في التعريف بالسرد في السودان

د. إسحق علي محمد

رواية «زهرة الصبَّار».. محاولة للفهم في زحام من الشخوص

“زهرة الصبّار”  رواية في 380 صفحة، ناقشت هاجس الهوية في السودان مفصحة عن المسكوت عنه في الثقافة الحاضرة من تاريح العبودية والرق في السودان، وكيف يتساكن مع الحاضر في جدل يرفض الاعتراف بقدر ما يرفض الفكاك من الذاكرة وسلوك الناس.

مع اقتراح –هو يقين السارد- أن الكل واحد في أصله في تأكيد لزيف التعدد.

سردياً اعتمد الكاتب طريقة تداخل الأزمان والنصوص في ثنائية سيطرت على حبكة الرواية لتعبّر عن رؤية الكاتب للشخصية السودانية بصورة كلية منذ التاريخ القديم في التركية وإلى اليوم عبر شخوص مبنية تاريخياً واجتماعياً وثقافيا؛ً يبرز منها شخصية (محمد ريحان عبد الكافي، وإلهام حفيدة عثمان بك شريف، وإخلاص ضيين، وصلاح صديق). بذل الكاتب عناية خاصة في تركيب هذه الشخصيات وعلاقاتها مع التاريخ ومع حياة النص/الواقع المتمثل في تداخل يقوي فكرة امتداد الشخصية وتاريخيتها.

استخدم الكاتب في سرده أسلوب الحكاية بضمير الغائب، حيث يروي الكاتب أحداثاً عاشها وهو يمثل شاهد عصر عليها. وهو هنا ضمير الغائب: “أرقام الهاتف الذي جاءت منه الرسالة مجهولة بالنسبة له … لم يكن محمد ريحان يظن بأن الدهشة…” ص7.

ثم يسهب الراوي في التعبير عن أفكاره في سرد للمعلومات توضح وجهة نظره في شرح حالة نفسية أو اجتماعية لشخصية ما:  (أما الحيرة والخوف فإنما كانا يعبران عن شعوره بالعجز إزاء شرائع الموت ومنهجه بالهزو بالأحياء.) ص7 . في ابتكار آليات اللغة في اثارة المتلقي ولتشويقه من خلال الاستفهام ! كيف مات صلاح صديق على الرغم …..؟ ص7.

يعود الكاتب لفك رتابة الحكي إلى أسلوب الخطاب بضمير المخاطب “إلهام حين ابتدرك الولع بها صارت أغنيتك”.ص8، ثم يعود إلى سرد المعلومات وإلى ضمير الغيبة، ويستمر هكذا إلى نقطة محددة سمح بها السرد وإمتلاء النص ليعود إلى الحوار: “أنت يا سكران ماذا قلت للبنت؟”

ـ عرضت عليها الزواج.

ـ أنت تتزوج يا سكران ص10

حيث يطل ضمير المتكلم ليفصح عن حضور الشخصية المحكي عنها في سياق صورة صوتية زمجر قائلاً: احضر زول ده” ص11.

ولا ينسى الكاتب أن يمرر عبر الراوي أفكاره التي تظل واضحة “أن تنحدر من سلالة العبيد ذلك لا يدع مهانة إلا ويلحقها بك ….” ص12، في تقريرية واضحة.  وهذا بطبيعة الحال يربك النص حالة كونه تخييل إذ يضع المتلقي أمام أيدولوجيا الكاتب وقناعاته، في سياق استلاب واضح، كان يمكن استخدام إمكانات اللغة الوافرة، خاصة والنص يسير  ضمن منظومة دلالية يحكها سياق التاريخ بكل إرثه الثقافي. هذا يصنف –في رأيي- لحظة تراخ في السرد ربما هناك من يجد للسارد العذر فيها، أو ربما يصنف موقفا غير محايد في الفعل الابداعي.

حكايتان منفصلتان

هذا على مستوى تفاصيل السرد الجزئية التي بنى عليها الكاتب رواية زهرة الصبّار، ولكن من حيث التركيب فإنها تروي حدثين أو حكايتين منفصلتين على مستوى الزمان/التاريخ، متكاملتين على مستوى المجتمع/الحياة/الثقافة. من جهة يروي الكاتب قصة الرق في عهد الأتراك من خلال أحداث عبّرت شخصيات (ديمتري اسطفانوس ورئيف وعبد الكافي وفرج الله والسكات وأم الخير) عن تطابق بين الاسم  ودلالته في الثقافة السودانية، ومن جهة أخرى يروي حاضر الثقافة السودانية وعلاقتها بتاريخ الرق من خلال الجيل الثالث، وقد عبر عن ذلك (محمد ريحان عبد الكافي وإلهام ضيين ونازك الياس دوكة). كأنما نصان يتداخلان في تباين واضح من حيث الزمان والشخوص، وفي تداخل واضح من حيث بنية الشخصيات والحبكة “إنه خضوع أهله وتسلط أهلي يتجابهان إعادة متوترة لما كان يحدثر بين جدتي صفية ورقيقها فرج الله الذي تعود أصوله إلى الفرتيت”ص42”.  “خذ يا حفيد عبد الكافي واقتص منا لكل أولئك الذين طالهم الخصاء من أجدادك خذ لتاريخك المهان، وحاضرك المدان”ص160.

استخدم الكاتب اللغة العربية الفصحى في روايته في سلاسة واضحة وقدرة عالية في تطويع الكلمات الحبلى بالاستعارات: “روح متوثبة لانتزاع الحظ من مخالب القدر واحتدام مهلك للمشاعر تجاه النساء”ص13. فالقدر نسر حاد المخالب وقد حاز الحظ الذي يعد افتكاكه من مخلب النسر مغامرة والمشاعر تحتدم…الخ. “ماذا تريد من هذه البنت المسربلة بالكبرياء والترف” ص123. “ليل أغسطس الذي يضج بالأمطار أطل بلا سحب، تلفه غلالة من النداوة يسطع فيه القمر وتخفق النجيمات على صدر السماء”ص161.” عدت إلى بيتي تؤرجحني ثمالة” ص 326. صور شعرية آسرة، تدلل على احتفاء السارد باللغة، وتؤشر الى خيالية النص، وهي حقيقته، وهذت بطبيعة الحال مفتاح مهم في السرد يعود بالمتلقي الى فهم كيف يعاني السارد حال كتابة نصه بوصفه علامة ثقافية له. وقد وضح ذلك جليا من خلال رواية زهرة الصبار. وبعد ذلك فهي آلية سردية مهمة (شعرنة النص)، ولعل تلك قيمتها.

رمزية العنوان:

“زهرة الصبار” وقد حاول الكاتب الافصاح عنها” قال ياسر الفاضل: حين كنا نجلس في باحة منزل صلاح صديق تحيط بنا أزهارها المتعددة الألوان قبل أيام من موته، قلت له وأنا اتأمل إحدى زهرات الصبار:

أتراها تزهر؟

بلى إنها تزهر ولكن زهرتها تتألق ليومين أو ثلاثة فقط ثم تنطفئ.

بعد يومين حين جئته في المساء، قال لي وهو يشدّني من ذراعي:

تعال سريعا ياصاحبي فلقد أخرجت زهرة الصبار بتلاتها.

جلست إلى جواره أحدق مأخوذا في الزهرة التي تعددت فيها الألوان وتدرجت على نحو مذهل.

قلت محتجاً:

هل ستموت زهرنها خلال يومين أو ثلاثة فقط؟ قال ببرود عجيب:

أجل، وهناك من البشر من يشبه زهرة الصبار هذه، إنه يتألق بقوة وسطوع حتى يكاد يضيئ ظلمات الحياة، ولكنه سرعان ما ينطفئ ليسود الظلام مجددا. قد أكون أنا، أو أنت، أو أي واحد من الأصحاب” ص353-354. ولكن اللغة تفرض دلالتها، والسياق يفرض حقوله ودلالاتها. والمتلقي متحفز للفهم دائما استنادا الى مرجعيته الثقافية، وفي القاعدة ترقد أيديولوجيا السارد أو قصديته. زهرة مباشرة تؤثر إلى الجمال وإلى الحياة في نضارتها بكل الألوان ودلالاتها، فضلاً عن الرقة والنعومة والعبير والأريج والانتعاش والطلاوة والندى والصباح، والشروق، والنشاط ومعنى الحياة …الخ.  والصبار شجر الصحراء، وزهرته نادرة، ولكن تعطيه كل معاني الجمال، ولا يخفى تعدد ألوانها وربط ذلك بالهوية السودانية. حيث الجذر واحد -وربما الفرع- ومع ذلك تتعد الألوان في حياة هي أصلا قاسية وفقا للظرف الحياتي التي تعيش فيه مما يفرض اعتمادها على قدراتها في التصدى والمقاومة. والصبّار صرفياً صيغة مبالغة من الصبر، وهي هنا ربما الصبرعلى ذل العبودية وقهرهاو إلى نضارة الحياة وحيويتها، وزهرة الصبار هي الحياة في رقتها وطلاوتها بعد صبر طويل ومرير … الخ.  في اعتراف بتعدد الألوان والثقافات في عرق واحدو صبر على آلام العبودية فأزهر حياة على قصر عمرها فإنها مليئة بالجمال مع سوداوية ظاهرة “هناك من البشر من يشبه زهرة الصبار هذه، إنه يتألق بقوة وسطوع حتى يكاد يضيء ظلمات الحياة، لكنه سرعان ما ينطفئ ليسود الظلام مجدداً” ص 354..

