أحمد السيابي:التوازن بين الحرية والمصلحة العامة مفتاح الاستقرار

د. سيف الهادي:الأخلاق نقطة ارتكاز الحرية وإطارها العام

عبدالله الحارثي: الحرية مكفولة ضمن إطار المسؤولية والاحترام

د. خميس أمبوسعيدي: حرية التعبير مسؤولية وطنية تحكمها القيم والقانون

حرية الرأي والتعبير عمود أساسي في بناء المجتمعات المتقدمة، وهي حقٌ يكفله الدستور العُماني لكل مواطن.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، تبرز الحاجة الملحة لفهم أعمق لكيفية ممارسة هذه الحرية بمسؤولية وحكمة. يهدف هذا الاستطلاع إلى الغوص في أعماق المجتمع العُماني لاستكشاف مواقفه حول التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاجتماعية، نسعى لفهم كيف يمكننا الحفاظ على حق التعبير عن الرأي مع الالتزام بالقيم الأصيلة للشخصية العُمانية، المعروفة بالاتزان والرصانة، يتناول الاستطلاع قضايا محورية مثل حدود حرية التعبير، وأهمية الاحترام المتبادل في الحوار، وكيفية الحفاظ على النسيج الاجتماعي في ظل تنوع الآراء، كما يسلط الضوء على ضرورة تجنب الإساءة والتنمر على الآخرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكدا أن حرية التعبير الحقيقية لا تعني انتهاك حقوق الآخرين أو التعدي عليهم بطرق مشينة.

من خلال هذه الآراء المهمة نأمل في تحفيز نقاشات بناءة تسهم في تعزيز الوحدة والتماسك الاجتماعي، وتؤكد أن حرية التعبير -إذا ما مورست بمسؤولية- يمكن أن تكون أداة قوية لتطوير المجتمع والحفاظ على هويته وقيمه الراسخة.

بداية، يقول سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي الأمين العام بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية: إن الأخلاق بُحثت فلسفيا إسلاميا فوُجدت أنها «أساس القيم» وكلاهما يحثان على التمسك بها والأصل إنها الأخلاق الإسلامية، وهي موروثة من عهد أبينا إبراهيم عليه السلام، ومنها الصدق، والوفاء، والكرم، واحترام الجار، وكل هذه المفردات العظيمة تمسّك به العرب تمسكا شديدا جدا. وبُحثت فلسفيا من خلال الفلاسفة كترسيخ من القيم الإنسانية ـ لا شك ـ لكن في النهاية تجد الفطرة السليمة هي فطرة إيمانية حيث قال الله تعالى «فطرة الله التي فطر الناس عليها»، ماذا قال؟ بعدها: «ذلك الدين القيم»، فلذلك في حديث نبوي شريف يقول: «كل مولود يولد على الفطرة»، وإنما البيئة هي من توجهه، وهي المسيطر على الإنسان، حتى في قصة بلقيس ملكة سبأ «وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين»، إذن الفطرة هي فطرة إيمانية، تنسجم مع الديانات، والرسالات الربانية أو السماوية، ولكن البيئة هي التي تجرف بالإنسان إلى الوضع القائم آنذاك؟ فإذا الأخلاق هي التي تغرس القيم، وهذا الذي دأبناه في الإنسان العماني المزود بالقيم والأخلاق والتي جعلته يحترم ويتفاعل ويتعايش مع الآخر، أما الشتم، فهذا غير موجود في خصال العمانيين، ومن الملاحظ في الجانب الأدبي مثلا أن كل الأغراض الشعرية موجودة في الشعر العماني إلا الهجاء، وإن وجد فهو بسيط جدا ومن باب الدعابة، لماذا؟ لأن القيم العمانية لا تسمح به وهذا ما يجب أن نكرسه ونغرسه في النشء، وأن نبتعد عن مجالات سوء الأخلاق، وعن الظواهر التي نراها في وسائل التواصل الاجتماعي من أكاذيب ومن تزوير على الأشخاص، وللأسف حتى من بعض المتعلمين الذين تجدهم يزوّرون على الشخص الآخر عندما يريدون أن يشوهوا صورته أو موضوعه، وهذا لا يجوز أساسا في الشرع، كما أن التستر وراء الأسماء المستعارة لا يجوز لأنه في سياق «الكذب»، والكذب من أكبر المحرمات والإسلام شدد على الصدق والصراحة، كل هذه الأمور يجب أن تزول من المجتمع العماني القائم على المحبة، وعلى التصافي، وعلى قبول الآخر، وعلى العيش المشترك.

