يمن مونيتور/من هبة التبعي

” عندما أعلنوا عن فتح الطرقات بين مدينة تعز والحوبان وثقت كل لحظة وكنتُ في أول الصفوف غير مكترث لمَ قد يحدث لي من مخلفات الحرب كالألغام وغيرها، كل الذي كان يهمني حينها، بعد عقد من الزمان أحقًا سألتقي بوالديَّ؟!”، يقول محمد دائل وهو اسم مستعار.

عاش محمد وعائلته قبل الحرب في حي ” الكمب” إلى أن اشتعلت نيران الحرب وبدأت تأكل هذا الحي بشراسة، اضطروا أن ينزحوا إلى ” الحوبان”، حصل محمد على فرصة عمل جيدة في المدينة، فغادر إليها وبقيا والديه في الحوبان لعدة أسباب لا يحب أن يذكرها لنا.

يصفُ محمد لموقع ” يمن مونيتور” شعور الغربة المشين الذي قساه لمدة عشر سنوات وعلامات الأسى واضحة على ملامحه تعبر عن شعور خمسة مليون مواطن، ” ما أقسى أن تعيش على بعد أمتار قليلة من أهلك ولا تستطيع رؤويتهم إلا بشق الأنفس، خمس ساعات من السفر على طرق وعرة قد تودي بحياتك إلى الهواية، وبتكاليف باهضه غير مقدور عليها من قِبل الكثير من الأسر”، يضيف محمد.

تفكك العلاقات

13/ حزيران/ 2024، هو يومٌ تاريخي فاضت دموع الفرح من أعين الكثير من الأسر في محافظة تعز والمناطق المجاور لها، جراء افتتاح طريق المدينة المحاصرة منذُ 2015، واجتمعت العديد من الأسر ببعضها بعد فراق دام لسنوات كثيرة.

” كل فرحة وكل دمعة نزلت من أبناء تعز يوم فتح الطريق هي لامست مشاعرنا وإحساسنا وبالكامل، هذه الفرحة تمثلنا وهي من سعينا من أجلها منذ بداية إغلاق الطريق، سُعدنا جميعًا بهذا الحدث ونتمنى أن يستمر”، يوضح ماهر العبسي، مدير مكتب شؤون الحصار في تعز.

الجهود المبذولة

يقول ماهر العبسي، لموقع ” يمن مونيتور”، الجهود التي بُذلت بدأت من أول يوم بالحرب، من قبل كل أبناء تعز من نشطاء وحقوقيين ومؤثرين في وقفات احتجاجية ومطالبات، حملات إعلامية وصياغة تقارير حقوقية، وفي اجتماعات جنيف لحقوق الإنسان كل أعمالنا شددت على رفع الحصار عن مدينة تعز وفتح الطرقات.

كل الجهود أتت من أجل لَم شمل الأسر وإنهاء معاناة المسافرين، والتخفيف من المأساة التي يقاسيها المواطنين، حسب العبسي.

ويسترسل المدير” كان هناك ضغوط من كافة المجتمع، إضافة إلى السلطات المحلية، من أكبر قادات الدولة إلى أصغر موظف فيها، وبعد تعنت الجماعة عشر سنوات وافقت على ذلك”.

مؤكدًا العبسي أن الحكومة الشرعية والسلطات الحكومية في تعز تعتبر أبناء المحافظة في الشقين مواطنيها وتسعى كل جهدها لإسعادهم وتخفيف المعاناة عنهم.

تفكك العلاقات الاجتماعية

“حصار مدينة تعز سبب في ضرر كبير للعلاقات الاجتماعية كون الحصار بين شقين في المحافظة نفسها، ولدى أبنائها قرابة دم عميقة بالإضافة إلى المأجورة والأرض الواحدة، ورغم هذا ستعود العلاقات الاجتماعية بشكل أسرع وأكثر كون الشعب لديه رأس مال ثقافي وحضاري وتعليمي”، يقول نائف الوافي وهو صحفي ونشاط في تعز.

ويضيف الوافي الحاصل على الماجستير في علم الاجتماع أن المجتمع بكل ما فيه يعاني من موضوع إغلاق الطرقات، فبعض الأبناء ولدوا في سنوات الحرب ولا يعرفون أقربائهم، يكبر هؤلاء الأبناء في ظل فوضى واغتراب عن أهلهم مما يجعلهم يكسبون عادات سيئة ويمارسون أشياء سلبية في ظل عدم وجود الرقابة الإبوائية، الذي يغتربون في الشق الآخر من المحافظة من أجل العمل.

