القتل في السودان بالمجّان والجوع بالتفاوض
تاريخ النشر: 27th, July 2024 GMT
جمال محمد إبراهيم
(1)
صُعقتُ وأنا أستمع لتصريحٍ أحد جنرالات الحرب العبثية في السودان، يصيح في تشنجٍ غير محسوب عن استعدادهم لخوض هذه الحرب ضدَّ المليشيات المتمرّدة، ولن يوقفوها حتّى لو استمرّت مائة عام. طافت بذهني على الفور أصوات إعلامية عربية شنفت آذان الناس بباطل لم يخدم قضية ولا مصلحة، مثل صوت أحمد سعيد، في إذاعة صوت العرب، الشهير قبل سنوات حرب يونيو/ حزيران عام 1967، وصوت صحّاف بغداد (محمّد سعيد الصحّاف) قبل سقوط نظام صدّام حسين عام 2003.
تلكم هي الأصوات الطنّانة التي شاعتْ في كثيرٍ من أنظمة الحكم في المنطقة العربية وانطوت سنواتها. لكنها جلبت لأمّة العرب سمعة أنهم محض ظاهرة صوتية، بل محض طبول مجوّفة تُصدر أصواتاً مضخَّمة وجعجعة من طواحين بلا طحن. والجعجاعون هم من يكثرون الكلام ولا يعملون. تلك هي العنتريات التي ما قتلت ذبابة، على قول الشاعر نزار قباني.
(2)
لو أنَّ تصريح ذلك المسؤول العسكري السوداني، وهو في منصب مساعد قائد الجيش، موجّهٌ إلى عدوٍّ خارجي يقاتله لعذرناه، لكنّهُ أطلقه مُرسلاً على الهواء وقوات السودان المُسلّحة تقاتل متمرّدين عليها. تلك حربٌ اختلط حابلها بنابلها وهو قتال سوداني - سوداني، ظاهره صراعٌ حول كراسي الحكم، تتصاعد وتيرتُه تنافساً في السيطرة على حكم السودان. والعسكر الحاكمون في البلاد، بمن فيهم صاحب ذلك التصريح الناري، لا يريدون وقف حربٍ أوسعوا فيها السودانيين قتلاً وتشريداً، وفي الوقت ذاته، يناشدون المجتمع الدولي لنجدة شعبهم من ويلات الجوع، وهم، يا للخزي، من تسبّبوا فيه.
يبعثون بوفودٍ عنهم إلى سويسرا من أجل تفاوضٍ لتأمين مساعدات للمواطنين السودانيين، وهم في الحقيقة من أشبعوهم قتلاً وتشريداً ونزوحاً. لكأنَّ الأولويات في ناظريهم، قد انقلبتْ رأساً على عقب. إذ عِوَض إنقاذ السكّان من القتل ثم تزويدهم بالغذاء، صار الأمر الآن تزويدهم بالغذاء أولاً، ثمّ تسمينهم تمهيداً للذبح القادم. لا تراهم يسارعون لاستئناف التفاوض لإيقاف الحرب الرّعناء، بل لتسمين الضحايا قبل طحنهم بآلات الموت بالرصاص والقنابل ومسيّرات المنجنيق الإلكترونية.
(3)
يعجب المرء من مجتمع دولي نرى بعض أطرافه تسارع إلى بناء مرافئ في غزّة الجريحة، لترسو فيها حاملات الأغذية القادمة من البحر، كما تعمل حثيثاً لإسقاط أطنانٍ منها من الجوّ، من دون حاجة إلى تفاوض في جنيف أو أي موقع خارجي آخر. بل الأغرب أن تجد من بين المسارعين في تشييد تلك المرافئ هم أنفسهم من الحكومة الأميركية المتواطئة مع ذبح غزّة، عبر تزويد الكيان الصهيوني بما يريد من الأسلحة والطائرات القاتلة. مصدر العجب، هو التطويل غير المُبرَّر والمناورة في تفاوضٍ غير مُجدٍ، حول تزويد السودانيين بالغذاء، فيما الملايين منهم عرضة للموت قتلاً بأيدٍ مجرمة تطاولهم قبل الموت جوعاً.
