تأملات
كمال الهِدي
. ونحن في خضم هذه المآسي اليومية والمعاناة التي تفوق طاقة البشر نطالع ونُتابع مقالات وفيديوهات ورسائل صوتية مليئة بالتفاؤل والرغبات في عودة بلدنا أقوى، وحتى على المستوى الشخصي تجد من يجزمون بأن ما هدمته الحرب من بناء تعبوا عليه عقوداً طويلة سوف يعيدونه بكل عزيمة وتصميم.
. التفاؤل مطلوب قطعاً في الحياة، والأمل في بكرة أساس فكرتها، لكن ما نقرأه ونسمعه في هذا السودان لا أجد له تسمية سوى (بيع الوهم) و( خداع الذات).
. فمن واقع ما نعيشه أستطيع الجزم بأننا لن نقدر على إعادة بناء ولو كشك ليمون مما هُدم وخُرب.
. ليس لضعف الكفاءة، ولا لعدم المعرفة حاشا لله، ولكن لأننا أمة تعيش حالة انفصام.
. فشعب ينقسم أفراده بين الحرب والسلام، ويعجز عن فهم المؤآمرات التي يحيكها ضده من حكموه بالحديد والنار لأكثر من ثلاثة عقود بالرغم من اعتراف بعضهم وكشف النقاب عن دسائسهم وخيانتهم للوطن وأهله وسرقاتهم ونهبهم وسفالتهم لا أظنه سيقوى على البناء.
. شعب تلهج ألسنة بعض إعلامييه ومثقفيه بالشكر لمن يسرقونه وينهبون موارده ويخربون اقتصاده لمجرد أن بعض هؤلاء اللصوص المخربين يدعمون أندية كرة قدم، أو يتبرعون بحفنة من الدولارات المسروقة لمشروع هنا أو هناك لن يقوى على البناء، فالبناء عمل شاق يتطلب وعياً قبل أن يحتاج للمجهود البدني أو المال.
. شعب يشيد بعض مستنيريه بشخصيات هلامية وأشباه رجال جبناء مثل الإنصرافي ويسمونه ب (الظاهرة) التي تستوجب الدراسة يحتاج لمن يعيد بنائه نفسياً وذهنياً قبل أن يفكر في إعادة بناء وطنه الذي خربه الأوغاد.
. فالبناء لا يتم برفع الشعارات البراقة، ولا بمتابعة لايفات بعض (الصعاليق) الذين صاروا نجوماً في هذا الزمن الأغبر.
. شعب يلهث بعض رجاله وراء آية آفرو، ويتبادل أفراده لايفات ندى القلعة، ويقرأ لأم وضاح والإعيسر ومزمل وضياء والهندي، ويتبادل ألمع مثقفيه- بحماس منقطع النظير- تسجيلات محمد لطيف بالرغم من تقلب كل من سبق ذكرهم في المواقف على مدى سنوات خلت لن تكون مشكلته هي إعادة بناء ما تهدم، بل ستتمثل في: كيف يتعافى هذا الشعب ذهنياً ونفسياً لكي يكون جاهزاً لمرحلة البناء الصعبة!
. فالبناء والتعمير يتطلبان واقعية واعترافاً بما وصلنا له، ونحن أبعد ما نكون عن الواقعية.
. منذ سنوات عديدة كنت كلما كتبت نقداً لإدارات الهلال المتعاقبة أو نبهت لمواطن خلل لا تحصى ولا تعد سواءً في مجال الرياضة، السياسة أو الإقتصاد تسمع عبارات من شاكلة " إنت مافي شيء عاجبك"! وكأنك إفتريت علي أحد أو أتيت بالنشاز، فالطبيعي كان ألا يعجبنا ما كنا نراه، ولو كان ذلك يعجب لما وصلنا لكل هذا الدمار والخراب الذي نعيشه الآن.
. لكن لأن المواطن تعود أن يجد في الإعلام ما يخدره ويطيب خاطره من أجل أن ترتفع نجومية من يكتبون وتزداد شعبيتهم، لأن الناس تعودوا على ذلك بدا لهم كل ناقد جاد إما حاسداً أو من فئة من لا يعجبهم العجب أو الصيام في رجب.
. ولأننا شعب عاطفي سهل الإنقياد ولا يتطلب صرفه عن قضيته الأساسية كبير عناء كنت تجد بعض الإعلاميين يصرون على تغيير المدرب أو شطب عدد من اللاعبين مع كل فشل للهلال مثلاً مع إن المشكلة كانت ولا تزال في الإداريين الذين يأتون بهؤلاء المدربين واللاعبين سواءً في الهلال أو المريخ.
. لكن كلما كتبت ذلك منذ عشرات السنين كنت تواجه بإفتراضات أنك ضد الكاردينال، أو تكره صلاح إدريس، أو الوالي، أو تحقد على السوباط والعليقي.
