الحرب في السودان: مسؤولية ألمانيا المكبوتة
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
الحرب في السودان: مسؤولية ألمانيا المكبوتة
Roman Deckert بقلم رومان ديكرت
تقديم وترجمة حامد فضل الله \ برلين
نُشِر المقال في المجلة الشهريّة المرموقة " أوراق للسياسة الألمانية والدولية"، عدد أغسطس 2024
للكاتب رومان ديكرت وهو من مواليد 1974 في مدينة بوخم (المانيا) مؤرخ ومحلل وصحفيّ مستقل، حالياً في جنيف.
Media in Cooperation and Transition (MiCT).
عنوان المقال الأصلي " الحرب في السودان، هي أيضاً، حربنا"، اختارت هيئة التحرير العنوان أعلاه.
إلى النص:
تتواصل الأخبار المرعبة من السودان، ولكنها بالكاد تصل إلى الجمهور، رغم أنّ الأمم المتحدة تصفها بأنّها أكبر أزمة إنسانية حالياً. من بين حوالي 51 مليون شخص في السودان، ما يقرب من نصفهم بحاجة ماسة إلى المساعدة الإنسانية. ويُقدّر عدد النازحين قسراً بأكثر من عشرة ملايين، منهم أكثر من مليوني شخصٍ فرّوا إلى الدول المجاورة. يحذّر برنامج الأغذية العالمي منذ أشهر من مجاعة قد تتجاوز في أبعادها تلك التي ضربت إثيوبيا في منتصف الثمانينيات.
منذ بداية الحرب في أبريل من العام الماضي بين الجيش النظامي ومليشيات قوات الدعم السريع، فقد عشرات الآلاف حياتهم. تشير بعض التقديرات إلى أن عدد القتلى قد يصل إلى 150,000 شخص. قتلت قوات الدعم السريع في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، ما يصل إلى 15,000 شخص وفقاً لتحقيق أجرته الأمم المتحدة، وهو تقريبًا ضعف عدد ضحايا مذبحة سريبرينيتسا عام 1995، التي صُنفت كجريمة إبادة جماعية من قبل المحاكم الدولية.
ورغم ذلك، فإنّ السودان نادراً ما يظهر في الأخبار الرئيسية لوسائل الإعلام العالمية. لا في ألمانيا ولا في دول غربية أخرى - باستثناء القوة الاستعمارية السابقة بريطانيا – حيث يولي المحررون الصراع نفس الأهمية تقريباً مثل الحروب في أوكرانيا أو غزّة.. هذا التجاهل لأكبر أزمة لجوء في العالم في بلد ليس ببعيد، يبدو أكثر تناقضاً، حيث أن الخطاب العام في جميع أنحاء أوروبا يتركز حالياً على قضية الهجرة واللجوء. كيف يمكن تفسير هذا اللامبالاة العامة؟!
تناولت الصحفية بيتينا جاوس المتُوفية عام 2021، هذا السؤال في كتابها الذي نشرته عام 2004 وتطرقت فيه تحديداً إلى السودان. من خلال تجربتها كمراسلة أفريقية لصحيفة "تاز" لسنوات عديدة، خلصت إلى أنّ الصراعات المضنية لم تقدم صوراً تليفزيونية جذابة، لأنّ المشاكل اللوجستية جعلت من التغطية الإعلامية من المناطق الأمامية النائية والخطيرة أمراً شبه مستحيل. ولكن هذه المشكلة لم تعد موجودة في الآونة الأخيرة، حيث يقوم مقاتلو قوات الدعم السريع والجيش بإنتاج كميات هائلة من المواد المصورة ــ وهي بالطبع تًقدم من جانبٍ واحدٍ ـــ بواسطة هواتفهم المحمولة وينشرونها بحرية على الإنترنت.