(4)
هل للأمم المتّحدة من جدّية تُحمد في معالجة أزمة ملايين السودانيين المُهدّدين بالموت جوعاً في بلادهم جرّاء قتال لا ناقة لهم فيه ولا جمل؟... نلقي السؤال لا تبخيساً لمأساة إنسانية دون أخرى، وليس اتهاماً بتعاملٍ انتقائي في تقديم العون الإنساني لمن يحتاجه من المنظّمات الدولية الرسمية أو غير الرسمية، وذلك ما ينبع من ضمير إنساني حي ولا غبار عليه. لكنّ موقف المجتمع الدولي، ومن دون أي تخصيص أو إشارة إلى منظّمة من منظّماته أو وكالاته أو هيئاته الأممية، يحيلنا لوقفة حائرة، إذ يضيع الوقت في حوارٍ وجولاتِ تفاوضٍ في عواصم بعيدة لمعالجة مُتطلّبات إنسانية تتصّل بالمأكل والمشرب، فيما الحاجة الأوجب هذه السّاعة، هي إيقاف ماكينات القتل المجّاني لشعب لا يخصّه ذلك القتال الدائر في شيء، وأكثر من نصف سكانه بين نازحٍ مُطاردٍ داخل بلاده، أو نازحٍ هارب إلى بلدان مجاورة لا يجدون عند أغلبها ترحيباً أو ملاذات تبعدهم عن ويلات ما يلاقون من حرب عبثية، ولا طائل من ورائها، إلّا ربّما تلاحق أطراف خفية مصالح لها في دوران عجلة الحرب الدائرة بلا هوادة في السودان.
(5)
الدبلوماسي الأممي رمطان لعمامرة، وهو عربي جزائري، يدرك تماماً عمق المأساة السودانية، ولم يكن اختياره اعتباطيّاً من طرف الأمين العام للأمم المتّحدة ممثّلاً له في السودان. ولعلّنا نتفاءل بتولّيه المهمّة، إذ هو خبير حصيف، وإن كان لكلّ امرئ من اسمه نصيب، فأصل اسم الرجل، لغة، يتّصل بإعمارٍ وتعمير، وأكثر ما يتوقّع السودانيون من لعمامرة هو اهتمامه بوقف الدّمار والتخريب، وأن يضع أولى أولوياته وقف الحرب، ثمّ إعادة إعمار الأرض. يريد السودانيون دبلوماسياً أممياً يضع نصب عينيه إنقاذ المكلومين في حرب السودان من القتل المجّاني لا من الجوع، ثم حماية العمارة القائمة وحمايتها، فلا تهلك هياكل الدولة، حتّى لا تكون استعادة بعضها أشبه بالمستحيلات المُحيّرة.
