رواية «زهرة الصبَّار».. محاولة للفهم في زحام من الشخوص
تاريخ النشر: 28th, July 2024 GMT
في التعريف بالسرد في السودان
د. إسحق علي محمد
رواية «زهرة الصبَّار».. محاولة للفهم في زحام من الشخوص
“زهرة الصبّار” رواية في 380 صفحة، ناقشت هاجس الهوية في السودان مفصحة عن المسكوت عنه في الثقافة الحاضرة من تاريح العبودية والرق في السودان، وكيف يتساكن مع الحاضر في جدل يرفض الاعتراف بقدر ما يرفض الفكاك من الذاكرة وسلوك الناس.
سردياً اعتمد الكاتب طريقة تداخل الأزمان والنصوص في ثنائية سيطرت على حبكة الرواية لتعبّر عن رؤية الكاتب للشخصية السودانية بصورة كلية منذ التاريخ القديم في التركية وإلى اليوم عبر شخوص مبنية تاريخياً واجتماعياً وثقافيا؛ً يبرز منها شخصية (محمد ريحان عبد الكافي، وإلهام حفيدة عثمان بك شريف، وإخلاص ضيين، وصلاح صديق). بذل الكاتب عناية خاصة في تركيب هذه الشخصيات وعلاقاتها مع التاريخ ومع حياة النص/الواقع المتمثل في تداخل يقوي فكرة امتداد الشخصية وتاريخيتها.
استخدم الكاتب في سرده أسلوب الحكاية بضمير الغائب، حيث يروي الكاتب أحداثاً عاشها وهو يمثل شاهد عصر عليها. وهو هنا ضمير الغائب: “أرقام الهاتف الذي جاءت منه الرسالة مجهولة بالنسبة له … لم يكن محمد ريحان يظن بأن الدهشة…” ص7.
ثم يسهب الراوي في التعبير عن أفكاره في سرد للمعلومات توضح وجهة نظره في شرح حالة نفسية أو اجتماعية لشخصية ما: (أما الحيرة والخوف فإنما كانا يعبران عن شعوره بالعجز إزاء شرائع الموت ومنهجه بالهزو بالأحياء.) ص7 . في ابتكار آليات اللغة في اثارة المتلقي ولتشويقه من خلال الاستفهام ! كيف مات صلاح صديق على الرغم …..؟ ص7.
يعود الكاتب لفك رتابة الحكي إلى أسلوب الخطاب بضمير المخاطب “إلهام حين ابتدرك الولع بها صارت أغنيتك”.ص8، ثم يعود إلى سرد المعلومات وإلى ضمير الغيبة، ويستمر هكذا إلى نقطة محددة سمح بها السرد وإمتلاء النص ليعود إلى الحوار: “أنت يا سكران ماذا قلت للبنت؟”
ـ عرضت عليها الزواج.
ـ أنت تتزوج يا سكران ص10
حيث يطل ضمير المتكلم ليفصح عن حضور الشخصية المحكي عنها في سياق صورة صوتية زمجر قائلاً: احضر زول ده” ص11.
ولا ينسى الكاتب أن يمرر عبر الراوي أفكاره التي تظل واضحة “أن تنحدر من سلالة العبيد ذلك لا يدع مهانة إلا ويلحقها بك ….” ص12، في تقريرية واضحة. وهذا بطبيعة الحال يربك النص حالة كونه تخييل إذ يضع المتلقي أمام أيدولوجيا الكاتب وقناعاته، في سياق استلاب واضح، كان يمكن استخدام إمكانات اللغة الوافرة، خاصة والنص يسير ضمن منظومة دلالية يحكها سياق التاريخ بكل إرثه الثقافي. هذا يصنف –في رأيي- لحظة تراخ في السرد ربما هناك من يجد للسارد العذر فيها، أو ربما يصنف موقفا غير محايد في الفعل الابداعي.