ويضيف «سعادته»: أستشهدُ بحادثة تاريخية فكرية، في عهد الإمام عمر بن الخطاب الخروصي قام العلماء بتأميم أملاك النباهنة، لكن عندما أُصدر الحكم، أصدروه بثناء على ملوك النباهنة، قال حكمنا مثلا بتغريق أموال السادة من آل نبهان وهم السادة فلان، وفلان، وفلان، ولم يشتموهم ولم يقولوا حكمنا على هؤلاء الظلمة، والجائرين .. وهذا يحيلنا إلى وجوب استعمال التعبيرات والأساليب الراقية في وصف الآخر، وإن كنت أختلف معه، وألا يقودني هذا الاختلاف مع الآخر إلى التطاول عليه، أو القدح في شخصه أو أهون من أمره بالشتم، والطعن في الأنساب وغيره.. فالحرية هي أن لا تؤذي الآخر.. أن تمارس الشيء بضوابط أخلاقية، يجب أن تراعي المجتمع ولا تؤذيه، فبقولك ما لا يقبله المجتمع، فأنت تؤذيه، فمثلا قد يكون في العقيدة وـ العياذ بالله ـ يسبّ الله تعالى، أو الأنبياء أو يشكك أو غير ذلك، فهذا يؤذي المجتمع، ويجب عليك أن تأخذ الأمر من جانبين، أنك أوّلا تطاولت على الذات الإلهية، وفي نفس الوقت أنت آذيت المجتمع، إذن تتوقف هنا الحرية، فالإنسان يمارس حريته الشخصية في حدود الالتزام بعدم إيذاء الآخر، وهذا هو الأصل.

ويؤكد سعادة أحمد بن سعود السيابي: أنه عند ممارسة «الحرية» يجب مراعاة المجتمع، ومراعاة الظروف الاقتصادية، مراعاة الظروف السياسية أيضا، قد أكود فردا من المجتمع، لكني في المقابل لا أعرف ما هي السياسة العامة كما تعرفها الدولة مثلا بمستشاريها، بخبرائها، بمصالحها، فالدولة دائما هي التي تعرف تلك الظروف وتقيمها في وضعها الحقيقي نتيجة استشارات ومكاتب خبرة وبحوث استشارية، فتعرف الدولة ما الذي يضر الوطن، وما الذي لا يضره، وعليه أنا كفرد، لا يمكنني، فرض رأيي.

ويستشهد «السيابي» في حديثه بقصة الخليفة عبد الملك بن مروان حينما جاءه رجل فعرف أن هذا الشخص أتى ليفتن على آخرين فقال له يا هذا إذا كنت صادقا، فقل، فإنه لا رأي لمكذوب.

ويقول «سعادته»: هذه قاعدة جميلة لأن تقديم معلومة مكذوبة سوف ينبني عليها قرار قد يكون خاطئا، ولهذا جاء النص القرآني «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين» فإذن، القرار يجب أن يبنى على معلومة صحيحة، ولذلك الأمور الإدارية المعاصرة تأتي بالاستبيان قبل القرار.

ويؤكد سعادة الأمين العام بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية بأنه لا تجوز مقارنة الحرية بالدول الأخرى فالدول الأخرى لها ثقافتها، حيث يقول: هناك الثقافة هي من تغذي الديمقراطية، فعلى سبيل المثال، القيم الغربية قد لا تستسيغها لكن ثقافتهم هي من دفعتهم إليها، فبنوا ديمقراطيتهم على ثقافتهم، ونحن ثقافتنا تختلف لذلك أبني ديمقراطيتي على ثقافتي، فكل شعب له ظروفه الاجتماعية ومرجعيته الثقافية.. فلا يمكن لأي دولة أن ترى نظاما ديمقراطيا قائما على ثقافة معينة وتستورد النموذج بالكامل، لا شك علينا أخذ المفيد منه فقط .. كما أنه حتى الدول التي سميت بالديمقراطية فهي تختلف عن الأخرى باختلاف ثقافتها؛ فالديمقراطية الفرنسية لها أسلوبها وهي تختلف عن البريطانية، وتختلف عنهما الأخرى الأمريكية.

