التاريخ يحل مشكلة حروب المياه في العالم
تاريخ النشر: 27th, July 2024 GMT
رومان كرزناريك
ترجمة: أحمد شافعي
في ظهيرة كل خميس، أمام الباب الغربي لكاتدرائية فالنسيا، يقف تسعة أشخاص في عباءات سود، على رأس أحدهم قلنسوة مخططة وفي يده حربة شعائرية، مجتمعين في لقاء أسبوعي معهود منذ مئات السنين. تلك هي (محكمة المياه)، ولعلها أقدم مؤسسة للعدالة في أوروبا.
قد تبدو تلك المحكمة أثرا من ماض بعيد، لكن الحقيقة أن هذه المحكمة- في ظل أزمة المياه العالمية- أهم من ذي قبل.
غير أنه بوسعنا العثور على أمل في تلك المحكمة الإسبانية. فكل عضو في محكمة المياه ممثل لإحدى قنوات الري المحلية التي توفر المياه للأراضي الزراعية الخصبة في المدينة، وكل عضو فيها تم انتخابه انتخابا ديمقراطيا من مزارعي المنطقة. وتضمن هذه المحكمة عدالة اقتسام المياه النادرة وتقيم جلسات استماع عامة قد تنتهي إلى تغريم الفلاحين الذين يجورون فيحصلون على أكثر من نصيبهم المخصص أو يعجزون عن رعاية قناتهم.
تحتل المحكمة مكانة ضمن أبرز أمثلة الإدارة الذاتية الديمقراطية للموارد في العالم، برغم أن نشأتها محاطة بالغموض. ومثلما قال لي أحد العاملين فيها حينما زرتها في الفترة الأخيرة فإن جذورها قد تمتد إلى أنظمة إدارة المياه المتطورة التي نشأت في فالنسيا عقب الفتح الإسلامي لإسبانيا في القرن الثامن، عندما شق المزارعون قنوات الري لزراعة الزيتون والبندق والباذنجان والفاكهة. وعندما قام المسيحيون مرة أخرى بغزوها في عام 1238، تبنوا القواعد القائمة في تسوية نزاعات المياه، وبحلول القرن الخامس عشر، كانت الاجتماعات الدورية المنعقدة أمام باب الحواريين قد ترسخت تماما.
وليس هذا بالطبع نظاما مثاليا. ثمة دعم للمحكمة من حرس مستأجرين لضمان عدم عدوان أحد على مياه جيرانه. وحينما سألت الحاجب عن السر في أن جميع أعضاء المحكمة رجال وشيوخ- لدرجة أنه صعب على البعض منهم صعود درج الكاتدرائية- أجابني بنبرة دفاعية بعض الشيء قائلا: إن أولئك المزارعين مستودعات عظيمة للمعرفة وإن امرأة انتخبت لعضوية المحكمة للمرة الأولى سنة 2011.
غير أن طول بقاء محكمة المياه علامة على نجاحها. ففي كل مرة تنعم فيها بقضم برتقالة فالنسية ريانة، عليك أن تتذكر أنك تنتفع بألف عام من الحكم المائي العرفي المخلص.
احتلت المحكمة نصيبا كبيرا من اهتمام إلينور أوستروم، الحاصلة على جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2009، إذ اعتبرتها نموذجا مثاليا لـ«المشاعات»، إذ تقوم المجتمعات الصغيرة في شتى أرجاء العالم باستنباط قواعد لتقاسم وإدارة مواردها النادرة على نحو مستدام، سواء قنوات المياه أو مناطق صيد السمك أو الغابات. فذلك نقيض مباشر لفكرة «مأساة المشاعات» الخاطئة التي ترى أن المشاعات إذا ما تركت لأهوائنا فإن المصلحة الذاتية سوف تدفعنا بالضرورة إلى إنهاك هذه الموارد. إن نماذج من قبيل فالنسيا، وكذلك لجان المياه التي تدير القنوات في هولندا ونظام السوباك الذي يعمل على تقسيم المياه على مزارعي الأرز في بالي منذ ألف عام، تكشف أن هذا الاعتقاد محض أسطورة.