حكايتان منفصلتان
هذا على مستوى تفاصيل السرد الجزئية التي بنى عليها الكاتب رواية زهرة الصبّار، ولكن من حيث التركيب فإنها تروي حدثين أو حكايتين منفصلتين على مستوى الزمان/التاريخ، متكاملتين على مستوى المجتمع/الحياة/الثقافة. من جهة يروي الكاتب قصة الرق في عهد الأتراك من خلال أحداث عبّرت شخصيات (ديمتري اسطفانوس ورئيف وعبد الكافي وفرج الله والسكات وأم الخير) عن تطابق بين الاسم ودلالته في الثقافة السودانية، ومن جهة أخرى يروي حاضر الثقافة السودانية وعلاقتها بتاريخ الرق من خلال الجيل الثالث، وقد عبر عن ذلك (محمد ريحان عبد الكافي وإلهام ضيين ونازك الياس دوكة). كأنما نصان يتداخلان في تباين واضح من حيث الزمان والشخوص، وفي تداخل واضح من حيث بنية الشخصيات والحبكة “إنه خضوع أهله وتسلط أهلي يتجابهان إعادة متوترة لما كان يحدثر بين جدتي صفية ورقيقها فرج الله الذي تعود أصوله إلى الفرتيت”ص42”. “خذ يا حفيد عبد الكافي واقتص منا لكل أولئك الذين طالهم الخصاء من أجدادك خذ لتاريخك المهان، وحاضرك المدان”ص160.
استخدم الكاتب اللغة العربية الفصحى في روايته في سلاسة واضحة وقدرة عالية في تطويع الكلمات الحبلى بالاستعارات: “روح متوثبة لانتزاع الحظ من مخالب القدر واحتدام مهلك للمشاعر تجاه النساء”ص13. فالقدر نسر حاد المخالب وقد حاز الحظ الذي يعد افتكاكه من مخلب النسر مغامرة والمشاعر تحتدم…الخ. “ماذا تريد من هذه البنت المسربلة بالكبرياء والترف” ص123. “ليل أغسطس الذي يضج بالأمطار أطل بلا سحب، تلفه غلالة من النداوة يسطع فيه القمر وتخفق النجيمات على صدر السماء”ص161.” عدت إلى بيتي تؤرجحني ثمالة” ص 326. صور شعرية آسرة، تدلل على احتفاء السارد باللغة، وتؤشر الى خيالية النص، وهي حقيقته، وهذت بطبيعة الحال مفتاح مهم في السرد يعود بالمتلقي الى فهم كيف يعاني السارد حال كتابة نصه بوصفه علامة ثقافية له. وقد وضح ذلك جليا من خلال رواية زهرة الصبار. وبعد ذلك فهي آلية سردية مهمة (شعرنة النص)، ولعل تلك قيمتها.
رمزية العنوان:
“زهرة الصبار” وقد حاول الكاتب الافصاح عنها” قال ياسر الفاضل: حين كنا نجلس في باحة منزل صلاح صديق تحيط بنا أزهارها المتعددة الألوان قبل أيام من موته، قلت له وأنا اتأمل إحدى زهرات الصبار:
أتراها تزهر؟
بلى إنها تزهر ولكن زهرتها تتألق ليومين أو ثلاثة فقط ثم تنطفئ.
بعد يومين حين جئته في المساء، قال لي وهو يشدّني من ذراعي:
تعال سريعا ياصاحبي فلقد أخرجت زهرة الصبار بتلاتها.
جلست إلى جواره أحدق مأخوذا في الزهرة التي تعددت فيها الألوان وتدرجت على نحو مذهل.
قلت محتجاً:
هل ستموت زهرنها خلال يومين أو ثلاثة فقط؟ قال ببرود عجيب:
أجل، وهناك من البشر من يشبه زهرة الصبار هذه، إنه يتألق بقوة وسطوع حتى يكاد يضيئ ظلمات الحياة، ولكنه سرعان ما ينطفئ ليسود الظلام مجددا. قد أكون أنا، أو أنت، أو أي واحد من الأصحاب” ص353-354. ولكن اللغة تفرض دلالتها، والسياق يفرض حقوله ودلالاتها. والمتلقي متحفز للفهم دائما استنادا الى مرجعيته الثقافية، وفي القاعدة ترقد أيديولوجيا السارد أو قصديته. زهرة مباشرة تؤثر إلى الجمال وإلى الحياة في نضارتها بكل الألوان ودلالاتها، فضلاً عن الرقة والنعومة والعبير والأريج والانتعاش والطلاوة والندى والصباح، والشروق، والنشاط ومعنى الحياة …الخ. والصبار شجر الصحراء، وزهرته نادرة، ولكن تعطيه كل معاني الجمال، ولا يخفى تعدد ألوانها وربط ذلك بالهوية السودانية. حيث الجذر واحد -وربما الفرع- ومع ذلك تتعد الألوان في حياة هي أصلا قاسية وفقا للظرف الحياتي التي تعيش فيه مما يفرض اعتمادها على قدراتها في التصدى والمقاومة. والصبّار صرفياً صيغة مبالغة من الصبر، وهي هنا ربما الصبرعلى ذل العبودية وقهرهاو إلى نضارة الحياة وحيويتها، وزهرة الصبار هي الحياة في رقتها وطلاوتها بعد صبر طويل ومرير … الخ. في اعتراف بتعدد الألوان والثقافات في عرق واحدو صبر على آلام العبودية فأزهر حياة على قصر عمرها فإنها مليئة بالجمال مع سوداوية ظاهرة “هناك من البشر من يشبه زهرة الصبار هذه، إنه يتألق بقوة وسطوع حتى يكاد يضيء ظلمات الحياة، لكنه سرعان ما ينطفئ ليسود الظلام مجدداً” ص 354..
والعنوان محكوم بسياق لم ينفك يدلل على ربطه بشخوص الرواية؛ كلها تقريبا زهرة صبار بمعنى من المعاني أو كيفية من الكيفيات، على رأسهم د. محمد ريحان و إلهام الحفيدة. وبصورة خاصة ركّز الكاتب على إبراز أسماء لها دلالاتها في الموروث الثقافي في ارتباطها بالعبودية وبعض المهن: ( عالية فضل الله، فوزية، نازل الياس دوكة، رحاب، مي عبدالعال، كيدان الحبشية، مطرية الحومس، السكات، أم الخير). تقابلها أسماء ذكورية (مكي يس، مختار عمر، علي البله، عزالدين حسين، ياسر الفاضل، عبدالكافي، العم بيّن، فرج الله، وديمتري الخواجة، ورئيف). وقد كان السارد واعيا وهو يمسك بخيوط العلاقات بين هذه الشخصيات –على كثرتها وفاعليتها في النص- كل شخصية زهرة صبار عاشت حياتها بكل ظروفها فازهرت وغنت للحياة بصوتها، وأثرت بعبقها في محيطها. وهو ما يفتح الباب لدراسة الشخصية في سرد الزين بانقا.
الوسومالرواية السودانية الزين بانقا الهوية السودانية زهرة الصبار
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الهوية السودانية
إقرأ أيضاً:
من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. بانتظار القافلة
بانتظار القافلة
من أرشيف الكاتب #أحمد_حسن_الزعبي
نشر بتاريخ .. 10 / 3 / 2018
الجدران رطبة، والضوء خافت، وأحبال الغسيل قمصان شائكة تفصل الحدود بين العائلات، قالت جارتنا وهي تدلّ أمي على #المخبأ.. إذا أردت ألا يصعد أبناؤك إلى السماء فاهربي بهم إلى تحت الأرض.. وكأنه لا خيار ثالث في وطن الصراعات.. إما الصعود شهيداً إلى #السماء، أو البقاء حياً منسياً تحت الأرض، لكنّك لن تكون مواطناً تمشي في مناكبها.. ما دام السيد الرئيس يتكئ على أرائكها.
مقالات ذات صلة علي سعادة .. نرجو من الله أن يحتفل “أبو عبد الله” بالعام الجديد بين أطفاله 2024/12/22لا بأس.. حتى الملاجئ الإسمنتية باتت مسلية نكتب على جدرانها دروسنا كي لا ننسى أبجدية العربية، ونكتب عبارات إسقاط النظام كي لا ننسى أبجدية الحرية.. أمي بدأت تزرع النعناع والجاردينيا والمارغريت في قوارير صغيرة تحت الأرض تتفتح الورود لمصابيح الكهرباء، تخالها الشمس.. تماماً كما أخال سقف الملجأ السماء، وبقع الرطوبة التي تتشكّل في سقف الملجأ أو قاع البناء هي غيومنا المؤقتة التي تمشي فوق أحلامنا لكنها لا تمطر أبداً.. أحياناً يتساقط ملح الاسمنت فوق أغطيتنا ونحن نيام، نراه ثلجاً لاجئاً مثلنا نلمه بأصابعنا نقبضه بأكفّنا لينام معنا لكن سرعان ما يذوب كقصص النوم..
