تفسير الأحلام.. كيف أمكن لعلماء الأعصاب التحكم فيما يرى النائم؟
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
اعتاد كل من سلفادور دالي وتوماس أديسون الذهاب إلى النوم وهما يحملان جسما ثقيلا أو سلسلة معدنية، وفي الأثناء التي تسبق النوم، يفكر كل منهما في مشروعه الجديد، سواء أكان ذلك تصميم لوحة بالنسبة إلى دالي أو فكرة اختراع تستحوذ على عقل أديسون، وعند الاستسلام للنوم، ترتخي أيديهما ويفلت ذلك الشيء المحمول فيسقط على الأرض، محدثا ضجة ومتسببا في إيقاظهما في أثناء أحلام بدايات النوم، مما يساعدهما على تذكر هذه الأحلام واستخدامها لتكون مادة في عملهما الجديد.
بالمثل، اعتاد المصريون القدماء رسم صورة إله الخصوبة "بس" على أيديهم قبل النوم، مما يمكنهم من لقائه في عالم الأحلام، ويعد هذا أقدم مثال موثق لاستخدام التحفيز الحسي بغرض التأثير على محتوى الحلم.
التحكم في محتوى الأحلام ظل موضوعا مثيرا للاهتمام في الثقافات الشعبية وعلوم الدماغ والسلوك لعقود من الزمان، ليس فقط لأجل تفسير ما يعنيه الحلم وما ينطوي عليه من استجابات نفسية وفسيولوجية، ولكن كذلك من أجل هذا تم استخدام أساليب بدائية تهدف إلى التأثير على النائم والتلاعب بمحتوى الحلم، من ضمنها استخدام الروائح والأصوات، واستخدام التأثيرات الضوئية.
أما في الوقت الحالي، فيمكن ذلك باستخدام جهاز استشعار يمكن ارتداؤه في اليد، ويقوم هذا الجهاز بتكرار المعلومات المستهدفة عند بدايات النوم (على غرار طريقة دالي وأديسون) بما يحفز تضمينها داخل الحلم، كما يتعقب الحالة الانتقالية لأطوار النوم من خلال المؤشرات الحيوية، مثل معدل ضربات القلب والتنفس وانقباض العضلات.
فريق ماساتشوستس يشير إلى أن استخدام هذه التقنية ارتبط بفوائد خلال اختبارات للإبداع، إذ يبدو أن الحلم بموضوع محدد يقدم إلهاما في ما يخص الجوانب الإبداعية المتعلقة بهذا الموضوع. وحسب تصريحات الفريق، فإن هذا ليس مفاجئا في ضوء الشخصيات التاريخية التي استلهمت الإبداع من أحلامها؛ الفارق هنا هو أن هذه الأحلام المفيدة إبداعيا يتم تحفيزها عن قصد. ويقود فريق البحث تعاونا مع فنانين باستخدام الأحلام لإنشاء أعمال فنية جديدة وتعزيز الإبداع الفني. وقد عُرض هذا العمل الذي يمزج بين علم النوم وفن الوسائط في "بينالي بكين" و"مهرجان آرس إلكترونيكا النمساوي".
ركز الفريق بشكل خاص على أحلام بداية النوم أو أحلام مرحلة النوم الخفيف المعروفة بـ"هيبناغوجيا"، وهي صور بصرية مجزأة تمثل نسبة ضئيلة من أحلامنا، فهي تكون عادة ضمن طور حركة العين غير السريعة، أما الأحلام فترتبط بشكل أساسي بطور حركة العين السريعة، التي يكون الدماغ في أثنائها نشطا بشكل مماثل تقريبا لحالة اليقظة، مما يحفز مراكز الرؤية على إنتاج الصور داخل رؤوسنا، إضافة إلى تنشيط مراكز العاطفة لبثّ مشاعر قوية مثل الخوف والفرح أثناء الحلم.
