المسألة القبرصية وتأثيرها في الرؤية الإستراتيجية التركية
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
"إذا لزم الأمر فسنبني قاعدة بحرية في الشمال، فلدينا بحر أيضًا"، هكذا جاءت كلمات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في تصريحات للصحفيّين خلال عودته من شمال قبرص، إثر مشاركته في احتفالات الذكرى الخمسين للعمليّة العسكرية التي نفذتها تركيا في الجزيرة. وجاء التصريح ردًا على سؤال بشأن سعي اليونان؛ لإنشاء قاعدة بحرية جنوب الجزيرة، حيث يقطن القبارصة اليونانيون.
اللافت هنا أن هذه الاحتفالات كانت بمثابة تظاهرة عسكرية تركية في شمال قبرص، لم تخلُ من رسائل إلى أطراف الأزمة سواء في اليونان أو في الاتحاد الأوروبي. فقد شارك في العرض العسكري 50 قطعة بحرية، و3 طائرات دورية بحرية، و9 مروحيات، ومسيرة بيرقدار تي بي، والطائرة بدون طيار بيرقدار قزل إلما، إضافة إلى مقاتلات "إف-16" التابعة لسلاح الجو التركي.
كما يجب التذكير بأن تركيا سبق أن نشرت طائرات مسيرة في شمال قبرص، كشف أردوغان اللثام عنها، في أكتوبر/تشرين الأول عام 2022.
هذه الأجواء المشحونة أعادت التوتر مجددًا إلى ملف الجزيرة، التي تعاني انقسامًا فعليًا منذ عقود طويلة، لم تستطع المبادرات الدولية حلحلته. فالمبادرة التي قدمها الأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي أنان، لأول مرة عام 2002 والتي عرفت بـ "خطة أنان" والتي كانت أساس الحوار بشأن مستقبل الجزيرة لفترة طويلة، طواها الزمن ولم تعد صالحة بحسب تأكيد أردوغان نفسه.
فـ"خطة أنان" كانت ترتكز على أساس الحل الفدرالي، الذي يجمع تحت مظلته دولتين، إحداهما للقبارصة الأتراك، والأخرى للقبارصة اليونانيين.
بالرغم من ذلك، لم تشهد الأزمة تطورًا ملحوظًا، ما أدى إلى تغير القناعات الإستراتيجية لتركيا، في ضوء المتغيرات الإقليمية والدولية، والتحديات التي باتت تواجهها أنقرة في منطقة بحر إيجه، وشرق المتوسط، تزامنًا مع تعاظم القدرات الدفاعية التركية. كل هذا قاد تركيا إلى تطوير مفهومها لأمنها القومي، والدور الذي ينبغي أن تلعبه في الأعماق الإستراتيجية المحيطة بها.
الأهمية الإستراتيجية لقبرصاعتمد كثير من الكتابات الأكاديمية، المقاربةَ الديمغرافية أساسًا لتفسير السلوك التركي تجاه الجزيرة، اعتمادًا على وجود القبارصة الأتراك في الجزيرة، لكن هذه المقاربة تمثل جزءًا من الحقيقة وليس كلها. فلو لم يكن هناك تركي واحد في الجزيرة لكان لزامًا على تركيا إستراتيجيًا وضع قدم لها في الجزيرة، نظرًا لأهميتها الجيوستراتيجية الهائلة.
فقبرص تعد حلقة الوصل بين ثلاث قارات، هي: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وهي ثالث أكبر جزر البحر المتوسط، وتتميز بقربها من دول شرق المتوسط، مثل: تركيا، وسوريا، ولبنان، ومصر. أي أنه لا يمكن لأي دولة ذات حضور إقليمي ودولي إخراج الجزيرة من حساباتها.
كما ساهم موقع تلك الجزيرة في منحها ميزات عسكرية ودفاعية مهمة، ما حدا ببريطانيا إلى الاحتفاظ بقاعدتين عسكريتين حتى الآن، فيما يلعب الجزء اليوناني من الجزيرة أدوارًا لوجيستية مهمة للقوات الأميركية وحلفائها.
فعقب عملية طوفان الأقصى، استخدمت القوات الغربية القواعد العسكرية القبرصية، لما قيل إنها عمليات إجلاء لرعاياها، لكن تركيا اتهمت القبارصة اليونانيين بشكل صريح، بدعم إسرائيل في عدوانها على غزة، حيث شدد أردوغان على أن "الشراكة في المجازر التي ترتكبها إسرائيل لا تصب في مصلحة القبارصة الروم (اليونانيين) ولا اليونان".
