"إذا لزم الأمر فسنبني قاعدة بحرية في الشمال، فلدينا بحر أيضًا"، هكذا جاءت كلمات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تصريحات للصحفيّين خلال عودته من شمال قبرص، إثر مشاركته في احتفالات الذكرى الخمسين للعمليّة العسكرية التي نفذتها تركيا في الجزيرة. وجاء التصريح ردًا على سؤال بشأن سعي اليونان؛ لإنشاء قاعدة بحرية جنوب الجزيرة، حيث يقطن القبارصة اليونانيون.

اللافت هنا أن هذه الاحتفالات كانت بمثابة تظاهرة عسكرية تركية في شمال قبرص، لم تخلُ من رسائل إلى أطراف الأزمة سواء في اليونان أو في الاتحاد الأوروبي. فقد شارك في العرض العسكري 50 قطعة بحرية، و3 طائرات دورية بحرية، و9 مروحيات، ومسيرة بيرقدار تي بي، والطائرة بدون طيار بيرقدار قزل إلما، إضافة إلى مقاتلات "إف-16" التابعة لسلاح الجو التركي.

كما يجب التذكير بأن تركيا سبق أن نشرت طائرات مسيرة في شمال قبرص، كشف أردوغان اللثام عنها، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022.

هذه الأجواء المشحونة أعادت التوتر مجددًا إلى ملف الجزيرة، التي تعاني انقسامًا فعليًا منذ عقود طويلة، لم تستطع المبادرات الدولية حلحلته. فالمبادرة التي قدمها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، لأول مرة عام 2002 والتي عرفت بـ "خطة أنان" والتي كانت أساس الحوار بشأن مستقبل الجزيرة لفترة طويلة، طواها الزمن ولم تعد صالحة بحسب تأكيد أردوغان نفسه.

فـ"خطة أنان" كانت ترتكز على أساس الحل الفدرالي، الذي يجمع تحت مظلته دولتين، إحداهما للقبارصة الأتراك، والأخرى للقبارصة اليونانيين.

بالرغم من ذلك، لم تشهد الأزمة تطورًا ملحوظًا، ما أدى إلى تغير القناعات الإستراتيجية لتركيا، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، والتحديات التي باتت تواجهها أنقرة في منطقة بحر إيجه، وشرق المتوسط، تزامنًا مع تعاظم القدرات الدفاعية التركية. كل هذا قاد تركيا إلى تطوير مفهومها لأمنها القومي، والدور الذي ينبغي أن تلعبه في الأعماق الإستراتيجية المحيطة بها.

الأهمية الإستراتيجية لقبرص

اعتمد كثير من الكتابات الأكاديمية، المقاربةَ الديمغرافية أساسًا لتفسير السلوك التركي تجاه الجزيرة، اعتمادًا على وجود القبارصة الأتراك في الجزيرة، لكن هذه المقاربة تمثل جزءًا من الحقيقة وليس كلها. فلو لم يكن هناك تركي واحد في الجزيرة لكان لزامًا على تركيا إستراتيجيًا وضع قدم لها في الجزيرة، نظرًا لأهميتها الجيوستراتيجية الهائلة.

فقبرص تعد حلقة الوصل بين ثلاث قارات، هي: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وهي ثالث أكبر جزر البحر المتوسط، وتتميز بقربها من دول شرق المتوسط، مثل: تركيا، وسوريا، ولبنان، ومصر. أي أنه لا يمكن لأي دولة ذات حضور إقليمي ودولي إخراج الجزيرة من حساباتها.

كما ساهم موقع تلك الجزيرة في منحها ميزات عسكرية ودفاعية مهمة، ما حدا ببريطانيا إلى الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين حتى الآن، فيما يلعب الجزء اليوناني من الجزيرة أدوارًا لوجيستية مهمة للقوات الأميركية وحلفائها.

فعقب عملية طوفان الأقصى، استخدمت القوات الغربية القواعد العسكرية القبرصية، لما قيل إنها عمليات إجلاء لرعاياها، لكن تركيا اتهمت القبارصة اليونانيين بشكل صريح، بدعم إسرائيل في عدوانها على غزة، حيث شدد أردوغان على أن "الشراكة في المجازر التي ترتكبها إسرائيل لا تصب في مصلحة القبارصة الروم (اليونانيين) ولا اليونان".