وحول المحددات التي يجب الركون لها لصنع جيل واع بمسؤولياته الأخلاقية يقول سعادة الشيخ: «الأطر الاجتماعية هي التي تحمي الإنسان حينما يختلط بها، فتعارف الناس في المسجد في بعض الأحياء لا يتم إلا عن طريق المسجد والذي لا يلجأ إلى المسجد فهو منقطع عن الجيران، كما أن الذين يجتمعون في المسجد ينسقون مع بعضهم البعض ويتعارفون مع بعض ويلتقون مع بعضهم ويزور بعضهم بعضا، واللحمة الاجتماعية تكون أكبر، إضافة إلى المجالس حيث كانت المجالس أو «السبلة» في عمان هي محور الحياة، وكانت دائما بالقرب من المسجد أو ملاصقة له فيخرج المصلون ويجتمعون في المجلس وعندما يرى الشاب أو الولد الصغير أباه مجتمعا مع الآخر ويتبادل معه الحديث باحترام، فلا شك أن ذلك سينعكس عليه، وينعكس ما تخلفه هذه الجمعة من توقير للكبير واحترام للصغير.

فهذه الأخلاق هي نسيج واحد، والسبلة كان لها دور إيجابي كبير في تكوين الأخلاق، ولعل المرجع لما يقوله الناس الآن عن أخلاق العمانيين، فإن مرجعه المسجد والسبلة إضافة إلى المدرسة وجاءت للعلم، والانضباط .. لذلك «المسجد» و «السبلة» أهم رافدين للأخلاق المجتمعية، أما المدرسة فللانضباط والتعليم.

وحول أهم المحددات لإعادة وتفعيل هذه الأطر يقول «السيابي»: نحن فقدنا الحوار ولكن أيضا الحوارية القائمة بين الكبار أنفسهم، والصغار بين أنفسهم أي بين الأجيال نفسها وكل جيل يحاور نفسه وهذا كله في حال الالتحام بالسبلة، وهناك نماذج لعمانيين تعلموا الميراث من السبلة وهم جهلة لا يكتبون، لكنهم يقسمون الميراث بدقة أكثر من المعاصرين، وهناك كبار السن ممن يحفظون أبياتا من الشعر لأنهم يسمعونها في المجالس.. كل هذه الأطر نحن بحاجة إلى تفعيلها، حينها يرى هؤلاء الأطفال آباءهم يجتمعون في المجلس، فيذهبون إليهم مهما كان، خاصة حينما يجدون اللطف من الكبار، وإضافة إلى ذلك فإن وجود التوعية الدينية يؤدي إلى ذهاب الطفل إلى المسجد، ما يؤدي الصلاة، ما يدفعه إلى تعلم القرآن وبالتالي هي أسس للالتحاق بهذه الأطر وبالتالي تنعكس إيجابا في سلوكه في النهاية عندما يكبر، إذن نحن بحاجة إلى تفعيل هذه الأطر وأن نعود إليها ويجب حتى على المخططات الحديثة أن تراعى ذلك.

وحول أهمية الكلمة الطيبة وحسن القول في التعامل مع الآخرين وفي تشكيل السلوك الإنساني يقول سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي: كل شيء، وليد شيء كما يقول الشاعر: ومعظم النار من مستصغر الشرر، فإذن هي دائما الكلمة الطيبة، قال الله تعالى: « ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة» و«ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة» .. فالإنسان حينما يتعود البذاءة في القول يكون شريرا في التعامل مع الآخر، لأن الفعل ينبني على القول والفكر ينبني عليهما، فالفكر يوجه، والسلوك يترجم فأي سلوك طيب وراءه فكر طيب، هذه هي القاعدة أساسا، فكل سلوك راق وراءه فكر راق أما السلوك السيئ فمرجعه إلى فكر سيئ، فالعنف اللفظي والتطرف في اللفظ يؤديان إلى فعل متطرف لا بد أن يكون هنالك حسن القول فالله تعالى يقول: «وقولوا للناس حسنا»، فدائما الكلام الحسن هو الذي يجعل السلوك حسنا مع الآخر والتعامل مع الآخر، والتعايش مع الآخر، بحيث لا تترك مجالا للطرف الآخر أن يرد بشيء غير جيد.