أيضًا تتمتع الجزيرة باحتياطيات هائلة من الغاز، فحقل أفروديت – على سبيل المثال – الذي تم اكتشافه أواخر عام 2011، تبلغ الاحتياطيات المتوقعة فيه نحو 9 تريليونات قدم مكعبة من الغاز، إضافة إلى حقول أخرى.
لكن هذه الاحتياطيات أشعلت فتيل التوتر، فالرؤية التركية ترتكز على عدم السماح باستئثار الجزء الجنوبي اليوناني من الجزيرة بتلك الثروة، دون الالتفات إلى حقوق القبارصة الأتراك. من هنا فإن بناء مقاربات لتفسير السياسات التركية تجاه قبرص، ترتكز على البعد الإثني، أو الصراع مع اليونان، مع إغفال ما تعنيه الجزيرة للأمن القومي التركي، هي مقاربات ناقصة غير مكتملة.
قبرص والأمن التركيلا تزال تركيا تعاني من التشوهات الجيوستراتيجية، التي صاحبتها منذ تأسيس الجمهورية على أنقاض الدولة العثمانية. فالعثمانيون امتلكوا أسطولًا حربيًا مميزًا ضمن لهم السيادة في البحر المتوسط، إلى أن حل الضعف بالإمبراطورية انتهاء بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نهايتها رسميًا.
ارتكز تخطيط الحلفاء لتركيا ما بعد العثمانية على الحيلولة دون عودة تلك الهيمنة يومًا ما، بمنع تمددها في البحر المتوسط، وحبسها داخل شواطئها رغم امتلاكها سواحل على بحري إيجه والمتوسط يقدر طولها بأكثر من 4 آلاف كيلومتر. فعقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، سيطرت اليونان وإيطاليا على العديد من جزر بحر إيجه، ثم تنازلت عنها تركيا بموجب معاهدة لوزان مقابل تعهد كل من أثينا وروما بعدم تسليح الجزر القريبة من السواحل التركية.
أثناء الحرب العالمية الثانية، تنازلت إيطاليا عن الجزر لألمانيا، التي ما لبثت أن سلمتها لبريطانيا عقب الهزيمة، التي منحتها بدورها إلى اليونان مرة أخرى شريطة عدم تسليحها، إلا أن الأخيرة أخلت بالشرط وسلّحت قرابة 18 جزيرة حتى الآن!
انتقال الجزر من دولة إلى أخرى دون التفكير في إعادتها إلى تركيا مرة أخرى، يؤكد تصميم الغرب على عدم منح تركيا الفرصة لإعادة التموضع الإستراتيجي في بحري إيجه والمتوسط، من خلال استغلال هذه الجزر القريبة من سواحلها.
فجزيرة كاستيلوريزو "ميس" على سبيل المثال، التي تبلغ مساحتها حوالي 12 كيلو مترًا مربعًا، ويقطنها أقل من 500 شخص، لا يفصلها عن أنطاليا التركية سوى كيلومترين فقط، إلا أن تبعيتها تعود لليونان وفرت لأثينا ميزات إستراتيجية هائلة، إذ منحتها جرفًا قاريًا بمساحة حوالي 40 ألف كيلومتر، رغم أنها تبعد عنها بنحو 580 كيلومترًا.
من هنا تمثل قبرص أهمية إستراتيجية لتركيا من أجل فكّ هذا الحصار البحري المفروض عليها منذ عقود، وتمزيق ما عرف بنظرية "خرائط إشبيلية" التي ظهرت إلى الوجود عام 2004، والتي تمنح لكل جزيرة يونانية مهما تضاءلت مساحتها منطقة اقتصادية خالصة بطول 370 كيلومترًا، بحيث لا يتبقى لتركيا إلا شواطئها للاستجمام فقط!
كما سيعزز الوجود التركي في قبرص نظرية "الوطن الأزرق" التي ظهرت إلى الوجود عام 2006، وتشير إلى المساحات التي يمكن أن تضفيها المياه الإقليمية لتركيا في البحر الأسود، ومرمرة، وإيجه، والبحر المتوسط، والتي تقدر بـ 462 ألف كيلومتر مربع إلى المساحة الحالية لتركيا.