تغييرات اجتماعية إيجابي

بعد فتح شارع أمام المواطنين القاطنين في تعز المدينة والحوبان، من المتوقع أن تشهد المحافظة تغييرات إيجابية كبيرة على المستوى الاجتماعي، يتمثل اولًا في

انتعاش الروابط العائلية والأسرية، حيث سيتمكن أفراد العائلات الواحدة من التواصل والتنقل بسهولة أكبر بعد سنوات من الانقطاع، يفيد للموقع عمران فرحان

ويواصل عمران وهو صحفي مختص بالشؤون الاجتماعية:” ستتجدد هذه العلاقات الأسرية والزيارات المتبادلة بين الأقارب، مما يعزز الترابط والدعم المتبادل، كذلك الزيارات والتجمعات العائلية ستسهم في إعادة بناء الذاكرة الجماعية والشعور بالانتماء، ويمثل ثانيًا في إحياء الأنشطة والتجمعات المجتمعية، سيزداد التواصل بين السكان والمشاركة في الفعاليات والأعراف الاجتماعية، ستنتعش الحياة الثقافية والترفيهية في المدينة، مما يعزز الشعور بالانتماء والهوية المشتركة”.

“أما ثالثًا إعادة بناء الثقة والتماسك الاجتماعي، التواصل المتزايد على استعادة الثقة بين أفراد المجتمع، سيعزز مشاعر الأمان والاستقرار النفسي بعد سنوات من الخوف والقلق وتعزز قيم التعاون والتضامن الاجتماعي من خلال المساعدات المتبادلة”، يقول عمران.

حواجز أسرية

” لأول مرة منذُ عشر سنوات عجاف تمتد عشر أيادي إلى مائدة الطعام الموضوعة في منتصف حجزة منزل الإيجار الضيق الذي نعيش فيه كنازحين”، تقول شيماء غالب.

وتواصل قصتها شيماء لموقع ” يمن مونيتور”:” عندما انعدلت الحرب واشتدت الاشتباكات بين الأطراف في الحي السابق اضطررنا ترك منزلنا الذي نملك، والذي غدا بعدها ضحية هذه الحرب، وكذلك والدي الذي توفى بعد إصابة مفاجأة في ذبحة صدرية جراء هذا الحدث”.

تشتت العائلة بين مناطق مختلفة، حيثما وجد كل منهم عمل يناسبه، وما إن تتاح الفرصة لأحدهم أن يزور والدته وبقية الافراد المقيمين في المنزل لا يجد الآخرين بسبب مشقة السفر، إلى أن افتحت الطريق واستسهل السفر عادوا جميعًا إلى والدتهم ليجتمعوا كلهم على مائدة واحدة، يغمرهم مشاعر غزيرة ودموع فرح وحنين.

تفيد شيماء للموقع:’ لم يسبق لي أن سمعت هذه المسميات “خالة، عمة” من أنسابي وأولاد أخوتي مباشرا، أجد صعوبة في التعامل معهم كوني أقابلهم لأول مرة، أشعر أن هنا حاجز غريب بيننا، ربما الفراق زعزع شيئًا من علاقتنا الاجتماعية”.

التكيف

توضح غادة عبد اللطيف وهي أخصائية نفسية، بأنه أن يجب يكون هناك صبر وتفهم للظروف التي مرت بها كل عائلة، بالإضافة إلى احترام للوقت الذي يحتاجه كل فرد للتكيف.

تضيف غادة: “الأسر المنفصلة فئة محتاجة لدعم نفسي لتعيد بناء علاقتها الاجتماعية بشكل صحيح من خلال جلسات الإرشاد العائلي أو الفردي لمساعدة الأفراد على معالجة صدماتهم وبناء استراتيجيات فعّالة للتكيف”.

وتؤكد غادة على أهمية تعزيز المشاركة في أنشطة جماعية حيث أنها من الممكن أن تساعد في تعزيز الروابط العائلية وتقوية العلاقات من جديد.