أيضًا تتمتع الجزيرة باحتياطيات هائلة من الغاز، فحقل أفروديت – على سبيل المثال – الذي تم اكتشافه أواخر عام 2011، تبلغ الاحتياطيات المتوقعة فيه نحو 9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز، إضافة إلى حقول أخرى.

لكن هذه الاحتياطيات أشعلت فتيل التوتر، فالرؤية التركية ترتكز على عدم السماح باستئثار الجزء الجنوبي اليوناني من الجزيرة بتلك الثروة، دون الالتفات إلى حقوق القبارصة الأتراك. من هنا فإن بناء مقاربات لتفسير السياسات التركية تجاه قبرص، ترتكز على البعد الإثني، أو الصراع مع اليونان، مع إغفال ما تعنيه الجزيرة للأمن القومي التركي، هي مقاربات ناقصة غير مكتملة.

قبرص والأمن التركي

لا تزال تركيا تعاني من التشوهات الجيوستراتيجية، التي صاحبتها منذ تأسيس الجمهورية على أنقاض الدولة العثمانية. فالعثمانيون امتلكوا أسطولًا حربيًا مميزًا ضمن لهم السيادة في البحر المتوسط، إلى أن حل الضعف بالإمبراطورية انتهاء بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نهايتها رسميًا.

ارتكز تخطيط الحلفاء لتركيا ما بعد العثمانية على الحيلولة دون عودة تلك الهيمنة يومًا ما، بمنع تمددها في البحر المتوسط، وحبسها داخل شواطئها رغم امتلاكها سواحل على بحري إيجه والمتوسط يقدر طولها بأكثر من 4 آلاف كيلومتر. فعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، سيطرت اليونان وإيطاليا على العديد من جزر بحر إيجه، ثم تنازلت عنها تركيا بموجب معاهدة لوزان مقابل تعهد كل من أثينا وروما بعدم تسليح الجزر القريبة من السواحل التركية.

أثناء الحرب العالمية الثانية، تنازلت إيطاليا عن الجزر لألمانيا، التي ما لبثت أن سلمتها لبريطانيا عقب الهزيمة، التي منحتها بدورها إلى اليونان مرة أخرى شريطة عدم تسليحها، إلا أن الأخيرة أخلت بالشرط وسلّحت قرابة 18 جزيرة حتى الآن!

انتقال الجزر من دولة إلى أخرى دون التفكير في إعادتها إلى تركيا مرة أخرى، يؤكد تصميم الغرب على عدم منح تركيا الفرصة لإعادة التموضع الإستراتيجي في بحري إيجه والمتوسط، من خلال استغلال هذه الجزر القريبة من سواحلها.

فجزيرة كاستيلوريزو "ميس" على سبيل المثال، التي تبلغ مساحتها حوالي 12 كيلو مترًا مربعًا، ويقطنها أقل من 500 شخص، لا يفصلها عن أنطاليا التركية سوى كيلومترين فقط، إلا أن تبعيتها تعود لليونان وفرت لأثينا ميزات إستراتيجية هائلة، إذ منحتها جرفًا قاريًا بمساحة حوالي 40 ألف كيلومتر، رغم أنها تبعد عنها بنحو 580 كيلومترًا.

من هنا تمثل قبرص أهمية إستراتيجية لتركيا من أجل فكّ هذا الحصار البحري المفروض عليها منذ عقود، وتمزيق ما عرف بنظرية "خرائط إشبيلية" التي ظهرت إلى الوجود عام 2004، والتي تمنح لكل جزيرة يونانية مهما تضاءلت مساحتها منطقة اقتصادية خالصة بطول 370 كيلومترًا، بحيث لا يتبقى لتركيا إلا شواطئها للاستجمام فقط!