يستهلك طور حركة العين السريعة كثيرا من الطاقة والأكسجين، كما يزداد خلاله تدفق الدم الدماغي، وقد يكون ذلك نتيجة أن النائم خلال هذه المرحلة يعالج المعلومات التي اكتسبها طوال اليوم، مما يعني أن لهذا الطور دورا وارتباطا بالعمليات المعرفية، وهو ما تلقي عليه الدراسات ضوءا، إذ تشير إلى أن 50% من نوم الأطفال يقع في هذه المرحلة، في حين تبلغ نسبته 18% فقط لدى البالغين.
تجارب توجيه الأحلام امتدت أيضا نحو طور حركة العين السريعة بغرض تعزيز المهارات المعرفية، إذ قام باحثون كنديون بتعريض 10 مشاركين إلى صوت نقر منتظم في أثناء دراسة مشكلات منطقية صعبة، وفي الليلة التالية تم تشغيل صوت النقر مرة أخرى في آذان المشاركين في أثناء نومهم، إذ سمع 50% من المشاركين صوت النقر في مرحلة النوم العميق بينما تعرض له النصف الآخر بحيث يتزامن مع مرحلة حركة العين السريعة، وبعد مرور أسبوع، طُلب من جميع المشاركين دراسة تلك المشكلات المنطقية مرة أخرى، واتضح أن إجابات المشاركين الذين سمعوا النقر في أثناء فترة الحلم تحسنت بنسبة 23%، في حين لم تظهر المجموعة الأخرى أي تغير في الأداء.
إعادة عرض الحلم
التجارب المختصة بالتحكم في عالم الأحلام لم تقتصر على التأثير على المشاركين من خلال التأثيرات الحسية، إذ تشير إحدى الدراسات إلى أن تطبيق تيار كهربائي خفيف على فروة الرأس في أثناء النوم يمكن أن يساعد في الوعي بالحلم والتحكم به.
الدراسة التي أجراها مختبر ألماني عام 2014 على عينة من 27 رجلا وامرأة، تمت عبر إطلاق موجات تحفيزية قرب الجبهة والصدغين وفق تردد يبلغ 40 هيرتزا، بعد انغماس المتطوعين في مرحلة نوم حركة العين السريعة.
يعمل التيار الكهربائي على تعزيز النشاط العصبي في القشرة الجبهية الصدغية، وهي منطقة في الدماغ مرتبطة بالوعي الذاتي، وعادة ما يتم كتمها في أثناء حركة العين السريعة، مما يجعل الأحلام أفعالا لاإرادية، ولذلك فقد أبلغ المشاركون عند استيقاظهم، بأن أكثر من 70% أحلامهم كانت واعية ويمكن التحكم بها تزامنا مع تعزيز نشاط هذه القشرة، في حين لم يذكر أي منهم أنه كان واعيا في أثناء الأحلام التي راودته عند تلقي تحفيز منخفض للغاية أو وهمي.
بناء على هذا، يقترح الباحثون استخدام هذه التقنية في مساعدة الأشخاص الذين يعانون الكوابيس المزمنة لإنتاج أحلام إيجابية، بعد تغير النظرة إلى الأحلام واعتبارها مؤثرة على الصحة العقلية على المدى الطويل.
طبيعة الحلم ومحتواه والقدرة على تذكره تتأثر أيضا بمجموعة واسعة من المواد والعقاقير، فمثلا يرتبط استخدام لصقات النيكوتين بزيادة الصور المرئية وكثافة الحلم. كما تشير الدراسات إلى أن استخدام عقار الغالانتامين (عقار لعلاج مرض ألزهايمر) يحفز الأحلام الواضحة ويمكّن المريض من التحكم بالحلم، حيث يعمل العقار على تثبيط مفعول الأستيل كولين وتعزيز النشاط القشري، على غرار تجربة تحفيز الدماغ بالموجات الكهربائية التي ذكرناها سابقا.
علاوة على ذلك، عمل فريق من الباحثين اليابانيين مؤخرا على تطوير آلة لقراءة الأحلام، وذلك عن طريق تقنيات التصوير العصبي التي تشمل تصوير الرنين المغناطيسي وتسجيل مخطط كهربية الدماغ.