آثار نفسية

سنوات انفصال الأسر والبعد القصري الذي فرضه الحصار سببت صدمات نفسية عميقة لفقدان الاتصال الاجتماعي والدعم الأسري، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي قد يعاني منه الأسر المنفصلة، كما توضح الإخصائية غادة.

وتوصل حديثها لـ “يمن مونيتور:” بالإضافة إلى ما سبق، ممكن أن يصابوا بالاكتئاب والقلق، فبسبب الفقدان الطويل للعلاقات الاجتماعية الوثيقة الذي أدى إلى مشاعر العزلة واليأس، كما أن التوتر والصراع العائلي كثير ما يحدث لأفراد تواجههم صعوبة في التكيف مع التغيرات الجديدة وإعادة بناء الثقة والتواصل الفعّال مع بعضهم البعض بعد هذه الفترة الطويلة من الانفصال”.

 

 

 

التحديات المعيشية

الحكومة الشرعية أو السلطات في لجنة التفاوض قدمت تنازلات لأشهر عدة، رتبوا مناطقهم وجبهاتهم، وفجأة دون أي تنسيق بين الأطراف، أعلنوا جماعة الحوثيين فتح الطريق، وهذا سبب إرباك للشرعية في تعز، كما أفاد العبسي.

” كان هناك تحديات كبيرة كون المنطقة خط تماس منذ بداية الحرب، المكان أشبه بالغابة، الجيش قام بتجهيز المنطقة والترتيبات اللوجستية والآمنية في وقت قياسي لا يزيد عن أسبوع، اجتزنا هذه التحديات الصعبة حتى لا يتحجج الحوثي أن السلطات الشرعية هي من ترفض رفع الحصار”، يشير العبسي وهو ناشط حقوقي أيضًا.

وفتح الطريق إلى ومن المدينة كان ومازال عشوائيًا وارتجاليًا إلى اليوم، كون الحوثيين يرفضون أن يكون فتح الطريق برعاية أممية وضمانات دولية تضكن استمرار فتح الطريق وعدم أغلاقها مرة أخري، كما يقول العبسي.

ويؤكد أن فتح بقية الطرقات سيخفف الكثير من معاناة المواطنين بشكل كبير جدًا، وستزول مشاكل عملاقة يواجهها الشعب منذُ بداية الحرب.

أطول حصار على مر التاريخ

بدأ حصار تعز 17/ تشرين أول/ 2015 واستمر 3 ألف يوم، من قِبل الميليشيا الحوثية لأسباب طائفية وديمغرافية وعنصرية، ليصبح أطول حصار على مر التاريخ بل وابشعها على الإطلاق، فهو أطول من حصار سراييفو وستاليذجراد وليننغراد” وأطول أيضا النظام السوري والمليشيات المتحالفة معه.

شمل الحصار في تعز قطع الطرق البرية والبحرية والجوية التي تربطها ببقية المناطق والمحافظات الخاضعة تحت سيطرة الحوثي، وإغلاق المنافذ والمرافق الحيوية مما يمنع دخول المساعدات الإنسانية والسلع الأساسية.

وحسب ماهر العبسي، فإن الحصار تسبب بنحو 481 حادث مروري نتج عنه 374 حالة وفاة وإصابة 966 حالة وخسائر قدرت 475 مليون دولار، وتسبب الحصار أيضًا بتضرر 180 مدرسة وإغلاق 31 مدرسة وتسرب 32 ألف طالب وطالبة.

ويضيف بأن عدد الطلاب المتضررين من عدم القدرة للوصول إلى الجامعات بلغ 8000 طالب وطالبة، بالأضافة إلى عدد ضحايا الألغام 1700 قتيل وجريح

كما صرح محافظ محافظة تعز ” نبيل شمسان” في مؤتمر صحفي أن الحصار سبب ازمة مياه تصل إلى 75% من احتياج السكان، وتدمير 50% من شبكة الطرق التي زاد طولها وكلفتها 1000% بينما ارتفعت أسعار السلع 35%.

 

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: البحر الأحمر الحوبان الحوثي اليمن تعز حصار تعز یمن مونیتور فتح الطریق فی تعز

إقرأ أيضاً:

شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام

"لقد رحل جسدي. أنا ميت يا عائلتي، إنها مأساة، يا لها من مأساة! فيا أصدقائي، ما دمتم على قيد الحياة، عودوا إلى دياركم! عودوا إلى دياركم يا أصدقائي قبل فوات الأوان".