يقول العلامة العماني أحمد ابن النظر دائما:

ما للحليم وصحبة السفهاء

وأخي المشيب ولوعة البرحاء

إن القرين مناسب لقرينه

فاختر لنفسك أحسن القرباء

واعلم بأن مدارج العلياء

للمرء هي مجالس العلماء

لذا من الضروري أن يختفي أولا التطرف والعنف اللفظي فإذا انتفيا تنبني عليهما الأفعال الأخرى فالحياة بين قول وفعل، والفعل ينبني على القول، فالقول هو الأصل، هو الأساس، ثم يأتي الفعل، والفعل هو السلوك، والقول هو الفكر، والفكر هو الذي يوجه السلوك.

الحرية المسؤولة

من جانبه يؤكد سعادة عبد الله بن حمد الحارثي، رئيس لجنة الإعلام والسياحة والثقافة بمجلس الشورى، على أهمية حرية الرأي والتعبير في سلطنة عُمان، مشيرا إلى أن النظام الأساسي للدولة يكفل هذا الحق بشكل واضح وصريح، و«حرية الصحافة والطباعة والنشر مكفولة وفقًا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون»، مع التأكيد على حظر ما يؤدي إلى الفتنة أو الكراهية أو يمس بأمن الدولة أو يسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه.

وأكد «الحارثي» أن إساءة استخدام هذه الحرية وتحويلها إلى وسيلة للإيذاء يتعارض بشكل صارخ مع القيم الأصيلة للشخصية العمانية والسمت العماني، المعروفين بالاتزان والرصانة. وحذر من أن تبني آراء متطرفة ضد الآخرين على وسائل التواصل الاجتماعي لا تمت بصلة لمفهوم حرية التعبير الحقيقي، بل تشوه جوهره وتحرفه عن مساره الصحيح، والتعبير عن الرأي يجب أن يكون في إطار من الاحترام المتبادل والحوار البناء، بما يحافظ على النسيج الاجتماعي ويعزز قيم التسامح والتفاهم في المجتمع العماني.

وأشار «الحارثي» إلى أهمية دور المؤسسات التعليمية والإعلامية في ترسيخ مفهوم حرية التعبير المسؤولة، وتعزيز ثقافة الحوار واحترام الرأي الآخر، كما دعا إلى تطوير برامج توعوية تستهدف الشباب بشكل خاص، لتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

وختم سعادة عبدالله بن حمد الحارثي، رئيس لجنة الإعلام والسياحة والثقافة بمجلس الشورى بالتأكيد على ضرورة احترام جميع الحقوق والحريات وحمايتها للآخرين الذين يشاركونه في مجتمعه، والالتزام بالسلوكيات الدالة على ذلك بالحرص على عدم الإضرار بهم، وأكد على أهمية الالتزام بالمبدأين الأساسيين «أنت حر ما لم تضر» و«أن حريتي تنتهي حين تبدأ حريات الآخرين»، مشدداً على أن هذه المبادئ تشكل الأساس لممارسة حرية التعبير بشكل مسؤول ومحترم في إطار القانون والقيم المجتمعية.

الحرية والأخلاق

وتأكيدا على أهمية الأخلاق في التعامل مع الآخر قال الدكتور سيف بن سالم الهادي: تعرّف «الحرية» بأنها قيمة إنسانية، إذ لا يمكن للإنسان أن يكون كائنا مميزا واعيا إلا بالحرية، وهي أحادية الجانب، أي إنها حق خالص للإنسان، لا يجوز انتزاعه منه بأي حال من الأحوال، لأن انتزاع الحرية يعني العبودية... والأخلاق أيضا هي قيمة إنسانية مطلقة يستطيع الإنسان من خلالها أن يحافظ على وجوده مع بقية الشركاء في الحياة، وهي ثنائية الجانب، أي أنه بالقدر الذي تطلب فيه الأخلاق لنفسك، أنت مطالب أيضا أن تمتد بهذه الأخلاق إلى غيرك.

