سودانايل:
2024-09-08@02:57:17 GMT

القتل في السودان بالمجّان والجوع بالتفاوض

تاريخ النشر: 27th, July 2024 GMT

جمال محمد إبراهيم

(1)
صُعقتُ وأنا أستمع لتصريحٍ أحد جنرالات الحرب العبثية في السودان، يصيح في تشنجٍ غير محسوب عن استعدادهم لخوض هذه الحرب ضدَّ المليشيات المتمرّدة، ولن يوقفوها حتّى لو استمرّت مائة عام. طافت بذهني على الفور أصوات إعلامية عربية شنفت آذان الناس بباطل لم يخدم قضية ولا مصلحة، مثل صوت أحمد سعيد، في إذاعة صوت العرب، الشهير قبل سنوات حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وصوت صحّاف بغداد (محمّد سعيد الصحّاف) قبل سقوط نظام صدّام حسين عام 2003.

ثمّ سمع الناس صوت نظام الإنقاذ البائد في السودان في سنواته الأولى يَصدُر عن الضابط يونس الذي أرسل إساءة مقذعة إلى العاهل السعودي في إحدى شطحاته الإعلامية البذيئة، كادت أن تدمّر علاقات الشعبين الشقيقين، بما صَعّبَ على دبلوماسية البلدين مهمّة إصلاح ذلك التجاوز ورتق تلك الفتوق.
تلكم هي الأصوات الطنّانة التي شاعتْ في كثيرٍ من أنظمة الحكم في المنطقة العربية وانطوت سنواتها. لكنها جلبت لأمّة العرب سمعة أنهم محض ظاهرة صوتية، بل محض طبول مجوّفة تُصدر أصواتاً مضخَّمة وجعجعة من طواحين بلا طحن. والجعجاعون هم من يكثرون الكلام ولا يعملون. تلك هي العنتريات التي ما قتلت ذبابة، على قول الشاعر نزار قباني.

(2)
لو أنَّ تصريح ذلك المسؤول العسكري السوداني، وهو في منصب مساعد قائد الجيش، موجّهٌ إلى عدوٍّ خارجي يقاتله لعذرناه، لكنّهُ أطلقه مُرسلاً على الهواء وقوات السودان المُسلّحة تقاتل متمرّدين عليها. تلك حربٌ اختلط حابلها بنابلها وهو قتال سوداني - سوداني، ظاهره صراعٌ حول كراسي الحكم، تتصاعد وتيرتُه تنافساً في السيطرة على حكم السودان. والعسكر الحاكمون في البلاد، بمن فيهم صاحب ذلك التصريح الناري، لا يريدون وقف حربٍ أوسعوا فيها السودانيين قتلاً وتشريداً، وفي الوقت ذاته، يناشدون المجتمع الدولي لنجدة شعبهم من ويلات الجوع، وهم، يا للخزي، من تسبّبوا فيه.
يبعثون بوفودٍ عنهم إلى سويسرا من أجل تفاوضٍ لتأمين مساعدات للمواطنين السودانيين، وهم في الحقيقة من أشبعوهم قتلاً وتشريداً ونزوحاً. لكأنَّ الأولويات في ناظريهم، قد انقلبتْ رأساً على عقب. إذ عِوَض إنقاذ السكّان من القتل ثم تزويدهم بالغذاء، صار الأمر الآن تزويدهم بالغذاء أولاً، ثمّ تسمينهم تمهيداً للذبح القادم. لا تراهم يسارعون لاستئناف التفاوض لإيقاف الحرب الرّعناء، بل لتسمين الضحايا قبل طحنهم بآلات الموت بالرصاص والقنابل ومسيّرات المنجنيق الإلكترونية.

(3)
يعجب المرء من مجتمع دولي نرى بعض أطرافه تسارع إلى بناء مرافئ في غزّة الجريحة، لترسو فيها حاملات الأغذية القادمة من البحر، كما تعمل حثيثاً لإسقاط أطنانٍ منها من الجوّ، من دون حاجة إلى تفاوض في جنيف أو أي موقع خارجي آخر. بل الأغرب أن تجد من بين المسارعين في تشييد تلك المرافئ هم أنفسهم من الحكومة الأميركية المتواطئة مع ذبح غزّة، عبر تزويد الكيان الصهيوني بما يريد من الأسلحة والطائرات القاتلة. مصدر العجب، هو التطويل غير المُبرَّر والمناورة في تفاوضٍ غير مُجدٍ، حول تزويد السودانيين بالغذاء، فيما الملايين منهم عرضة للموت قتلاً بأيدٍ مجرمة تطاولهم قبل الموت جوعاً.