لهذا لم يكن حديث أردوغان عن إمكانية بناء قاعدة بحرية في قبرص التركية، هو الأوّل من نوعه، فقد سبق أن قدمت القوات البحرية، قبل نحو خمس سنوات، مقترحًا بشأن الحاجة الملحة إلى إنشاء قاعدة في شمال قبرص، لدعم القبارصة الأتراك في المفاوضات، والحفاظ على حقوقهم، وحقوق تركيا في ثروات شرق المتوسط.
وفي تقديري، أن هذا التوتر بين تركيا وبين "حلفائها" المفترضين، مرشح للزيادة، في ظل الأدوار الإستراتيجية الحالية والمتوقعة، التي تؤديها الجزيرة لجميع الأطراف، ومن المستحيل التفريط فيها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات البحر المتوسط فی الجزیرة شمال قبرص الجزیرة ا
إقرأ أيضاً:
لماذا صمدت “حماس”؟.. تحليل لفشل الإستراتيجية الإسرائيلية
#سواليف
نشرت صحيفة “صاندي تايمز” تقريراً أعده أستاذ دراسات الحرب في كلية كينغز كوليج في لندن مايكل كلارك، تساءل فيه عن قدرة “ #حماس ” في #غزة، وكيف أن #إسرائيل فشلت في تدمير الحركة.
وقال إن حكومة “حماس” في القطاع لم تهزم، وهذا بسبب تحضيراتها الذكية، واعتماد إسرائيل على القصف الجوي.
وأضاف الكاتب أن إسرائيل أعلنت رسمياً، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، الحرب على “حماس”، وأعلن رئيس الوزراء بنيامين #نتنياهو أن “تدميرها” هو هدفه الرئيسي في #الحرب. ثم تحدث لاحقاً عن “إبادتها”.
مقالات ذات صلة الاثنين .. ارتفاع طفيف على الحرارة 2025/03/10وفي الأسبوع الماضي، وجه الرئيس الأمريكي دونالد #ترامب لـ “حماس” “تحذيراً أخيراً”، على منصته “تروث سوشيال”. وقال: “أطلقوا سراح جميع الرهائن الآن، وليس لاحقاً، وإلا انتهى الأمر بالنسبة لكم”.
وكان رد “حماس” على خطاب ترامب قوياً، مدروساً تقريباً. وقالت فيه إن أفضل طريقة للإفراج عن الأسرى هي المضي قدماً في المرحلة الثانية المحددة من اتفاق وقف إطلاق النار.
وقال كلارك إن العروض التي نظمتها “حماس” في الأسابيع الماضية لتسليم الأسرى كانت تهدف إلى تمرير رسالة تحدٍ بأن الجماعة لا تزال تسيطر على غزة ولم يتم محوها. كما ترسل أيضاً رسالة إلى العالم بأنها بعيدة كل البعد عن النهاية، وتهين إسرائيل في طريقة تسليم الأسرى أو جثثهم. ولكن “حماس” تضررت بشدة من الهجوم الإسرائيلي على غزة. فقد قتلت إسرائيل ثلاثة من كبار قادتها. وفككت كتائبها الـ 24 وقتلت 18,000 مقاتل من بين 48,200 شخص قتلوا في الحرب حسب أرقام وزارة الصحة في غزة.
العروض التي نظمتها “حماس” لتسليم الأسرى كانت تهدف إلى تمرير رسالة تحدٍ وهي أن الجماعة لا تزال تسيطر على غزة ولم يتم محوهاويرى الكاتب أن “حماس” فشلت في استفزاز حرب ضد إسرائيل وعلى عدة جبهات، والتي كان يمكن أن تحفز “حزب الله” في لبنان والفلسطينيين في الضفة الغربية والجماعات المدعومة من إيران في مختلف أنحاء المنطقة. وفي الحقيقة، كما يقول الكاتب، تشن إسرائيل حرباً ضد أعدائها بالمنطقة وتأمل بـ “إعادة تشكيل” المحيط المباشر لها.
ولكن “حماس” نجت، مع ذلك، وهذا ما يجب على أي جماعة تمرد فعله. ويعتقد الجيش الإسرائيلي أنه بحاجة لعدة سنوات قبل أن يتمكن من إعادة “حماس” للوضع الذي كانت عليه قبل عام 2006، عندما سيطرت على القطاع بعد صراع مع السلطة الوطنية، وربما لن تحقق هذا الهدف أبداً. وأشار كلارك إلى ما قاله وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن، في الأسابيع الأخيرة من منصبه، بأن “حماس” “جندت مقاتلين بنفس العدد أو أكثر من الذين خسرتهم”، وربما كان الأمر أسوأ بالنسبة للجيش الإسرائيلي. فمن بين سكان غزة، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، والذين يعيشون وسط الدمار، فإن أكثر من نصفهم دون سن الـ 18 عاماً ونحو 300,000 شاب في الفئة العمرية التي تجند “حماس” مقاتليها منهم عادة.