ليس ذلك جزءا من رواية أو فيلم رُعب، بل صيحة حقيقية قُدِّمت في صورة صدى أصوات على مدار أيام طويلة، وُجِّهت إلى آذان مقاتلي الڤيت-كونغ (Viet Cong)، شبكة التنظيمات الشيوعية التي حاربت الولايات المتحدة والنظام الموالي لها جنوب فيتنام بين عامي 1955-1975، على أمل أن يرتدع هؤلاء المقاتلون، ويعودوا إلى ديارهم ويتخلّوا عن المقاومة، وذلك في إطار خطة واسعة للحرب النفسية طبَّقتها الولايات المتحدة في فيتنام.

حاربت شبكة الڤيت-كونغ  الولايات المتحدة والنظام الموالي لها جنوب فيتنام بين عامي 1955-1975 (أسوشيتد برس) ثقافة الأموات

لطالما أكَّد جانب من الثقافة الفيتنامية طيلة عقود على طقوس الرعاية اللائقة بالموتى، في جمع بين التقاليد البوذية والشعبية. ومن المعتقدات الشائعة أنه إذا مات شخصٌ ما نتيجة العنف، أو في مكان بعيد عن منزله، ولم يُدفن بشكل لائق في مقبرة عائلته، فإن روحه ستُصاب بالقلق و"تتجوَّل" بين الأحياء في معاناة.

وكان يُعتقد أن هذه الأرواح الجوَّالة في الفولكلور الفيتنامي تجلب الحظ السيئ، وتلعن الناس وتجلب المصائب حتى تُهدَّأ. وقد برزت هذه المعتقدات بالأخص أثناء الحروب، فالجنود الذين يموتون في ساحات القتال البعيدة يُخاطرون، ليس بحياتهم فحسب، بل وبأن يصبحوا أرواحا ضائعة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"رجل الإبادة الجديد".. ماذا سيرى إيال زامير في مرآة غزة؟list 2 of 210 مراحل تشرح لك ما جرى في حرب فيتنامend of list إعلان

وقد تحدث الأدب الفيتنامي في تلك الحقبة عن هذه المعتقدات كثيرا، مثلما تسرد رواية "حزن الحرب" للأديب باو نينْه، والصادرة عام 1991. وتبدأ الرواية بتصوير جنود في مهمة ما بعد الحرب لجمع عظام رفاقهم الذين قُتلوا من أجل إعادة دفنهم، ثم تبدأ قصة كين، الجندي الفيتنامي الشمالي الذي فقد البراءة والحب بسبب الحرب، ومعاناته مع ذكريات الحرب.

ويركب كين الشاحنة باحثا عن رفات الجنود الذين سقطوا فيما يتخيل أنه "غابة أرواح صارخة" ويتذكر أن هذا هو المكان الذي دُمِّرَت فيه الكتيبة رقم 27، ولم يبقَ منها سوى حِفنة من الناجين.

وقد مهَّدت هذه الخلفية الثقافية الطريق لعملية "الروح المُتَجوِّلة" -التي بدأها الجيش الأميركي في فيتنام أثناء النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي- عن طريق استغلال الخوف من الموت بعيدا عن الوطن، والتحوُّل إلى شبح مُعذَّب وفقا للاعتقاد الشائع حينها، ومن ثمَّ سعى مخططو العمليات النفسية الأميركيون إلى استغلال نقطة ضعف في الثقافة الشعبية للعدو للتأثير عليه نفسيا.

ولم يكن الأمر مجرد طُرفة كما يبدو لأول وهلة، بل إن المستشارين العسكريين الأميركيين كانوا على دراية بهذه المعتقدات الثقافية ومدى تأثيرها العميق على الروح المعنوية الفيتنامية. وفي الواقع، درست قيادة الدعم العسكري الأميركي في فيتنام "إم إيه سي في" (MACV) التقاليد المتعلقة بتلك الأشباح المحلية المزعومة، وصنَّفت أنواعا منها للتأثير على المعتقدين فيها.

وقد حدَّد تقرير صادر عن قيادة الدعم العسكري في ديسمبر/كانون الأول 1969 أرواحا مختلفة من الفولكلور الفيتنامي يمكن الترويج لاستحضارها من أجل التأثير النفسي، لتشجيع الانشقاقات في صفوف الڤيت-كونغ، وإضعاف معنويات العدو دون قتال مباشر.