والعنوان محكوم بسياق لم ينفك يدلل على ربطه بشخوص الرواية؛ كلها تقريبا زهرة صبار بمعنى من المعاني أو كيفية من الكيفيات، على رأسهم د. محمد ريحان و إلهام الحفيدة. وبصورة خاصة ركّز الكاتب على إبراز أسماء لها دلالاتها في الموروث الثقافي في ارتباطها بالعبودية وبعض المهن: ( عالية فضل الله، فوزية، نازل الياس دوكة، رحاب، مي عبدالعال، كيدان الحبشية، مطرية الحومس، السكات، أم الخير). تقابلها أسماء ذكورية (مكي يس، مختار عمر، علي البله، عزالدين حسين، ياسر الفاضل، عبدالكافي، العم بيّن، فرج الله، وديمتري الخواجة، ورئيف). وقد كان السارد واعيا وهو يمسك بخيوط  العلاقات بين هذه الشخصيات –على كثرتها وفاعليتها في النص- كل شخصية زهرة صبار عاشت حياتها بكل ظروفها فازهرت وغنت للحياة بصوتها، وأثرت بعبقها في محيطها. وهو ما يفتح الباب لدراسة الشخصية في سرد الزين بانقا.

 

الوسومالرواية السودانية الزين بانقا الهوية السودانية زهرة الصبار

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الهوية السودانية

إقرأ أيضاً:

من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. رجع أيلول

#رجع_أيلول

من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي

نشر بتاريخ .. 20 / 9 / 2014

أمشي وحيداً هناك ، تاركاً ورائي آخر بيوت المدينة ، وآخر زامور للعيش،وآخر نداء للطيش…أمشي وحيداً فتصغر الأشياء بعيني كلما تقدّمت نحو فراغ العمر، القصور تصبح كبسولات، الأبراج أبر وريدية، السيارات حبوبا تحت «النسيان»،لا شيء يتمدد ويتسع حولي سوى التراب…

مقالات ذات صلة 90 مرشحا لوظيفة معلم / أسماء 2024/09/06

السهل سجّادة من الصمت.. تشغله زوبعة بعيدة ترقص على الأرض الحافية ،تكنس قشّ #الحصاد ، وأكياس المدينة الفارغة ، و»فلّين» الوجبات الجاهزة .

أسلاك الضغط العالي «شبّابة» تعزف للريح الصفراء لحناً غير منتظم..تدوس على ثقوب الغروب لتسّلي نفسها..المزارع المنسية بين أسلاك سجنها، تدلي شجرها للريح ليمشطها بهواء أيلول…وثمة قطيع صغير يمضي بشكل قطري نحو بيت الشعر الوحيد على التلّة ،يقود القطيع حمار وكبش.. أمشي ويمشون فنتقاطع بالخطوات ، يدهشني أن أي من الخراف لا يرفع رأسه ليرى طريقه، يكفيه ان يرى مؤخرة رفيقه..

** رجع أيلول متزنّراً بثلثي أيامه..وأنا أتهرب من إلقاء تحيتي السنوية عليه، أيلول كان يشكّلني كما تشكّل كفّ السماء #الغيمة ، كان يدهشني بنقاط تشبه القشعريرة على التراب ، في كل عام كنت أكتب من #فيروز لفيروز أغنية ..اختار عبارة من « #ورقه_الأصفر» وأصنعها مقالاً..أمسح بيدي ندى الشبابيك، وأمسح بكمّي الدمع الذي «يذكرني فيك»..

أرصد حركة العائدين إلى بيوتهم وقت المساء ، البخار الملتصق على زجاج «الكوستر» ، ضوء المطبخ الأصفر وأمي تنخل عجنة الغد ، طلاب المحاضرات المتأخرة ، «علب التنك» المتدحرجة ، ورق الليمونة الذي يتساقط صفحات من ذهب ،زرقة دخان الحطب ، الغسيل الذي يلم على عجل خشية الغبار والدموع الرملية … شغب الأولاد خلف الستائر العسلية ، النشرة الجوية ، رائحة الزهرة المقلية…

رجع أيلول هذا العام ، وأنا خيط منسول من حصيرة آلام..العصافير أجراس سماوية ، ترنّ كل مساء معلنة ابتداء «حصّة الخريف»…لكن المقاعد فارغة ، فكل صناع الفرح لم يحضروا ولم يبق الا حزني «العريف»!..

رجع أيلول ،وانا الوجع الممدد بين شاهديّ قبرٍ ووردة .. وأنا المرتّل بطيف الغائبين بين فاتحة وسجدة…

رجع أيلول ولا شيء يدمعني إلا خصلة شيب تدلّت من ياسمينة الدار آخر النهار..و»بتصير تبكيني»!!..

#67يوما

#اعيدوا_لنا_احمد

#الحرية_لأحمد_حسن_الزعبي

#سجين_الوطن

#غزة_تباد

#الحرية_لكافة_المعتقلين

مقالات مشابهة

  • ريا أبي راشد زهرة حمراء متوهجة في مهرجان فينيسيا السينمائي (صور)
  • عاصفة إلكترونية مساء اليوم تضامنا مع الكاتب أحمد حسن الزعبي
  • «بينتو الخامس عشر» يحافظ على «رواية العرب»
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. رجع أيلول
  • من كل بستان زهرة 79
  • من دبي.. معتصم النهار يغازل جمهوره بأحدث ظهور
  • الامن والدفاع النيابية: الغام بمذكرة التفاهم العراقية التركية
  • قراءة في مسرحية «البحار العجوز»
  • عاصفة الكترونية مساء غد الجمعة للتضامن مع الكاتب الزعبي
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. رذاذ الموت الصامت