(4)
هل للأمم المتّحدة من جدّية تُحمد في معالجة أزمة ملايين السودانيين المُهدّدين بالموت جوعاً في بلادهم جرّاء قتال لا ناقة لهم فيه ولا جمل؟... نلقي السؤال لا تبخيساً لمأساة إنسانية دون أخرى، وليس اتهاماً بتعاملٍ انتقائي في تقديم العون الإنساني لمن يحتاجه من المنظّمات الدولية الرسمية أو غير الرسمية، وذلك ما ينبع من ضمير إنساني حي ولا غبار عليه. لكنّ موقف المجتمع الدولي، ومن دون أي تخصيص أو إشارة إلى منظّمة من منظّماته أو وكالاته أو هيئاته الأممية، يحيلنا لوقفة حائرة، إذ يضيع الوقت في حوارٍ وجولاتِ تفاوضٍ في عواصم بعيدة لمعالجة مُتطلّبات إنسانية تتصّل بالمأكل والمشرب، فيما الحاجة الأوجب هذه السّاعة، هي إيقاف ماكينات القتل المجّاني لشعب لا يخصّه ذلك القتال الدائر في شيء، وأكثر من نصف سكانه بين نازحٍ مُطاردٍ داخل بلاده، أو نازحٍ هارب إلى بلدان مجاورة لا يجدون عند أغلبها ترحيباً أو ملاذات تبعدهم عن ويلات ما يلاقون من حرب عبثية، ولا طائل من ورائها، إلّا ربّما تلاحق أطراف خفية مصالح لها في دوران عجلة الحرب الدائرة بلا هوادة في السودان.

(5)
الدبلوماسي الأممي رمطان لعمامرة، وهو عربي جزائري، يدرك تماماً عمق المأساة السودانية، ولم يكن اختياره اعتباطيّاً من طرف الأمين العام للأمم المتّحدة ممثّلاً له في السودان. ولعلّنا نتفاءل بتولّيه المهمّة، إذ هو خبير حصيف، وإن كان لكلّ امرئ من اسمه نصيب، فأصل اسم الرجل، لغة، يتّصل بإعمارٍ وتعمير، وأكثر ما يتوقّع السودانيون من لعمامرة هو اهتمامه بوقف الدّمار والتخريب، وأن يضع أولى أولوياته وقف الحرب، ثمّ إعادة إعمار الأرض. يريد السودانيون دبلوماسياً أممياً يضع نصب عينيه إنقاذ المكلومين في حرب السودان من القتل المجّاني لا من الجوع، ثم حماية العمارة القائمة وحمايتها، فلا تهلك هياكل الدولة، حتّى لا تكون استعادة بعضها أشبه بالمستحيلات المُحيّرة.

(6)
لعلّ ممّا يساعد في مساعي حلّ أزمة حرب السودان، هو ما يُتوقّع من جهد إعلامي دولي وإقليمي، بتسليط الضوء كثيفاً على تداعيات تلك الحرب، فلا تسقط من ذاكرة الضمير الإنساني. نرى للإعلام الدولي والإقليمي حضوراً كثيفاً في الحرب الدائرة في قطاع غزّة، وكذلك في الحرب بين أوكرانيا وروسيا. ولعلّ وجوهاً إعلامية سودانية تُلاحَظ مشاركتها في تغطيات تلكما الحربين في قنوات عربية وعالمية. لإن سألت عن أي وجود لمُراسلٍ أجنبي يتابع ميدانياً ما يدور من وقائع حربٍ ضروس في مساحات ومدن وقرى السودان كلّها، فلن تجد أي أثرٍ لمراسل أجنبي. فإن سمعت عن حربٍ منسيّة، لكَ أن تعلم أنّها حرب السودان.