وطُوِّرت من هنا عملية "الروح المُتَجوِّلة" بواسطة المجموعة الرابعة للعمليات النفسية بالجيش الأميركي، وكانت الخطوة الأولى إعداد تسجيل صوتي يبدو للمُستَمِعين الفيتناميين وكأنه صوت الشبح المُتعارف عليه في الثقافة الشعبية. وأمضى المهندسون في إستوديو بمدينة سايغون (عاصمة جنوب فيتنام قبل إعادة تسميتها باسم هو شي مِنه) أسابيع في تسجيل ومزج مؤثرات صوتية غريبة لأجل ذلك الهدف.

إعلان

وجُنِّد جنود فيتناميون من الجنوب الموالي لواشنطن، ومنشقون عن الڤيت كونغ، للتسجيل بأصواتهم كي يضمن الأميركيون أن تكون اللغة فصيحة والنبرة حقيقية. ولتحسين جودة الصوت، شغَّل الفنيون بعض الأصوات عبر غُرَف صدى الصوت، وأضافوا مؤثرات مشوهة.

وكانت النتيجة سلسلة من "أشرطة الأشباح" كما عُرفت، أشهرها "شريط الأشباح رقم 10". ويبدأ هذا الشريط بموسيقى جنائزية بوذية كئيبة، وصرخات حزينة لامرأة فيتنامية وطفل يناديان الجنود (على سبيل المثال، صوت طفل يتوسل قائلا: عُد إلى المنزل يا أبي!)، وتخلَّل ذلك عويل ورنين أجراس، مما خلّف ضوضاء يمكن الاعتقاد بأنها من العالم السفلي وفقا للمعتقد الشعبي الشائع وقتها.

وفي شريط الأشباح رقم 10، كان الصوت الرئيسي لجندي يُفترض أنه ميت من الڤيت كونغ وباللغة الفيتنامية، حيث أخذ يرثى موته وروحه في الجحيم، ويتوسَّل إلى رفاقه أن يعودوا إلى ديارهم كي يتجنَّبوا مصيره. ويقول نصُّ أحد المقاطع "لقد رحل جسدي، أنا ميت يا عائلتي" وقد كُتب النص بعناية ليلامس مشاعر مستمعيه، فهو يدعو مثلا إلى بر الوالدين، ويحذر من العذاب الروحي، ويحث على الفرار من المعركة بوصفه السبيل الوحيد للنجاة من الهلاك.

تكتيكات الحرب النفسية

بعد تجهيز الأشرطة، نفَّذت القوات الأميركية العملية ميدانيا، وكانت مكبرات الصوت الوسيلة الرئيسية لإيصال أصوات تسجيلات الأشباح لجنود شمال فيتنام، وركَّبت الولايات المتحدة حينها مُكبِّرات صوت قوية على مروحيات وقوارب الدوريات البحرية السريعة التي كانت قادرة على تغطية المنطقة المطلوبة بالكامل.

واستخدمت واشنطن أيضا مُكبِّرات صوت صغيرة محمولة، حيث تسلَّل الجنود الأميركيون قرب معسكرات الفيتناميين، أو إلى مناطق أنفاقهم وسط الظلام، ثم علقوا مكبرات الصوت على الأشجار أو وضعوها قرب المخابئ.

وكان البث يبدأ عادة حوالي الثامنة مساءً، بعد حلول الليل وهدوء الغابة، ثم يستمر بشكل متقطع طوال الليل، إذ كان مقاتلو الشمال المُنهَكون أكثر عُرضة للارتباك والخوف عند استيقاظهم على أصوات غريبة تتردَّد في ظلمة الغابة، وكان أحد أهداف العملية كذلك تشويش راحة الفيتناميين. ولزيادة الخداع، أضافت فرق العمليات النفسية بعض التعديلات مع الوقت، فمع المونولوج الرئيسي "الروح المُتَجوِّلة" تضمَّنت الأشرطة عناصر من الفولكلور الفيتنامي.

إعلان

فمثلا، استُحضِرت أشباح حيوانات مألوفة في التراث الشعبي الريفي في فيتنام، ومن بين الأرواح الأكثر شرا استُخدم "شبح شد العقدة" الذي يغمغم "كو كو" (رقبتان، رقبة) كي يحث الناس على شنق أنفسهم والانتحار.