وإذن ما الدروس المستفادة للحاضر؟ تقول حكومة حزب العمال في بريطانيا: إنها لن تؤمم شركات المياه الفاشلة لكنها سوف تفرض عليها فقط «إجراءات خاصة». فلماذا لا يجري النظر في حلول أكثر إبداعا من قبيل الإدارة العرفية للمياه على الطريقة الفالنسية، أو على أقل تقدير؟ لماذا لا يجري النظر في منح أصحاب المصلحة مقعدا في مجالس إدارات الشركات؟
فضلا عن أن هذه المحكمة نموذج قابل للتطبيق على نطاق واسع. وانظروا على سبيل المثال إلى اللجنة الدولية لحماية نهر الدانوب التي تعمل من أجل واحد وثمانين مليون شخص في تسعة عشر بلدا على إدارة حوض نهر الدانوب من منابعه في الغابة السوداء إلى البحر الأسود. في حين تقوم اللجنة بدور نافع في جمع المسؤولين الحكوميين والعلماء ومنظمات المجتمع المدني للسيطرة على التلوث والفيضانات، فمن الممكن إعطاؤها تصميما عرفيا ديمقراطيا حقيقيا بإدخال جمعية مواطنين إقليمية لمحاسبتها.
وقد تمثل محكمة المياه الفالنسية درسا لبلاد الشرق الأوسط الجافة. فقبل أكثر من عقد من الزمن اقترح عالم المياه الفلسطيني البارز عبد الرحمن التميمي أنه «ينبغي استيراد وتعديل نموذج محكمة المياه... وليس ذلك فقط من أجل حل صراعات المزارعين، ولكن أيضا لتقليل التوترات بين الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين». ورأى أنه من دون هذه الآليات ما من فرصة لغرس الثقة الجذرية والحوار لإدارة ندرة المياه إدارة فعالة. وقال التميمي: «إن بوسعنا أن نتصارع على المياه أو أن نتعاون فيها، الأمر يرجع إلينا. فالخطوة الأولى هي أن يثق بعضنا في بعض». ولو أن الصراع الحالي أكد شيئا فهو الحاجة إلى تعاون مائي طويل المدى.
قد يكون 71% من كوكبنا الأزرق مغطى بالمياه، لكن هذه النسبة خادعة: فمن كل عشرة آلاف قطرة ماء على وجه الأرض، فإن أقل من نقطة واحدة هي التي تعد ماء عذبا يسير المنال يجري في أنهار أو بحيرات. والتاريخ الحي لمحكمة المياه قد يمدنا بأمل نحتاج إليه في العدالة المائية العالمية للإنصاف في توزيعها والحفاظ عليها بوصفها موردا ثمينا يمثل كنزا مشتركا لنا جميعا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: محکمة المیاه
إقرأ أيضاً:
أستاذ علوم سياسية: على العالم التدخل لإنقاذ حالة التجويع التي تشهدها غزة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الدكتور عماد البشتاوي أستاذ العلوم السياسية، إن الأوضاع المأساوية في قطاع غزة تتفاقم بشكل كبير، مؤكداً أن المسؤولية تقع على عاتق الجميع.
وأوضح أن "كلما طال الوقت، زادت إسرائيل من إجراءات الحصار والتجويع"، داعيًا المجتمع الدولي إلى التدخل الفوري وعدم ترك الأمور تحت سيطرة إسرائيل التي تتحكم في دخول الماء والغذاء والدواء للشعب الفلسطيني.
وأضاف البشتاوي، خلال مداخلة هاتفية على فضائية "القاهرة الإخبارية"، أن قطاع غزة يمر بحالة تجويع غير مسبوقة في التاريخ، مشيراً إلى أن إسرائيل تشن حرباً على شعب أعزل لا يمتلك حتى قوت يومه، مما يجعلها تتهرب من كافة التزاماتها القانونية والسياسية والأخلاقية.
وشدد البشتاوي على ضرورة تحرك المجتمع الدولي قائلاً: "من المؤسف أن يقف العالم متفرجاً وصامتاً أمام ما يحدث من تجويع وتدمير ممنهج في غزة".
وأكد أن الأمم المتحدة والدول الكبرى، خاصة الإقليمية والولايات المتحدة، عليها دور كبير في التدخل. كما أشار إلى أنه لا يوجد أي مبرر يمنع الولايات المتحدة من التحرك الإنساني لوقف القتل والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني.