رسالة إلى "يوسف" شهيد الوطن والواجب
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
د. يحيى بن ربيع النهدي
لم يكن يومًا كسائر الأيام على هذا الوطن؛ فقد خيم الحزن فيه على عُمان قاطبة، حزن يصحبه سخط وغضب على ثلة ممن نحسبهم بشر، وهم ليسوا كذلك، متعصِّبين ماتت ضمائرهم ففعلوا فعلتهم المقيتة؛ فقضوا بدم بارد على أرواح أبرياء، وأنهوا بذلك عداد أيامهم تاركين وراءهم أمًّا وأبًا يبكون قرة عين لهم، زوجةً ستفتقد من كان سندًا وسكنًا لها، أطفالًا تيتموا وحرموا من حنان الأبوة، جميع هؤلاء سوف تسهر أعينهم الليالي وستبيض من الحزن على فراق أحبابهم.
يوسف أيُّها الشهيد، أن تموت شجاعًا وأنت في ميدان الورى تذود عن الوطن الغالي هو شرف كبير لك ولمن تركت بعدك، وأن تموت شهيدًا هي غاية كلِّ حيٍّ، ولا ينالها إلا من أكرمه الله واختاره أن يكون بجواره حيًّا يرزق. محظوظٌ أنت أيُّها العزيز؛ لأنك ودَّعت دنياك؛ لتكون قريبًا من ربك، فقول الله تعالى فيك وفي أمثالك واضح وصريح، حيث قال جلَّ وعلا في محكم كتابه "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران– 169)، فهنيئًا لك هذه المنزلة العظيمة وأنت إلى جوار ربك، وهنيئا لأهلك لما خلَّفت لهم من مجد وعزة وفخر، فلا يساورني شك– رغم فداحة الحدث، حيث لا وجع أشد من فقد الولد– بافتخار أبويك بك؛ فقد تركت لهم إرثًا لن يُنسى بتسطيرك ملحمة تاريخية ستبقى الأجيال تتناقلها مثل ما تناقلوا ملاحم الأبطال من قبلك، وبفعلتك المشرفة هذه ستبقى حيًّا رغم موتك، فأنت ممن قال فيهم الإمام الشافعي– رحمه الله: "قد مات قوم وما ماتت فضائلهم، وعاش قوم وهم في الناس أموات".
يوسف أيُّها الشهيد، كنت أنت البطل في هذه المأساة، كنت أنت الضحية مع غيرك من الشهداء، كنت أنت من قلب الطاولة على هؤلاء البغاة المعتدين؛ فلم يكن في حسبانهم أن تكون النتيجة عكسية؛ فقد كانت ردات فعل هذا الشعب الأبي على الحادثة كلها مقتًا وسخطًا على من نفذها، رافضين كلَّ ما من شأنه أن يمس وحدة أهل عمان وترابطهم، غالقين الباب في وجه من أراد بهذا الوطن سوءًا.
يوسف أيها الشهيد، استحضرني موتك قصة موت "بجير" ابن الحارث بن عباد– سيد قومه– "بجير" الذي قتله "المهلهل" انتقامًا لمقتل أخوه "كليب" في القصة المعروفة عن الحرب التي وقعت بين بكر، فلما بلغ الحارث مقتل ابنه قال عبارته المشهورة: "نعم القــتـيل بجير، قد أصلح الله به بين الحيين"، أي بين القبيلتين المتنازعتين. أنت كذلك يا يوسف، نعم القتيل الذي موته- وإن كان أليمًا– لن يمر مرور الكرام؛ فستستسقى منه العبر، وسيكون بداية الطريق نحو تطوير المنظومة الأمنية ورفع كفاءتها، وعلى مستوى الأسرة، سيدرك كل أب وأم أن انخراط الأطفال في التقنية المفرطة سيكون له أثر سلبي مخيف، دائما يكون ضحيته الجميع؛ وبذلك ستراجع الأسر طريقة تربية أبنائها. وعموما استشهادك يا يوسف أتاح المجال لخلق صحوة على جميع الأصعدة، وبذلك كنت أنت الضحية بحكم أنه لا إصلاح بدون ضحايا.