وتمثلت الإستراتيجية العامة في خداع متعدد الأوجه، يجمع بين الرمزية الثقافية (الأشباح، واللعنات المتوارثة) والاضطراب الحسي (أصوات غريبة في الظلام) والرسائل الإقناعية (أصوات تحث على الاستسلام) لتقويض إرادة العدو في القتال.

وقد حقَّقت عملية "الروح المُتَجوِّلة" نتائج متباينة على أرض الواقع، حيث أثارت طيفا من ردود الفعل الفيتنامية، تراوحت بين الرعب والاستسلام والتحدي، وهناك أدلة على أن بث الأشباح حقق في بعض الحالات تأثيره المقصود، وكانت هناك حالات ذعر وفرار في صفوف الڤيت-كونغ بالفعل.

ووفقا لضابط متقاعد من مجموعة العمليات النفسية الرابعة، فإن أول تجربة لشريط الأشباح -الذي شُغِّل من قارب في ليلة مظلمة- أعقبها استسلام 13 مقاتلا. غير أن فريقا من المسؤولين عن عملية "الروح المُتَجوِّلة" أفادوا بأن مقاتلي الشمال سرعان ما أدركوا الأساليب الأميركية، ومن ثمَّ فقد تأثيره، بل وأصبح رد الفعل الفوري في كثير من الأحيان إطلاق النار باتجاه مصدر الصوت، حتى أوقِف البرنامج أوائل السبعينيات.

جسَّدت عملية الروح المتجولة التي نفذها الجيش الأميركي موضوعا أوسع في الحرب النفسية يتعلق باستغلال المعرفة الثقافية المحلية لتحقيق ميزة إستراتيجية. (غيتي) الأسوانغ ومحاربة الشيوعية بالفلبين

جسَّدت عملية "الروح المُتَجوِّلة" موضوعا أوسع في الحرب النفسية يتعلق باستغلال المعرفة الثقافية المحلية لتحقيق ميزة إستراتيجية، وهو أمر لم يكن جديدا بالكُليَّة. فأثناء الحرب العالمية الثانية، حاولت العمليات النفسية الأميركية استغلال مخاوف اليابانيين الثقافية وشعورهم بالعار أثناء المجهود الحربي، وهو نهج افترض إمكانية تحويل معتقدات العدو غير العقلانية ضده.

إعلان

وفي خمسينيات القرن العشرين إبَّان الحرب الباردة، استخدمت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أساليب غير تقليدية لمواجهة التمرُّد الشيوعي بالفلبين، منها الخرافات المحلية، مثل أسطورة "الأسْوانغ" (Aswang) وهو مخلوق أسطوري يشبه مصاص الدماء وكان يُعتقَد بأنه يتغذى على الدم والأعضاء، خاصة من الحوامل والأطفال، وأنه يمكن أن يتحوَّل إلى أشكال متعددة، مثل خنزير أو كلب أو نسر بحجم إنسان، وعادة ما شاعت هذه الأساطير لتفسير الأمراض المفاجئة والوفيات الغامضة في الريف الفلبيني.​

وقد نفَّذ إدوارد لانسديل، وهو ضابط بسلاح الجو الأميركي، خطة نفسية تعتمد على خرافة الأسوانغ، فحين اختطف الجنود الأميركيون أحد المتمردين الشيوعيين وقتلوه بطريقة تحاكي هجوم الأسوانغ، ثقبوا رقبته بثقوب تشبه آثار أنياب مصاص الدماء، وعلقوا جثته مقلوبة على شجرة، حتى نزف دمه بالكامل.

وعندما عثر زملاؤه على الجثة، اعتقدوا بأن الأسوانغ هو المسؤول بالفعل، مما أثار الذعر ودفع كثيرين للهروب من المنطقة. ​وكان نجاح لانسديل بمثابة مقدمة لعملية "الروح المُتَجوِّلة" في فيتنام.

ومن بين أساليب لانسديل الأخرى في العمليات النفسية ما أسماه "عين الله" حيث كانت القوات الحكومية تُحدِّد القرى المعروفة بتعاطفها مع الشيوعيين. وفي الليل، كانت فرق العمليات النفسية تتسلل إلى المدينة وترسم عينا على الجدران المواجهة لمنازل الناس.