(6)
لعلّ ممّا يساعد في مساعي حلّ أزمة حرب السودان، هو ما يُتوقّع من جهد إعلامي دولي وإقليمي، بتسليط الضوء كثيفاً على تداعيات تلك الحرب، فلا تسقط من ذاكرة الضمير الإنساني. نرى للإعلام الدولي والإقليمي حضوراً كثيفاً في الحرب الدائرة في قطاع غزّة، وكذلك في الحرب بين أوكرانيا وروسيا. ولعلّ وجوهاً إعلامية سودانية تُلاحَظ مشاركتها في تغطيات تلكما الحربين في قنوات عربية وعالمية. لإن سألت عن أي وجود لمُراسلٍ أجنبي يتابع ميدانياً ما يدور من وقائع حربٍ ضروس في مساحات ومدن وقرى السودان كلّها، فلن تجد أي أثرٍ لمراسل أجنبي. فإن سمعت عن حربٍ منسيّة، لكَ أن تعلم أنّها حرب السودان.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی السودان
إقرأ أيضاً:
حرب السودان كأداة للهيمنة عليه
د. الشفيع خضر سعيد
بتاريخ 13 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وفي الموقع الإسفيري “ديمقراطية الشعوب”، باللغة الإنكليزية، نشر المفكر وأستاذ الاقتصاد في الجامعات الهندية، البروفسور برابات باتنايك، مقالا دسما يتناول نزوع الغرب الرأسمالي إلى التوسّع وإعادة فرض هيمنته على العالم، مشيرا إلى أن التطوّر المستمر لعملية مركزة رأس المال، وترسيخه بالتبعية، أسفر عن تخفيف حدّة التنافس بين المراكز الرأسمالية العالمية، عكس ما كان يحدث في الماضي، وباتت هذه المراكز تعمل كرأس مال موحد يسعى للاستحواذ على العالم بأسره، وليس تقسيمه إلى مناطق نفوذ لقوى متنافسة، كما يسعى لإعادة فرض هيمنته على المناطق التي انفصلت عنه في السابق نتيجة ثورات حركات التحرر الوطني. ولتحقيق هذا الهدف، يستخدم رأس المال الموحد، أو الإمبريالية الموحّدة كما أسماه كاتب المقال، سلاحين: فرض نظام اقتصادي نيوليبرالي عالمي، وشنّ الحروب وتأجيج النزاعات. وبينما يتسبّب السلاح الأول في معاناة شديدة للشعوب ويقود في النهاية إلى النيوفاشية؛ فإن السبب الثاني يدفع البشرية نحو الكارثة. في مقالنا اليوم نحن معنيون بالسلاح الثاني لعلاقته المباشرة بحرب السودان، كما نعتقد.
يقول البروفسور برابات، تُلهِب الإمبريالية الموحدة، أو مراكز رأس المال، أوار الحربين الدائرتين حالياً، في أوكرانيا وفي فلسطين ولبنان. ففي أوكرانيا، تنكر حلف الناتو لتعهداته، قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي، إلى الزعيم السوفييتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف، بعدم التوسع شرقا. لكن الحكومة الأوكرانية التي وصلت إلى السلطة بمساعدة أمريكية مباشرة، أعلنت رغبتها في الانضمام إلى الناتو، وبدأت صراعاً دمويا، مستفزا لروسيا، مع منطقة الدونباس الناطقة بالروسية. الولايات المتّحدة وبريطانيا أفشلتا اتفاق مينسك بين روسيا وأوكرانيا، والمستشارة الألمانية آنذاك، أنجيلا ميركل، اعترفت بأنّ الاتفاق كان مجرّد خدعة لشراء الوقت حتى تستعدّ أوكرانيا للحرب. أما الهدف الرئيسي من هذه الحرب فهو محاولة إخضاع روسيا لتكون تحت الهيمنة الإمبريالية، وهو المشروع الذي بدأ بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكاد يتحقّق في عهد الرئيس بوريس يلتسن.
وبالنسبة لحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في غزة ولبنان، يقول المفكر الهندي، من الخطأ توهم أنّ الدعم الأمريكي لإسرائيل في هذه الحرب هو انعكاسٌ لقوة اللوبي الصهيوني في السياسة الأمريكية، بل هو مشروع الولايات المتحدة للسيطرة على المنطقة بأكملها مستخدمة إسرائيل. أما دعم الولايات المتحدة لحل «الدولتين» فهو مجرّد خدعة. ففي كلّ مرة تُطرَح عضوية فلسطين في الأمم المتّحدة كخطوة أولى نحو تطبيق حلّ «الدولتين»، تصوّت الولايات المتّحدة ضدها؛ وكلّما وصلت مفاوضات الهدنة بين إسرائيل ومعارضيها إلى نقطة حرجة، سواء كانت تفاوض إسماعيل هنية أو حسن نصر الله، تغتال إسرائيل هؤلاء القادة. باختصار، مفاوضات الهدنة ليست إلّا خدعة إسرائيلية، بالتواطؤ مع الإمبريالية الأمريكية.