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

حرب السودان.. المرض المناعي في امبراطورية الشر!

حرب السودان.. المرض المناعي في امبراطورية الشر!

رشا عوض

شهدت في التاسع من يوليو عام 2011 بام عيني في مدينة جوبا لحظة انزال علم السودان رسمياً وتدشين جمهورية جنوب السودان المستقلة!

كانت لحظة رهيبة مهيبة محتشدة بالدروس والعبر ودموع القلب!

لا أدري كيف مرت تلك اللحظة مرور الكرام على غالبية السودانيين!

نعم شاركت الجنوبيين احتفالهم بخلاصهم، وتمنيت أن يكون بالفعل خلاصاً حقيقياً يطوي صفحة معاناتهم ممثلة في الحروب الطاحنة والقتل المجاني والتمييز على أساس الهوية العرقية أو القبلية، ووطأة الاستبداد والفساد والفقر والافقار ووووو

بكل أسف لم يتحقق للجنوبيين ما تمنيته لهم!

اشتعلت الحرب بين الرفاق في الحركة الشعبية صراعاً على السلطة أخذ طابعاً قبلياً فكانت المجازر والأهوال، ثم حبس الشعب بين خيارين أحلاهما المر: الدكتاتورية الغليظة أو الحرب الأهلية!

ولم يتحقق للشماليين الانفصاليين الكيزان ما تمنوه وهو سهولة الانفراد بحكم الشمال بقبضة مركزية من حديد!

اندلعت الحروب بشراسة في الجنوب الجديد: جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق فضلاً عن دارفور التي اشتعلت منذ 2003

أما الحرب المشتعلة حالياً فهي حرب التدمير الذاتي للسلطة المركزية “الأمنوعسكركيزانية”!

قوات الدعم السريع التي كان هدف نظام الكيزان من إنشائها هو حماية السلطة المركزية في الخرطوم من تمردات الجنوب الجديد تمردت على هذا الدور وشبت عن الطوق تماماً! ووجهت للسلطة المركزية أقوى ضربة في تاريخها! ضربة في القلب مباشرة! في القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش ومنظومة الصناعات الدفاعية!

قبل أن يهجم أصحاب العاهات الفكرية على حديثي هذا باعتباره تماهياً مع سردية الدعم السريع حول دولة 1956، لا بد أن أكرر ما كتبته منذ بداية الحرب وهو أن أي نتيجة إيجابية لو تحققت في ظل هذه الحرب، ستكون من تداعياتها وليس من مقاصد أي طرف من طرفيها، لأن الطرفين هدفهما السلطة العسكرية القابضة (أسوأ منتج لدولة 1956)، فأنا منذ بداية الحرب لم اشتر سردية حرب الكرامة لمعسكر الكيزان وجيشهم  ولا سردية حرب دولة 1956 والحكم المدني الديمقراطي لقوات الدعم السريع.

هذه الحرب من وجهة نظري يمكن فهمها كمرض مناعي أصاب دولة 1989م وليس دولة 1956!، كما يتعرض جسم الإنسان لاختلالات في جهاز المناعة تجعله يهاجم الأجهزة الحيوية في الجسم ويتلفها جزئياً أو كلياً إلى أن يموت المريض لو لم يجد العلاج الناجع في الوقت المناسب، هذا بالضبط ما حدث لنظام الحكم المركزي القابض في نسخته الكيزانية التي قوامها ولحمتها وسداها المؤسسة الأمنية العسكرية! فقد أصابه مرض مناعي! إذ أن الدعم السريع بدلاً من حماية الامبراطورية الكيزانية ممثلة في دولة 1989 انقض عليها بشراسة وهاجم مراكزها العصبية! وجزء من الأجهزة الأمنية والعسكرية الكيزانية انضم للدعم السريع وعاونه في مهاجمة الأجزاء الأخرى من امبراطورية الشر هذه!

إنها أكبر عملية تحلل ذاتي لنظام عسكري في تاريخ السودان!