وأضافت جاوس، سبباً آخر لا يزال ينطبق حتى اليوم: وهو أن الصور والفيديوهات من مناطق الأزمات الأفريقية، بدت وكأنها جاءت من كوكب آخر. على النقيض من ذلك، شعر العديد من الأوروبيين بأنهم مرتبطون بشكل مباشر بالحروب في يوغوسلافيا السابقة، لأنّ المنازل والأشخاص هناك كانوا يشبهون تلك الموجودة في المجتمع الأوروبي. وهذا يفسر نفس التأثير، لماذا يحظى الهجوم الروسي على أوكرانيا بصدى أكبر بكثير في الدول الغربية، مقارنةً بالحرب في السودان؟ و أن المساعدات الإنسانية لأوكرانيا أيضاً، ليست بمثل هذا النقص الفادح في التمويل كما هي الحال بالنسبة للسودان، رغم أن كلاهما لديه تعداد سكاني مشابه.
الصراعات على السلطة والموارد
يعزو في نفس الوقت، العديد من المثقفين السودانيين التجاهل الدولي، والذي يلاحظونه في الدول العربية أيضاً، إلى مشاعر عنصريّة تجاه الأفارقة. سيطر في الواقع، لفترة طويلة في الإعلام الألماني سردية عن صراعات قبلية بدائية. ولكن حتى إذا كانت النزاعات، كما في مجزرة الجنينة، تحمل مكونات عرقية جزئياً، فإن الحدود بين الجماعات العرقية تتلاشى عند الفحص الدقيق، ومحاولة تصنيفها بوضوح تنزلق بسرعة إلى تفكير قومي. ينطبق نفس الأمر على الفكرة الشائعة بين النّخب في العاصمة الخرطوم ووادي النيل في شمال السودان، بأنّ قوات الدعم السريع هي في الواقع غزاة أجانب، لأن العديد من مقاتليها ـ الذين يتعاطون المخدرات القادمة من سوريا ـ يأتون من تشاد والنيجر ومالي. كلّ هذه الكليشيهات، تحجب حقيقة مفادها، أن الانتماء العرقي ــ الثقافي ليس السبب وراء أعمال العنف، بل النزاعات حول الوصول إلى السلطة والموارد، والتي تحدث في سياق عالمي وبالتالي تصبح عرقية.
بقدر ما تكون أسباب الحرب معقّدة، فمن الواضح أنّ الحرب، التي بدأت في الأطراف المهمشة لمنطقة غرب دارفور، اجتاحت البلاد بأكملها. وعلى النقيض مما اعتقدت الحملات السابقة التي قام بها نجوم الولايات المتحدة مثل جورج كلوني، لم يكن الأمر في دارفور يتعلّق بشكل أساس بعدوان "العرب السيئين" ضدّ "الأفارقة الطيبين". بدلاً من ذلك، تصاعدت التوترات هناك منذ منتصف الثمانينيات عندما تنافس صغار المزارعين المستقرين ورعاة الماشية الرّحّل بشكل متزايد على الأراضي الزراعية، بسبب جفاف منطقة الساحل. قام رئيس الوزراء آنذاك، الصادق المهدي والمنتخب ديمقراطياً إلى حدّ ما، بتفويض قمع هذه النزاعات إلى جهات غير حكومية وبدأ بتسليح عملائه التقليديين. وخرجت من هذه المليشيات في النهاية، قوات الدعم السريع.
كان فقدان الأراضي الزراعية الكبير بسبب التغير المناخي، بالإضافة إلى النمو السكاني، العامل الرئيسي في تصاعد العنف. ورغم الإدارة الكارثية للحكومات المتعاقبة من قبل المهدي وخلفه عمر البشير، التي اعتمدت على مبدأ "فرق تسد" فإن وصف دارفور بأنها أول حرب مناخية في عصرنا سيكون مضللاً. ولكن هناك إجماع بين المحللين السودانيين على أنّ التصحر الناجم محلياً عن إزالة الغابات والتغير المناخي الناجم عالمياً عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، كانا من العوامل الرئيسة في النزاع.