دراسات علوم الأعصاب أثبتت وجود نشاط كهربائي دماغي عالي التردد خلال فترة الأحلام، مما يعني أن مخطط كهربية الدماغ سوف يضع أيدي الفريق الياباني على اللحظة الفعلية التي ينشأ خلالها الحلم. أما بالنسبة لمحتوى الحلم، فيفترض الفريق الياباني ارتباطه بأنماط نشاط دماغية محددة، نظرا لأن استخدام منطقة من الدماغ يؤدي إلى تغيرات في تدفق الدم إلى تلك المنطقة، وهو ما تمكن معاينته عبر تصوير الرنين المغناطيسي.
التجربة شملت 3 متطوعين مستلقين داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي لمدة 3 ساعات على مدار 10 أيام، إذ استغرق المشاركون في النعاس في حين أظهر التخطيط الكهربي موجات مميزة لمرحلة النوم الأولى، قبل أن يوقظهم الباحثون ويطلبون منهم تقديم تقرير عما رأوه، ثم العودة مرة أخرى إلى النوم.
جرت عملية النوم والاستيقاظ أكثر من 200 مرة لكل مشارك، بفاصل زمني يبلغ نحو 6 دقائق، وقد أبلغ المشاركون في 75% من حالات الاستيقاظ عن محتوى بصري.
بعد ذلك، عرض الفريق الياباني على المشاركين في أثناء اليقظة صورا تتطابق مع تلك المذكورة في تقاريرهم، وبينما كان المتطوعون يشاهدونها، جرى تسجيل النشاط الدماغي مرة أخرى بواسطة التصوير بالرنين المغناطيسي، وعبر استخدام خوارزمية حاسوبية، تم ربط توقيعات النشاط الدماغي المتطابقة، للحصول على الصورة التي شاهدها المشاركون في أثناء أحلامهم.
يساعد ذلك العلماء في تفسير الأحلام من ناحية عصبية، فيجيبون عن أسئلة مثل: ما مناطق الدماغ المسؤولة عن الأحلام، وإلى أي حد تتفاعل تلك المناطق في أثناء النوم وخارجه؟ ومن ثم بالتعرف إلى المناطق المسؤولة، يمكن فهم سبب هذا التعقد الشديد في أحلامنا.
التطورات الحديثة في تقنيات التصوير العصبي فتحت آفاقًا جديدة لفهم العمليات الإدراكية التي تنطوي عليها الأحلام. وحسب عالم النفس الأميركي ويليام ديمهوف، تعد الشبكة الافتراضية الدماغية الرابط العصبي المحتمل للأحلام.
والشبكة هذه عبارة عن مجموعة من المناطق التي تكون أكثر نشاطًا في أثناء المهام السلبية، مثل لحظات الشرود الذهني، مقارنة بالمهام التي تتطلب تركيز الانتباه الخارجي.
ويفترض ديمهوف أن الروابط العصبية للأحلام يمكن تحديدها بشكل أفضل، من خلال إجراء دراسات تخطيط كهربائي وتصوير بالرنين المغناطيسي في أثناء الشرود الذهني ونشاط الشبكة الافتراضية، مما يعني أن الحلم يمثل حالة متغيرة من الوعي، تتفاعل خلاله الشبكات العصبية المسؤولة عن الإدراك والعاطفة والذاكرة بطرق فريدة تسهم في سماته المميزة.
الخبراء يشيرون إلى أن الأبحاث الإضافية في علم الأعصاب الإدراكي قد تساعد في توضيح التفاعلات المعقدة بين النشاط العصبي ومحتوى الحلم، مما يمهد الطريق نحو فهم أكثر شمولا للأساس العصبي للأحلام وتطبيقاته العلاجية المحتملة.
ومع ذلك، امتلاك القدرة على التأثير في الأحلام يثير المخاوف من إمكانية التلاعب بالعقل لأغراض تجارية أو سياسية. ورغم أن التقنيات الحالية لا تسمح بذلك بشكل مؤثر، فإن إحدى الدراسات التي أجريت في السوق الأميركي عام 2021 وجدت أن 77% من وكالات الإعلان أبدت اهتمامها بتقنيات التلاعب بأحلام المستهلكين لمساعدة عملائها في زيادة المبيعات.