أكبر جريمة تضليل وغش واحتيال هي الزعم بأن هناك معركة وطنية يدافع أحد طرفيها عن الدولة وكيانها المؤسسي، لأن الدولة الوطنية التي ورثناها عن الاستعمار صبيحة الأول من يناير 1956 بخيرها وشرها لا وجود لها الآن! حتى حدودها السياسية تغيرت بانفصال الجنوب! إذ تم الانقضاض عليها بواسطة دولة الكيزان، أي دولة 30 يونيو 1989م التي أصابها المرض المناعي العضال المذكور أعلاه! وهي ليست دولة وطنية على الإطلاق بل هي تقويض كامل شامل لمعنى الوطن والوطنية! وغير قابلة للدفاع عن نفسها لأنها في حالة تحلل وتدمير ذاتي! ففي ذات الوقت الذي يطالب فيه الكيزان ومثقفوهم النافعون بالاصطفاف خلف الجيش لأنه يمثل كيان الدولة بل هو الدولة شخصياً، نجد أبواق الدعاية الحربية الكيزانية تردد أن الجيش به خونة وطوابير يبيعون المعارك وينسحبون لصالح الدعم السريع، وأثناء الاستنفار لمساندة الجيش نجد هذه الأبواق تشتم قائد الجيش بألفاظ بذيئة وتتهمه بالخيانة، والعاهات الإسفيرية الأمنجية التي تسخر من قائد الجيش وتمسح به البلاط تتم استضافتها فيما يسمى بالتلفزيون القومي ويتم تكريمها من ذات الجيش!

أي جنون هذا! وأي معركة كرامة هذه! وأي جيش هذا الذي يكرم من يشتمون ويخونون قائده! ويأتي من يطالبنا بالاصطفاف خلف ذات الجيش غير المصطف خلف قائده!

ورغم دراماتيكية كل ما يحدث ما زال آل البوربون يقرأون من ذات الكتاب وذات الصفحة!

يلتمسون الحل في تقسيم جديد للبلاد يفصل دارفور ومعها كردفان إن لزم الأمر للانفراد بسلطة مركزية عسكرية قابضة فيما يسمى بدولة البحر والنهر!

ودا “شعراً ما عندهم ليهو رقبة” حسب معطيات الميدان العسكري!

سينتهي بهم الأمر إلى جمهورية الأحجار الكريمة!

وحتى هذه في حيص بيص! لأن الدعم السريع هاجم حجر العسل مراراً!!

الدرس المستفاد من تجربتنا الوطنية القاسية هو أن الحل الانفصالي ليس حلاً لمشكلة المركز (والآن لا يوجد مركز، فالخرطوم سقطت، ولكن لا بأس من تخيل وجود مركز وهمي في بورتسودان)، وكذلك الانفصال ليس حلاً للأقاليم التي تنفصل، لأن قادة الانفصال من لوردات الحرب ببساطة يمكن أن يعيدوا إنتاج سلطة المركز في أقاليمهم فلا يحققون لها عدلاً ولاً حريةً ولا تنمية.

المنقذ الحقيقي للشعب السوداني في كل أقاليم السودان هو الحكم الراشد الذي يقود لمعالجة الأزمات والعيوب الهيكلية في الدولة السودانية، فيحقق التوازن التنموي والعدالة الاجتماعية وحسن إدارة التنوع الإثني والثقافي انطلاقاً من فكرة المساواة في حقوق المواطنة.

الوسومالإنقاذ الانفصال الدعم السريع الدولة الوطنية السودان الكيزان جنوب السودان جوبا حجر العسل دولة 1956 دولة 1989 رشا عوض

مقالات مشابهة

  • قريبا على الشاشة !
  • حشد الشعب السوداني لوقف الحرب نحو دعوة للسلام والاستقرار
  • السودان.. القصف والجوع يفتكان بالعالقين في القتال
  • تحسين خطة الاستجابة لمساعدة اللاجئين السودانيين
  • رحلة اللاجئين السودانيين هرباً من إثيوبيا.. البحث عن الأمن المفقود
  • موقف المنظمات الإقليمية والدولية من حرب السودان
  • حرب السودان.. المرض المناعي في امبراطورية الشر!
  • صناعة سلام السودان هو التحالف من أجل الشعب، لا من أجل النخبة
  • ورشة تضامنية للسودان في مصر
  • الجزائر: القتل والدمار بغزة يكشفان عن همجية تستهدف محو هوية فلسطين