. ولك أن تسحب هذا النموذج الكروي على بقية مجالات حياتنا عزيزي المواطن لكي تعرف المشكلة وين.
. لا يمكنك أن تبني قبل أن تواجه الواقع والحقائق كما هي دون تجميل ودون تخطيط وقراءة جيدة.
. عن نفسي مثلاً لم أقرر الخروج من السودان قبل سنوات طويلة إلا بعد أن تأكدت من أن البلد تسير نحو الهاوية، وأن العيش فيها يتطلب صفات لا أملكها وإن حاولت اقناع نفسي بأن كل شيء سوف ينصلح سأخادع نفسي.
. وحين رزقت في غربتي – بحمد الله - بالأولاد خططت لأن يتعلموا بطريقة تتيح لهم إيجاد البديل إن ساءت أمور الوطن أكثر – وهو ما كنت أتوقعه.
. وحين صممت قبل الحرب بأشهر قليلة على بيع قطعة أرض بمنطقة كافوري عارضني من تهمهم مصلحتي وطالبوني بألا أتعجل لكنني صممت على بيعها لأنني كنت أرى ما لم يرونه حينها.
. وبحمد الله تخرج ابني الأكبر بنجاح قبل أسابيع قليلة وقضى بيننا إجازة قصيرة قبل أن يغادر قبل أيام لمقر عمله الذي سيبدأ فيه حياة جديدة نسأل الله أن يوفقه فيها.
. وقد لا تصدقون أن هذا الإبن الذي أحدثكم عنه تغرب عنا – نحن المغربين أصلاً- في عمر مبكر، وعندما رافقته لبولندا لكي ألحقه بالجامعة كان على أن أوقع لهم تعهداً لأنه كان دون الثامنة عشرة وقتها.
. ولك أن تتخيل عزيزي المواطن فكرة أن تفارق ابنك وهو في تلك السن، ليكمل دراسته قبل أن يفارقك مجدداً للعمل.
. يعني كلها غربة في غربة ووجع وألم، لكنه قطعاً أقل بكثير من وجع وألم من فقدوا فلذات أكبادهم أو تقطعت بهم السبل وشُردوا من ديارهم.
. لكن يظل المتسبب في كل أوجاعنا بمختلف مستوياتها واحد، وبعضنا للأسف يغضون الطرف عن هذه الحقيقة.
. أشرت في السطور أعلاه لبعض تجربتي الشخصية للتذكير بانه لا يجوز لكتاب أو لايفاتيه فروا بجلدهم مع أسرهم من هذه الحرب أن يحرضوا غيرهم على القتال ففي ذلك أنانية وجبن وسفالة لا أجد لها نظيراً.
. إن فقدت الإحساس بمعاناة غيرك فعلى الأقل (نقط الناس بسكاتك) بدل هذا التحريض.
. والأشد أسفاً ملاحظة أن قادة الجيش أنفسهم أرسلوا أولادهم لمواصلة تعليمهم في الخارج بينما نجدهم يطالبون بكل بجاحة أولاد الناس بالقتال، ولا يزال هناك من يصدق ويتحمس لإرسال فلذة كبده للمحرقة، بل ويصف المناهضين للحرب بالخونة والعملاء.
. لكل ما تقدم عندما أقرأ لإعلامي يعد الناس بسودان أكثر قوة أو يطالبهم بالعودة لأرض الوطن لبناء وحراسة منازلهم وأملاكهم (التي نُهبت) أتحسر علي حالنا.
. فكيف نريد أن نبني وطناً في المستقبل ونحن نعجز في الحاضر عن مجرد إتخاذ موقف موحد ضد الحرب التي قضت على الأخضر واليابس فيه!
. أليس فيما يُكتب ويُقال بيعاً للوهم وتخديراً سيسألنا رب العباد عنه إن مضينا في هذا الخط!!
. عار على أي كاتب لا يصدق مع نفسه أن ينكب على الكي بورد ليكتب للناس، فكيف لصاحب الباب المخلع أن يصلح أبواب غيره!
kamalalhidai@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قبل أن
إقرأ أيضاً:
حقيبة قرب مدرسة أثارت بلبلة... ما الذي تبيّن بعد الكشف عليها؟
انتشر خبر عبر مواقع التواصل الإجتماعيّ عن العثور على حقيبة قرب مدرسة الفرابي في منطقة القبة في طرابلس، وفي داخلها أسلحة ونقود. وبحسب معلومات "لبنان 24"، لم يتمّ العثور على أسلحة داخل الحقيبة بعد الكشف عليها، وتبيّن أنّها عائدة لأحد الأشخاص الذي كان يقف على مقربة منها.