زاد الضغط على سكان دارفور بشكلٍ أكبر بسبب أزمة الديون الدراماتيكية التي اجتاحت السودان كما اجتاحت العديد من دول أفريقيا في الثمانينيات. أخذ النظام العسكري بقيادة جعفر نميري، الذي حكم من عام 1969 حتى 1985، قروضاً كبيرة لمشاريع تنموية غير مستدامة، مما جعل البلاد تتحمل ديوناً ضخمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن القتال ضدّ الجيش الشعبي لتحرير السودان، الذي كان يتمرد ضد تهميش المناطق الجنوبية منذ عام 1983 وكان مدعوماً في البداية من دول الكتلة الشرقية مثل جمهورية ألمانيا الديمقراطية، استهلك موارد هائلة.
تحت ضغط الدائنين، خاصةً صندوق النقد الدولي، ألغى السودان الدعم الاجتماعي بشكل كبير وركز على تصدير الماشية الحية إلى السعودية ودول الخليج الأخرى للحصول على عائدات البترول.
أعتمد الاسلامويون بقيادة حسن الترابي، الذي أطاح بالصادق المهدي "شقيق زوجته" عام 1989 وعين الجنرال عمر البشير غير المعروف حتى حينها كرئيس شكلي للنظام، التوجه نحو تحويل الاقتصاد الوطني إلى الاقتصاد النيوليبرالي، وأشعلوا في الوقت نفسه، من خلال أسلمة البلاد وأيديولوجية التفوق العربي تمرّد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقتها في جنوب السودان وزادوا من التوترات في دارفور. توصل البشير بعد انفصاله عن الترابي، إلى اتفاق سلام مع المتمردين في جنوب السودان عام 2005، ولكن في نفس الوقت انفجرت النزاعات المشتعلة منذ زمن في دارفور، بتمرد الميليشيات الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين لصغار المزارعين المستقرين.
استغل البشير جزءاً من عائدات النفط المتدفقة من جنوب السودان لتمويل المليشيات المستعربة لقمع التمرد في دارفور، بينما ركز جيشه النظامي على الأنشطة الاقتصادية الخاصة به لتأمين جزء كبير من الثروة الجديدة. أصبح الملايين من سكان دارفور نازحين في وطنهم، وفقد عشرات الآلاف حياتهم. وبحسب أعلى التقديرات، قد يصل عدد القتلى إلى 300,000 شخص. انتهى التمرد في عام 2016 بفوز قوات الدعم السريع تحت قيادة محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب "حميدتي"."
أصبح حميدتي وأفراد أسرته أثرياء نتيجة نجاحهم العسكري وزادوا من قوتهم من خلال السيطرة على مناجم الذهب في دارفور وتجنيد مرتزقة للمشاركة كقوات برية في حرب التحالف السعودي الإماراتي في اليمن. وتحول الاقتصاد السوداني، من الاِنتاج إلى الدمار، وحرص حميدتي على عسكرة سوق العمل أيضاً. بالنسبة للعديد من الشباب، أصبحت الطريقة الوحيدة لكسب العيش لهم ولعائلاتهم هي الانخراط كمقاتلين. ومنحت الاتحاد الأوروبي وسويسرا في نفس الوقت، الاعتراف الدولي لقوات الدعم السريع من خلال التعاون معهم في عملية الخرطوم للحدّ من الهجرة إلى أوروبا.
السلاح الألماني في السودان
علاوة على ذلك، فإن لألمانيا مسؤولية تاريخية خاصة تجاه عسكرة الساحة السياسية السودانية، حيث أصبحت المشاركة في السلطة والموارد متاحة فقط للجماعات المسلحة. كانت جمهورية ألمانيا الفيدرالية القديمة، منذ استقلال السودان عام 1956، تعمل على تعزيز مختلف الأنظمة في الخرطوم من خلال التسليح والتدريب لبناء "الفناء الخلفي" لمصر كحصن ضد التأثيرات الشرقية. حيث قدمت المخابرات الفيدرالية الألمانية والشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية دعمًا كبيرًا في إنشاء الأجهزة الأمنية السودانية، التي تحولت تدريجياً إلى آلة قمع. ولكن الأهم من ذلك، هو أن جميع الحكومات الفيدرالية قدمت للجيش السوداني مساعدات عسكرية وتدريبية قياسية خلال الحرب الباردة، التي تحولت إلى حرب بالوكالة في المنطقة بأكملها. وكان جوهر ذلك، هو إنشاء وتشغيل مصنع للذخيرة في الخرطوم بواسطة شركة فريتز-فيرنر الحكومية آنذاك، والذي شكّل نواة المجمع الصناعي العسكري السوداني.
تشكل بنادق جي 3 من تصنيع شركة "هكلر وكوخ"، صورة رمزيه لهذا الإرث التاريخي، الذي يمكن رويته من خلال الصور التي ينشرها مقاتلو قوات الدعم السريع. ويبدو أنها وصلت إلى السودان من خلال حرب اليمن، حيث تمّ تزويدها من قبل السعودية أو الأمارات العربية المتحدة، بالإضافة إلى ذلك، توجد أدلّة، بأن جي 36 الحديثة، خليفة جي 3 ، قد تم توريدها إلى السودان. ويظهر عبد الفتاح البرهان نفسه في فيديو وهو يختبر البندقية المعيارية ( القياسية) الحالية للجيش الألماني. ومع ذلك، لا توجد دلائل على أن الحكومة الألمانية تجري تحقيقات حول انتهاكات شروط الاستخدام النهائي لأسلحتها المصدرة.
الأمر الأكثر أهمية هو أنّ الحكومة الألمانية حليفة لأكبر محرك للحرب. فلا جدال في أن الإمارات العربية المتحدة هي الداعم الرئيس لقوات الدعم السريع. كما هو الحال في العديد من البلدان الأفريقية على طول الساحل الشرقي وحتى داخل القارة، يبدو أن الهدف الجيوستراتيجية للإمارات هو تأمين الوصول إلى الموانئ والمناطق الداخلية. على الرغم من أن الإمارات لعبت دوراً حاسماً في انقلاب البرهان وحميدتي ضد الحكومة المدنية لعبد الله حمدوك في نهاية 2021، إلاّ أنّ المستشار الألماني أولاف شولتز اتفق بعد عام مع الرئيس الإماراتي محمد بن زايد على تجديد شراكة استراتيجية أقرّت أصلاً عام 2004. أن حقيقة موافقة الحكومة الائتلافية الألمانية على صادرات أسلحة بقيمة تزيد عن 51 مليون يورو إلى الإمارات في النصف الأول في عام 2024 وحده، يجب أن تبدو بمثابة محض من السخرية المطلقة لنسبة كبيرة من السودانيين.
من ناحية أخرى، حصلت السعودية في نفس الفترة، التي تدعم الجيش النظامي بجانب إيران وروسيا، على صادرات أسلحة بقيمة تزيد عن 132 مليون يورو. يبدو أن الدبلوماسية الأمريكية، وأيضًا الاستراتيجيين في برلين، يعتبرون الحفاظ على علاقات جيدة مع حكام الرياض وأبوظبي أكثر أهمية من انتقاد حربهم الكارثية بالوكالة في السودان من أجل الهيمنة الإقليمية على البحر الأحمر.
من الممكن أن يكون إرهاق السودان للغرب مرتبطًا أيضًا بالحقيقة غير المريحة المتمثلة في أن هذه الحرب لها علاقة "بنا" أكثر بكثير مما نودّ الاعتراف به. وبما أن الضحايا الرئيسيين هم في الغالب من النساء والأطفال، فإن هذا الموقف لا يبدو مثالاً رئيسياً للسياسة الخارجية الموجهة نحو القيم أو حتى سياسة خارجية نسوية*.