وفي ثقافة تلك المناطق، كانت هذه "العين التي ترى كل شيء" ومن ثمَّ ساد الاعتقاد أنها ترى هذا الشخص وتخبره بأنها تعرف أنه خائن. وفي حالة أخرى، عندما أراد لانسديل من جميع الكاثوليك شمال فيتنام الانتقال جنوبا، أذاع مرارا وتكرارا للكاثوليك عبر وسائل عدة رسالة تقول "مريم العذراء المُبارَكة تتجه جنوبا".

وقد تورَّط لانسديل في العديد من العمليات النفسية الغريبة، حيث دبَّر عملية "النمس" للإطاحة بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو عبر إقناع الشعب الكوبي الكاثوليكي بأنه المسيح الدجال. وكان من المفترض أن تبث هذه الرسالة ليلا ونهارا، بالتزامن مع إطلاق قذائف الفسفور في سماء هافانا إيذانا بعودة المسيح كما يُفترض، ولكن العملية لم تُنفَّذ في الأخير.

نفَّذ إدوارد لانسديل، وهو ضابط بسلاح الجو الأميركي، خطة نفسية تعتمد على خرافة الأسوانغ، وهو مخلوق أسطوري يشبه مصاص الدماء (مواقع التواصل) الاستغلال الثقافي إستراتيجية حرب

في العقود التالية على حرب فيتنام، ناقش المتخصصون بالجيش الأميركي فعالية العمليات النفسية المُستندة إلى الثقافة المحلية، وإلى الآن لا تزال عملية "الروح المُتَجوِّلة" كاشفة لأي مدى قد تذهب الجيوش للتسلُّل إلى عقول خصومها، ومُحفِّزة لبناء أساليب جديدة تستغل العناصر الثقافية والعاطفية في الصراعات السياسية.

إعلان

وأثناء حربي العراق وأفغانستان، استمرت العمليات النفسية الأميركية على النمط ذاته، حيث ركَّزت على المنشورات والبث الإذاعي ووسائل الإعلام المتنوِّعة للتأثير في المجتمعات المحلية. وهناك مثالٌ صارخ من أفغانستان عام 2005، عندما ورد أن فريقا للعمليات النفسية للجيش الأميركي قام بتشويه جثث مقاتلين من طالبان واستخدمها رسالة نفسية لترهيب خصومه، بحسب تقارير استقصائية أسترالية.

ووفقا للتقارير، أحرق جنود أميركيون قرب قندهار جثتي مقاتلين من طالبان عَمْدا، ثم أذاعوا عبر مكبرات الصوت سخرية باللغة البشتونية المحلية، قائلين "لقد سمحتم لمقاتليكم بأن يُرموا ويُحرَقوا، أنتم خائفون من استعادة جثثهم". وكان انتهاك المواثيق القانونية التي تُوجب مراعاة التقاليد عند دفن الموتى يهدف إلى إضعاف معنويات مقاتلي طالبان، ورد الجيش الأميركي بأن تحقيقاته في الحادث أظهرت أن الجنود أحرقوا الجثث المتحللة لأسباب صحية وبالتالي فإنهم لم ينتهكوا مواثيق جنيف الخاصة بالحرب.

وإبَّان غزو العراق عام 2003، بثَّت وحدات العمليات النفسية الأميركية رسائل إلى الجنود العراقيين تحثهم على الاستسلام بدلا من الموت، مع نداءات صيغت أحيانا بدافع إنقاذ الأسرة وعدم تفويت فرصة رؤية أطفالهم يكبرون، وغالبا ما كانت المنشورات التي أُلقيت على الخطوط العراقية عامي 1991 و2003 تُصوِّر سيناريوهات موتٍ عبثي في ​​الصحراء، والحث على عدم إهدار الحياة في سبيل قضيةٍ محكوم عليها بالفشل.

وإلى جانب ذلك، كانت فرق مكبرات الصوت الأميركية تشكك في شجاعة المقاتل وإيمانه ورجولته، على أمل استدراجه نحو الاستسلام أو تقويض عزيمته.