نحن في #وطن_الظل هنا في الملجأ، وطن في بطن وطن، بعض أطفال حارتنا قالوا ما رأيكم أن نجري انتخابات رئاسية تحت الأرض هنا لنمارس ديمقراطيتنا المرتجفة، فرحنا للفكرة، لكن ما لبثنا إن اختلفنا فالزعامة لها سوءاتها فوق الأرض كانت أم تحتها.. لا نريد ان يكون لنا في الملجأ رئيساً، نريد أن نكون شعباً فقط، الرئاسة تفسد الانسجام بين السكّان، الآن نتقاسم المعلبات، ونقترض الخبز، والماء، ونتبادل أماكن النوم، لو صار لدينا رئيس منتخب للملجأ ستدب الطبقية من جديد، ونحن الهاربون أصلاً من ظلم الحكم إلى قبر الحياة الواسع..
أكثر ما يحزنني، أننا على عتبات الربيع، والغوطة لا ترانا بعينيها، لا أستطيع أن أمشي بين أشجار الخوخ كما كنت، أقطف الزهر الطري وأمص رحيق الورد، لا أستطيع أن أتسلّق سور جيراننا خلسة لأسرق اللوز من أصابع أشجارهم.. حتى لو توقّف القصف واستمرّت الهدنة لن أفعلها أقسم أنني لن أفعلها فقلبي لا يطيعني.. كنت أفعل ذلك نكاية بأولاد جارنا الصغار، لكنّهم ماتوا بالقصف قبل شهر من الآن مات أيهم وبتول وعمّار وبقي اللوز.. وفاءً لأرواحهم لن أمدّ يدي على “لوزتهم” الشرقية، ولن أتسلّق السياج.. صحيح لقد هدم السياج، وأكل البرميل الثاني وجه الدار لكنني لن أقترب من مكان غادروه أبداً.. أكثر ما يحزنني أن شجر الغوطة ليس له أرجل ليركض مثلنا، أخاف أن يموت واقفاً.. أمّي هل نستطيع أن ننقل الشجر هنا إلى الملجأ؟؟
قالت أسمعُ صوت أطفال فوق الأرض.. اذهب وتفرّج، ثم عادت وتراجعت عن طلبها: ابق هنا لا تذهب أخاف أن يداهمنا عطاس الموت دون أن ندري..
صوت شاحنة اقترب من الحي وأطفال يصفّرون ويركضون، تشجّعت أمي من جديد وقالت: “اذهب الآن.. ربما وصلت #قافلة_المساعدات، تأكّد، إذا كانوا يوزّعون غذاءً على العائلات، أخبرني لأخرج معك، لم يعد في الملجأ شيئاً نأكله.. حتى الدواء أو الأغطية تلزمنا.. اذهب واسأل الأولاد.. خرجتُ من الدرج المكسر، صعدتُ من باب البناية السفلي وصلت سطح الأرض.. رأيت في أول الحي شاحنة يكسوها شادر ثقيل وأطفال يتعلقون بحبالها.. كانت الشاحنة الأولى التي تصل الحي منذ بداية الهدنة، كنا ننتظر اللحظة التي يفتح السائق ومشرفو الإغاثة الباب الخلفي.. نهرنا السائق وطالبنا الابتعاد عن السيارة تكلّم مع بعض موظفي الإغاثة وسلمّهم أوراقاً زهرية اللون.. قلنا له: هيه يا عمي نريد معلبات خبز طعام أي شيء.. لم يجبنا، حاول الصعود إلى قمرة القيادة.. لحقناه سائلين.. ماذا بسيارتك؟؟.. قال بصوت منخفض: “أكفان” فقط.. قافلة الغذاء لم تصل بعد.. تراجعنا، لم يبق أي طفل حول الشاحنة هربوا جميعاً.. ودخلوا ملاجئهم من جديد وكان غارة جوية قد بدأت، ياااه كم ترعبهم كلمة #الموت، ها نحن ننظر من شبابيك ملاجئنا المكسّرة لليوم السابع على التوالي.. ننتظر قدوم #القافلة..!
احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com
#174يوما
#الحرية_لاحمد_حسن_الزعبي
#أحمد_حسن_الزعبي
#كفى_سجنا_لكاتب_الأردن
#متضامن_مع_أحمد_حسن_الزعبي