حادثة الوادي الكبير أثبتت أن رجال الشرطة البواسل هم شجعان هذا الوطن، يقومون بواجب حماية كلِّ من يسكن في هذه الأرض الغالية على أكمل وجه، مضحين بأرواحهم شهداء لعمان وأهلها؛ فوظيفة الشرطي هي وظيفة صعبة، تراه متصبِّبًا عرقًا يقوم بالواجب والشمس في كبد السماء، كلنا نتذكر رجال الشرطة الشجعان أيام الوباء وأيام الحضر وهم يحرسون الشوارع ليل نهار واقفين تحت شمس لاهبة لا يطيقها أحد منا ولو للحظات. كلنا يلاحظ رجال الشرطة راجلين أو راكبين يطوفون الشوارع ليل نهار ساهرين على أمننا. ومهما سطرت الكلمات لوصف مآثر هؤلاء الشجعان؛ فلن يكون للقلم والقرطاس مكان.
وفي اعتقادي، أنَّ أفراد الشرطة هم في حاجة إلى تحفيز ماديٍّ أكبر، وأن يكون هذا التحفيز الأفضل بين كلِّ الوحدات سواء كانت مدنية أو عسكرية مقابل العبء الكبير الذي يتحمله أفراد هذا الجهاز؛ لصنع الأمن والأمان في هذا الوطن الغالي.
اللهم احفظ عمان وسلطانها وشعبها من كل متربص حقود ناكر للمعروف جحود، اللهم أشغل من أراد بهذا البلد سوءًا بنفسه وردَّ كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين. اللهم آمين.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
القطينة مدينة العلم والعلماء تعود إلى حضن الوطن
(1) بين عروس الرمال الأبيض والقطينة عهد سيف ورمح عريق، فقد أسند الإمام محمد احمد المهدي قيادة معركة شيكان للدفاع عن الأبيض لثلاثة من كبار الأمراء وفي طليعتهم أبطال القطينة الأمير محمد عتمان ابوقرجة ، والامير شيخ فضلو ود أحمد وهما من أرومة بني عتمان ، حيث كان يطوف أحد ظرفاء المدينة وهو بين تجليات الحضور والغياب ويردد في شجن لازمة:
ياحليل أولاد عتمان الكلهم فرسان . ثم ما يلبث أن يعدد في تفجع وحسرة مآثرهم ومقاتلهم وبطولاتهم . والتاريخ أحيانا يعيد نفسه على عكس ما ذكر كارل ماركس ، فلا غرو أن تزامن فك الحصار عن الأبيض وتطهير القطينة من دنس المرتزقة الأوباش العلوج.
سنكتب عن القطينة بدم الشغاف وأنا ابن بجدتها ، فلها دم وعرق وسيف وقلم في مشروع النهضة السودانية منذ أبكار التاريخ ، فهي كانت تشكل الحدود الجنوبية لمملكة علوة المسيحية، وآخر نقطة حشد منها القائد عبد الله جماع جيشه للاجهاز على مملكة علوة ومن شرقها وغربها نهض شعب الفونج العظيم بقيادة عمارة دونقس وهزم جيش عبد الله جماع في أربجي ثم تحالفا وأسسا مملكة الفونج أول سلطنة إسلامية نهضت بعد سقوط الأندلس عام 1493. وقد زارها ملوك الفونج وفي طليعتهم الملك بادي أبوشلوخ.
(2)
في القطينة بدأت وقدة العلم في السودان وأشعل نارها الشيخ محمود العركي الذي سبق أولاد جابر الاكابر في تلقي العلم في مصر ثم عاد إلى السودان وبنى قصره المنيف ذو الشرفات والأسداد والذي يقع في الأحياء الجنوبية الشرقية لمدينة القطينة ولا تزال أوتاده راكزة. وأنار تقابة القرآن وعلم المجتمع الفقه وقد وثق ذلك بروف يوسف فضل عند تحقيقه كتاب الطبقات لود ضيف الله حيث أكد نهوض سبع منارات للعلم ممتدة من الحلفايا إلى مدينة الكوة في النيل الأبيض.
(3)
كما نالت القطينة شرف السبق في التعليم الديني، فقد نالت هذا الشرف الباذخ في التعليم النظامي حيث افتتح فيها جيمس كري وزير المعارف أول مدرسة للبنين عام 1902م والمدرسة الأميرية الوسطى عام 1953م ، لذلك ظلت مدينة القطينة عميقة التأثير في مجرى التاريخ الوطني الحديث ورفدت السودان بالأفذاذ بالسيف ما قنعوا فزانوا المنبرا فمنها على المثال لا الحصر الدرديري اسماعيل مؤسس حزب وحدة وادي النيل، وبابكر عوض الله أول وآخر سوداني تسنم رئاسة السلطات الثلاث في السودان ، والشيخ علي طالب الله أول امين عام لحركة الإخوان المسلمين ، ومحمد ابراهيم نقد السكرتير العام للحزب الشيوعي ، وفاطمة احمد ابراهيم أول امرأة تدخل البرلمان ، والشاعر صلاح احمد ابراهيم، والفريق أول بشير محمد علي وزير الدفاع والفريق علي يوسف قائد نسور الجو، والوزير هارون عوض ورجل الاعمال الشيخ بشير النفيدي ،والدكتور عثمان الهادي في طليعة الآباء المؤسسين لتجربة التأمين الاسلامي في السودان، والوزير والشاعر عبد الباسط سبدرات، وأستاذ الأجيال الشيخ بشير سنادة والاستاذات نفيسة الشيخ وفاطمة عبيد طه.