* في اتفاقية الائتلاف الحكومي الموقعة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، صرحت الحكومة الألمانية بما يلي: "نريد بالتعاون مع شركائنا تعزيز حقوق وموارد وتمثيل النساء والفتيات في جميع أنحاء العالم وتعزيز التنوع الاجتماعي على نحو يتماشى مع السياسة الخارجية النسوية" (المترجم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Roman Deckert, Krieg im Sudan: Deutschlands verdrängte Verantwortung, Blätter für deutsche und internationale Politik, August 2024
hamidfadlalla1936@gmail.com
//////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الحرب فی السودان العدید من فی دارفور من خلال فی نفس
إقرأ أيضاً:
كارثة إنسانية غير مسبوقة.. تقرير يرصد الدمار الذي خلفته الحرب في العاصمة السودانية
نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية، مقالا، للصحفية نسرين مالك، قالت فيه إنّ: "عاصمة السودان أُفرغت من مضمونها وجُرّدت أجزاء منها، ودُهس شعبها تحت وطأة صراع لم ينتهِ بعد"، موضحة: "قبل عشرة أيام، وفي نقطة تحوّل رئيسية في حرب دامت قرابة عامين، استعاد الجيش السوداني العاصمة من جماعة "قوات الدعم السريع" التي استولت عليها عام 2023".
وتابع المقال الذي ترجمته "عربي21" أنّه: "ما نعرفه حتى الآن يرسم صورة لمدينة مزّقتها فظائع لا تُصدق؛ حيث أدّت الحرب لانزلاق السودان نحو أكبر كارثة إنسانية في العالم، متسببة في إبادة جماعية في غرب البلاد، ومجاعة هناك وفي مناطق أخرى".
وأضاف: "خاضت قوات الدعم السريع -التي تشكّلت رسميا ووُسّع نطاقها من بقايا الجنجويد- والجيش السوداني، الحليفان السابقان في السلطة، الحرب عندما انهارت شراكتهما. وكان الضحايا هم الشعب السوداني، الذي دُهست حياته تحت وطأة الحرب".
"إن مركزية الخرطوم في الحرب، سواء من حيث ازدهارها أو ما تمثله لقوات الدعم السريع كمقر للسلطة، قد جعلت المدينة عرضة لحملة انتقامية شديدة: فقد استولت قوات الدعم السريع عليها، ثم شرعت في نهبها وترويع سكانها لا حكم المدينة، بل جردت المدينة من ممتلكاتها" وفقا للمقال نفسه.
وأكّد: "يشعر أولئك الذين يغادرون منازلهم مترددين لاستقبال جنود القوات المسلحة السودانية بالجوع والعطش والمرض والخوف. يروون حصارا من السرقة والقتل، بينما أطلقت ميليشيا قوات الدعم السريع النار على من قاوموا مطالبهم. وخوفا من حمل قتلاهم إلى المقابر، دفن الناس قتلاهم في قبور ضحلة في شوارعهم وساحاتهم الخلفية. وفي أماكن أخرى، تُركت الجثث لتتحلل حيث سقطت".
وأبرز: "وردت تقارير عن انتشار العنف الجنسي ضد السكان المدنيين منذ الأيام الأولى للحرب. ويُعد عدم وجود تقدير موثوق لعدد القتلى مؤشرا على الحصار الشامل الذي كانت الخرطوم تعاني منه".
واسترسل: "في مناطق المدينة التي شهدت أشدّ المعارك، فرّ المدنيون، تاركين وراءهم مدينة أشباح. المشاهد مُروّعة. إذ تحوّلت مباني الخرطوم ومعالمها البارزة لهياكل محترقة، واكتست شوارعها بالأعشاب والنباتات. في تجسيد صارخ لقطع شريان الحياة في البلاد، احترق المطار، الذي كان يعمل حتى الساعات الأولى من الحرب، وكانت الرحلات تستعد للإقلاع، حتى تحول إلى هيكل أسود. ولا تزال بقايا الطائرات التي أوقفتها الحرب على المدرج".
ووفقا للتقرير نفسه، فإنّ "الدمار السريع لمطار الخرطوم، يُظهر السمة الأبرز لهذه الحرب -كم كانت مُتسرّعة-. كيف انسلخت السودان من حالتها الطبيعية بسرعة وغرقت في حرب لم تتصاعد بمرور الوقت، بل انفجرت بين عشية وضحاها"، مردفا: "حمل الملايين كل ما استطاعوا من ممتلكاتهم وفرّوا مع تقدم قوات الدعم السريع. وتم نهب ما تركوه وراءهم سريعا".