الوسائل الحالية في تكنولوجيا التسويق الحلمي تتضمن عرض دعاية مكثفة للمنتجات في فترة ما قبل النوم، في حين يُذكر أن مجموعة من العلماء أصدروا بيانا عام 2021، اتهموا فيه مجموعة من الشركات الأميركية بتجريب طرق لإعادة تصميم محتوى أحلام البشر بغرض التسويق التجاري لمنتجات هذه الشركات.
وقال العلماء "بصفتنا باحثين في مجال النوم والأحلام وعلوم الدماغ، فإننا نشعر بقلق عميق بشأن خطط التسويق التي تنتهجها بعض الشركات بهدف تحقيق أرباح على حساب التدخل في أحلام البشر الطبيعية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات التحکم فی فی أثناء مرة أخرى من خلال إلى أن فی حین
إقرأ أيضاً:
من الحلم إلى المحنة.. الثورة التونسية كاختبارٍ للوعي الجمعي.. قراءة في كتاب
الكتاب: تونس بين الثورة والمحنةالمؤلف: الدكتور عبد اللطيف الهرماسي
الناشر : دار سيراس للنشر سنة 2024
عدد الصفحات: 350 صفحة
من بين الكتب التي سعت إلى تفكيك التجربة التونسية بعد 2011 بعيدًا عن الضجيج الإيديولوجي والاحتفاء الرومانسي بالثورة، يبرز كتاب عبد اللطيف الهرماسي «تونس: الثورة والمحنة» كأحد النصوص النادرة التي حاولت أن تمسك بالخيط المعقّد بين الأمل والخذلان، بين انبعاث الحلم الثوري وانكسارات الواقع.
فالهرماسي، وهو عالم اجتماع سياسي وفاعل حزبي يكتب من قلب التجربة ومن مسافة تأملها في الآن نفسه. كتابه ليس تأريخًا للأحداث، ولا مرافعة سياسية، بل تشريحٌ لمجتمعٍ دخل مختبر الثورة وخرج منه بأوجاعٍ جديدة وأسئلةٍ لم تُجب بعد.
الثورة كتجربة إنسانية لا كحدث سياسي
منذ الصفحات الأولى، يدعونا الهرماسي إلى قراءة الثورة لا كمنعطف سياسي فحسب، بل كتحول أنثروبولوجي وسوسيولوجي في الوعي الجمعي. الثورة بالنسبة إليه ليست فقط إسقاطًا لنظامٍ واستبداله بآخر، بل هي لحظة انكشافٍ لجوهر المجتمع التونسي، بما فيه من تناقضات وأوهام ومخاوف.
لقد فتحت الثورة صندوق الهوية المغلق، وأطلقت العنان للذاكرة المكبوتة، فأعادت طرح الأسئلة القديمة حول الدين والدولة، الجهة والمركز، العدالة والكرامة، المرأة والهوية، النخب والشعب.
يستخدم الهرماسي مفهوم "الأسطورة السياسية" ليصف كيف تحوّلت الثورة إلى خطاب رمزي مثقل بالوعد والأمل، ثم كيف تآكل هذا الخطاب تحت ثقل الواقع. فشعار "الشعب يريد" الذي كان لحظة توحّدٍ استثنائية، صار مع الوقت مجالًا للصراع بين نخبٍ تتنافس على تأويل الشعب، لا على تمثيله.يستعير الهرماسي أدوات علم الاجتماع السياسي ليقارب هذه اللحظة باعتبارها «مرآة جماعية»: كل فئة رأت نفسها فيها بصورة مختلفة. فالشباب رأى فيها الخلاص من البطالة واللامعنى، والنخب رأت فيها فرصة لتجديد شرعيتها، والأحزاب الإسلامية واليسارية رأت فيها امتحانًا لمشروعها التاريخي، فيما رأت الدولة العميقة فيها خطرًا على استمرارها.
لكن الهرماسي لا يقع في فخ المثالية الثورية؛ بل يذكّرنا بأن الثورات ليست بالضرورة خلاصًا، بل قد تكون عبورًا مؤلمًا نحو وعيٍ جديد بالذات والآخر.