ويعلق كلارك أن قادة الظل للحركة يشعرون أن لدى الحركة الكثير لتعيش من أجله، ومن غير المرجح أن يعيشوا ليروا الكثير منه.
ويعتقد الكاتب أن نجاة “حماس” يمكن نسبتها إلى وجهين لعملة واحدة إستراتيجية. الوجه الأول هو الاستعدادات التي قام بها قادة “حماس” للرد الإسرائيلي على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. ولعل قادتها لم يتوقعوا فجوة مدتها عشرون يوماً قبل أن يتقدم الجيش الإسرائيلي إلى غزة. ولكن عندما حدث ذلك، لجأت “حماس” إلى مخزونها من الأسلحة في أنفاقها التي تمتد لأميال تحت الأرض. ومع إجبارهم على الخروج من كل منطقة، كانوا يفرون عبر هذه الأنفاق، أو ينضمون إلى حشود اللاجئين المدنيين الذين كانوا أكثر عدداً من أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من فحصهم بدقة. وقد لجأوا إلى الأنفاق التي لم تكن متاحة لسكان غزة العاديين من الهجمات الجوية الإسرائيلية، وكانوا يعيشون على مخزونهم من الطعام عندما قيدت إسرائيل إمدادات الغذاء، في محاولة فاشلة لتحويل السكان ضد “حماس”.
ووجد مقاتلو الحركة سهولة في إعادة تموضعهم، مع تركيز هجوم الجيش الإسرائيلي. فعندما ركزت إسرائيل على الشمال، اتجهوا جنوباً، وعندما تحركت القوات الإسرائيلية أخيراً نحو الجنوب، عادت “حماس” إلى الشمال ومراكز مثل جباليا والشجاعية. وقد أعاد الجيش الإسرائيلي الهجوم على مخيم جباليا ثلاث مرات بالفعل. وتمكنت “حماس” من إدارة دولة صغيرة بحرية تقريباً في وسط غزة، والتي تجاوزها الجيش الإسرائيلي، بل وحتى سيطرت على المواصي، الملجأ المدني المخصص في الجنوب، بمجرد أن تمكنت من الحصول على إمدادات المساعدات المرسلة إلى هناك. وفوق كل شيء، قامت “حماس” بالاستعدادات اللازمة للحفاظ على بنيتها سليمة من خلال عملياتها الاستخباراتية الخاصة، بغض النظر عن عدد قادتها أو مقاتليها أو مصانع إنتاج الأسلحة التي فقدت. ويقال إنها أعادت توجيه مواردها بعد كل هجوم. وإلى جانب الأسلحة التي تخزنها “حماس”، فإن إنتاجها المحلي من الصواريخ قصيرة المدى عيار 107 ملم زاد الآن أكثر من أي وقت مضى.
واستمر إطلاق الصواريخ وقذائف الهاون من عيار 60 ملم، كما حافظت على تدفق بعض الأسلحة الروسية والصينية التي زودتها بها إيران. ومن الواضح أن بنادق إي كي-47 الروسية كانت منتشرة في كل مكان، فضلاً عن بندقية القنص الإيرانية الصنع من طراز صياد. وعلاوة على ذلك، تم استخدام قاذفات أر بي جي-7 الروسية المضادة للدروع ومشتقاتها العديدة على نطاق واسع ضد القوات الإسرائيلية، إلى جانب نوع آخر صيني من أر بي جي وهو نوع 69.
جندت “حماس” مقاتلين بنفس العدد أو أكثر من الذين خسرتهموقال كلارك إن إيران واصلت تمويل “حماس”، ولكن على مدى 17 شهراً من الحرب، استولت “حماس” أيضاً على ما يكفي من المساعدات الغذائية لجمع ما يقرب من مليار دولار من بيع المساعدات إلى سكان غزة أنفسهم، أي ما يزيد بنحو 30% عن المبلغ الذي يعتقد أن القطريين قدموه مباشرة إلى القطاع لأغراض إنسانية. ولا يمكن لمنظمة مفككة أن تفعل كل هذا.
والواقع أنه بحلول ربيع العام الماضي بدا أن الصراع تحول إلى معركة بين ذراع الاستخبارات الإسرائيلية الشاباك والعملية الاستخباراتية الصارمة لـ”حماس” في “كتائب القسام”، التي صمدت حتى الآن وتمكنت من الحفاظ على سيطرة محكمة على السكان اليائسين. والجانب الآخر من العملة إذن هو العجز الإستراتيجي للجيش الإسرائيلي، نظراً لأن نتنياهو لم يحدد له قط هدفاً قابلاً للتحقيق في الحرب.
ويرى كلارك أن إستراتيجية مكافحة تمرد ربما نجحت أكثر، لو استندت على إستراتيجية “تطهير وسيطرة” على مناطق غزة والسماح للمدنيين بالعودة وتوفير ما يحتاجونه، ومن ثم التحرك من منطقة إلى أخرى، وربط “بقع الحبر” بين المناطق الآمنة والمحتلة حتى يتم تجميد وعزل “حماس” عن المجتمعات التي تم حصرها في منطقة معينة. وهذا النوع من مكافحة التمرد يتطلب أعداداً كبيرة من القوات لفترة طويلة، ومن المؤكد أنه سيتسبب في خسائر فادحة. كما يتطلب قدراً كبيراً من “ضبط النفس الكبير”، وهو أمر محبط للقادة والجنود على حد سواء.
ولكن الجيش الإسرائيلي لم يقترب أبداً من تطبيق هذه الإستراتيجية، وقد وصف المحللون في مركز القدس للأمن والشؤون الخارجية عمليات الجيش الإسرائيلي بأنها أديرت بشكل “عشوائي”.
ولأن الحكومة الإسرائيلية كانت مستعدة لخوض حرب على ثلاث أو ربما أربع جبهات مختلفة، فإنها حققت بعض النجاح. ولهذا، لم تكن راغبة قط بتخصيص العدد الأكبر من القوات لغزة.
وبعد استدعاء 300,000 جندي احتياطي وهجوم أولي بخمس فرق على القطاع، انخفض العدد في غزة بشكل كبير في أوائل عام 2024 ولم يرتفع مرة أخرى إلا من حين لآخر.
عندما ركزت إسرائيل على الشمال، اتجهوا جنوباً، وعندما تحركت القوات الإسرائيلية أخيراً نحو الجنوب، عادت “حماس” إلى الشمالوتم إرسال القوات إلى جبهة لبنان والضفة الغربية، ثم عاد الجنود إلى وظائفهم المدنية بسبب حاجة الاقتصاد إليهم. وبدلاً من ذلك، اعتمدت القوات الإسرائيلية على الهجمات الجوية المكثفة كلما حصلت على معلومات استخباراتية عن إعادة تأسيس مجموعات “حماس”. وهذا يناسب “حماس” تماماً. أعادت تأسيس نفسها في المدارس والمستشفيات وهي تعلم أن القوات الإسرائيلية ستقصف وتقتل المزيد من المدنيين. قد يفكر الجيش الإسرائيلي في تاريخ من حملات مكافحة التمرد الفاشلة التي اعتمدت كثيراً على القصف الجوي، من الحدود الشمالية الغربية في عشرينيات القرن الماضي إلى أفغانستان وشمال العراق في عشرينيات القرن الحادي والعشرين. ولا تزال مئات الأنفاق التي أنشأتها “حماس”، حوالي 40% منها، موجودة هناك ويمكن استخدامها كملاجئ للمقاتلين من الغارات الجوية.
وتم تكليف مهندسي الفرقة 143 في الجيش الإسرائيلي بالعثور على تلك الأنفاق الأساسية التي تربط جنوب غزة بطرق إمداد “حماس” عبر الحدود في سيناء وتدميرها. لكنها مهمة طويلة، وحتى هنا يعتقد أن جميعها لم يتم تحديدها على الخرائط بعد.
وربما بدت مزاعم إسرائيل أن “حماس” تحتجز شعب غزة رهينة، فلم تجر أي انتخابات لا في غزة ولا في الضفة الغربية، إلا أن “حماس”، وحتى نهاية أيلول/سبتمبر، كانت تحظى بأعلى دعم بين الفلسطينيين، 36% وربما كانت إستراتيجية الجيش الإسرائيلي المعيبة في غزة سبباً وراء هذه النسبة.