وأضاف: "ما حدث في الخرطوم هو أكبر عملية نهب لمدينة أفريقية، إن لم تكن لأي عاصمة، في التاريخ الحديث. من التراث الثقافي للبلاد إلى ممتلكات شعبها، لم ينجُ شيء. أُفرغ المتحف الوطني السوداني، الذي يضم قطعا أثرية ثمينة من الحضارتين النوبية والفرعونية. دُمّر ما لم يكن بالإمكان نقله".
"نُهبت المنازل والمحلات التجارية، وسُرق كل شيء من الأثاث إلى المتعلقات الشخصية. حتى الأسلاك الكهربائية لم تسلم: نُبشت وجُرّدت لبيعها. وتُظهر صور من المدينة بقايا سيارات، جميعها بعد إزالة عجلاتها ومحركاتها" وفقا للتقرير نفسه الذي ترجمته "عربي21".
ومضى بالقول إنّ: "حجم السطو والدمار الذي يظهر جليا يُشير إلى نهاية حصار الخرطوم، كلحظة مُبهجة وحزينة في آن واحد. إن التحرّر من آلام الاحتلال الوحشي هو مدعاة للارتياح والاحتفال، لكن حجم الخسائر، وما يتطلبه إعادة البناء، هائل ويمتد لأسس القدرات المادية والإدارية للمدينة".
وتابع: "هناك مسألة بناء الأمة وإنهاء الحرب في جميع أنحاء البلاد. لقد تفكك السودان عسكريا، واحتشد الشعب خلف القوات المسلحة السودانية لاستعادة وحدة أراضي البلاد وتخليصها من قوات الدعم السريع. لكن مسألة إخراج جميع الهيئات العسكرية من الحكم، وهو مطلب أحبطته شراكة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بعد ثورة 2019 التي أطاحت بعمر البشير".
وأبرز: "أصبحت معلقة في هذه العملية، ما دفع السودان أكثر نحو الحكم العسكري وتوحيده تحت قيادة القوات المسلحة السودانية. وتمّ استقطاب الوكلاء والمرتزقة وموردي الأسلحة، وأبرزهم الإمارات، التي دعمت قوات الدعم السريع. لقد أطالت هذه الجهات الفاعلة عمر الحرب وغرقت في الكثير من التكاليف في الصراع لدرجة أن مشاركتها ستجعل على الأرجح الانتصارات الكبيرة للقوات المسلحة السودانية غير حاسمة على المدى القصير".
وأكّد: "لقد تخلى المجتمع الدولي عن السودان تقريبا لمصيره، مع مئات الملايين من الدولارات من المساعدات التي تعهدت بها والتي لم تتحقق أبدا وتفاعلا سياسيا بائسا"، مردفا: "انتقلت ميليشيا قوات الدعم السريع الآن لمعقل في غرب البلاد، حيث تسيطر على كل مدينة رئيسية تقريبا".
وختم التقرير بالقول: "بلغ حجم العنف هناك ضد الجماعات العرقية والقبائل غير المتحالفة مع قوات الدعم السريع حد التطهير العرقي والقتل الجماعي الذي يُعيد إلى الأذهان إبادة الألفية الثانية، وتتحمّل القوات المسلحة السودانية، بقصفها المميت، مسؤولية سقوط العديد من الضحايا المدنيين، ولها نصيبها من الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية".
واستطرد: "ما انتهى في الخرطوم وشرق السودان لا يزال مستعرا، وبشدة أكبر، في أماكن أخرى. ربما تكون قوات الدعم السريع قد فقدت جوهرة تاجها، لكن الحرب لم تنتهِ بعد".
إلى ذلك، أكّد: "في غضون ذلك، فإن القدرة على إحصاء الخسائر، بدلا من معايشتها فعليا، هو أفضل ما يمكن أن نتمناه. وما هذه الخسائر، ليس فقط لسكانها، وليس للسودان فحسب، بل لعالم فقد مدينة جميلة وتاريخية وعريقة. لقد تمزقت الخرطوم وتناثرت أجزاؤها في جميع أنحاء السودان. ما تبقى منها يسكن في قلوب أهلها".