من الأسطورة إلى المحنة
يستخدم الهرماسي مفهوم "الأسطورة السياسية" ليصف كيف تحوّلت الثورة إلى خطاب رمزي مثقل بالوعد والأمل، ثم كيف تآكل هذا الخطاب تحت ثقل الواقع. فشعار "الشعب يريد" الذي كان لحظة توحّدٍ استثنائية، صار مع الوقت مجالًا للصراع بين نخبٍ تتنافس على تأويل الشعب، لا على تمثيله.
بهذا المعنى، تحوّلت الأسطورة إلى محنة: محنة مجتمعٍ اكتشف أن الثورة لا تُعيد توزيع السلطة فقط، بل تُعيد توزيع الخيبات أيضًا.
يحلّل الهرماسي هذا التحوّل عبر تفكيك علاقة النخب بالرموز الثورية. فكل تيارٍ ـ من الإسلاميين إلى اليساريين إلى الليبراليين ـ حاول أن يحتكر تأويل "الثورة"، في حين ظلّ الشعب الذي فجّرها يواجه الأزمات ذاتها: بطالة، تهميش، غلاء، وتآكل الأمل.
هنا تكتسب مقاربة الهرماسي أهميتها؛ إذ يرى أن الثورة التونسية، مثل كل الثورات الحديثة، تنتج خطابًا مؤسطرًا حول الذات الجماعية، ثم تصطدم بحدود الواقع الاقتصادي والسياسي، فتنكسر الأسطورة دون أن تختفي، وتتحوّل إلى سردية ألمٍ مشترك.
النخب السياسية.. من البطولة إلى الانغلاق
أحد أهم فصول الكتاب يتناول ما يسميه الهرماسي "سيكولوجية النخب" بعد الثورة. فبدل أن تكون النخب ـ الحزبية والنقابية والمدنية ـ جسورًا بين المجتمع والدولة، تحوّلت في نظره إلى جزرٍ معزولة تُعيد إنتاج منطق الامتياز والانغلاق.
يرى الهرماسي أن الثورة لم تُنتج نخبًا جديدة بقدر ما أعادت تدوير النخب القديمة في لبوسٍ جديد، وأن ضعف الثقافة التنظيمية والمرجعيات الفكرية جعل الصراعات الحزبية أشبه بمعارك هوية أكثر منها مشاريعَ سياسية.
إنها نخبٌ تبحث عن رموزٍ أكثر مما تبحث عن حلول، وعن تموقعٍ أكثر مما تبحث عن إصلاح.
وهنا يلتقي تحليل الهرماسي مع تشخيص عزمي بشارة في كتابه "الثورة التونسية المجيدة" حين وصف المأزق التونسي بأنه انتقالٌ سياسي دون انتقالٍ ثقافي: أي أنّ الثورة لم تُغيّر الذهنيات كما غيّرت المواقع.
لكن الهرماسي يذهب أبعد من ذلك، فيُرجع أزمة النخب إلى انفصالها عن المجتمع الواقعي، وعيشها داخل فضاءٍ إعلامي رقمي خلق أوهامًا حول الشعبية والتمثيل، في حين ظلّت الكتلة الصامتة من الشعب خارج المشهد.
الاقتصاد والسياسة.. الكرامة المؤجلة
لا يكتمل تحليل الثورة في رأي الهرماسي دون إدراج بعدها الاجتماعي والاقتصادي. فـ"الكرامة" التي كانت شعار الثورة، لم تكن مفهوماً أخلاقياً مجردًا، بل صرخة اجتماعية ضدّ التفاوت والجهوية والبطالة والتهميش.
غير أن السنوات التي تلت الثورة ـ كما يبيّن الكتاب ـ كشفت عن انفصالٍ خطير بين الأجندة السياسية والأجندة الاجتماعية. انشغلت النخب بكتابة الدستور، والتحالفات، والمناورات، بينما بقيت الجغرافيا الداخلية لتونس على حالها: الجنوب المهمّش، الوسط الغاضب، والشمال المتمركز.
