يستعد للسفر للحصول على منحة تعليمية، يواجه أزمات نفسية ووجودية تتعلق بحياته المهنية والضغوط الاجتماعية. تعكس القصة معاناة الفرد المعاصر الذي يكتشف أنه في مواجهة دائمة مع التحديات الاجتماعية والمهنية، ومحاولة الهروب من الواقع إلى أحلام أخرى ربما تكون مستحيلة. وتتكرر هذه الفكرة في قصص أخرى؛ حيث يظهر الأبطال محاصَرين بين قرارات مصيرية وضغوط نفسية تدفعهم لإعادة التفكير في مصيرهم ومستقبلهم.

وتمثل قصص "صباح يشرق كالأمس" دعوة للتأمل في ماهية الواقع والزمن والوجود، وقد أظهر فيها الكاتب قدرةً على التلاعب بالزمن ليقدم لنا مسارات عدة ربما لقصة واحدة يجاهد فيها البطل من أجل الحصول ولو على لحظة بسيطة من السعادة افتقدها في ماضيه.

مقالات مشابهة

  • محمد بن راشد: مشروع مترو دبي يمثل ثقافة الإمارة القائمة على الجودة والالتزام
  • وليامز وبرشلونة.. «الباب المفتوح»!
  • ثقافة سبتمبرية (1)
  • في "تصعيد دراماتيكي".. هل أرسلت إيران مئات الصواريخ إلى روسيا؟
  • الفشل معيار النجاح
  • معاناة المتقاعدين في كردستان بحاجة إلى قرار تاريخي وخطوة واحدة لـ الإنصاف
  • معاناة المتقاعدين في كردستان بحاجة إلى قرار تاريخي وخطوة واحدة لـ الإنصاف - عاجل
  • صباح يشرق كالأمس.. قصص بنكهة الواقعية السحرية
  • تقلّبات باسيل… رهان خاسر على ليونة حزب الله
  • CNDH يجري خبرة جينية لتأكيد هويات متوفين بالمعتقل السري تازمامارت