ويبدو أن الأمر نفسه ينطبق على حرب السودان التي تتجه نحو إكمال عامها الثاني من الإبادة الجماعية ودمار البلاد، فارضة اللجوء والنزوح القسريين لأكثر من ربع عدد سكان السودان، ورغم ذلك لا حراك من الدوائر العالمية المتنفذة، مراكز رأس المال أو الإمبريالية الموحّدة فيما عدا التصريحات والإدانات والرحلات المكوكية والمناشدات لطرفي القتال بوقف إطلاق النار، والعقوبات ذات التأثير الضعيف. وباستخدام محاججات البروفسور برابات باتنايك، يمكن افتراض إن هذا الحراك، على ضعفه، هو مجرد خدعة، في ظل عدم اتخاذ إجراءات قوية لمنع تدفق الأسلحة والذخائر التي تقتل المدنيين أكثر من العسكريين وطردهم من قراهم وأراضيهم كما حدث من قبل في الجنينة ويحدث مؤخرا في إقليم الجزيرة. وهناك معلومات متناثرة تفيد بأن كميات مهولة من الأسلحة وأجهزة التجسس المتطورة في طريقها الآن إلى السودان عبر دارفور ودول في غرب أفريقيا، قادمة من إسرائيل وبدعم من بعض دول الاتفاقية الإبراهيمية. ومن جانبنا، نشرت لنا صحيفة “القدس العربي” مقالا في مارس/آذار الماضي، بعنوان “أربعة استنتاجات حول حرب السودان”، قلنا فيه إنه من غير المرجح أن تتوقف الحرب في السودان قريبا، وأن دولا في النطاقين الإقليمي والعالمي لا ترغب في توقفها وتريدها أن تستمر لبعض الوقت. واستندنا في استنتاجنا هذا إلى عدد من المؤشرات، منها استمرار تدفق الأسلحة بكثافة عبر دول في الإقليم، دون أي نية أو اتجاه وسط الدوائر العالمية ذات القدرة لحظر ذلك، مما يعني تشجيع إستمرار القتال. وأن جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها وترتكبها قوات الدعم السريع في الجنينة والجزيرة لا تواجه برد الفعل المناسب من مراكز رأس المال العالمي. وأن هذه المراكز ظلت، في عدد من تقاريرها الرسمية، تتحدث عن أراضي السودان الحبلى بالمعادن الثمينة المطلوبة عالميا، ولكن ربما الأهم من ذلك تميزها بالخصوبة ووفرة المياه مما يجعلها من ضمن الحلول التي يعتمدها العالم للتغلب على أزمة الغذاء التي تضربه حاليا والتي ستصل القمة بحلول العام 2050. وذات التقارير توصف السودان بالدولة الفاشلة والتي تحتاج إلى إعادة تشكيل وإبدال، عبر الاستحواذ على أراضيه، ولو بالوكالة، لذلك فإن استمرار الحرب يعني استمرار الفشل حتى يتفتت السودان إلى دويلات سهل الهيمنة عليها. وأصلا يحتل السودان موقعا رئيسيا في مخطط إعادة تقسيم المنطقة على أساس مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، الذي يسعى لاستخدام الفوضى الخلاقة كآلية رئيسية لتنفيذ هذا المشروع وإعادة تقسيم المنطقة، والسودان في مقدمتها، إلى دويلات دينية ومذهبية ضعيفة ومتصارعة. ومن الواضح أن استمرار الحرب واتساع رقعتها مستخدمة التهجير والنزوح القسري كما حدث في الخرطوم ويحدث اليوم في الجزيرة، وفي ظل غياب أي خطوات فعالة وملموسة من قبل المركز الرأسمالي الموحد لإيقاف كل ذلك، يخدم هذا المخطط.
وللأسف، فإن تعثر وحدة القوى المدنية وعلو أصوات الأجندة الأجنبية وسطها، وغياب رؤيتها الموحدة لكيفية وقف الحرب، إضافة إلى انفجارات النزاعات الإثنية والاجتماعية في البلد، كلها تخدم ذات المخطط.
نقلا عن القدس العربي