كما سيعزز الوجود التركي في قبرص نظرية "الوطن الأزرق" التي ظهرت إلى الوجود عام 2006، وتشير إلى المساحات التي يمكن أن تضفيها المياه الإقليمية لتركيا في البحر الأسود، ومرمرة، وإيجه، والبحر المتوسط، والتي تقدر بـ 462 ألف كيلومتر مربع إلى المساحة الحالية لتركيا.

لهذا لم يكن حديث أردوغان عن إمكانية بناء قاعدة بحرية في قبرص التركية، هو الأوّل من نوعه، فقد سبق أن قدمت القوات البحرية، قبل نحو خمس سنوات، مقترحًا بشأن الحاجة الملحة إلى إنشاء قاعدة في شمال قبرص، لدعم القبارصة الأتراك في المفاوضات، والحفاظ على حقوقهم، وحقوق تركيا في ثروات شرق المتوسط.

وفي تقديري، أن هذا التوتر بين تركيا وبين "حلفائها" المفترضين، مرشح للزيادة، في ظل الأدوار الإستراتيجية الحالية والمتوقعة، التي تؤديها الجزيرة لجميع الأطراف، ومن المستحيل التفريط فيها.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات البحر المتوسط فی الجزیرة شمال قبرص الجزیرة ا

إقرأ أيضاً:

غرفة القاهرة تبحث مع سفيرة قبرص فرص التعاون التجاري والاستثماري

استقبل أيمن العشري رئيس غرفة القاهرة التجارية " بولى إيوانو"  سفيرة دولة قبرص بالقاهرة، والمستشار التجاري بالسفارة جورج فوكاس، في حضور شريف يحيى نائب رئيس غرفة القاهرة ، والدكتور أحمد شيرين رئيس لجنة الاستثمار بالغرفة ، وجلال الغُر نائب رئيس لجنة الاستثمار ، وذلك لبحث سبل دعم وتعزيز التعاون والشراكة وزيادة الاستثمارات في مختلف المجالات.

وبحث الجانبان سبل زيادة التعاون ودعم العلاقات الاقتصادية المصرية القبرصية خلال الفترة القادمة ، وسبل زيادتها بما يتواكب مع العلاقات السياسية المصرية القبرصية المتطورة.

الغرف التجارية: شركات تركية تتطلع لإنشاء منطقة حرة للصناعات النسيجية بالساداتالغرفة التجارية: زيارة مرتقبة لميناء دمياط لبحث دعم قطاع الأثاث عبر خط الرورولدعم توجهات الدولة.. الغرف التجارية: نصف المستوردين تحولوا إلى قطاع التصنيع