ونسيج وحده البروف الفذ وعالم الفيزياء النظرية محجوب عبيد طه ، وكأني بالقطينة عناها الشاعر ود المكي ابن مدينة الأبيض بأبياته الفولاذية وهي تصدر في قفاز مخملي من أرومة ديوانه أمتي:
أمتي خطت مضاربها فوق يافوخ الشمس
وفرشت موائدها على أعلى الشمس
وتوزع قومها على حارات الشمس
في قمة الشمس الصبية
أمتي لفت عمائمها ووثقت العباءة
هذا عصير الشمس فوق جبهتي
هذا كساء أمتي
هذا الكساء دمغتي
(4)
للقطينة شرف مؤثل في المناجزة بالسنان عن السودان فقد تواثق ابنائها وفي طليعتهم ابوقرجة أمير البرين والبحرين مع الإمام المهدي على تحرير السودان من قبضة حكم أسرة محمد علي باشا وشهدوا معه كل المعارك حتى التحرير الشامل ، وقد وثق هذه الصولات شيخ المؤرخين السودانيين محمد عبد الرحيم في كتابه نفثات اليراع عن الشاعر محمد عثمان جقود
نحن الخيلنا غارا في نواحي سواكن
ونحن صغيرنا بخطف العلوج الماكن
(وشايبنا) عالم بالحروب وعراك
يدخل في الصواريخ قلبه ثابت وساكن
وشايبنا يقصد به الأمير شايب ود أحمد أحد أبطال المهدية.
ونساء القطينة تأبطن السيوف وقتلن المأمور ساتي بك وقنبور في معركة غابة النور بوبا الأب المؤسس للمدينة في ثوبها الحديث ، ومنها أول امرأة سودانية صنعت زاد المجاهد لجيش المهدي أثناء تقدمه لاسقاط الخرطوم وهي مريم بت أحمد والتي كانت تلقب بشقيقة الأمراء.
ولما هفا لسان شعراء الأغنية الوطنية بامدرمان، كانت القطينة حاضرة على لسان احد ابنائها الشاعر جعفر علي
ما براك ياامدرمان
معاك قطينة الفرسان
معاك قرجة ومعاك شايب
معاك عبد الله ود سلمان
صحيح القبة ضاوية مكان
وصحيح الطابية عز وأمان
تعالي معاي شوفي كمان
معاك صايم ديمة وشيخ الدومة
مكاوي ود عثمان
رجال قلوب عامرة بالإيمان
ناس الخلوة واللالوبة
والمهيوبة للضيفان وحواري في داخل الحيشان
(5)
القطينة مدينة الجمال فقد أسرت بسحرها الأخاذ الأدباء والفنانيين وذكرها ود الرضي في رائعته الاسكلا
جبل أولياء حبيبي غشا وحصل في القطينة عشا
وقد خصها الشاعر حسن اكرت في رائعته ظبية البص السريع
عدى بينا وفرك الرمال
للقطينة جنة بلال
قمت ليك أزحت الستار
ضوى وجهك وزاد النضار
والقطينة مدينة التنوع الفكري والسياسي والمجتمعي والتصاهر والاندماج وفي عمق طينتها الخصوب الودود الولود تحقق قولا وفعلا شعار وحدتنا وقوتنا في تنوعنا.
الله أكبر فقد عادت القطينة ببسالة الجيش والقوات النظامية والمقاومة الشعبية ودماء ابنائها البررة خاصة في احياء الكداريس والخلاوات الذين ارتقوا شهداء عزيزة أبية شامخة إلى حضن الوطن وستعود بسواعد ابنائها أكثر إعمارا ونماء وإثمارا ووضاءة وجمال، فشدوا الوثاق على الوثاق
نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا
لنا ذكر وذكرى من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم
وحب الآخرين
وولاء حينما يكذب أهليه الأمين
ولنا في خدمة الشعب عرق
وهكذا نحن ففاخر بنا.
عثمان جلال
الثلاثاء: 2025/2/25
إنضم لقناة النيلين على واتساب