في هذا المستوى، يقارن الهرماسي ـ ضمنيًا ـ الحالة التونسية بنماذج عربية أخرى مثل مصر واليمن وليبيا. ففي مصر، أجهضت الدولة العميقة أي محاولة لإصلاحٍ اقتصادي جذري باسم الاستقرار. وفي اليمن وليبيا، تحوّلت الثورة إلى صراع مسلّح دمّر البنى التحتية وأعاد البلاد إلى المربّع القبلي. أما في تونس، فكانت المحنة ناعمة الشكل، عنيفة الجوهر: تآكل القدرة الشرائية، عودة البطالة، انهيار الثقة في المؤسسات، وصعود خطاب الحنين إلى "اليد القوية". إنها خيبة بلا دماء، لكنها نزيفٌ بطيء في الوعي الجمعي.
المرأة والمجتمع والثقافة.. الوعود المجهضة
يفرد الهرماسي حيزًا واسعًا لمسألة المرأة، لا بوصفها قضيةً حقوقية فحسب، بل كمؤشرٍ على التحولات الاجتماعية بعد الثورة.
فرغم ما حملته الثورة من شعارات المساواة والحرية، إلا أن الثقافة الأبوية والموروث الديني والاجتماعي ظلت فاعلة في تحديد مكانة المرأة، سواء داخل الأحزاب أو في الخطاب العام.
فالنساء اللواتي كنّ في الصفوف الأمامية أثناء الثورة وجدن أنفسهن بعد عقدٍ من الزمن في مواقع رمزية، لا في مواقع القرار.
يقارن الهرماسي ـ ضمنيًا ـ الحالة التونسية بنماذج عربية أخرى مثل مصر واليمن وليبيا. ففي مصر، أجهضت الدولة العميقة أي محاولة لإصلاحٍ اقتصادي جذري باسم الاستقرار. وفي اليمن وليبيا، تحوّلت الثورة إلى صراع مسلّح دمّر البنى التحتية وأعاد البلاد إلى المربّع القبلي. أما في تونس، فكانت المحنة ناعمة الشكل، عنيفة الجوهر: تآكل القدرة الشرائية، عودة البطالة، انهيار الثقة في المؤسسات، وصعود خطاب الحنين إلى "اليد القوية". إنها خيبة بلا دماء، لكنها نزيفٌ بطيء في الوعي الجمعي.الهرماسي لا يحمّل المسؤولية لتيار بعينه، بل للنسيج الثقافي بأسره، الذي لم يواكب التحول السياسي بتحولٍ قيميّ مماثل.
بهذا المعنى، تصبح مسألة المرأة جزءًا من «المحنة الكبرى» التي يتحدث عنها الكتاب: محنة الوعي الجمعي الذي لم يقطع مع موروث الاستبداد، بل استبدله بموروثٍ جديد من العجز والتردد والخوف من الحرية.
المحنة بوصفها استعارة جماعية
العنوان الذي اختاره الهرماسي ليس اعتباطيًا: "الثورة والمحنة" ليست مجرّد مقابلة لغوية، بل ثنائية رمزية تعكس مسارًا كاملاً من الأمل إلى الألم.
فـ"المحنة" عنده ليست نقيض الثورة، بل استمرارها في شكلٍ آخر؛ إنها الامتحان الذي تمرّ به المجتمعات حين تكتشف أن الحرية أصعب من القمع، وأن بناء الديمقراطية أبطأ من هدم الاستبداد.
بهذا التفسير، يضع الهرماسي تجربتنا التونسية في سياق إنساني أوسع. فكل ثورة، في نظره، تمرّ بهذه الدورة: من النشوة إلى الخيبة، من الأسطورة إلى المحنة، من الحلم إلى الواقع.
ولعلّ المقارنة مع تجارب عربية أخرى تُبرز فرادة الحالة التونسية: في مصر، كانت المحنة سياسية: انقلاب على الحلم. في اليمن وليبيا، كانت المحنة دموية: انهيار الدولة. أما في تونس، فهي محنة وعيٍ وثقافة: دولة قائمة لكنّها عاجزة عن تمثيل حلمها. ذلك ما يجعل تونس "أكثر استقرارًا وأقل طمأنينة"، كما يصفها الكاتب ببلاغةٍ مؤلمة.
الوعي والمجتمع والذاكرة
يولي الهرماسي اهتمامًا خاصًا لمسألة الذاكرة الجماعية وكيف تُعاد كتابتها بعد الثورات. فكل جيلٍ يسعى إلى إعادة تعريف تاريخه ورموزه، ويصوغ سرديته الخاصة عن النصر أو الهزيمة.
لكن في الحالة التونسية، أدّى هذا التعدد في السرديات إلى تمزقٍ في الذاكرة الوطنية: فهناك من يرى الثورة مؤامرة، وهناك من يراها خلاصًا مؤجلًا، وهناك من يعتبرها خطأً تاريخيًا.
إنها، كما يقول الكاتب، "ثورة يتيمة تتنازعها السرديات".
وهنا يتقاطع تحليله مع الفيلسوف المغربي عبد الله العروي، الذي رأى أن المجتمعات العربية ما تزال حبيسةَ التناقض بين "الحداثة كخطاب" و"التراث كهوية".
في تونس، لم يُحسم هذا التناقض بعد، لذلك لم تستطع الثورة أن تؤسس ذاكرةً وطنية جامعة. بقيت تُستعمل كرمزٍ انتخابي أو سلاحٍ إيديولوجي، لا كمرجعيةٍ أخلاقية جامعة.
وهو ما يفسر ـ في رأي الهرماسي ـ عودة الحنين إلى الدولة القوية و"المستبد العادل"، كأن المجتمع يريد أن يهرب من مسؤولية حريته إلى راحة الطاعة.
الهرماسي بين السوسيولوجيا والسياسة
قوة الكتاب لا تكمن فقط في موضوعه، بل في موقع مؤلفه. فالهرماسي ليس مراقبًا خارجيًا بل شاهدًا ومشاركًا في جزء من المسار السياسي بعد الثورة. هذا ما يمنحه، كما يمنعه في آنٍ واحد.
يمنحه عمقًا في الفهم الميداني للحياة الحزبية والاجتماعية، لكنه أحيانًا يقع في التباس بين التحليل والوصف، بين السوسيولوجي والسياسي.
ومع ذلك، يبقى أسلوبه أقرب إلى النقد البنّاء منه إلى الإدانة. فهو لا يلعن الثورة، ولا يمجّدها، بل يُحاكمها كمختبرٍ لوعي التونسيين بذواتهم.
الكتاب بذلك يتجاوز سجالات اليومي ليطرح سؤالاً فلسفيًا عميقًا: هل يمكن لمجتمعٍ عاش عقودًا من الاستبداد أن يكتشف معنى الحرية دون أن يمرّ بالمحنة؟ سؤالٌ يبدو بسيطًا، لكنه يختزل جوهر الكتاب: أن الثورة ليست مشروعًا سياسيًا بل تمرينًا وجوديًا على الوعي.
المقارنة والتفرد التونسي
حين نقارن تحليل الهرماسي بتجارب عربية أخرى، نكتشف أن تونس ـ رغم كل تعثراتها ـ ما تزال "الاستثناء الإيجابي" الوحيد من حيث بقاء المؤسسات والدستور والفضاء المدني.
لكن الهرماسي يذكّر بأن الاستثناء لا يعني النجاح. فالاستثناء التونسي قائم على توازن هشّ بين قوى متناقضة: نخبة ديمقراطية محدودة النفوذ، دولة بيروقراطية عميقة الجذور، مجتمع مدني نشط لكنه متعب، واقتصاد متآكل يهدد كل المكتسبات.
وفي هذا السياق، يمكن استحضار تجارب أمريكا اللاتينية، حيث واجهت دول مثل تشيلي والأرجنتين المعضلة ذاتها بعد سقوط الدكتاتوريات: كيف نحول الحرية إلى مؤسساتٍ، لا إلى انقسامات؟
تونس اليوم، كما يرى الهرماسي، تعيش لحظة ما بعد الحلم ـ وهي اللحظة الأخطر في عمر كل ثورة، حين يصبح الأمل عبئًا على الحاضر، ويغدو المستقبل رهينة الخوف من الماضي.
من نقد الواقع إلى اقتراح الممكن
رغم الطابع النقدي الواضح، لا يسقط الكتاب في السوداوية. الهرماسي يدرك أن كل ثورة تحتاج إلى زمنٍ طويل لتُثمر وعيًا جديدًا. لذلك يدعو إلى تحويل المحنة إلى طاقة معرفية، عبر مراجعة جذرية لعلاقة النخب بالمجتمع، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وإحياء المعنى الأخلاقي للسياسة.
فالتحرر لا يكتمل بالدستور ولا بالانتخابات، بل بإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والجماعة على أسس المشاركة والمسؤولية.
إنه يدعو إلى ما يمكن تسميته بـ«الثورة الثانية»: ثورة في الوعي، في الأخلاق العامة، في الثقافة السياسية.
ومع أن الكتاب لا يقدم حلولاً تقنية أو برامج إصلاح مفصلة، إلا أن قيمته تكمن في إعادة طرح السؤال الأساسي: كيف نحافظ على روح الثورة بعد أن انطفأت شعاراتها؟ وهو سؤالٌ لا يخص تونس وحدها، بل كل المجتمعات العربية التي عبرت تجربة الانتقال ولم تبلغ التحول.
موقع الكتاب في الفكر التونسي المعاصر
في المشهد الفكري التونسي، يقف "تونس: الثورة والمحنة" في تقاطع بين أعمالٍ سوسيولوجية مثل دراسات الصادق الحمامي عن الإعلام والرأي العام، وبين أعمالٍ فلسفية نقدية مثل كتابات أبو يعرب المرزوقي حول الحرية والتأويل.
رغم الطابع النقدي الواضح، لا يسقط الكتاب في السوداوية. الهرماسي يدرك أن كل ثورة تحتاج إلى زمنٍ طويل لتُثمر وعيًا جديدًا. لذلك يدعو إلى تحويل المحنة إلى طاقة معرفية، عبر مراجعة جذرية لعلاقة النخب بالمجتمع، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، وإحياء المعنى الأخلاقي للسياسة.غير أن خصوصيته أنه يربط التحليل الاجتماعي بالوعي الرمزي والثقافي، ليقدّم قراءة أقرب إلى «أنثروبولوجيا الثورة» منها إلى علم السياسة التقليدي.
إنه ليس كتابًا عن الوقائع بل عن المعاني. ومن هنا، يمكن اعتباره مرجعًا لفهم التحولات العميقة في المزاج التونسي بعد عقدٍ من الثورة: كيف تحوّل الحلم إلى ذاكرة، والذاكرة إلى حسرة، والحسرة إلى حنين، والحنين إلى خطر سياسي يُهدد المستقبل الديمقراطي.
خاتمة: الثورة التي ما زالت تمتحن نفسها
في نهاية المطاف، يقدّم عبد اللطيف الهرماسي في كتابه مرآةً صادقة لوجه تونس بعد الثورة: وجهٌ يحمل ملامح الفرح الأول وندوب الخيبة اللاحقة.
فالكتاب ليس مرثية للثورة، بل دعوة إلى إنقاذ معناها قبل فوات الأوان. إنه يقول للتونسيين بوضوحٍ مؤلم: لقد أسقطتم الاستبداد، لكن لم تُسقطوا بعد الخوف الكامن في ذواتكم، ولم تتعلموا بعدُ كيف تُديرون حريتكم بلا وصيّ.
من هذه الزاوية، يُمكن اعتبار "تونس: الثورة والمحنة" أحد أهم النصوص التي أعادت الاعتبار للفكر النقدي التونسي، إذ حرّر النقاش من ثنائية "الثورة أو الانقلاب"، وفتح الباب أمام سؤالٍ أعمق: هل يمكن لمجتمعٍ جُرح بالحرية أن يُشفى إلا بها؟
بهذا السؤال يختتم الهرماسي كتابه، وبه يمكننا أيضًا أن نختتم هذه القراءة: فـ"المحنة" ليست نقيض "الثورة"، بل هي استمرارها في الوعي. ولعلّ وعي التونسيين اليوم هو الميدان الحقيقي للثورة القادمة.