وأضاف «الهادي»: إذا حاولنا أن نجمع بين الحرية والأخلاق، فإننا سنجد أن الأخلاق هي الثابت، وهي نقطة الارتكاز، وأن الحرية تدور حولها، فبقدر ما تقترب الحرية من الأخلاق، تكتسب معناها الحقيقي، وبقدر ما تبتعد عنه تفقد معناها وبريقها، لأن الأخلاق ثنائية الجانب كما قلنا، بينما الحرية أحادية الجانب، ومن هنا فإن تعريف الحرية لا بد أن يكون بالأخلاق، وإذا أردنا أن نشرح هذا الكلام، فإننا نقول بأن الإنسان لا بد أن يكون حرا في اختياراته، وقد أعطاه الله تعالى هذا الحق، سواء كان هذا الاختيار على مستوى الدين، أو مستوى الموقف السياسي، أو مستوى الموقف النفسي، فالله تعالى يقول «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، وقال عز وجل «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، وإذا اختار الإنسان دينا معينا يخالف ما أمر الله به، فإن ذلك لا يسلبه حقوقه الأخرى، فالإنسان المسلم مطالب أن يتعامل معه بالأخلاق، لأن الأخلاق هي نقطة الارتكاز، هي الفطرة الموجودة في الإنسان، كما أن الله تعالى فطر الإنسان على معرفة الحق والباطل والصواب والخطأ، فإنه فطره أيضا على الأخلاق، ولا يمكن أن يتعرف على الحق والباطل والصواب والخطأ، إلا من خلال الأخلاق، فكأن الأخلاق هي الإطار العام الذي تدخل فيه كل المفاهيم الأخرى لتكسبها معناها الحقيقي، ونحن الآن بهذا نكون قد أعطينا الأخلاق صفتين؛ نقطة ارتكاز وإطار عام، لأن الأخلاق فعلا هي الأهم في صيرورة الحضارة الإنسانية، ويمنح الله تعالى الإنسان في اختياراته أيضا على مستوى الجانب الاجتماعي، فيختار الزوجة التي يحب، وتختار المرأة الزوج الذي تحب، ممن يتوفر فيه الدين والأخلاق، ويختار الإنسان المكان الذي يسكنه، والبيت الذي يصممه، وهكذا، فإذا سُلب الإنسان كل هذه الاختيارات فإنه لا يكون إنسانا، لأن الإنسان في حقيقته التكوينية مكرم، يقول الله تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».

ويؤكد الدكتور سيف الهادي: حرية التعبير لا بد أن تكون في إطار الأخلاق، فيمكن أن أعبر عن أي شيء من خلال فهمي له وإدراكي لمعناه، وتفكيكي لقضاياه، وتركيبي لأجزائه.. دون أن يمس ذلك من كرامة الآخرين، أي دون أن أتخلى عن الأخلاق في هذا التعبير أو ذاك، وإذا اخترت أن أعبر، من خلال الإساءة إلى الآخرين، وجرح مشاعرهم، وإهانة كرامتهم، وإفساد حياتهم، فهذه ليست حرية، لأنها ليست معايرة بالأخلاق، ولا تدور حولها، ولا تدخل في إطارها، ولو ضربنا على ذلك، مثلا في الفقه الإسلامي، فإننا سنجد أن المطلقات والقطعيات قليلة، وهي متفق عليها بين المسلمين، أما المتغيرات أو المختلف فيها فهي كثيرة، وإذا أراد الإنسان أن يعبر عن رأيه في المتغيرات أو المختلفات، فلا بد أن يكون حريصا على أمرين، أولا، على حق الآخرين في اختيارهم لذلك الرأي، أو هذا الرأي، وعلى حق الآخرين في أن يعيشوا في أمن واستقرار، لأنه إذا كانت حرية التعبير ستسعى إلى إثارة الفتن أو المشاحنات أو الطائفيات بين جماعات المسلمين، فإن هذه ليس حرية تعبير، لأنه يفتقد الجانب الآخر الذي يكمل معنى الحرية، وهو عيش الإنسان في أمن واستقرار.