ونشأت عن تلك الأساليب مشاريع عمليات نفسية متنوِّعة. فمثلا، منتصف العقد الأول من القرن الـ21، ابتكرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية "عملية عيون الشيطان" التي تضمَّنت تصنيع دمى متحركة على هيئة أسامة بن لادن مع طلاء الوجه بمادة حساسة للحرارة تُحوِّل وجه بن لادن عند تعرضها للحرارة إلى شخصية شيطانية حمراء الوجه ذات عيونٍ خضراء.

إعلان

وقضت هذه الخطة بتوزيع هذه الألعاب في باكستان وأفغانستان لإرهاب الأطفال وآبائهم، وتأليب الرأي العام على زعيم القاعدة، لكن العملية أوقِفت ولم تنفذ في الأخير.

العقيدة المعلوماتية

وتُشدِّد العقيدة العسكرية الأميركية الحديثة على فهم عملية صنع القرار لدى الخصم والأبعاد الثقافية التي ينتمي إليها، ويكمُن الترابط بين حرب فيتنام وحربي العراق وأفغانستان في إدراك أن الحروب تُخاض على الصعيد النفسي بقدر ما تُخاض على الصعيد المادي. ولا يزال تدريب الجيش الأميركي على العمليات النفسية يتضمن دراسة أساطير ومعتقدات الثقافات المُستَهدفة.

ففي سبتمبر/أيلول 2022، أمر البنتاغون بمراجعة شاملة للعمليات النفسية التي تنفذها القوات الأميركية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بعد اكتشاف منصات مثل تويتر وفيسبوك لشبكات حسابات مزيفة مرتبطة بالجيش الأميركي.​

وقد كشف تقرير مشترك من مركز ستانفورد لمراقبة الإنترنت وشركة "جرافيكا" عن حملات تأثير سرية تهدف إلى تعزيز السرديات المؤيدة للغرب في دول مثل روسيا والصين وأفغانستان، وذلك عبر استخدام الأنماط الثقافية السائدة في تلك المجتمعات.

واستخدمت هذه الحملات حسابات مزيفة بوجوه أُنشِئت بواسطة الذكاء الاصطناعي، وروَّجت لمحتوى يدعم مصالح الولايات المتحدة وحلفائها. وتُظهر هذه الأحداث في الأخير كيف أصبحت وسائل التواصل ساحة معركة جديدة في الحروب النفسية والمعلوماتية والثقافة، بديلا عن مكبرات الصوت والراديو والتلفزيون التي شاع استخدامها طيلة القرن العشرين.

والحقيقة أن الكثير من تلك المسالك لم تؤد إلى نجاحات تضاهي التكاليف التي سخرت لها، فمثلا في فيتنام خاضت واشنطن حربا على عدو لم تفهمه، في بيئة لا تدرك تعقيداتها، بحسب ما عبرت عنه الصحفية الأميركية الحاصلة على جائزة "بوليتزر" فرانسيس فيتزجرالد، في كتابها "حريق في البحيرة.. الفيتناميون والأميركيون في فيتنام"، حين وصفت مأساة "الغربة المعرفية" الأميركية تلك بقولها: "إن الأميركيين تاهوا بغباء في تاريخ شعب آخر".

إعلان

مقالات مشابهة

  • شريط الأشباح رقم 10 الذي خاضت به أميركا الحرب النفسية مع فيتنام
  • تقرير أمريكي: سقوط مقاتلة في البحر الأحمر يعيد إلى الأذهان مشاهد الانسحاب من فيتنام
  • تاريخ يعيد نفسه… أوروبا تلبس ثوب “الرجل المريض” الذي خاطته للعثمانيين
  • الهند وباكستان.. هجوم كشمير يعيد شبح الحرب النووية إلى واجهة الصراع
  • عندما تغفو العدالة.. الحرب المنسية على المدنيين في اليمن (ترجمة خاصة)
  • من هدوء المدينة إلى نار الاشتباكات والطائفية... ما الذي حدث في جرمانا السورية؟
  • يعيد كتابة التاريخ.. ما هو السيديريت الذي تم اكتشافه على المريخ؟
  • مبتورو الأطراف بغزة.. معاناة تتفاقم مع الحصار والإبادة الإسرائيلية
  • مبتورو الأطراف بغزة.. معاناة تتفاقم مع الحصار وإبادة الاحتلال
  • متجهة إلى مطار المدينة المنورة.. مغادرة أولى رحلات المستفيدين من مبادرة “طريق مكة” من جمهورية باكستان الإسلامية