اصدر بنك السودان المركزي منشوراً أوضح فيه بانه بصدد اقامة محفظة للسلع الاستراتيجية، وياتي القرار على اثر التدهور السريع لسعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي أستصحب ذلك ارتفاع في أسعار السلع والخدمات للمواطنين الذين يطاردهم شبه الحرب منذ اكثر من عام، وتعطل مصادر الدخل الرئيسية لهم.

القرار رغم التفاصيل التي وردت في منشور البنك المركزي لتطمين المشككين، إلا ان المحفظة مهما حاولت الجهات التي ترعاها تجميلها فسوف تظل هي الآلية التي تحتكر استيراد السلع المعنية بها وتجعل الدولة في بحر السوق تنافس التجار (يفتح الله -يستر الله) مثلها ومثل اي شركة.

تاريخ المحافظ والصكوك في السودان ليس حميداً إطلاقاً فتجربة بريق وشهامة ومحفظة (قحت) كلها لها تجارب مريرة على القائمين بها ناهيك عن تجربتها في السوق والاقتصاد.
ألتقيت بأحد المسؤولين الكبار في بورتسودان أواخر أيامي في الحكومة فطرح لي فكرة انهم بصدد اقامة هذه المحفظة، فبدون ما اشعر قلت له ، بالدارجة ارجوك لا تفكروا حتى فيها فهذه (حاجة كعبة )! ولكن اعتقد الإصرار عليها كان أكبر.

نتساءل ماهي مشكلة سعر الصرف ولماذا يتدهور الجنيه وليست هنالك آلية محددة لكبح جماحه ؟ بالرغم من اني كتبت مقالة سابقة بنفس هذا العنوان إلا أنني يمكن أن أوضح هنا قليلا لتتماشي مع ما سنذكره عن المحفظة الجديدة هذه ودورها المتوقع .

تدهور انسياب الصادرات في السودان للأسواق العالمية ادى الي انعدام احتياطيات النقد الأجنبي الذي كان يطرحه البنك المركزي في السابق في شكل مزادات للبنوك التجارية والصرافات ، هذا بدوره ادى لكي يلجأ المستودين وخاصة اصحاب الحوجات الكبيرة ( الوقود والمحروقات عموما والدقيق او القمح والدواء ) يلجؤون الى السوق الموازي (الأسود) لتوفير حوجتهم النقدية، فالحوجة كبيرة للغاية في كل عملية استيراد، ووقتما عجز البنك المركزي من توفيرها سيلجأ المستوردون إلى السوق الموازي، لذلك يشهد الدولار ارتفاع في شكل قفزات ، الملاحظ هنا تتوفر اموال السوق الموازي خارج النظام المصرفي، واغلب المتداولين فيه هم خارج البلاد ايضاً.

قد يتسال البعض من أين للسوق الموازي بهذه الاحتياطيات النقدية للعملة الأجنبية حتى يوفي بها للمستوردين؟ هنا تظهر عجز السياسات النقدية التي كانت يجب ان تجعل المصدرين ، وخاصة مصدري الذهب والسلع النقدية بان يوردوا حصيلة صادرهم لتجار السوق الموازي بدلا عن البنك المركزي ، فالبنك إذا حاولت التصدير عبره سوف يمنحك حصيلتك بسعر الصرف الرسمي فضلا عن تعقيد الاجراءات في حركة الصادر نفسها، ولكن تجار السوق الموازي يتم التفاوض والتراضي بينهم مع المصدرين وسهولة في التنفيذ ، لذلك يذهب حصيلة الصادر كلها او حوالي 95% منها خارج النظام المصرفي، وبالتالي يكون المتوفر في النظام المصرفي لن يوفي بالحاجة المطلوبة للاستيراد.

عندما يحتاج المستورد شراء العملة الأجنبية يضع تجار السوق الموازي سعر الصرف حسب معاييرهم وليس سياسات البنك المركزي لانهم على علم بان لا سبيل للمستورد سواهم، وهنا تذهب البنوك التجارية والصرافات ملاحقة السوق الموازي، هكذا يلاحقهم البنك المركزي ايضا في تعديل مستديم لسعر الصرف ليقترب من السوق السوداء، وهذا يجعل البنك المركزي قد وضع نفسه منقادا بدلا عن ان يقود السياسات النقدية في البلاد .

هذه المعادلة لن تستقيم حتى يضع البنك المركزي نفسه في دائرة السيطرة التامة على كل الصادرات النقدية مثل الذهب والسمسم والصمغ وغيرها من السلع النقدية وبالمقابل يمنح المصدرين السعر المجزئ للحصيلة ترغيباً حتى ياتي المصدر طواعية وليس بالحملات الامنية او بالإشاعات .