وشدّد الجانبان على أهمية الزيارات التبادلية بين مجتمع الأعمال في البلدين من خلال غرفة القاهرة والغرف التجارية القبرصية لزيادة حجم التبادل التجاري والاستثماري المشترك ، وخلق آفاق جديدة لزيادة التعاون الاقتصادي الثنائي وكيفية استفادة كل سوق من الآخر على صعيد الفرص الاستثمارية المتاحة ، والسلع التي من الممكن أن يستفيد منها كل سوق من الآخر ، والسعي إلى تحقيق أكبر استفادة اقتصادية ، مستفيدين من تطور مستوى العلاقات السياسية المصرية القبرصية.
واتفق الطرفان على زيارة للجانب المصري لقبرص خلال الفترة القادمة بالتنسيق بين الغرفة والسفارة ، وعقد لقاءات مع الغرف التجارية في قبرص لبحث أُطر تعاون جديد يعزز من العلاقات الاقتصادية بين البلدين ، وإن الانطلاقة ستكون من خلال الغرف التجارية بدعم من السفارة ، وإن كافة المجالات بها فرص تجارية واستثمارية واعدة بالسوق المصري،  مصر بوابه لأسواق أخرى كثيرة كفيلة أنها تزيد من حجم التبادل التجاري والاستثماري بين البلدين.
ورحب  أيمن العشري بالسفيرة القبرصية، مشيدًا بعمق العلاقات بين مصر وقبرص والروابط التي تجمع بين الشعبين، والتعاون الوثيق في مختلف المجالات الاستثمارية والتجارية ، خاصة أن هناك علاقات وطيدة بين مصر وقبرص ، وهناك تعاملات تجارية واستثمارية بين البلدين ولابد من الاستفادة من قرب المسافة بين مصر وقبرص لتعزيز التعاون التجاري والاستثماري المشترك.
وأشار "العشري" إلى التسهيلات التي تقوم بها مصر لدعم الاستثمار والمستثمرين وتعزيز التجارة البينية مع مختلف الدول من خلال تسهيلات غير مسبوقة في الإجراءات ، والدعم كبير من القيادة السياسية المصرية على رأسها الرئيس عبد الفتاح السيسي ، وإن غرفة القاهرة بها كافة المجالات وتتضمن أكثر من 630 ألف تاجر وصانع ومستثمر ومؤدي خدمات يستطيع الجانب القبرصي الاستفادة منهم وزيادة التعاون الاقتصادي المشترك ، وإن هناك تعاونًا فعليًا مع قبرص على الصعيد الاقتصادي يمكن دعمه وزيادته من خلال زيادة تعاون غرفة القاهرة والغرف التجارية القبرصية ، ودراسة توقيع بروتوكول تعاون لدفع العلاقات الثنائية ، قائلاً على الصعيد الخاص " هناك شركتين لمجموعة العشري في قبرص" حاليًا ، وغرفة القاهرة ستوفر كافة البيانات عن السوق المصري وما به من فرص استثمارية وتجارية .
من جانبها أشادت السفيرة" بولى إيوانو" القبرصية باستقبال مسئولي غرفة القاهرة ورغبتهم في زيادة العلاقات الاقتصادية الثنائية ، مشيرة إلى تطور العلاقات السياسية المصرية القبرصية ، والتي يجب أن تنعكس إيجابيًا في الفترة القادمة على زيادة العلاقات الاقتصادية المصرية القبرصية التي وصفتها " بأنها لا تتناسب مع مستوى  العلاقات السياسية الكبيرة المتطورة بين البلدين".
وقالت السفيرة " بولى إيوانو " إن مصر تطورت بشكل ملحوظ اقتصاديًا وهذا واضح في الفترة الاخيرة ، مؤكدة على أهمية تبادل الزيارات بين مجتمع الأعمال المصري والقبرصي متمثلًا في غرفة القاهرة والغرف التجارية في قبرص لفتح آفاق جديدة على الصعيدين الاستثماري والتجاري بين مصر وقبرص وتلبية احتياجات السوقين بالتكامل في مختلف المجالات ، وأن قبرص بها خدمات ومجالات كثيرة ومتطورة يمكن التعاون من خلالها مع الجانب المصري ، كما أن اللقاءات الثنائية بين مجتمع الأعمال سيفتح أبوابًا جديدة للاستثمار ، سواء من خلال الشراكة أو زيادة الاستثمارات للشركات في مصر وقبرص ، مشددة على أهمية الإسراع في عقد اللقاءات الثنائية من خلال الزيارات المتبادل التي من شأنها تعزيز التجارة والاستثمار المشترك

مقالات مشابهة

  • ما قصة والد الطفلة إقبال والنوادي الليلية التي أصبحت حديث الشارع التركي؟
  • التحولات السورية وتأثيرها على العراق
  • الزكواني يكشف لـ"الرؤية" عن التطورات الجديدة في عالم الذكاء الاصطناعي وتأثيرها على قطاعات الأعمال
  • ما وراء تصريحات اليونان عن تدخل عسكري على الحدود البحرية مع تركيا
  • خبير يشرح الصيغة التي ستقلل معدل البطالة في تركيا
  • الأرصاد الجوية التركية تحذر: أمطار غزيرة ورياح قوية متوقعة اليوم (21 ديسمبر)
  • التغيرات المناخية وتأثيرها على زراعة الطماطم في مأرب.. تحديات وفرص
  • باحث سياسي: ما يحدث في سوريا هزة ارتدادية لزلزال سقوط الأسد
  • الدروس الظاهرة والمخفيّة في المسألة السوريّة
  • غرفة القاهرة تبحث مع سفيرة قبرص فرص التعاون التجاري والاستثماري