ويضيف «الهادي»: كان هارون عليه السلام، حريصا على أن لا يتخذ قرارا في إرباك المشهد السياسي لبني إسرائيل، قبل أن يأخذ، رأي الزعيم الذي أوكلت إليه مهمة قيادة بني إسرائيل، وهو موسى عليه السلام، لأنه سيكون الأدرى بوحدة وطنه وقومه ومسيره، فقال الله تعالى: «قال يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي» فأي حرية للتعبير تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، أو إفقاد الناس أو سلب الأمن، والطمأنينة عن الناس، أو أنها تؤدي إلى الإساءة الأخلاقية للآخرين، فإنها ليست حرية، وإن ظن الإنسان بأنها حرية تمنحه الحق في أن يعبر كما يشاء، وهذا الكلام مجمع عليه بين البشرية كلها، إلا أولئك الذين يوظفون حرية التعبير لتحقيق المصالح السياسية والإثنية والحزبية، ففي حقيقتهم ليسوا مشرعين أمناء، إنما تأبى الكرامة الإنسانية أن تصغي إليهم، أو أن تنتبه لمقولاتهم.

الوعي والمسؤولية

من جانبه يقول الدكتور خميس بن سليم أمبوسعيدي أستاذ الإعلام الرقمي المساعد بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى إن حرية الرأي والتعبير هي قطب الرحى في أي مجتمع مزدهر ومتعايش ويسعى لتحقيق التوازن بين أقطابه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. إنها الحق الأساسي الذي تكفله الدول الساعية للتكامل والتطور والانفتاح على العالم وهو ما يكفله النظام الأساسي للدولة في سلطنة عمان ويحميه القانون، وهو نتيجة ما يدعو إليه دائما المجتمع العماني ويشجع عليه. ولكن، قبل ممارسة هذا الحق، علينا أن نفقه حيثياته ومعانيه وحدوده ويجب علينا أن نمارسه بحذر ومسؤولية وطنية، خصوصا في العصر الرقمي الحالي لما تتمتع به المنصات الرقمية مثل وسائل الإعلام الاجتماعي من خصائص متفردة تساعد على انتشار الخطابات والمفردات بسرعة البرق، مما يتيح للأفراد التعبير عن آرائهم بحرية غير مسبوقة وربما غير محسوبة أحيانا. ولكن، ينطلي علينا فهم حرية الرأي والتعبير بفهم السياق العماني والثقافة التي نعيش فيها ولا نقارنها بالغير حيث القيم الوطنية الراسخة رسوخ الجبال واللحمة المجتمعية المتفردة والأخلاق الدينية الحميدة ولهذا يجب أن نتذكر دائما أن هذه الحرية لا تعني أبدا الحق في الإساءة إلى الآخرين. ففي سلطنة عمان، تُعتبر القيم الوطنية والاجتماعية والأخلاقية جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية للإنسان العماني. وإن المجتمع العماني معروف بكيميائيته التي لا تشبه أحدا في التفاهم والاتزان والتعقل والرصانة والاحترام المتبادل في مشارق الأرض ومغاربها والشواهد على ذلك كثيرة. وبالتالي، فإن إساءة استخدام حرية الرأي والتعبير على وسائل الإعلام الاجتماعي تتعارض بشكل صارخ مع هذه القيم العمانية الأصيلة والسمت العماني المتفرد، فالظواهر الأخلاقية الدخيلة علينا مثل التنمر، والتحقير، والتشهير والتهجم الشخصي كلها ممارسات لا تعبر عن جوهر حرية التعبير بل تنتهكها وتلغي صلاحيتها أبد الدهر.

ويضيف «أمبوسعيدي»: العلاقة الطردية بين حرية الرأي والتعبير وحمايتهما بالقانون تتحقق بالابتعاد عن الأقوال البذيئة أو العدوانية أو كل ما يمس بالقيم الوطنية والأمن القومي والسلم المجتمعي والطعن في الرموز الوطنية لأن الحرية شرط معادلة ممارستها تأتي مع مسؤولية احترام القانون أولا وحقوق الآخرين وكرامتهم ثانيا. وعندما تصبح حرية التعبير أداة للإيذاء أو الإساءة المقصودة أو حتى غير المقصودة بسبب اللاوعي بالقانون، فإنها تتجرد من معناها الحقيقي ما قد يحولها سلاحا فتاكا للإضرار بالمجتمع ونسيجه بدلاً من أن تكون وسيلة لتعزيز الحوار والتفاهم وتبادل وجهات النظر المقرونة باحترام الرأي والرأي الآخر. وعلينا أن نتذكر جميعا أن الهدف الأسمى والأنجع من حرية الرأي والتعبير يجب أن يكون بناءً لا هداما يهدم النسيج الوطني وإيجابيا لا سلبيا يسلب كرامة الآخرين، ويسعى إلى تعزيز دفة الحوار والتسامح المفتوح والمنعكس في احترام وقبول التنوع والاختلاف من خلال الانفتاح على الآخر والتفاهم بين مختلف أفراد المجتمع كون التسامح ليس فضيلة أخلاقية فحسب بل فضيلة قانونية وسياسية.

ويؤكد أستاذ الإعلام الرقمي المساعد بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى أن ما أفرزته منصات الإعلام الاجتماعي من بيئة خصبة وساحة واسعة للتعبير عن الآراء والأفكار والمشاعر والمعتقدات يحتم علينا استخدامها بشكل يعزز القيم الاجتماعية وليس العكس. إن تبني شخصيات رقمية وافتراضية الهوية وبمعرفات لا هوية لها، قابعة خلف الشاشات، تسعى لبث الأفكار الضالة وخطابات الكراهية يشوه حرية الرأي والتعبير وأصالتها ولا يساهم في إثراء الحوار بل يعكّر صفوه. فالنهج السوي هو التأطير القائم على الاحترام المتبادل وبنيوية الحوار الذي ربما يصل للاختلاف الذي بلا شك لا يفسد للود قضية. ولكن هذا الاختلاف يجب أن يكون اختلاف الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة لأن الكلمات والمفردات المستخدمة في الحوار وإن كان رقميا فهي كالأقمشة التي نصنع منها ثياب أفكارنا فستنعكس على المظهر العماني أمام الملأ، فوعي المواطنين والمقيمين على هذا البلد الطيب بالقوانين الكافلة لحرية الرأي والتعبير هو ما يضع حدا للإساءات بشتى صنوفها. هذا الوعي بالقوانين المتعلقة بحرية الرأي والتعبير يمكن الأفراد من ممارسة حقهم في التعبير دون خوف من انتهاكه وبدوره يعزز المشاركة المجتمعية فعندما يكون الناس مدركين للحقوق التي يكفلها القانون، يشعرون بمزيد من الثقة بالمشاركة في النقاشات العامة وتقديم آرائهم. ناهيك بأن الوعي بالقوانين يساعد على منع التجاوزات التي قد تؤدي إلى التوترات الاجتماعية.

وفي الختام يؤكد الدكتور خميس بن سليم أمبوسعيدي أستاذ الإعلام الرقمي المساعد بجامعة التقنية والعلوم التطبيقية بنزوى أنه يجب أن ندرك أن حرية التعبير ليست مجرد حق، بل هي مسؤولية أيضاً، مسؤولية نحملها تجاه أنفسنا ومجتمعنا و وطننا. إن تعزيز ثقافة الاحترام المتبادل والحوار البناء هو السبيل الأمثل لضمان أن تبقى حرية التعبير أداة للتقدم والتطور، وليس وسيلة للإيذاء والتفرقة. بهذا الشكل فقط، يمكننا الحفاظ على القيم الأصيلة للشخصية العمانية وتعزيزها، وضمان أن تبقى حرية التعبير ركيزة قوية للمجتمع العماني، تعكس قيمه ومبادئه النبيلة، والوعي بالقوانين الكافلة لحرية الرأي والتعبير في سلطنة عمان عامل أساسي في بناء مجتمع واعٍ ومسؤول. يساهم هذا الوعي في تعزيز القيم العمانية الأصيلة، والحفاظ على السلم الاجتماعي، وتشجيع المشاركة المجتمعية الفعالة، مما يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع ككل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وسائل التواصل الاجتماعی حریة الرأی والتعبیر الاحترام المتبادل المجتمع العمانی لا بد أن یکون حریة التعبیر أن الأخلاق الله تعالى الأخلاق هی هذه الأطر فی سلطنة مع الآخر هی التی من خلال لا یمکن فی إطار کما أن کل هذه یجب أن

إقرأ أيضاً:

دم الشهيد سبب في الحرية الاستقلال

 

 

الشهداء هم أهل الله وأحبابه وبفضلهم بعد الله سبحانه وتعالى استطاعت أن تعيش الأمة في أمن وسلام وطمأنينة، وهكذا هي سنة الحياة لن ينال أحد مبتغاه إلا بتضحية ولن ينال أي شعبٍ من الشعوب الحرية إلا بتضحية، لا شيء يأتي بسهولة فالشهداء قد جعلوا من أنفسهم سدا منيعا ضد الأعداء فلننظر إلى الواقع اليمني على سبيل المثال لولا تضحيات الشهداء لكنا الآن في أسوأ حال لكن بفضل الله ومن ثم دماء الشهداء لمسنا الأمن والعيش بكرامة، ولننظر إلى الجنوب المحتل كيف يعانون مرارة الاحتلال ويتجرعون أبشع الجرائم من قتلٍ وتفجيرٍ واغتصابات.
ولا ننسى أن الشهداء جعلوا من أنفسم جسرا لنعبر عليه إلى بر الأمان وبدمائهم جعلوها كسيل جارف يجرف الأعداء ومن تعاون معهم وكذلك يجب أن تخلد ذكرى الشهداء في أذهان الأجيال وأذهان عامة الناس ونرسخ ثقافة الشهادة في أبناء هذه الأمة وليعلم الجميع أن الدين والوطن لن يصانا إلا بالتضحية والفداء، قد يقول قائل نريد العيش بسلام وسكينة نعم نريد العيش بسلام ولن يأتي السلام بدون مقابل، السلام يريد قوة حتى يفرض في البلد، فالعدو لا يعرف الرحمة ولا يعرف الأخلاق وإذا لم نتحرك ضده سيغزونا وإذا لم نقاوم سيتمادى ويستبيح كل ما هو محرم ومحظور وهذا مما يفرض على الأمة القتال وهي مجبرة أن تدافع على دين الله وعلى الأرض والعرض فقد قال الله سبحانه وتعالى( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة 216:2)
صحيح أن القتال لا أحد يريده، لكنه عندما يأتي العدو لاغتصاب أرضك وانتهاك دينك وعرضك هنا يفرض عليك وسيكون خيراً لك من أجل حفظ الكليات الخمس الضرورية ولولا جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتضحياته وصبره لما وصل إلينا الدين الحنيف وانتشر في العالم
وأيضا نحن في هذا الأسبوع نحتفل بذكرى عظيمة وغالية على قلوبنا وهي ذكرى الشهيد، وبهذه المناسبة نهدي أجمل التحايا لأسر شهداء غزة الذي بذلوا أرواحهم من أجل دين الله وتحرير أرضهم والحفاظ على عرضهم فلهم كل التحية وشهداؤهم هم شهداؤنا وشهداؤنا شهداؤهم وكلنا أمة واحدة وعدونا واحد ومصيرنا واحد والنصر موعدنا بإذن الله.

مقالات مشابهة

  • دم الشهيد سبب في الحرية الاستقلال
  • موعد شهر رمضان 2025 في مصر
  • الصفعة التي هزت الوسط الفني: محاكمة عمرو دياب وتفاصيل جلسة أثارت الرأي العام
  • مفهوم الحرية بين الخصوصية المجتمعية والمواثيق الدولية: جدل يتجدد في باب حوار
  • وزارة الشباب تُطلق أولي فعاليات برنامج " تنمية المهارات وبناء الذات " في جـنوب سيناء
  • نيابة درنة تأمر بحبس تشكيل عصابي للاتجار بالخمر وحجز حرية مهاجرين
  • عفريت الماء.. كائن يمتلك قدرات مذهلة ويجدد أطرافه بعد فقدانها
  • جدلية ازدواج الشخصية في المجتمعات.. استعمار الأفكار (2-2)
  • الاستماع لـ 2498 معتقلة في 43 مؤسسة سجنية وزيارة 163 مكان حرمان من الحرية على خلفية الوقاية من التعذيب 
  • الأبراج الأكثر حدة في التعبير عن الاكتئاب.. بعضهم يفضل العزلة ويهربون من المواجهة