يجدر بناء ان نذكر الاخوة في الأجهزة الامنية ان سياسة التحكم في سعر الصرف لا يتم بالإشاعات ولا بالودائع او حملات القبض على التجار البسطاء ذو فئة الف ألفين دولار ، وانما في تصميم سياسة جاذبة تجعل المصدر ياتي مقتنعا من الانتفاع من عملية التداول الرسمية ، وبالمقابل تجعل المستورد يجد حوجته في البنوك التجارية والصرافات ، هي تجدها من البنك المركزي بشكل راتب، والتجربة التي نفذناها منذ بداية العام 25 اكتوبر 2021م الي 15 ابريل 2023م كانت خير شاهد لما نقول، حيث استقر سعر الصرف لاول مرة في (570-571) جنيه لما يقارب العامين ، فاتبعنا نفس الطريقة هذه، بل أوقفنا المحفظة الاستراتيجية تلك .
ماذا ستفعل المحفظة الحالية بالسوق ؟

هنالك خيارين اي منهما سوف يكون أسوأ من الثاني، فإذا كانت المحفظة حكومية بحتة فهذه تجعل الدولة بدلا ان تقوم بتنظيم السوق وحماية التعاقدات، فإنها ستدخل السوق وتتاجر مع القطاع الخاص جنبا الى جنب وبالتالي سيتضرر الدولة ويتضرر القطاع الخاص ايضا، سيما وان القطاع الخاص غير مؤهل لاستيراد السلع الاستراتيجية أعلاه الا بالشراكة مع القطاع الحكومي.

الخيار الثاني وهو أن تتشارك الدولة مع بعض من شركات القطاع الخاص بتكوين كارتيل لاستيراد هذه السلع وهذا يؤدي إلى تفضيل غير مستحق واحتكار لصالح شركات قطاع خاص محددة ولن تجد بعض شركات القطاع الخاص هذه الفرصة في الاستيراد ، وبالتالي هذا احتكار يخل بالسوق ومبدأ المنافسة الحرة، وهذا نفس محفظة (قحت) التي كانت شركة الجنيد احد اكبر المساهمين فيها وبنك البركة كان رائدا لها وانتهت هذه المحفظة نهاية تراجيدية وحسب علمي خسر كل الجهات التي شاركت فيها، وعوضهم الله في أموالهم.

بالنسبة للمصدرين فان المحفظة ستتحكم في سعر الحصيلة وهذا سيجعل المصدر رهينة في يدهم وهو ضد مبادي السوق الحر ايضا ، وهذا سؤدي الي تداول وتصدير الذهب خارج النظام الرسمي .

لايجب أن نتوقع بان تختلف المحفظة المعلنة حديثا من البنك المركزي عن سابقاتها، فعلى القائمين بالشأن الاقتصادي أن يعلموا أن الأزمة ليست في آلية السوق حتى يتدخل البنك المركزي في التجارة وانما تكمن الأزمة في عدم توفر السيولة النقدية الأجنبية اللازمة للاستيراد.

لسنا في حوجة لإنشاء بديل قديم لم ينجح وانما في تطبيق نفس السياسات والمناشير التي نفذت في الفترة بين حكومة (قحت) حتى اندلاع الحرب، وهي السياسة التي كانت نتائجها توفير الحصائل الكافية للاستيراد ومكنت البنك المركزي حتى نفذ عدداً من المزادات لبيع العملة الأجنبية للبنوك والصرافات، فمنح المصدرين حصائل وفق سعر السوق الموازي اول مرة ستنتفي حاجتهم الى الخروج خارج النظام المصرفي، وقد يقول قائل ان ذلك سيؤدي لخسائر كبيرة في البنوك التجارية إذا ما اعتمد البنك المركزي سعر الصرف الموازي ولكن هذه الخسارة اقل من ان يقود السوق السوداء لسعر الصرف يحددها هو وفق تقديراته.

مبارك أردول

27 يوليو 2024م

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: النظام المصرفی البنک المرکزی السوق الموازی القطاع الخاص خارج النظام سعر الصرف

إقرأ أيضاً:

البنك الدولي يتوقع تراجع أسعار السلع الأولية لمستويات ما قبل كورونا

توقع البنك الدولي اليوم الثلاثاء أن يؤدي ضعف النمو العالمي، والذي يعود لأسباب منها اضطرابات التجارة، إلى انخفاض أسعار السلع الأولية العالمية 12% في 2025، و5% أخرى في 2026، لتصل إلى أدنى مستوياتها في عشرينيات القرن الحادي والعشرين بالقيمة الحقيقية.

وأظهر أحدث تقرير للبنك الدولي عن (آفاق أسواق السلع الأولية) أن أسعار هذه السلع، والمعدلة في ضوء التضخم، سوف تتراجع إلى متوسطها في الفترة بين عامي 2015 و2019 خلال العامين المقبلين، وهو ما يمثل نهاية طفرة الأسعار التي غذاها التعافي الاقتصادي من جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية عام 2022.

وقد يؤدي هذا الانخفاض إلى تخفيف مخاطر التضخم في الأجل القريب، وهي مخاطر ناشئة عن  الرسوم الجمركية الأميركية الجديدة المرتفعة والحواجز التجارية المتزايدة على مستوى العالم، ولكن قد تكون له أيضا عواقب سلبية على الاقتصادات النامية التي تصدر السلع الأولية.

الدول النامية الأكثر تضررا

وقال رئيس الخبراء الاقتصاديين بمجموعة البنك الدولي، إندرميت جيل في بيان: "كان ارتفاع أسعار السلع الأولية هبة للعديد من الاقتصادات النامية، التي يعد ثلثاها دولا مصدرة لهذه السلع".

وتابع: "لكننا نشهد الآن أعلى تقلب في الأسعار منذ أكثر من 50 عاما.. اقتران التقلب الشديد في الأسعار مع انخفاضها ينذر بالمتاعب".

إعلان

وأضاف أنه ينبغي على هذه البلدان أن تحرر التجارة كلما أمكن، وتستعيد الانضباط المالي، وتوفر بيئة أكثر ملاءمة للأعمال لجذب رأس المال الخاص.

وذكر تقرير البنك الدولي أن ارتفاع أسعار الطاقة زاد التضخم عالميا بأكثر من نقطتين مئويتين في عام 2022، لكن انخفاض الأسعار في عامي 2023 و2024 ساعد في تخفيفه.

وأفاد التقرير بأن من المتوقع أن تتراجع أسعار الطاقة 17% إلى أدنى مستوى في 5 سنوات قبل أن تنخفض 6% في 2026.

وفيما يلي توقعات أسعار أبرز السلع الأولية:

النفط: توقع أن يبلغ متوسط أسعار خام برنت 64 دولارا للبرميل في عام 2025، بانخفاض 17 دولارا عن عام 2024، و60 دولارا فقط للبرميل في عام 2026 وسط وفرة المعروض وانخفاض الطلب، وهو ما يُعزى لأسباب منها التوجه السريع نحو السيارات الكهربائية في الصين، أكبر سوق للسيارات في العالم. وجرى تداول خام برنت عند 64.80 دولار للبرميل في وقت مبكر اليوم الثلاثاء.

الفحم: يتوقع انخفاض أسعاره 27% في 2025، و5% إضافية في 2026، مع تباطؤ نمو استهلاك الفحم لتوليد الطاقة في الاقتصادات النامية.

المواد الغذائية: من المتوقع أن تتراجع أسعارها بنسبة 7% في 2025 و1% إضافية في 2026، ولكن هذا لن يسهم كثيرا في تخفيف انعدام الأمن الغذائي في بعض البلدان الأكثر عرضة لهذا الخطر مع تقلص المساعدات الإنسانية وتأجيج الصراعات المسلحة للجوع الحاد.

الذهب: يتوقع تقرير البنك الدولي أن تسجل أسعار الذهب مستوى قياسيا مرتفعا جديدا في 2025 مع بحث المستثمرين عن ملاذات آمنة لرؤوس الأموال وسط تزايد حالة عدم اليقين، لكن السعر سيستقر في عام 2026.

مقالات مشابهة

  • البنك المركزي يقف عاجزا عن وقف انهيار الريال.. ويتهم الصرافين
  • وداعًا للفئات النقدية الصغيرة.. كيف ستؤثر الـ500 ألف والمليون ليرة على الاقتصاد وسعر الصرف؟

  • البنك المركزي يقرر بيع 2000 دولار لكل حاج وبسعر الصرف الرسمي
  • توقعات بتخفيض أسعار الفائدة خلال اجتماعات البنك المركزي القادمة (تفاصيل)
  • محافظ البنك المركزي يستقبل وفد المجلس التنسيقي المصري السعودي
  • مدبولي يتابع موقف المخزون من السلع الاستراتيجية: تسلم 644.850 ألف طن قمح من المزارعين
  • البنك الدولي: تباطؤ اقتصادي عالمي وتراجع في أسعار السلع حتى 2026
  • البنك الدولي يتوقع تراجع أسعار السلع الأولية لمستويات ما قبل كورونا
  • تنبيه هام من البنك المركزي اليمني.. تعرف على التفاصيل
  • البنك المركزي اليمني: فتح مزاد لبيع 30 مليون دولار